بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة السلطان مولاي سليمان ( بني ملال-المغرب)، تمت مناقشة أطروحة الباحث محمد الغرضوف ” الإطار المرجعي القرآني وصياغة مفاهيم النموذج الحضاري في مقاربة الأزمات الإنسانية – الميثاق القرآني نموذجا”، لنيل درجة الدكتوراه ضمن وحدة الحوار الديني والثقافي في الحضارة الإسلامية تحت إشراف فضيلة الأستاذ الدكتور سعيد شبار، وذلك يوم الاثنين 15 دجنبر 2014.
وقد تشكلت لجنة المناقشة من الأساتذة: د. عبد الرحمن العضراوي، د. محمد الازهري، د. سعيد شبار، د. احمد البوكيلي.
وبعد المناقشة والتداول، نال الباحث درجة الدكتوراه بميزة مشرف جدا.
ملخص الأطروحة:
بسم الله الرحمن الرحيم:
إن الحمد لله نستهديه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد بيده الخير يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، بلغ الأمانة وأدى الرسالة وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين ونحن على ذلك من الشاهدين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
اللهم وفقنا لما تحب وترضى، وارزقنا العلم النافع والعمل الصالح؛ علما يحي القلوب من سباتها وغفلتها، وعملا يرشد الوجهة ويصقل التجربة في خط الطاعة والعبادة، إنك ولي ذلك والقادر عليه.
حضرة رئيس اللجنة فضيلة الأستاذ الدكتور: محمد الأزهري
حضرة الأستاذ المشرف والأخ الناصح الأمين فضيلة الدكتور: سعيد شبار
حضرات الأساتذة المناقشين الناصحين الفضلاء:
– فضيلة الأستاذ الدكتور: عبد الرحمن العضراوي
– فضيلة الأستاذ الدكتور: أحمد البوكيلي
حضرات السادة والسيدات: أساتذة وأقرباء وإخوة وطلبة علم..
أيها الحضور الكريم: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
يشرفني أن ألقي بين يديكم في هذا اللقاء العلمي المبارك تقريري هذا حول رسالة الدكتوراه الموسومة ب:
“الإطار المرجعي القرآني وصياغة مفاهيم النموذج الحضاري في مقاربة الأزمات الإنسانية”
-الميثاق القرآني نموذجا-
راجيا من الله التوفيق والسداد فيما بدا في هذه الرسالة من صواب، وغفرانا وتجاوزا فيما تضمنته من أخطاء وهفوات، والأمل من اللجنة الموقرة تصحيح اعوجاجها وترشيد سكتها نحو التي هي أقوم، والمقصد والهم واحد –أيها الإخوة الكرام- هو: تحمل الأمانة في مقاربة قضايا الأمة وتأدية الرسالة؛ علها تكون شفيعا لنا جميعا يوم الزحام، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم وعمل صالح. فاللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا إنك أنت السميع العليم.
أما عناصر التقرير فأعرضها كالتالي:
1- الإشكالية العامة للبحث:
يحاول هذا البحث أن يستعيد السؤال الأرسلاني الكبير: لماذا تأخرنا وتقدم غيرنا؟ هذا السؤال الذي ألهب عقول ومداد الكثير من المفكرين والمصلحين والدارسين بمختلف مرجعياتهم الثقافية والفكرية. وحيث تنوعت الإجابات بهذا الخصوص وكذا المقاربات، والتي شكلت مداخل للإصلاح والتغيير المنشود بحسب التوجهات الفكرية. فإن هذا البحث يحاول إعادة صياغة السؤال النهضوي بشكل أكثر دقة ومنهجية، وذلك بالانتقال إلى مرحلة إعادة بناء الأسئلة الإشكالية المرتكزة على سؤال المنهج: سواء على مستوى الفلسفة الكامنة وراء الاختيارات المنهجية ذات الطابع المرجعي على المستوى الحضاري العام من خلال تفكيك النموذج الحضاري الفاعل وتفسيره وإعادة بنائه، أو على مستوى منهجية الاشتغال بالسؤال المعرفي من خلال التعامل مع مصادر المعرفة وإعادة بناء إطارها المرجعي كذلك.
وحيث يتبنى هذا البحث: القرآن الكريم إطارا مرجعيا لبناء المعرفة والحضارة، فإن الإشكالية تتمثل وفق هذا التوجه في: استبعاد مرجعية القرآن الكريم في البناء الحضاري والاستعاضة عنها(أي المرجعية القرآنية) بمرجعيات فلسفية شرقية وغربية (=النموذج التغريبي) أو بمرجعيات تاريخية جزئية (=النموذج التقليدي). وحينما نستحضر القرآن الكريم كبديل مرجعي مستوعب وقادر على تجاوز الصعوبات والأزمات التي تسببت فيها باقي الأطروحات؛ فإن السؤال الإشكالي يصبح – وفق هذا التقدير- هو:
كيف يمكن بلورة واستثمار المفاهيم القرآنية منهجيا ومعرفيا في مقاربة الأزمات الإنسانية العالمية؟ ومن ثم بناء النموذج الحضاري البديل.
2- أطروحات البحث الأساسية:
أولا- ضرورة تحرير الوعي من ثقافة الانحطاط: فلا يمكن الانطلاق في أي مشروع حضاري إصلاحي جاد، دون تحرير الوعي من الأوهام والقيود المعرفية التي تقيده سواء نحو الوراء(=تراثية) أو نحو المجهول(=حداثية)، فالوعي مرتكز أساسي يعكس فلسفة في إدراك الوجود ابتداءا، وإذا ما طُعِّمت بالفكر الديني فإنها تغدو رؤية للعالم، من شأنها بناء نموذجها الحضاري الخاص بها بدل التقليد الذي تعاني منه الكثير من النخب ومن يتبعها من العامة.
ثانيا- ضرورة فهم طبيعة وخصائص مجال الاشتغال: فلا يمكن بحث مفهوم ما أو الاشتغال على مجال معين دون فهم معمق لهذا المجال وخصوصياته المعرفية والمنهجية، وتزيد هذه الأهمية بروزا إذا كان هذا المجال يشكل إطارا مرجعيا. ولهذا فإن البحث في المجال القرآني دون فهم طبيعته المرجعية وأبعاده المعرفية والمنهجية خلل خطير على مستوى المنهج، وعائده البحثي من حيث الإنتاجات التي تنتمي إلى هذا المجال تشكل كارثة معرفية؛ إذ أنها تساهم بشكل مباشر وغير مباشر في تراكم عوامل التخلف، والابتعاد شيئا فشيئا عن المنهج الأكثر مواءمة للاستمداد المنهجي والمعرفي من القرآن الكريم في مقاربة إشكالية البناء الحضاري للأمة وللإنسانية عامة.
ثالثا– تجاوز ثنائيات الاختيار المرجعي: أصالة/معاصرة/تراث/تحديث…عقل/نقل..الخ إلى إعادة بناء النماذج المعرفية (براديغمات) في التنظير الحضاري يعتمد على الإطار المرجعي القرآني باعتباره متضمنا للنموذج الشامل في رؤية العالم أصيلا ومتجددا في آن، وبالتالي فنماذج البحث المعرفية تحاول إبراز هذه الرؤية القرآنية للعالم.
رابعا– إن منهج بناء هذا الإطار المرجعي يقوم على أساس المجال التداولي القرآني نفسه، وذلك عبر مداخل اصطلاحية ومفهومية تروم الوقوف على المصطلحات والمفاهيم الأساسية الدالة عليه مثل مفاهيم: المرجعية والقرآن والكتاب وغيرها.
خامسا– محاولة بناء هذا الإطار المرجعي، ووفقا لخصائصه، على أساس الشمول والعموم والاستيعاب المرجعي ومقتضياتها المنهجية على التفصيل المسطر في ثنايا البحث. وهذا له أثره في توسيع دائرة الخطاب الإصلاحي الذي يحمله هذا الإطار ليشمل الإنسانية كلها.
سادسا– يعكس الإطار المرجعي القرآني في عملية صياغة المفاهيم أطروحة نموذجية في مسألة تكامل العلوم، بحيث أن النماذج المعرفية التي يقدمها تنطلق من وحدة الأصل المنشئ، وبالتالي العلوم والمعارف التي يتناولها في سياق عرض هذه النماذج ستعكس ذلك الناظم المنهجي الذي يجمعها ويوجهها نحو وحدة الهدف كما صاغها وفق وحدة المنهج.
سابعا– مقاربة الأزمة المعاصرة باستحضار الإطار المرجعي من خلال نموذج معرفي لمفهوم من مفاهيم هذا الإطار والتنظير لحل هذه الأزمة. ويتمثل هذا النموذج في مفهوم الميثاق الذي اعتبره بحق مفهوما مرجعيا لباقي المفاهيم القرآنية المنصبة على موضوع البناء الحضاري، ولهذا اعتبره البحث من جهة نموذجا معرفيا تفسيريا لقضايا الوجود: الله والإنسان والكون، وكذلك فهو نموذج معرفي بنائي لقضايا النموذج الحضاري البديل من خلال تطبيق الميثاق الإلهي خاصة وباقي المواثيق القرآنية عامة.
3- منهجية البحث: تم توظيف عدد من المناهج يمكن تصنيفها بشكل إجمالي إلى مجالين:
أ- مناهج البحث العامة:
وهنا لا يمكن حصر المناهج العامة المتبعة في هذا البحث إذ يفرض كل مجال من مجالاته منهجا خاصا، لكن على العموم فأكثرها استعمالا:
– المنهج التحليلي الوصفي على مستوى مجالات الواقع والتاريخ.
– المنهج التحليلي النقدي على مستوى مجالات النماذج المعرفية الحضارية.
– منهج التفكيك وإعادة البناء على مستوى المفاهيم المرجعية.
ب- منهجيات البحث الخاصة: وأغلبها ذات بعد تقني مثل:
أولا- منهجية التحليل اللغوي والتي تعتمد على منهجية التفكيك والتركيب كما تم بيانه في مقدمة البحث. ولعل الأهم في ذلك: التمييز وتحديد العلاقات المفاهيمية بدقة بين تخوم اللغة والاصطلاح والشرع.
ثانيا- منهجية التحليل الاصطلاحي، وتعتمد في الغالب على منهج الدراسة المصطلحية المتعارف عليها في بناء المصطلح وقضايا التعريف وغير ذلك، مع ما يقتضيه المقام من تعديل وتطوير كما في نموذج المصطلحات القرآنية ذات الطبيعة الخاصة والتي تم مزجها بالتفسير البنائي على قدر الاستطاعة.
ثالثا- منهجية تحليل المادة القرآنية: وترتكز أساسا على ما يصطلح عليه بالوحدة البنائية للقرآن:
وهي نظرية حديثة في الدرس التفسيري عموما، ولقد اجتهد هذا البحث في مقاربة هذه النظرية بإنتاج تصور شامل لها من حيث منهجية إنجازها لا حديث التعميم عنها كما هو في بعض الأدبيات المطروحة في الساحة، ولقد استثمر البحث آليات ومسالك منهجية في الصياغة والتطبيق تبتدئ بالاستقراء ورصد المؤشرات الكمية والنوعية في أفق استنباط المفاهيم والقضايا الناظمة منهجيا ومعرفيا للأطروحة المركزية للسورة، أو استنباط تلك الخطوط المعنوية الناظمة لهذه القضية أو تلك على مستوى الخريطة القرآنية ككل. وإن كان البحث لا يزعم الإمساك بتلابيبها كلية لكنه يعتبر هذا الجهد لبنة في طريق البحث في هذا المجال الذي اعتقد أنه لازال بكرا.
رابعا- منهجية التعامل مع المفاهيم والأطروحات والمصطلحات:
– في كل مرة يتم رصد الجهود السابقة في إحدى الأطروحات أو المفاهيم، والقيام بالقراءة النقدية اللازمة، إما على سبيل استكمال تلك الجهود إن كانت في سياقها المناسب، أو تقديم البديل الذي نراه مناسبا بحسب ما أفضى إليه جهد النظر في المرجعية القرآنية.
– التدقيق في سياقات المفاهيم والأطروحات وربطها بمجالها التداولي على أساس أنه شرط ضروري منهجيا للفهم والاستيعاب، ومن تم إمكانية مناقشة أوجه التوظيف أو التبيئة أو الرفض وما إلى ذلك.
– دائما نستحضر ثنائية حاكمة في مقاربة القضايا والمفاهيم وغير ذلك وهي: ثنائية المرجعية والمنهج.
4- مواضيع البحث:
إن مساهمة هذا البحث في سياق الأجوبة المفترضة على سؤال الأزمة الإنسانية تروم بناء رؤية تشكل -فيما بعد؛ مما نتوخاه- نواة مشروع فكري يرتكز على الحل القرآني في مقاربة الأزمة الإنسانية، وذلك وفق التصميم العام التالي الذي أتى في شكل أقسام ثلاثة:
القسم الأول يعالج أزمات الإنسان المعاصر في ظل النماذج الحضارية الفاعلة اليوم، وذلك من خلال بابين:
– الباب الأول يمثل قراءة أولية لمعالم وتجليات الأزمة الإنسانية، إذ بإدراكها والوعي بها ومعرفة أبعادها الأساسية؛ يمكننا تحديد الأسئلة المناسبة التي نريد من النموذج الفكري المبني على الحل القرآني أن يجيب عليها.
– الباب الثاني: قراءة عامة للأسس المنهجية والمرجعية التي شكلت عبر التاريخ الوسيط والمعاصر النماذج الحضارية التي قادت الإنسانية إما نحو الشهود الحضاري أو قادته بعد حين إلى أزمته الحالية، والغرض نقد النظرة العدمية التي تقطع مع كل النماذج وتدعي حلولا من وحي اللحظة تقفز على التاريخ وتغفل عن سنة التراكم ودورها في تشكل الواقع. إن قراءة نقدية لهذه النماذج الحضارية تجعلنا نقف على مكمن الداء لنعمل على معالجته ومكامن القوة لنعمل على دعمها واستثمارها وتطويرها نحو تحقيق الشهود الحضاري المنشود.
القسم الثاني من البحث حاول بناء معالم إطار مرجعي قرآني بالاعتماد على القرآن الكريم نفسه، وذلك من خلال مداخل تأسيسية (=المفاهيم الاصطلاحية المؤسسة)، وقواعد كلية ناظمة موجهة (=المرتكزات المنهجية المنتجة للعلم والمعرفة)، وقيم مرجعية مؤطرة (=الكليات المشكلة لمنظومته المعرفية العامة)، وكما أن درس الأسس المرجعية حاضر بقوة في هذا الإطار؛ فسيكون درس الأسس المنهجية مشكلا للوجه الآخر لهذا الإطار ومكملا لفلسفته العامة والتي نرى فيها كل المؤهلات لبناء المفاهيم المشكلة للنموذج الحضاري البديل. وقد أتى هذا القسم في ثلاثة أبواب:
– الأول تطرق لمفهوم المرجعية في القرآن واستخرج محدداته المنهجية والمرجعية المشكلة للأساس الفلسفي لهذا الإطار المرجعي المراد تحديده.
– الباب الثاني قارب الإطار المرجعي عبر مدخل مفهوم القرآن، وقد شكل الوجه العملي المكمل لمفهوم المرجعية، ليخلص الباب بمجموعة من المحددات المنهجية والمرجعية التي تشكل أساس بناء المفاهيم: منظومة القيم والمقاصد والخصائص، ومنهجية التعامل وغير ذلك.
– الباب الثالث حاول تشغيل أحد المرجعيات العشر التي تشكل مصادر هذا الإطار المرجعي من أجل بيان كيفية التأسيس المنهجي لمشروع بناء المفاهيم انطلاقا من القرآن الكريم.
القسم الثالث والأخير رام تقديم نموذج لمفهوم قرآني مبني وفق هذا الإطار المرجعي، والذي من شأنه الإجابة وفق هذا التصور على أزمة الإنسانية المعاصرة، نظرا لما يتمتع به هذا المفهوم من مركزية محورية في تحليل وتوجيه لإشكالية جدل الغيب والإنسان والطبيعة، والتي أفضى التخبط فيها إلى نشوء هذه الأزمات؛ هذا النموذج هو مفهوم الميثاق الذي يترجم جوهر علاقة الإنسان مع الإنسان وعلاقته مع الطبيعة وعلاقته مع الغيب، ولعل أبعاده الفلسفية في سؤال الدين والاجتماع الإنساني تؤهله ليطرح كنموذج شامل للمساهمة في بناء حضاري بديل وذلك عبر تقديم تصور متقدم في ضبط العلاقة بين أطراف جدل الإنسان والطبيعة والغيب. وقد جاء هذا القسم في أربعة أبواب:
– الأول تناول في فصله الأول مفهوم الميثاق باستقصاء المصادر التي أحال إليها الإطار المرجعي القرآني مثل: الكتاب المقدس واللغة والكتاب الحكيم والحديث النبوي الشريف ، ليخلص إلى تعريف جامع بهذا الخصوص. كما تناول في فصله الثاني خصائصه العامة والخاصة المستخلصة من هذا الإطار.
– الثاني تناول بنية الميثاق من خلال جدل العموم والخصوص القائم بين شبكته المفهومية، حيث حدد بدقة علاقته بالعهد والعقد ليستنتج البنية الهرمية التي يتميز بها في هذا السياق.
– الثالث تطرق إلى عدد من أنواع المواثيق القرآنية التي تجسد أساسا لما يمكن اعتباره نسقا قياسيا يبنى عليه عددا من التمثلات والتطبيقات المعاصرة، كما سيأتي في الباب الذي يليه.
– الرابع والأخير حاول تقديم البعد الإجرائي لمفهوم الميثاق في حل الأزمات الإنسانية ومقاربة النموذج الحضاري البديل وذلك بالاستفادة من الأبواب السابقة؛ ليقدم نموذج الميثاق الإلهي مبينا آليات اشتغاله وكيفية طرحه كنموذج معرفي تفسيري وبنائي في آن.
5- نتائج البحث:
لعل أهم النتائج المعرفية والمنهجية التي توصل إليها هذا البحث تتمثل فيما يلي:
أولا- ضرورة الوعي الحضاري:
مرتكز هذه الأطروحة الدعوة إلى تحرير الوعي من قيود ثقافة الانحطاط، التي ترضى بالواقع مهما كان مرا، وذلك من خلال التأقلم والتطبيع معه مهما علا منكره اللاإنساني لدرجة تبرير غير المبرر حتى نشأ فقه التبرير بقواعده وأسسه الفقهية. إن مسألة الوعي بالوعي وتجديده وتحصيله وتحقيق قدر مناسب من الكسب المعرفي تجاهه أصبح أمرا ضروريا، ضرورة معرفية لإدراك مجال الاشتغال المراد إصلاحه، وضرورة منهجية؛ لأنه أحد أبواب التدبر في القرآن الكريم باعتباره إطارا مرجعيا للاستمداد.
لقد ركز البحث على ثلاث مكتسبات من الوعي:
– الوعي بالأزمة الإنسانية وتفكيكها من أجل صياغة المقاربة المناسبة للإصلاح،
– النوع الثاني من أنواع الوعي المطلوب هو الوعي بالنموذج الحضاري الفاعل؛
– النوع الثالث من الوعي هو الوعي بالمنهج؛
ثانيا- الإطار المرجعي القرآني خارطة طريق الخلاص الإنساني:
لقد حاول هذا البحث أن يدافع عن أطروحة الإطار المرجعي القرآني في ظل تدافع المرجعيات، لا باعتباره مرجعية متعالية وخالدة فحسب، بل لأنه بالدرجة الأولى قاعدة مشروع حضاري إنساني، يرسم المنهج كما يفصل الشرع، ويرسم قواعد العلم كما يفصل المعارف؛ فهو إطار مرجعي ذو بعد منهجي تحيل مداخله الاصطلاحية إلى هذه الثنائية الجدلية: المرجعية/المنهج.
وعلى هذا المستوى توصل البحث إلى النتائج الأساسية التالية:
1- مفهوم الإطار المرجعي:
– الإطار المرجعي: نسق ينتظم مجموعة من المصادر ذات خلفية مرجعية موحدة وتشتغل وفق منهج معين مستقى من المجال التداولي لهذا الإطار.
– يترجم مفهوم النسق القياسي البعد الوظيفي للإطار المرجعي بحيث يغدو معيارا لقياس مدى صوابية المفهوم من عدمه.
2- عناصر الإطار المرجعي:
– التصور الكلي الجامع للمفاهيم: رؤية كلية كامنة، الفكرة الدينية والعقدية، الخلفية الفلسفية…
– مفاهيم متضافرة تشكل نسقا قياسيا: قيم ومقاصد وأحكام…
– مصادر مرجعية حبلى بالمفاهيم: كتاب وسنة وكون وواقع…
– منهجية تشتغل وفق المنطق الخاص بهذا المجال المرجعي: النظر، الائتمان، الاستنباط، الاستقراء، الاعتبار…
– الفاعل المرجعي: الإنسان المستخلف العاقل المفكر المجتهد.
3- الإطار المرجعي بمقاربة مفاهيم: “المرجعية”، “القرآن”، “الكتاب”:
تتمركز الرؤية الفلسفية للإطار المرجعي الذي نتبناه والذي كان حصيلة قراءتنا التحليلية لمصطلح المرجعية في اللغة والقرآن حول ثلاث أركان أساسية في هذا الإطار:
ü المصادر الأساسية التي يحيل إليها هذا الإطار المرجعي من أجل استمداد نموذجه المعرفي.
ü الفاعل المرجعي المنضبط بشروط المجال التداولي لهذا الإطار المرجعي.
ü سؤال المنهج في الاستمداد والتعامل مع المصادر ضمن نسق هذا الإطار المرجعي.
– اعتبر البحث أن مفهوم القرآن في القرآن بؤرة هذا الإطار المرجعي[1] ؛ حيث يعكس الرؤية الكلية للنموذج القياسي الذي يجب أن يكون عليه المصدر المرجعي، سواء من حيث لائحة المقاصد المنوطة به والتي تشكل منظومة القيم المحددة لطبيعة المجال والحاكمة على أي حركة معرفية تبغي استخراج هذا المفهوم أو ذاك وتطلق عليه لقب: “المفهوم القرآني”، أو من حيث الخصائص والصفات المميزة للمجال التداولي للمفاهيم القرآنية من حيث أنها تشكل هوية هذا المفهوم أو ذاك، وتعكس بحق الروح القرآنية له، أو من حيث المسالك المنهجية الواجب اتباعها والتي يرشد إليها المجال نفسه وفق تلك المقاصد وعلى ضوء تلك الصفات والخصائص، ويستكمل المشهد بشبكة العلاقات التي تجمع بين المرجعيات القرآنية في نسق نفس المجال القرآني، والتي يحيل إليها أصالة أو بالتبع.
– تبنى البحث فرضية اعتبار أن القرآن إطلاق معرفي يرتكز على سؤال المنهج من خلال ما يزخر به من موجهات وإرشادات منهجية في التعامل مع مصادر المعرفة العشر التي أفضى إلى اعتبارها وتحديدها بحث المرجعية في القرآن، وهنا يجب من الناحية الدلالية التفريق بينه وبين الكتاب؛ فهذا الأخير فكما يطلق على ذلك الكم من السور المكتوبة المحددة في 114 سورة بذلك الترتيب من الفاتحة إلى الناس؛ فإنه يطلق أساسا –وهذا هو مجاله- على منظومة الأحكام المبثوثة في تلك السور على أساس كونه مرجعية دستورية للمجتمع الذي يتبناه عقيدة ومنهجا، لكن القرآن الكريم أكبر من ذلك؛ فإلى جانب كونه يحيل إلى نفس تلك السور إلا أنه يعكس بالدرجة الأولى فعالية على مستوى المنهج أكثر من كونها مدونة للأحكام كما هو شأن الكتاب؛ فالقرآن منهج رباني في قراءة الكتب التي أرشد الله إلى قراءتها ومنها الكتاب نفسه والكتاب الكوني والكتاب الإنساني والكتاب التاريخي..الخ
– البعد الكتابي للقرآن يستمد أساسه الفلسفي من خصائص التوثيق والجدل والإثبات والاستيعاب، ليشكل مدونة العلوم والمعارف، فحيث يحيل إطلاق القرآن إلى المنهج يحيل إطلاق الكتاب إلى العلم والمعرفة.
ثالثا- الميثاق القرآني براديغم معرفي تفسيري:
هناك أربع عناوين أساسية تؤطر نتائج نموذج الميثاق في سياق الإطار المرجعي القرآني وهي :
أ- الميثاق القرآني مفهوما إسلاميا.
ب- بناء علاقة الميثاق بأسرته المفهومية على أساس الخصوص والعموم.
ت-البعد التكليفي والحجاجي للميثاق القرآني.
ث- مقاربة المفهوم للأزمات من خلال بناء النموذج الحضاري
أ-الميثاق القرآني مفهوما إسلاميا :
ينطلق هذا العنوان من تصور مفاده أن مقاربة المفاهيم ذات المرجعية القرآنية يجب أن تبنى على ضوء الأسس المرجعية التي ما شأنها إضفاء الطابع الإسلامي عليها منهجيا لا فقط موضوعيا، فليس كل مصطلح ذكر في القرآن أو السنة يمكن أن نطلق عليه صفة المفهوم الإسلامي بمعنى ذلك التركيب النظري المؤسس لنظرية القرآن في هذا الموضوع أو ذلك، لهذا كانت مقاربتنا لمفهوم الميثاق القرآني تنطلق من ثلاث عناصر أساسية هي بمثابة مؤشرات لبناء المفهوم الإسلامي أو اختبار صلاحيته كمفهوم.
- مؤشر المنسوب الكمي للمصطلح في مجال الإطار المرجعي القرآني :
وهو مؤشر يرصد من خلال النظرية العامة للاشتقاق (بالتفصيل الذي بيناه في البحث) مدى أهمية هذا المصطلح وحجم وروده؛ مما يعكس حجم حضوره في سياق التداول المفاهيمي للمصطلحات في مرجعيات الإطار القرآني، وبينها بطبيعة الحال خصوص وعموم وتكامل في جوانب واستقلال في جوانب أخرى، وبقدر هذا الحضور في مختلف المرجعيات القرآنية تتضح المساحة الحقيقية التي يشغلها هذا المفهوم.
ولقد خضع مصطلح الميثاق لمقتضيات هذا المؤشر وأبانت النتائج المحصلة تبعا لذلك على أهمية هذا المصطلح وقوة حضوره وحجمه وثقله في كل من مجالات الكتاب المقدس واللسان العربي والحديث النبوي الشريف والكتاب الحكيم؛ الشيء الذي يستدعي إعادة استخدامه في التداول الثقافي الإسلامي فنتحدث عن ميثاق تربوي، سياسي، اقتصادي، اجتماعي، عبادي … الخ، لكن لا كمصطلح يلفظ أو عنوان يكتب فقط وإنما كمفهوم عملي ذو أبعاد عقدية وتشريعية ملزمة تعكس بالفعل هذا الحضور كما هو في المدونة المرجعية الإسلامية.
- مؤشر المنسوب الدلالي للمصطلح في مصادر الإطار المرجعي:
وهو مؤشر يرصد من خلال المجال التداولي للإطار المرجعي القرآني مجمل الدلالات والمعاني التي يزخر بها هذا المجال، ولعل إعمال عدد من المقاربات التي استلهمت من هذا المجال كالمقاربة بالسياق في الدلالات، سواء منها السياق العام أي الموضوع العام للمجال وما يعالجه من قضايا أو السياق الخاص و التداول الجزئي لمفرداته الأساسية قد أثمر حصادا يانعا من المفاهيم والقيم والمقاصد والخصائص والصفات التي تعكس بالفعل هوية المصطلح القرآني، وبالتالي تؤسس لبناء جديد ينطلق من خصائص هويته الفلسفية في تشييد العمران وتسديد حركة الإنسان.
ولقد كان رصيد مفهوم الميثاق وافرا على هذا المستوى إذ عكس البعد النموذجي في تفسير الكون وطبيعة الرؤية الناتجة، وذلك في أفق استكمال قواعد بناء النموذج الحضاري البديل لأزمات الإنسان وفق توجيه القرآن المجيد.
- مؤشر الخصائص والصفات :
افترضنا في هذا البحث أن أي مصطلح يراد منه أن يكون مفهوما إسلاميا من أن يخضع لأسس مرجعية تُقَوِّم إسلاميته ومدى انسجامه، أو لنقل مدى انطباق هذه الأسس عليه، وهي ما أصبحت تعرف بالخصائص العامة للإسلام؛ حيث انطباق خصائص الربانية والوسطية والواقعية والإنسانية والشمول وغيرها على مصطلح الميثاق، والتي كانت بمثابة صك اعتراف على أن مصطلح الميثاق مفهوما إسلاميا بامتياز، لكن بمراعاة خصوصية المصطلح اقترحنا ما أسميناه بالخصائص الخاصة وهي تلك الخصائص التي يتميز بها مصطلح الميثاق دون غيره من المصطلحات كخاصية القوة مثلا استيعابا وتأكيدا، وإذا كان القصد من إبراز الخصائص الخاصة أو الصفات هو إعطاء بطاقة تعريف تحدد هوية المصطلح فإن القصد من ذكر الخصائص العامة هو إبراز خاصية التوحيدية في المفاهيم الإسلامية؛ إذ ليست هذه الأخيرة جزر أرخبيل كما هو الشأن في الجغرافية السياسية أو الجغرافية الفكرية، لهذا كانت الدعوة إلى توحيد المفاهيم بإخضاعها للأسس المرجعية الكلية ضرورة منهجية وضرورة فكرية في تأسيس خطاب إسلامي عالمي راشد ذو طابع إنساني تعارفي مستوعب.
ب-بناء علاقة الميثاق بأسرته المفهومية على أساس الخصوص والعموم :
من ثمرات هذا البحث تحديد بشكل دقيق علاقة مصطلح الميثاق بأسرته المفهومية ورصد جوانب الخصوص والعموم في هذه العلاقة، انطلاقا من إعمال أولا تلك المؤشرات التي أعملناها على الميثاق في تفكيك كل من مصطلحي العهد والعقد، واللذان يعتبران بحق أهم وأقوى مصطلحين في شبكة العلاقات مع الميثاق، ولاشك أن تفكيك هذين المصطلحين كميا ودلاليا أفضى إلى تحديد هذه العلاقة وفق مؤشرين.
- العلاقة على ضوء مؤشر الشمول والعموم:
وهنا وجدنا أن العهد أشمل من الميثاق والعقد والميثاق أشمل من العقد.
- العلاقة على ضوء مؤشر الإلزام والمسؤولية :
وهنا كان الإلزام في الميثاق أكبر منه في العهد، لكن الإلزام في العقد أكبر منه في العهد والميثاق معا.
عدا هذه العلاقة توصل البحث إلى أن هناك أوجه اتفاق وأوجه افتراق بين المصطلحات الثلاثة تكفل البحث بتفصيل مفرداتها، وتتمثل عموما في كون: العهد : وعد أو وصية بالالتزام، والميثاق : تأكيد وتثبيت لهذا الالتزام، أما العقد: فإبرام إلزامي له بما لا مجال للتنصل من استحقاقاته. والغرض من هذا التدقيق على أي حال هو ضبط “المصطلح” لضبط “المفهوم” وبالتالي حسن التوظيف والتطبيق والتنزيل.
ج-البعد التكليفي والحجاجي للميثاق القرآني :
عَكَسَ باب “أنواع المواثيق القرآنية” أبعادا تكليفية وحجاجية لهذا الميثاقِ تشكل في الحقيقة وجها عمليا لهذا المفهوم في حركة الإنسان (= المكلف) أو الإنسان (= المُحَاجَج) في هذه الدنيا، فالبعد التكليفي كما تجسد في ميثاق الله أو النبيين أو عموم المكلفين، القصد منه التذكير بما على المكلف من واجبات وحدود يجب -تحت عنوان التكليف- مراعاتها والحرص عليها، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الطابع التكليفي الذي ورد ذكره ضمن سياق الحديث عن الأنبياء أو المبايعين الأوائل للرسول صلى الله عليه وسلم من الصحابة، تعكس معنى جديدا لخطاب التكليف الإلهي للعباد بما يجعل منه التزاما وارتباطا قويا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وبكل ما تعكسه من جوانب أخرى لهذا الارتباط: كالعامل النفسي (= أي العلاقة المبنية على الحب والأخلاق) أو العامل الاجتماعي (= أي العلاقة المبنية على حركة الأمة مجتمعة في تدافعها القيمي) أو العامل التربوي ( = أي العلاقة المبينة على التربية على أساس الترغيب والترهيب والاعتبار، ترغيب في الجنة وترهيب من النار واعتبار من مآل الضالين والمغضوب عليهم من اليهود والنصارى).
أما البعد الحجاجي فقد تجسد في الوقوف في محطات كثيرة تحت عنوان نقض الميثاق على نموذج بني إسرائيل ونموذج النصارى من أهل الكتاب؛ إذ كانت لهم تلك المواقف المخزية من الميثاق الإلهي والميثاق الديني النبوي، فالميثاق عند إبرامه مع أي كان يصبح حجة على المتعاهدين عليه في الدنيا والآخرة؛ وعلى هذا الأساس يترتب على هذا الالتزام استحقاقات سواء استحقاقات الوفاء التي يختزلها عنوان الترغيب أو استحقاقات النقض التي يختزلها عنوان الترهيب.
وفي هذه النقطة انطلاقا من الخلفية التربوية التي بنيت عليها هذه الأبعاد التكليفية والحجاجية للميثاق يمكن أن نؤسس لعلاقتنا الإنسانية ضمن مجال العلاقات الداخلية أو العلاقات الخارجية على هدى من هذا المفهوم بما يضمن من تطبيق ونجاح أكبر لهذه الالتزامات، وذلك تحت عنوان التعارف وكذا التدافع الذي يختزله مفهوم الميثاق الإنساني.
د- مقاربة المفهوم للأزمات من خلال بناء النموذج الحضاري:
المفهوم القرآني مفهوم إجرائي وله بعد وظيفي، وإن اعتبار القرآن الكريم إطارا مرجعيا لبناء النماذج الحضارية تظهر ابتداء في مفاهيمه التي تشتغل في هذا المجال التداولي وفق الفلسفة العامة لهذا الإطار؛ من هنا كان مفهوم الميثاق أنموذجا لتلك المفاهيم الإجرائية في تنزيل الرؤية الإسلامية في بناء النموذج الحضاري، بل إنه أهم المفاهيم التأسيسية بحيث أنه يعكس:
– النموذج المعرفي التفسيري في رؤية العالم والفعل فيه.
– النموذج المعرفي البنائي لقواعد النموذج الحضاري البديل للإنسانية المعذبة اليوم.
وتتمثل مساهمة الميثاق القرآني في حل أزمات الإنسانية إلى جانب ما تقدم في تقديم حلول إجرائية شاملة تعم كل المجالات، وتنطلق من ميكانيزمات خاصة في تفعيل مواثيقها العملية مثل آليات الالتزام والتدرج وحرية الإرادة والفعل الجماعي…وغير ذلك، والتي من شأنها أن تضمن واقعية التطبيق بعيدا عن لغة الخشب والتنظير بدون إدراك للسنن الإلهية في النفس والمجتمع وحركة التاريخ؛ فالميثاق القرآني في بعده الانطولوجي ينسجم تماما مع هذه السنن سواء على مستوى نشأة الخلق وأسس بنائه القائم على العهد الأول، أو على مستوى ديناميكية التفاعل الحضاري الإنساني القائم على سنة التعارف والتدافع وغير ذلك.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
[1] وهي المرحلة الأولى من بحث الوحدة البنائية في القرآن كما تم التنظير لها.
اترك رد