(ملخص رسالة الدكتوراه للباحث د. محمد عبدالنور- جامعة الجزائر2)*
ظهر الإسلام في شبه الجزيرة العربية بوصفه دينا توحيديا جديدا بديلا عن الوثنية السائدة والقائمة على تعدد الآلهة، حيث انطلق من حدث أساسي هو نزول المَلَك جبريل على محمد في إحدى الليالي وهو يتعبّد بغار حراء كما تورد الروايات الواردة عن الحدث، وهي الليلة التي سمّاها القرآن ذاته بليلة القدر، فيها جاء جبريل يخاطب محمد لأول مرة ويأمره بالدعوة إلى الدين الجديد، وتواصل الإسلام بعد ذلك متمحورا كله حول ظاهرة الوحي، وما لبث أن تجاوز الوحي الفرد الواحد عندما تبنّته وصدّقت به كتلة اجتماعية داخل المجتمع المكي، حيث انطلقت الدعوة من عدد محدود من الأفراد، ولما استوعبت حدا معينا من أهل مكة جاء الأمر الإلهي عن طريق الوحي للهجرة إلى المدينة، حيث تم تأسيس عقد اجتماعي جديد قائم على أساس الإيمان بالوحي الذي نزل على محمد، ثم تجسد العقد الجديد في توطيد أركان دولة منظمة في المدينة المنورة تسعى للتوسع خارجيا.
وقد ترافقت محاولات التوسع الخارجية والمتمثلة فيما يعرف في التاريخ الإسلامي بالفتوحات مع بروز ظاهرة انقسام المجتمع الإسلامي الجديد إلى أحزاب شكلت في النهاية المشهد السياسي الإسلامي بعد أفول الخلافة الراشدة، حيث استند الانقسام السياسي إلى انقسام فقهي أدى في الأخير إلى بروز المذاهب الأربع الكبرى في التاريخ الإسلامي وهي: شيعة علي وأنصار معاوية ومعتزلة السياسة والخارجون منها.
فكانت النتيجة إذن أن ولّد عاملا الانقسام السياسي والفتوحات تاريخا خاصا للمجتمع الإسلامي كانت خلاصته حقيقتان رئيسيتان هما:
1- نهاية للوحدة السياسية: التي استندت إلى اختلاف التأويلات والتفسيرات لنص الوحي والمرحلة النبوية التأسيسيين، إذ كانت في مجملها انعكاسا لتعدد التكتلات الاجتماعية الصامتة التي كانت سائدة في المرحلة التأسيسية، فلم تكن معركة صفين إلا لحظة لبروزها على سطح المعترك السياسي الإسلامي، فكانت هذه النهاية بمثابة وسيط تاريخي فاصل بين مرحلة الوحدة الدينية-السياسية والانقسام من بعدها.
2- نهاية للوحدة الثقافية: أدى انتشار الإسلام عن طريق الفتوحات إلى تعدد مكوناته العرقية باتساع رقعة العالم الإسلامي، فضمّت إليها المجتمعات ذات القابلية الذاتية لاعتناق الدين الجديد، سواء أكان ذلك تبعا لظروفها في اللحظة التاريخية التي جاءها فيها الإسلام أم لثقافتها الذاتية، أو بهما معا، فجعلت من مجيء الدين الجديد فرصة تاريخية تحافظ به على كيانها الاجتماعي-الثقافي، فالمعلوم أن شعوب المغرب مثلا عرفت الحكم الأجنبي تلو الآخر، حيث كانت تقاوم للحفاظ على هويتها الثقافية والاجتماعية على مر العصور، ما أدى إلى اعتناقها للإسلام، فكانت هذه النهاية بمثابة لحظة تاريخية فاصلة بين مرحلة الوحدة الثقافية وتعددها في للمجتمع الإسلامي العام.
فأضحت المناطق الجديدة المنضمّة حديثا إلى المجتمع الإسلامي الجديد فضاءات للصراع على النفوذ المذهبي –الأيديولوجيا الدينية- فكانت الظروف السياسية فرصة لضم أكبر قدر من الشرائح الاجتماعية إليها، وذلك ما حدث في منطقة المغرب الإسلامي الذي سعت الحركة الخارجية المعتدلة إلى نشر أيديولوجيتها الدينية فيه نظرا للتذمر العام لسكان المغرب من معاملة الولاة التابعين للسلطة المركزية في دمشق.
فقد كان موقف الخروج عن المعترك السياسي والذي تبلور في حادثة صفّين تعبيرا عن إحدى الخيارات التي انتهى إليها مشهد أفول الوحدة السياسية الإسلامية، وهو الموقف الذي انبثقت منه الحركة الدينية الإباضية التي تعود أصولها الفكرية إلى كتلة جماعة القرّاء والتي ترجمت موقفها سياسيا في الدعوة إلى مبدأ التحكيم الفعلي والمباشر لنص القرآن الكريم.
وقد وجدت الحركة الخارجية في المغرب الإسلامي مجالا خصبا لانتشار أفكارها حيث تذمر البربر من معاملة الولاة التابعين للسلطة المركزية في الشام بقيادة الأمويين، وهو ما جعلهم يفضلون اعتناق المبادئ العقيدية للمعارضة الخارجية، وهو الأمر الذي دفع بابي عبيدة مسلم بن أبي كريمة خليفة جابر بن زيد في البصرة على رأس المدرسة الإباضية الناشئة إلى إعداد جماعة من طلبة العلم المغاربة استدعيت إلى البصرة لنشر الدعوة الإباضية بالمغرب، واشتهرت الجماعة باسم “حملة العلم”، فتقاسمت الحركتين الإباضية والصفرية مناطق نفوذ واسعة، الأولى في المغرب الأوسط والثانية في المغرب الأقصى.
وقد انتهت الحركة الإباضية إلى تأسيس الدولة الرستمية بتيهرت في المغرب الأوسط التي ضمت جل المناطق الإباضية في المغرب، اتجه بعض من الناجين من الغزو الفاطمي لها إلى بلاد الشبكة من رغم صعوبته التضاريسية لكونه ملاذا تخلى فيه الميزابيون عن الخيار الاقتصادي لصالح خيار الحرية الدينية، حيث كان تأسيس المجتمع الجديد في مزاب تعبيرا عن إحدى النهايات التي انتهى إليها الفكر الإباضي، إحدى تفريعات كتلة المحكّمة في عهد صفّين، بعد أن تمكن من ممارسة تجربة المعارضة في البصرة خلال مرحلة النشوء التي تُلِيت بالسعي لنشر المبادئ المذهبية ضمن الصراع على مناطق النفوذ، وكذا ممارسة السلطة في الدولة الرستمية بتيهرت بعد بناء الشوكة التي دامت قرنين.
فقد كان اللواذ إلى بلاد الشبكة واستحداث نظام اجتماعي جديد بمثابة الاجتهاد السياسي الأحدث لإباضية المغرب للحفاظ على الهوية الدينية وتوظيف المعطى الاجتماعي المتمثل في الوحدة العرقية كعامل رئيس في صهر البعدين الديني والاجتماعي من أجل إرساء أسس بناء ثقافي يجعل الإثني عامل لتفعيل ولتحقيق البعد الفكري العقائدي عن طريق التربية الدينية كآلية اجتماعية بديلة عن منطق الدولة الدينية.
ولما لم يكن بناء الشوكة السياسية ضمن منطق الدويلات المرحلي للحظة التاريخية ممكنا نظرا لكون الإباضية قد فقدوه حديثا في تيهرت، عمد المزابيون في بلاد الشبكة إلى استراتيجية الحد الأدنى للحفاظ على الهوية الذاتية، كان أساسه متماهيا مع ذات المنطق الدفاعي الذي كان مهيمنا في مرحلة النشوء بالبصرة، وذلك وفقا لفلسفة “مسالك الدين” في الفقه الإباضي التي توفر إمكان التغيير في الاستراتيجيات وفقا للظروف.
وقد كان لابد ولضمان استمرار المسلك المستحدث من اتخاذ آليات استراتيجية تعتمد في تأسيس المجتمع الجديد وضمان استمرار منظومته ضمن النسق الجديد الذي انطلق منذ الاستقرار بوارجلان ومن ثم انتقالهإلى وادي مزاب، فكانت الاستراتيجية هي التعليم الديني للحفاظ على البناء الاجتماعي، لذلك فقد عمد المزابيون إلى تأسيس التعليم الديني منذ المراحل الأولى لبنائهم لقراهم بوادي مزاب كمؤسسة تابعة للهيئة المسجدية أعلى هرم سلطوي في المجتمع لتحقيق الاتصال بالمجتمع الشامل، حيث يقضي العرف بإجبارية مزاولة كل فرد مزابي للتعلّم الديني.
وقد تواصل التعليم الديني تابعا للمسجد الذي تشرف عليه الهيئة الدينية، والمعروفة بـ”حلقة العزابة” التي أسسها أبو عبد الله بن بكر الفرسطائي -نسبة إلى مدينة فرسطاء بليبيا- لتسيير الشأن الاجتماعي والديني بمزاب، بعد أن انتشر فيه الجهل والخرافة، ولفترة زمنية طويلة يقوم بمهمة التربية الدينية ضمن إطار موحّد، وذلك إلى غاية ظهور الحركة الإصلاحية التي شهد التعليم الديني معها تحولات أدت إلى بروز ظاهرة التعدد المرجعي للمؤسسة الدينية، فظهرت وبمرور الزمن الاستقلالية خاصة على مستوى المضامين التعليمية التي لم تعد خاضعة إلى مرجعية مؤسسية موحدة.
هذا التعدد الذي وضع المجتمع المزابي في مرحلة تاريخية جديدة ثقافيا واجتماعيا، تدامج فيه مع متغيرات عميقة محيطة بالوضع المحلي المستجد خاصة من الناحية التقنية والثقافية التي صارت فيها المجتمعات المحلية جزءا من الاستراتيجيات الاقتصادية والسياسية الوطنية والإقليمية والعالمية، وذلك كونه مجتمعا يستهلك المنتج الرأسمالي ولواحقه الثقافية.
هذا وإن كان الفرد المزابي قد اندمج مع الوضع الجديد وسايره كما هو ظاهر، إلا أنه وفي الوقت ذاته شكل عامل اختلال كبير في الوعي الجمعي المحلي من الناحية التصورية، ذلك أن الواقع الفعلي يقرر حقيقة التعدد والانقسام على مختلف المجالات بما لا يتفق مع “صورة النموذج الاجتماعي الأول” التي كانت سائدة في الماضي، ومن ثم الشعور بضرورة استعادتها بطرق وكيفيات مختلفة، ليكون النزوع نحو استعادة الوحدة ذاته هو مصدر الاختلاف الفكري الاجتماعي داخل المجتمع المزابي، وهو ما يجعل من التعليم الديني عن طريق مؤسساته الأداة المثلى والمركزية في محاولات استعادة “النموذج الاجتماعي الأول”، ولتحقيق مطلب الإشكالية أعادتنا خطة البحث إلى مرحلة البداية كما يلي:
أ- صورة نزول الوحي على محمد
تتأسس هذه الصورة على لحظة تاريخية مخلّدة في الثقافة الإسلامية تسمى “ليلة القدر”، وتختص بكونها ليلة من ليالي شهر رمضان الذي فرض فيه الصيام، وترتقب في العَشر الأواخر منه وتحديدا في إحدى ليالي الوتر من لياليه أي الليالي 21، 23، 25، 27، 29 وعدم تحديديها بدقة في ليلة واحدة يزيد من عظم دلالاتها الروحية، فمن رغم كونها ليلة معلومة التفاصيل في قصة نزول جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم كما سنفصل إلا أن محمدا قد أُنسيها، أي أنسي اليوم الذي حدثت فيه، كما تورد الأحاديث النبوية مما يستنتج من وراء ذلك غرض محدد أو “حكمة” يمكن أن يستنتج لها تأويلين أولهما مباشر وهو أن لا يقتصر تعبد المسلمين على ليلة واحدة وأن يمتد ذلك لخمسة أيام خلال العشر الأواخر من رمضان حيث ترد أحاديث عن النبي بخصوص فضلها الروحي بِحثّه على الاجتهاد في العبادة فيها.
أما التأويل غير المباشر فيتركز على دلالة “عدم التعيين” التي يمكن استنتاجها من عدة أحكام وتشريعات أخرى ترتبط بالأصل العقيدي الأول وهو تنزيه الله عن التجسد، فهو الذي “لا تدركه الأبصار”، وكما يمكن أن نستنج ذلك أيضا من أكبر سورة في القرآن الكريم وهي سورة البقرة المتمحورة حول مفهوم عدم التعيين والتجسيد كما تشير إلى ذلك قصة قوم موسى مع البقرة التي أُمِروا بذبحها وما كادوا أن يفعلوا لكونهم في كل مرة كانوا يطلبون تحديدها عينيا بينما كانوا قد أمروا في البداية أن يذبحوا بقرةً دون أي تحديد.
وهي أيضا الليلة التي خص لها القرآن سورة خاصة بها هي سورة “القدر” ذكر فيها أنها “خير من ألف شهر، تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر، سلام هي حتى مطلع الفجر”، إذ المعنى هو تكرر نزول الملائكة كل سنة يوم ليلة القدر، وعنها أيضا وردت آية أخرى في القرآن: “إنا أنزلناه في ليلة مباركة فيها يفرق كل أمر حكيم”، وقال في موضع آخر إشارة ذات الليلة: “شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان”، وفيها تبيين لسبب تعظيم هذا الشهر الذي يتضمن فيه تلك الليلة.
ومن الشواهد على نزوع الوحي المحمدي إلى عدم التعيين هو الآية التي تأمر المسلمين بعدم استفتاء النبي في كل شيء، “يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تُبدَ لكم تسؤكم” أي لا تبحثوا عن الحقيقة العينية لبعض الأمور والقضايا لأن الرد الإلهي عليها سيسوؤكم أي سيشق عليكم تطبيقه، ومن ثم فإن من الامتثال لأمر الله عدم التدقيق والتمحيص في قضايا العقيدة والشريعة، لذلك يمكن الافتراض هنا بأن عدم التعيين يشكل منهجا في الوحي المحمدي له سنده ضمن الوحي وخارجه أيضا، بما في ذلك تأكيد القرآن المستمر على بشرية الرسول حتى لا يتعين كشخص غير بشري وذلك نزعا للقدسية الشخصية عنه.
ومن ثم فإن عدم التعيين التي هي سمة أساسية في “ليلة القدر” المخلِّدة للحظة نزول القرآن تشكل الصورة الأكثر ظهورا لتلك الليلة ذاتها وبما يتضمنه فعل الوحي ذاته من غموض يتعذر تعيينه في تفاصيله وإن وردت فيه تفاصيل يرويها صاحب الوحي ذاته عن حالته أثناء الوحي لكنها متعذرة عن التجربة بل وتنفي إمكانية حدوثها مستقبلا لكونه خاتما للأنبياء حسب الوحي ذاته، وغاية كل ذلك أن يكون الأمر في الإسلام كله قائم على مفهوم “التصديق” وليس المعاينة، إذ أن إيمان المسلمين كله قائم على الاطمئنان لصحة الوحي سواء كفعل نزل على محمد أو نص وارد في الكتاب.
فحادث نزول القرآن يتضمن تأسيسا صريحا لدين الإسلام بوصفه لحظة البداية الأولى التي حصل خلالها التنزيل، على أن الوحي تواصل بعد ذلك بكثير ولم يتوقف حتى اكتمل نزول القرآن، هذه اللحظة التي كانت ستكون كغيرها بالنسبة لمحمد الذي كان متحنثا كعادته في غار حراء لولا أن فاجأه الملك جبريل بالضم القوي مرات عديدة وأمره له بفعل لم يكن محمد يأتيه ولا يعرفه فكان الرد الطبيعي “ما أنا بقارئ” إلى آخر القصة.
تلك هي الصورة الأساسية الممكن حوصلتها عن لحظة التنزيل المؤسِّسة وما تلاها بعد ذلك كان كله نسجا على منوال تلك البداية ومن ثم فتخليد ذكراها السنوية كان ضرورة حيوية لربط المؤمنين بها لأن شهود تلك الليلة في العرف الإسلامي خير من ألف شهر وفيها يفرق كل أمر حكيم.
وبعد انتشار الإسلام في أقطار العالم صبغتها الثقافات الإسلامية بطابعها وأعطتها أبعادها ومكانتها الرمزية بما جعل من ليلتها والتي غالبا ما ينزع المسلمون إلى ترجيحها يوم ليلة السابع والعشرين خلافا لعدم التحديد الذي قدمنا أنه منهج يقوم عليه الدين كله، بحيث يتم الاحتفال بها كونها تتيح لهم إمكان تخليد الليلة جماعيا بوصفها طقسا اجتماعيا فيه تُعظّم رموز الإسلام الأساسية النبي محمد والقرآن وحادثة النزول الأولى ومكانها.
بما يبدو في النهاية تضاربا بين التوجيه الديني في عدم التعيين والنزوع البشري إلى التعيين، وهو نزوع وجودي فطري مغروس في خصائص البشر بينما التشريع الإسلامي وكما تقدّم وبرهنا ينزع نحو التحرير المستمر منه.
هذا التعظيم وهذه الاحتفالية السنوية سوف لن تكون مقتصرة على ليلة واحدة بل ستمتد ليس على مدى السنة ولكنها تمتد إلى سنين تكرس كلها في سبيل تحقيق المثل التي تضمنتها الليلة وما ترمز إليه من خلال التعليم الديني للناشئة، ومن ثم فهي تتحول إلى منظومة ثقافية واجتماعية تُكرِّس الأجيال نفسها لتحقيقها. تلك هي الصورة الممكن أخذها عن المرحلة الأولى من النموذج التأسيس لمجتمع الدراسة.
ب- صورة التأسيس الثقافي للمجتمع الجديد
بعد حادثة النزول الأولى أمر النبي بأن يصدع بالأمر، “واصدع بما تومر” وينطلق في التبشير بما يأتيه به هذا الناموس، وهو أن يدعو الناس إلى التصديق أولا بما يأتيه من وحي وإلى تطبيقه في مرحلة ثانية، وذلك ما يرمز إليه تقسيم القرآن إلى شطر مكي وهو ما نزل بمكة قبل الهجرة المتعلق بالعقائد وشطر مدني وهو ما نزل بالمدينة بعد الهجرة المتعلق بالشرائع.
كل ذلك سيتناقض جذريا مع السلطة الاجتماعية والسياسية السائدة سواء في المحيط الأصغر وهو مكة وسيفارق أيضا الثقافة الوثنية السائدة في غالب شبه الجزيرة العربية، فكانت نقطة البداية في المجتمع الجديد هو حشد المؤمنين بالرسالة الجديدة باعتبارها النواة الأولى للمجتمع المستقبلي الكبير في مكة والجزيرة العربية جميعا وبما سيقابل بالرفض المطلق لأصحاب السلطة حيث اتحد السياسي مع الثقافي في لحظة البداية تلك.
فكانت الصورة الثانية إذن هي سعي هذا الوليد الثقافي الجديد إلى افتكاك مساحات اجتماعية وثقافية تكون هي النواة للمجتمع الجديد قائمة على أساس المواجهة بين فكرة توحيد وتنزيه الذات الإلهية عن التجسد والتعيين وفكرة الوسطاء الروحيين المتجسدين في التماثيل والمجسمات المعبرة عن الآلهة، وهو ما ينتج عنه فرقا أساسيا في مفهوم السلطة عند الفريقين حيث أن الفريق الذي يعتمد الوساطة الروحية يجعل منها أداة للسيطرة والتحكم بينما الفريق الرافض للوسطاء خاضع للتوجيه المباشر للذات الإلهية وأن أي تشريع أو أمر لا يكون إلا خضوعا للأمر الإلهي ومن ثم فهو لا يتخذ من الآلهة واسطة بل مرجعية يخضع لأوامرها.
لكن في النهاية لم يقم المجتمع الجديد بنفي مفهوم السلطة ولكن قام بإعادة تأسيسه من حيث الطبيعة غير المتعينة للوحي بوصفه مصدرا للسلطة الذي تقدّم أنه تجربة غير قابلة للمعايشة والمعاينة وإنما تقوم على التصديق أو الإيمان، وقام أيضا بإعادة ترتيبه من حيث تقديمه على أي سلطة أخرى. فالمجتمع الجديد قام أساسا على إعادة التأسيس والترتيب للسلطة، ولم يقم بهدمها وتعليل ذلك هو خضوع المسلمين للسلطة النبوية خلال عهد النبي، وكذا انشغال المسلمين بعده بأمر خلافة الرسول على منصبه وهو ما كان في النهاية مصدرا لاختلاف المسلمين وانشقاق وحدتهم.
ويمكن أيضا تأويل سلطة الرسول على المؤمنين أنها من مصدرين، فالأولى هي سلطة الوحي التي منح إياها من جبريل ذاته عندما أمره بتبليغ ما جاءه به، والثانية هي سلطة قيادة المجتمع بعد المرحلة الأولى، والتي استمد مصدرها من المؤمنين الذين بايعوه، وكان ذلك خلال بيعتي العقبة الأولى والثانية.
ومن ثم فإن المجتمع الإسلامي الأول تأسس على مرحلتين حيث كانت الأولى مرحلة تفكيك أسس المجتمع القديم خاصة منها الأسس الفكرية والثقافية حيث لم يلجأ محمد وأتباعه إلى الرد على خصومهم بالقوة إلا بعد مدّة لم تكن باليسيرة، بعد أن استبطأ المؤمنون إِذْن محمد لهم بالقتال دفاعا عن أنفسهم وممتلكاتهم التي تعرض لها خصومهم لمدة طويلة حتى جاءت الآية تتضمن إذنا صريحا بالقتال: “أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير”.
ثم بعد ذلك جاءت مرحلة التأسيس الثانية التي ارتكزت على البناء المؤسسي للمجتمع خاصة المؤسستين الدينية المتمثلة في المسجد والسياسية المتمثلة في بيعتي العقبة الأولى والثانية التي زكت محمد ليكون رئيسا أو أميرا عليها، “إن الذين يبايعونك تحت الشجرة إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم” وكذا “قد رضي الله عن المؤمنين وأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا”.
فارتكزت الصورة إذن على التأسيسين الثقافي أولا ثم بعده التأسيس المؤسسي، حيث انبنى التأسيس الأول الذي كان تفكيكيا من شقين، الشق الأول تمثل في اجتذاب كل من له قابلية لتصديق محمد وما يدعو إليه وتعبئته فكريا والشق الثاني في إقامة الدليل القاطع على من لم يؤمن به والإنكار عليه؛ كما انبنى التأسيس المؤسسي على شقين أيضا هما أولا توجيه المؤمنين إلى البناء الاجتماعي داخليا وثانيا إلى توسيع الدولة الجديدة خارجيا.
كما تضمنت مرحلتا التفكيك والبناء عمليتي تغيير جذرية داخل المؤسسة الاجتماعية الأولى أي مؤسسة الأسرة وامتداداتها العشائرية والقبلية، فقد اقتضت المرحلة التفكيكية أن يواجه الأب ابنه والأخ أخاه ووصلت المواجهة إلى حد التقاتل بعد الاصطفاف الذي حصل جراء ظهور الدعوة المحمدية، وذلك ما كان أول إشارة إلى تصدع البناء القبلي الذي يمثل الأساس الركن للمجتمع العربي الجاهلي حيث صار الصراع جاريا على أساس ثقافي.
بينما تم السعي في مرحلة البناء إلى أعادة تأسيس الروابط الاجتماعية على نفس الأساس الثقافي من خلال عملية المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار التي قادها محمد والتي تضمنت التنازل عن الممتلكات وحتى بعض الروابط العائلية في سبيل إقامة العلاقات الجديدة.
وهذه هي الصورة الثانية للمجتمع الجديد القائم على أنقاض روابط ثقافية قامت على روابط الدم والقرابة.
ج- صورة الاجتماع حول وحدة نص الوحي بعد انقطاعه
كانت حاجة المجتمع الجديد ماسة إلى مؤسسة تعوض أمرين فقدا بعد المرحلتين الأولى والثانية وهما:
1- انقطاع الوحي عن مزاولة الوقائع والتدخل فيها لتوجيهها بشكل مباشر.
2- وفاة الرسول وانتهاء الوحدة بين سلطتي الوحي وإمارة المؤمنين.
فلقد أدى مجموع الحدثين بالمجتمع الجديد إلى البحث عن البدائل الممكنة، فقد واجه المسلمون وضعا جديدا غير مسبوق يتعلق بفقدانهم لأهم رمزين مؤسسين للمجتمع وهما الوحي وصاحبه.
تم فقدان الوحي بصفته الفاعلة التي تباشر الأحداث وتتدخل فيها وتحول إلى نص مؤسِّس لم يكتمل جمعه إلا خلال مرحلة خلافة عثمان بن عفّان، وهو ما سمي بـ”مصحف عثمان” وهي العبارة الرامزة إلى توصل المسلمين لأول مرة إلى جمع القرآن في نص واحد ومكتمل على يد حفظة القرآن تحت إشراف المؤسسة السياسية في عهد عثمان، فكانت لحظة استعاض فيها المسلمون ولو جزئيا اللحظات الحيوية لنزول القرآن بمصحف مكتوب يتضمن تلك اللحظات المخلّدة في النص المقدّس، وباعتبار إضافي هو صلاحية القرآن لعلاج النوازل في كل زمان ومكان استنادا إلى نصه ذاته في المجموع الدلالي لآيات منفصلات هي: “إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون” و” إنه لقرآن مجيد في كتاب مكنون” و “ما فرّطنا في الكتاب من شيء”.
كما تم التوصل بعد وفاة الرسول وفي فترة مقبلة إلى تأسيس علمي السيرة و الرواية عنه صلى الله عليه وسلم على يد العلماء الذين ابتكروا مناهج في أخذ الأحاديث التي يصح إسنادها إلى محمد، وفي ذلك أيضا استعاضة جزئية عن غياب النبي الذي أمر هو نفسه والقرآن باتخاذه قدوة: “وما ينطق عن الهوى”، “يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول”، وقوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: “خذوا عني مناسككم”.
فكان إذن أن لا مناص من تكملة النص القرآني بالرواية عن النبي التي تسد فراغا كبيرا في تفاصيل التشريع الإسلامي فضلا عن أن السيرة أيضا تعيد المسلمين إلى المراحل الأولى لنشوء الإسلام وكيفيات نموه وتطوره.
فتعبّر الصورة المتقدمة عن وحدة نص الوحي واجتماع المسلمين حول نص القرآن وعدم الاختلاف حوله سوى ما كان روايات متعددة لا تختلف عن بعضها إلا في ألفاظ ليس لها تأثير يذكر على المعنى، وثانيا ترد عبارة “السنة والكتاب” للتعبير عن الأصل الواحد لدين واحد هو الإسلام، وذلك باعتبار علوم القرآن والسنة تمثل الصورة الموحدة والمكتملة للوحي، ولكون الاقتصار على النص القرآني يمكن اعتباره في المخيلة الإسلامية بترا للدين وهو اعتبار يمكن تأويله بوصفه اجتزاء للقرآن عن سياقه المرحلي والتاريخي.
فكان إذن أن اقترن العاملان الثقافي والمؤسسي في التوافق على وحدة نص الوحي، فجمع القرآن قد تم في النهاية بقرار سياسي من الخليفة عثمان، أما علوم السنة فقد ابتكرت بوصفها من الأدوات والوسائل الثقافية – المنهجية المعينة على فهم الدين فهما مكتملا بمعنى إدراك صورته الشاملة دونما نقص أو تشويه.
د- صورة الاختلاف حول تأويل الوحي مدخلا لظهور المذاهب في الإسلام
تلت مرحلة السعي لاستعاضة غياب الوحي الفعلي وشخص النبي مرحلة رابعة تركزت على السعي إلى تنزيل نص الوحي على الواقع وفقا للمعطيات الزمانية المستجدة بما أدى ولأول مرة في تاريخ المجتمع الإسلامي إلى مفاصلة حادة في طريقة اختيار الأمير القائم على شؤون “الأمة” حيث تداخل الشأنان الثقافي والمؤسسي في إحداث ذلك التفاصل والافتراق، إذ كان السؤال ما هي مرجعية اختيار الأمير؟
1- العامل الثقافي:
تأثير هذا العامل انطلق خلال مرحلة ظهور المجتمع الإسلامي ذاته، والذي قدمنا أنه تأسس على ثقافة محدثة بديلة عن نمط الاجتماع القبلي إلى نمط اجتماع ذو أساس فكري، وهو الذي الأساس الذي تجلى أيضا خلال مرحلة التأويل الفكرية لنص الوحي وكيفية اختيار الحاكم على الأمة، بحيث كان اختلافا مستمدا في الأصول الإسلامية وعلى ضوئها وتأثيرها حصل الاختلاف؛ وبمعنى آخر لم يخرج هذا العامل عن هيمنة المنظومة الثقافية الإسلامية التي أسسها الوحي وصاحبه.
2- العامل المؤسسي:
بعكس العامل الأول، يعود تأثير العامل المؤسسي (القَبَلي) إلى مراحل ما قبل بناء المجتمع الإسلامي، لكنه لم يعد بنفس التفاصيل في المرحلة الإسلامية التالية لوفاة النبي والخلفاء الأوائل، فلم تعد الانتماءات العصبية التي كانت في العهد الجاهلي بمسمياتها لكنها عادت بمضمامينها.
فلا شك أن إزالة الثقافة الإسلامية الوليدة للنظام القبلي العربي لم يكن لتطفئ جذوته نهائيا كشعور فطري في الإنسان، فمن غير الموضوعي تصور إمكانية القضاء على عاطفة الشعور بالانتماء، فكان لابد للظروف المستجدة أن تعيد إنتاج وعي جديد بالانتماء خاصة بعد تقادم العهد بوفاة النبي الذي كان القطب الذي يحفظ من حوله من العودة إلى استعادة صور وأنماط النظام العربي القديم ومن بعدِه أيضا من الخلفاء.
لكن و في تلك المرحلة يمكن تصور بذور تكتلات اجتماعية مضمرة في الجسم الإسلامي الوليد، كتل جمعت إلى الانتماء الثقافي الأكبر وهو الانتماء إلى الأمة الكبرى التي توحدت حول “الكتاب والسنة” إلى انتماء ثقافي أدنى لم تكن شروط ظهوره قد اكتملت، فأية تقسيمات كانت مضمرة في تلك اللحظة الأولى؟
3- تداخل العاملين الثقافي والمؤسسي
حتى نكتشف الكتل الاجتماعية المضمرة داخل النسق الاجتماعي المحدث بقيادة محمد بن عبد الله لابد أولا من النظر في الانقسامات التي ظهرت بعد ذلك بشكل جلي خلال أول صراع إسلامي إسلامي والذي تجلى في معركة صفين، حتى نتمكن من محاولة تأويل الصور الأصلية التي تحكمت في كل فريق كيما يتخذ الموقف الذي اتخذه.
لقد ظهرت بداية فرقتان رئيستان هما أنصار علي وأنصار معاوية بالإضافة إلى الفرقة التي اعتزلت المعركة من البداية والمكونة في غالبها من كبار الصحابة والتابعين فكانوا بذلك نواة لفكرة الاعتزال، إثر ذلك انقسم أنصار علي بعد قبوله بالتحكيم إلى شيعة لعلي واعتبروه الإمام المعين بقوة النص الديني وإلى محكّمة وهم بالأصل رافضي التحكيم وسموا بذلك لكونهم قالوا: “لا حكم إلا لله”، ويقصدون بذلك تحكيم النص الديني في اختيار الأمير، بينما بقي معسكر معاوية موحدا.
والملاحظة البادية للعيان هنا هو صف كبار الصحابة الذين يفترض بهم أن يقودوا ركب الأزمة السياسية لكونهم الأقرب إلى منابع الإسلام الأول لكنهم فضلوا الاعتزال، إذ التأويل الممكن للمصدر التصوري الأصلي لموقفها هو إدراكهم الجازم بعدم إمكان العودة إلى استعادة المرحلة الأولى للإسلام وهي المرحلة المثالية التي عايشوها بكل زخمها وشروطها التي حصلت بها، وذلك ما طبع في تصورهم النموذجي الجذري استحالة استرجاعها كمرحلة ومن ثم فهم ليسوا في حاجة للخوض في معركة يبدو واضحا أنها لن تنتهي إلى نتيجة مُرضية أو صحيحة على الأقل بالنسبة إليهم.
أما تأويل موقف المحكّمة من رفض التدخل البشري في اختيار الحاكم أو على الأقل رفض طريقته فهو متمحور حول اعتقادهم بأن النص القرآني قد قرّر كل تفاصيل الحكم الصحيح وأنه المرجع الوحيد المخول لفصل الخطاب في الأزمة الوجودية التي ألمّت بالمجتمع الإسلامي، وذلك لكونهم يمثلون في غالبهم أو على الأقل نخبتم كتلة القرّاء حملة القرآن في العهد النبوي بما جعلهم أقرب لتمثل روح نصه، وذلك ما طبع في تصورهم النموذجي الجذري أن الحل الوحيد الممكن هو بالعودة إلى النص ومن ثم كان عدم الاتفاق على هذا الخيار مدعاة للانسحاب من الصراع حول السلطة أو على الأقل القيام بمناصرة صاحب الشرعية في الحكم، لأن أي اختيار بعد ذلك سينتهي إلى نتيجة تناقض الحل الصحيح على الأقل بالنسبة إليهم.
أما تأويل الموقف الثالث وهو موقف الولاء المطلق لعلي فنابع من اعتقاد شيعته باتباع علي أيا كان موقفه لكونه الأقرب صلة بالرسول فهو ابن عمه وصهره وأول المؤمنين به وهو الذي فداه يوم اجتمعت قريش على قتله، وعلى ذلك فهو الأكثر علما والأحصف رأيا، لذلك فقد تعلق الشيعة بعلي تعلقا شخصيا شديدا إلى درجة اعتباره البديل الأوحد لغيبة التعيين الإلهي المباشر، وذلك ما طبع في تصورهم النموذجي الجذري أن يكون أي اختيار لا يوافق اختيار علي خارج دائرة الصواب على الأقل في نظرهم.
أما تأويل الموقف الرابع وهو موقف الولاء لمعاوية فيبدو أنه مستمد من توفيقه في إدارة المعركة التي حرص خلالها على الثأر لعثمان ممن سلبه الحكم عنوة بقتله، بما يبدي أن السند الثقافي الجذري الذي يقف وراء موقف معاوية وأنصاره كان مؤسسيا لا مواربة فيه من حيث غلبة المنطق العصبي، وإن كان السند المؤسسي بدا الأقوى في كسب معركة الصراع حول السلطة رغم فقدانها لأي سند مبدئي ممكن، ويظهر أن قوتها مستمدة عضويا من الطريقة التي أسلم بها والده أبو سفيان الذي بدا واضحا أنه لم يسلم إلا استجابة لداع المصلحة حيث انتفت كل دوافع الحق والصواب فيه.
بهذه الصورة تظهر هذه المرحلة الرابعة من تداخل العاملين الثقافي والمؤسسي في تشكل هذه المرحلة، والتي ستمتد آثارها في الزمان حيث استمرارها إلى غاية العصر الراهن والمكان حيث امتدادها إلى منطقة شمال إفريقيا كما سنحلل فيما يأتي.
أ- صورة شمال إفريقيا والبربر قبل ظهور الإسلام وبعده
لم تكن فتوحات عقبة بن نافع ولا حسان بن النعمان لبلاد المغرب تحمل الطابع المذهبي، بل كانت أكثر مشغولة بإبقاء البربر في شمال إفريقيا على الدين الإسلامي حيث كانوا برتدّون كل مرة تنسحب فيها الجيوش الإسلامية، بما يعني أن الأمر عند البربر كان مسألة انقياد للقوة المهيمنة ولم يكن في بدايته قائما على استجابة ذاتية للدين الجديد، وهو ما دعا عقبة بن نافع إلى تأسيس وبناء مدينة القيروان لإبقاء البربر على إسلامهم، إذ كان البربر على الوثنية ثم على المسيحية ثم انتقلوا إلى الإسلام الذي جاءهم بالتزامن مع انهيار الإمبراطورية الرومانية.
ولقد كانت منطقة شمال إفريقيا مجالا بكرا للهيمنة الرومانية التي هيمنت على العالم بموازاة الإمبراطورية الفارسية التي تزعمت المشرق حيث لم يكن لها مجال لمحاولة بسط نفوذها على المغرب، وقد جعل بقاء شمال إفريقيا طويلا تحت السيطرة الرومانية منطقة منتمية إلى العالم الأوروبي المسيحي، و كانت الحضارات التي هيمنت عليها قديما حضارات وثنية، مما جعل من دخول الرومان مؤذنا بانتشار المسيحية في غالب أرجاء إفريقيا الشمالية بعد مدة طويلة من استقرارهم فيها، حيث لم يتبنى الرومان الوثنيون الديانة المسيحية إلا في وقت لاحق.
وتواصلت الهيمنة الرومانية على المشرق لمدة طويلة رسخت خلالها المبادئ المسيحية في الهوية الثقافية للمنطقة ذات الغالبية البربرية، إلا أن معاملة الرومان للسكان الأهليين معاملة دونية جعلهم يبحثون عن أي أفكار تحررهم من التبعية لروما وذلك ما حدث أولا مع المسيحية التي انقسمت إلى شطرين تبنى البربر منه عقيدة مضادة لعقيدة المركز في روما التي تسعى لاستتباعهم.
وتواصل الأمر على هذا النحو إلى أن جاء المسلمون من الشرق لضم البلاد البربرية إلى الحكم المركزي في دمشق، لكن المعاملة الدونية من قبل الولاة للسكان الأهليين أدت إلى ثورات مستمرة على هؤلاء الولاة بما دعا البربر للبحث عن عقائد مخالفة للسلطة الأموية مما ترك المجال مفتوحا لأصحاب الفرق الإسلامية الأخرى للتنافس على اكتساب الجمهور في المغرب الإسلامي خاصة منها الفرقتان الإباضية والصفرية المتفرعتان عن المحكّمة -الذين رفضوا التحكيم في معركة صفين- اللتان استطاعتا أن تؤسسا الدولتان الوحيدتان اللتان قامتا على فكر التحكيم.
فكانت الصورة إذن استعصاء سكان شمال إفريقيا على الخضوع للأجنبي مادام يعاملهم معاملة أهالي من الدرجة الثانية، فهم لم يرفضوا الوصاية الأجنبية إلا لكونها تعالت عليهم مما دعاهم إلى البحث عن العقائد التي تحررهم من التبعية للسلطة المركزية سواء كانت في روما أو في دمشق.
وقد استقرت الأمور في آخر المطاف إلى نشوء الدولتين الإباضية في المغرب الأوسط والصفرية في المغرب الأقصى انسجاما مع النزعة البربرية في الاستقلال عن الشرق، وانسجاما أيضا مع فكر التحكيم وعقائده التي تنطلق من أساس الاختيار في مسألة تعيين الحاكم.
وبهذه الصورة تحقق التحالف بين عقائد المحكمة والمزاج البربري فكان العامل الرئيسي في نشأة الدولتين الإسلاميتين الخارجتان عن هيمنة المركز في دمشق، ثم الصورة الناتجة مما تقدم هو ارتباط التدين في شمال إفريقيا بواقع الهيمنة من جهة ومستندا إلى جدلية الخضوع والاستقلال المرتبطة بنوع المعاملة التي يعامل بها السكان الأصليون، وذلك ما يشير إلى الصورة الأشمل وهي عدم نزوع سكان شمال إفريقيا إلى تأسيس كيان حضاري مستقل ذاتيا.
هـ- صورة التجسد الفعلي لفكر المحكّمة في إطار الدولة الرستمية
حاولت المجموعات البربرية الإباضية المنتشرة في شمال إفريقيا تأسيس كيان سياسي يجمعها ويحميها، فتأسست الدولة الرستمية استجابة لهذا المطلب بقيادة عبد الرحمن بن رستم عضو البعثة العلمية التي قدمت من المشرق والتي تكونت على يد أبي عبيدة مسلم الرجل الثاني في المذهب الإباضي، فقد تلقى “حَمَلة العلم” تكوينا خاصا في البصرة في سبيل إنشاء كيان سياسي خاص بالإباضية في المغرب بعد أن تعذر ذلك في المشرق، وكان نجاح الإباضية في تأسيس دولتهم ضمن مناخ عام لم تعد فيه القيادة في المركز قادرة على أن تحافظ على وحدة الدولة الإسلامية الممتدة الأطراف.
فقد فسح تأسيس الدولة المجال أمام الإباضية لتطبيق أفكارهم السياسية على أرض الواقع لمدة تزيد عن القرن، ففتحت مجالها للنشاط الثقافي والعلمي والحركة التجارية والنشاط الزراعي وحققت نموذجا مستحسنا في الازدهار العلمي والاقتصادي، إلا أنها لم تفلت في النهاية من قوانين تلك المرحلة في مسألة السلطة التي ارتكزت على الرستميين لوحدهم وهوما بسببه دبت الخلافات الداخلية التي لم تحم الدولة الإباضية في المغرب من ملاقاة نفس المصير الذي لاقته جميع الدول المعاصرة لها.
فكانت الصورة إذن عن هذه المرحلة التاريخية هي تواطؤ العاملين الإثني والمذهبي في تأسيس الدولة الرستمية بحيث كان المغرب مجالا خصبا لانتشار فكر المحكمة الاستقلالي بين سكان ذوي نزعة استقلالية، وهو التواطؤ الذي حصل في لحظة تاريخية مكنت من إنشاء كيان سياسي إباضي مستقل.
أما الصورة الشاملة فتحددت في مناخ الدويلات القائم في تلك اللحظة التاريخية ومنطقها العصبي الذي لم تشذ عنه الدولة الرستمية وذلك من حيث النتائج النهائية دون الأخذ بالتفاصيل التي تورد بأن تركيز الحكم في العائلة الرستمية كان أخذا بالتوازنات الحاصلة داخل الدولة ذاتها، وهذا لا يُخرجها عن المنطق العصبي السائد في الدويلات.
و- صورة أفول الدولة الرستمية والانتقال من الدولة إلى العزابة
بسقوط الدولة الرستمية بعد الصراع الداخلي حول السلطة والذي أحدث داخلها تصدعا كبيرا وبعده إجهاز الفاطميين عليها بغزوهم العاصمة تيهرت تدميرا لها وقتلا لأهاليها انكشف إباضية المغرب على مصير مجهول لم تَحتَمِ منه سوى قلة قليلة فرت إلى جنوب المغرب الأوسط في سدراتة.
فكان حدث السقوط اكتشافا جديدا للفكر الإباضي لذاته، إذ أن الدولة التي أقامها “أهل الحق والاستقامة” قد أذنت بنهايتها، وأنه لم يبق هناك أمل في سيادة فكر المحكمة للمسلمين بل حتى أن إعادة تأسيس الدولة من جديد لم يعد ممكنا في هذا الظرف التاريخي العام الذي يحكمه قانون صعود وسقوط الدول كما صاغه ابن خلدون، لذلك كان لابد من التفكير في صيغة جديدة تعمل على إبقاء جذوة الفكر الإباضي مشتعلة بعد انطفاء غالب الفرق الممثلة لمنهج تحكيم القرآن.
بهذا الطموح سار الإباضية إلى سدراتة بوارجلان وهم الذين اصطحبوا معهم فكرتهم الدينية التي انصهرت مع المزاج النفسي لسكان وادي مزاب فأنتج نظاما اجتماعيا دينيا يتولى شؤون المجتمع الجديد بقيادة رجل العلم النفوسي أبو عبد الله بن بكر الفرسطائي صاحب فكرة حلقة العزابة، وهي قيادة روحية أكثر منها قيادة مؤسسية بحيث تولى تسيير الشؤون الدنيوية أناس من عامة الناس، إذ الواضح هو أن استعانة المزابيين برجال العلم من خارج وادي مزاب اقتصر على الجانب الروحي بينما تمسكوا بتسيير شؤونهم الدنيوية بأنفسهم.
فكانت الصورة إذن مُظهرة بشكل جلي للانفصال الثاني للشأنين الروحي والمؤسسي في التاريخ الإسلامي بعد الانفصال الأول الذي حصل إثر وفاة الرسول، وقد قضى هذا الانفصال الثاني على الكيان المعلن للدولة، مما أبقى في غالب البلاد الإسلامية على كيانات اجتماعية من طبيعة تحت سياسية لا تسعى لبناء جهاز حكم داخلي فضلا عن السعي للتوسع الخارجي.
وذلك ما سمي عند الإباضية وتحت مبحث مسالك الدين ب”طور الكتمان” يسعون من خلاله للحفاظ على الحد الأدنى الممكن من السلوكات والعقائد الدينية للمذهب الإباضي، وهي الحالة التي تقبل بالانضواء تحت أي كيان سياسي أكبر منه بشرط الاستقلال الذاتي في تسيير المجتمع وذلك ما حصل خلال المراحل التالية للدول المتعاقبة والتي شملت وادي مزاب بداية من العثمانيين ومرورا بالفرنسيين ثم وصولا إلى الدولة الوطنية الجزائرية.
فكان استمرار هذا الكيان الاجتماعي الروحي نابعا أساسا من التجاذب المتبادل بين السلطتين الدينية والدنيوية المنفصلتان منذ نشأته إلى المرحلة الراهنة، وما يمكن الاستدلال به على ذلك هو نصوص اتفاقات أعيان وادي مزاب التي قامت بتشريعات يبدو فيها واضحا أنها مزجت بين التشريع الديني وضمان إخضاع المجتمع للسلطة الموحدة للأعيان، وأما الواقعة الثانية فهو التجاذب الذي حصل بين أعيان وادي مزاب ورجال العلم حول الموقف من دخول الفرنسيين إلى المنطقة حيث كانت الغلبة في الأخير للأعيان الذين مالوا إلى المهادنة وهو ما تجسد في اتفاقية الحماية الموقعة بين الفرنسيين والمزابيين بالأغواط والتي بقيت سارية المفعول إلى غاية إنخراط الكثير من المزابيين في الثورة التحريرية ما أدى إلى نقضها.
فالصورة الخاصة هنا إذن تكمتل في تحول النمط السياسي إلى مسلك مهادنة مستمر مقابل حق التسيير الذاتي للشؤون الاجتماعية، وهو ما ينتج بالضرورة الانفصال بين الشأنين الروحي والمؤسسي، على أن تحقيق الأغراض الدنيوية ذاتها يقوم على ضمانتين أساسيتين هما العرف الاجتماعي والتربية الدينية بما يبقي لرجال العلم وهم العزابة هنا الدور الأساسي في تنشئة وتوجيه السلوك الاجتماعي لدى أفراد المجتمع، أما دور الأعيان فهو السهر على مراقبة وتسيير حالة التوافق الداخلي من خلال الهيئات العرفية وكذا الإشراف على حالة التوافق مع كيان الدولة الذي ينضوي تحته المزابيون.
بذلك يتضح لنا أن الصورة النموذجية الكامنة الناتجة عن كل التفاصيل الاجتماعية والسياسية المتقدمة هي صورة العرف الاجتماعي والتربية الدينية المرجعيتان المتحالفتان في الثقافة المزابية منذ نشأتها بوادي مزاب، وعلى أساسهما استمر هذا النموذج الاجتماعي لقرون متطاولة إلى الفترة الراهنة، فإلى أين انتهى هذا النموذج الذي سنكتشف تطوراته في تحليلنا الموالي للصورة المؤسسة للثقافة المزابية.
ز- صورة المجتمع المزابي بوصفه “نموذجا اجتماعيا”
بظهور الفكر الإصلاحي بوادي مزاب ظهرت المرحلة الثالثة من الانقسامات وهي مرحلة الانفصال بين العرفي والديني بعدما كانا متحدين وحدة تامة من حيث هيمنة المؤسسة الدينية على جميع الشأن الروحي وهيمنة المؤسسة الدنيوية على جميع الشأن السياسي، ولما كانت المؤسسة الدينية هي القائمة على التنشئة والتوجيه ظهر الفكر الإصلاحي الذي أدى إلى امتداد الانقسام أيضا إلى المؤسسة الدنيوية على مستوى التصورات على الأقل.
فقد أنتج الإصلاح الديني الذي قاده اجتماعيا الشيخ بيوض انقسام المؤسسة الدينية من جهة، وعودة إلى تكوين الروابط الثقافية بالعالم الممتد خارج وادي مزاب وبث الاهتمام بالشأن العام بعد انقطاع طويل عملت على تكريسه مرحلة الكتمان من جهة أخرى، فمن الناحية التاريخية كان دخول الإصلاح إلى وادي مزاب تاليا لظهوره في العالم الإسلامي ومتوافقا مع ظهوره وطنيا في الجزائر.
أما من الناحية الفكرية فلاشك أن الشيخ بيوض كان مطلعا على الحركة الفكرية العربية والعالمية بما حمله فكره الإصلاحي وتجلى في خطبه ودروسه لطلبته بالقرارة مسقط رأسه، وأيضا للبعثات العلمية التي كان يرسلها إلى أنحاء العالم العربي خاصة منها إلى الزيتونة بتونس حيث تكون جيل كامل من المشايخ الحاليين في رحابها.
أما من الناحية السياسية فقد أنهى الشيخ بيوض مرحلة طويلة من انسحاب رجل الدين الإباضي من الحياة السياسية والتي كانت قائمة منذ نشأة المدن المزابية ذاتها والبرهان على ذلك هو مشاركته السياسية الفاعلة التي تتضح في موقفه من قضية فصل الصحراء عن الشمال التي صوت ضدها، وقبل ذلك دخوله السجن لمشاركته في النضال السياسي ضد الاستعمار، وقد كان ذلك منه تجاوزا مضاعفا للمنظومة الثقافية المزابية سياسيا وثقافيا فهو لم يخرج إلى المشاركة السياسية محليا فحسب بل أن مشاركته كانت متعلقة بالشأن الوطني خارج السياق المحلي المزابي.
هكذا كانت الصورة إذن متمثلة في اختراق رجل الدين لحدوده العرفية سياسيا وثقافيا وما نتج عنه من تحديث في التعليم الديني بما أنهى الإشراف العضوي المباشر للمسجد على المجتمع، وبحيث لم تعد وظيفة العزابة مرتبطة بالشأن الاجتماعي المحلي الخالص وإنما انتهت إلى نوع من الانفصال عن المجتمع لصالح الارتباط أكثر بمعطيات الشريعة الصحيحة وهو ما ظهر جليا في حركة أحد تلامذته وهو الشيخ أَدَّاود التي عنيت بالتطبيق الصحيح للسنة النبوية فيما يتعلق بجانب العبادات ومحاربة كل ما لا يتصل بالسنن التعبدية التي كان يأتيها النبي واعتبارها مما يخالف الشرع.
هكذا انتهت الصورة الراهنة للنموذج الاجتماعي إلى نمط ثقافي محدث لا يستند بالضرورة إلى الوظيفة العضوية لرجل العلم في المجتمع، وبحيث تتحقق بين العزابة والمجتمع صلة عضوية فلا تنفصل أدوارهم عن القيمة النفعية المباشرة كما كان سائدا قبل بروز الفكر الإصلاحي، فقد صار يعمل اليوم على تحقيق الصلة بالنموذج المؤسس للثقافة الإسلامية.
بذلك حصل ولأول مرة في التاريخ المزابي أن يتحول رجل العلم إلى “مفكر مناضلا” يناقش وينتقد بعد أن كان “مثقفا عضويا” له دور اجتماعي عملي يقوم به بحيث لم تكن المنطلقات التي تحثه على العمل محل تساؤل أو أخذ ورد، وهذا بالتبع سيؤثر على أفراد المجتمع من زاويتين أولهما ثقافية وهي أن القيمة الرمزية لصاحب العلم لم تعد تقتصر على الجانب العملي وأنها يمكن أن تؤخذ بصفة رمزية، وثانيا اجتماعيا هو ما سيتركه هذا التغيير من تعدد في معايير إضفاء القيمة على رجل العلم.
فالانقسام المؤسسي لم يحصل إلا بعد انفكاك التصورات عن مضامينها العملية والجزئية المباشرة في المجتمع، إلى تصورات مثالية ذات منحى كلي ليس له قصود مباشرة وإنما تتعلل بمفهوم الصواب والقرائن التي تدل عليه في استعمالها لهذا الخطاب، وهذا الذي يجعل من الحالة الخطابية سائدة أكثر من الجانب العملي، بمعنى أن التصورات العقلية والمنطقية صارت أكثر حضورا من التصورات العملية والواقعية، فماهي المآلات التي انتهى إليها هذا الانفصال الأخير؟ وما هي تفاصيله؟
بعد المرور على تحليل ومعالجة النتائج الميدانية التي حصلنا عليها من مقابلة المشرفين على مؤسسات التعليم الديني عبر القرى السبع لوادي مزاب، باعتبارهم يمثلون حالة المثقف العضوي المباشر الذي يقوم بالربط بين المؤسسة المسجدية والمؤسسة الأسرية، وقبل ذلك تحليل نتائج الاستقصاء الذي أجريناه على عينة من طلبة تلك المؤسسات لاختبار تأثير الواقع المؤسسي عليهم نورد ملخصها في الخاتمة.
الخاتمة:
من خلال ما تقدم يظهر أن إجابات القائمين على المؤسسات التربوية اتفقت على أن تكون المرجعية دينية صريحة وعبروا بها من خلال الأصل الأول للدين وهو “الكتاب والسنة”، بينما لم ترد المرجعيات الأخرى المتمثلة في المذهب الإباضي، والمجتمع المزابي بنسب قليلة لكن ذلك لا يعني أن الواقع الفعلي للمدارس التربوية يقوم على تحقيق مطلق للكتاب والسنة، لأن ما تقدم من تحليل للمقابلات يبين أن المفهوم مقيد بالثقافة الاجتماعية المزابية، ومن ثم فمفهوم السنة والكتاب هنا يجيء وفقا للطروحات الإباضية أولا والمزابية ثانيا، بل هو نابع من التصور الاجتماعي العام لمفهومها، أعني أنه مقيد بالنمط التصوري العام بأنه لا مخالفة بين ما هو موجود في المجتمع وبين السنة والكتاب.
ومن الناحية الأخرى لابد هنا إلى الإشارة أيضا أن الاعتماد على الكتاب والسنة من الناحية الخطابية يعبر مصدر لشرعية المؤسسة التربوية الدينية لأنه أمر لا يختلف فيه، ويمكن أن نعتبر خطاب المرجعية هذا محدثا على المجتمع المزابي وذلك بالنظر للتحديات المطروحة اليوم على المؤسسة الدينية عامة في مزاب والمتمثل في أمرين أساسين هما ارتفاع مستوى التعليم عامة في المجتمع وذلك لما يناهز جيلين كاملين وكذا الانفتاح الإعلامي، حيث خطاب المرجعية المرتبط بالسنة والكتاب في العالم الإسلامي كله خاصة منه العالم السّني يعتبر بديهة ومن مسلمات استمداد الشرعية والحفاظ عليها.
لذلك فالوحدة النمطية للنموذج الثقافي الذي تعتمد عليه جميع المؤسسات التربوية الدينية المزابية كونها تعبيرا عن وحدة داخل الثقافة الاجتماعية العامة للمزابيين ترتبط أساسا بالنموذج الاجتماعي الذي يوجه التصورات المتعلقة بالكتاب والسنة، وذلك ما أكدته النتائج المتعلقة بطلبة تلك المدارس ذاتها حيث وحدة التصورات من رغم الاختلاف في الانتماء المؤسسي بما يبرز التوجه الاجتماعي للمدارس القرآنية في مزاب، وأن السنة والكتاب تفهم عبر آليات تنتجها الثقافة الاجتماعية ذاتها مهما اختلفت بينها في الجزئيات، حيث الاختلاف الأساسي الممكن تحديده أنه يفارق الاتجاه العام هو ظهور فكرة الكتاب والسنة التي تسعى للعودة رأسا إلى الأصل التطبيقي النبوي للتعاليم كما أشرنا إليه خلال التحليل، على أنه هو ذاته اختلاف مس جانب السنة ذاتها أي الجانب الشعائري ولم يمس الجانب العقائدي المرتبط أساسا بالنص القرآني في عُرف المذهب الإباضي.
ومن ثم فيمكن اعتبار مسألة مرجعية المؤسسة التعليمية الدينية في مزاب مؤشرا على الثقافة العامة السائدة التي تعتمد مرجعيات في مختلف المجالات وفقا لما هو سائد من مرجعية كونية سواء كان ذلك في الدين أو الثقافة أو السياسة أو الاقتصاد أو حتى التربية كما يتبين من النتائج، بما يؤكد سيادة نمط التكيف لدى الثقافة المزابية وأنها ذات قابلية عالية للانضواء تحت السائد فكريا وعمليا وذلك كله حرصا على حفظ النظام الداخلي واستقلاليته.
والنتيجة الحاصلة من ذلك هو أن الكفاءة العالية في التكيف التي تتسم بها الثقافة المزابية تجاه المتغيرات لم تصل إلى حد المساس بالأصول التراثية للمجتمع، وهي في نموذجنا مضامين التعليم الشرعي، والتساؤل الذي ينتج عن هذه الدراسة هو إلى أي حد ستستطيع الثقافة المزابية الحفاظ على طهورية المضامين التراثية المتعلقة بالرموز الأساسية التي تؤسس كيانها بعد أن بلغ التراث حالة من الاستنفاذ لم تعد تسمح إلا بالتجديد على مستوى الممارسة بذات الفكر العملي التراثي؟
*) ناقش الأستاذ محمد عبدالنور بكلية العلوم الإجتماعية بجامعة الجزائر2، يوم 24/06/2014 رسالة دكتوراه في علم الاجتماع الثقافي موسومة بـ ” المخيال وإعادة إنتاج الرموز الاجتماعية: دراسة حالة المجتمع المزابي من خلال المؤسسات الدينية” ونال بها درجة “مشرف جدا”.
اترك رد