الشيخ عبدالله بن محمد بن عامر بن شرف الدين الشبراوي ، هو الشيخ السابع للأزهر الشريف ، شاعر وأديب، يُعتبر فاتحةً لعصر النهضة والتحرُّر، وُلِدَ سنة 1092هـ بالقاهرة ، وتوفي في 6 ذو الحجة 1171 هـ= 1758م .
ونبغ من صِغره بعد أنْ حفظ القُرآن وهو في سنٍّ صغيرة، وكان شاعرًا مرموقًا، وكاتبًا فريدًا، وعالمًا واسع الاطِّلاع، متعمقًا في الفقه والحديث، وعلم الكلام وأصوله .
وقد جمعت شخصيته بين مواهب كثيرة متعدِّدة ؛ فهو فقيه شافعى ، وأصولى ، وشاعر ممتاز بالنسبة لعصره ، وله ديوان شعر مطبوع ، تأثر فيه بأستاذه الشاعر الشيخ حسن البدرى الذى ترك ديوانين من الشعر: أولهما: “تنبيه الأفكار للنافع والضار”، وثانيهما: “إجماع الإناس من الوثوق بالناس”، وله أرجوزةٌ في التصوُّف نحو ألف وخمسمائة بيت من الشعر على أسلوب ديوان “الصادح والباغم” وهو اسم ديوان لابن الهيارية يشبه “كليلة ودمنة” في القصة، وأشار الجبرتي في ترجمته للشيخ الشبراوى بقوله : “الإمام الفقيه المحدِّث الأصولي المتكلِّم الماهر الشاعر الأديب”.
وتولَّى منصب مشيخة الأزهر وله من العمر أربعة وثلاثون عامًا ، “وظل 45عاما وهو شيخٌ للأزهر ” ، وكان شافعيَّ المذهب، ، ويعد عصره نهايةَ عصر الظلام، وبدايةً لفجر نهضةٍ جديدة ، فالشيخ ” الشبراوي” أوَّل مَن أدخل العلوم الحديثة بالأزهر، وبخاصَّة الرياضيات وعلوم الاجتماع ، إضافةً للعلوم الدينيَّة والعربيَّة، والعلوم النقليَّة والعربيَّة .
والشيخ الشبراوى كان شاعرًا يفيضُ شعره رقَّةً وعذوبةً وجزالةً تبعًا للمقام والمناسبة التي يقولها فيه، وكان يغترف من بحرٍ، فهو شاعرٌ من الطبقة الأولى، ولا ينحصرُ شِعره في غرضٍ واحدٍ ولا في فنٍّ واحد ، ولقد سجَّل أحداثَ عصره شعرًا ونثرًا، وكانت له قصائد تَغنَّى بها أبناءُ عصره .
والشيخ الشبراوي اعتلى أريكة مشيخة الأزهر خمسًا وأربعين عامًا تقريبًا كان الأزهر فيها ملءَ السمع والبصر، وانعكس أدب الشيخ وعلمه على طلاب الأزهر جميعًا؛ هدوء العلماء والأدب الجم الوافر ، وصار لأهل العلم في عصره وفي مدَّة تولِّيه لمشيخة الأزهر رفعة ومهابة. .
وكان الناس إذا مسَّهم ظلمٌ من الحكَّام هرعوا إلى علماء الأزهر، وعلى رأسهم الإمام الشبراوي؛ فلا يبخلون عنهم بالمساعدة حتى يُرفَع عنهم الظلم ويعودَ الحق إليهم، فقد كانت للشيخ الشبراوي مكانةٌ عظيمة عند الحكَّام وبين العلماء، وهذا دليلٌ على حُسن إدارة الشيخ وقُدرته الفائقة على مُزاولة شُؤون منصبه، وقد يعتقدُ بعض القُرَّاء أنَّ شيخًا مثل الشبراوي يظلُّ شيخًا للأزهر هذه المدَّةَ الطويلة يُعتبر دليلاً على شدَّة حَزمِه وقوَّة شكيمته… والحق أنَّه كان عكسَ ذلك تمامًا، وسيرته تدلُّ عليه ؛ حيث إنَّه كان محاورًا واسع الأفق، قويَّ الحجَّة، مجادلاً بالحسنى، لا يدعُ مجالاً لمن يحاورُه إلا ويقفُ مستجيبًا خاضعًا لرأي الشيخ وينقادُ إليه… وقد أعطى الله الإمامَ الشيخ الشبراوي مالاً كثيرًا وأنفقه في رفعِ شأن الأزهر وعلمائه وطلابه، وكانت للشيخ الشبراوي شهرةٌ عظيمة ومكانةٌ سامية عند الحكَّام والولاة ومَن يحيط بهم، وقد مدَح في ديوانه كثيرًا منهم، وكتب قصائد مدح مُسهِبة.
ومن قصائد الشيخ الإمام عبدالله الشبراوي التي تفيض رقَّة وتسيل عُذوبةً، وتغنَّى بها الكثيرون في ذاك العصر، وما زالت هذه القصيدة ينشدها ذوو التواشيح في استهلال مَدائِحهم، في المناسبات الدينيَّة وغيرها، استهلَّها بقوله:
وحقك أنت المُنَى والطَّلب …. وأنت المرادُ وأنت الأرَبْ
ولي فيك يا هاجري صبوةٌ … تحيَّرَ في وصفها كلُّ صَبّْ
وديوان الشيخ الشبراوي حافلٌ بنفحات تعدُّ إرهاصًا بالفجر الجديد للنهضة الأدبيَّة التي تجلَّت فيما بعدُ على يد البارودي، ومَن بعده من الشُّعَراء.
يقول عنه الجبرتي في “الآثار”: “لم يترقَّ في الأحوال والأطوار ويغير ويوضح، ويُبين ويدرس حتى صار أعظمَ الأعاظم، ذا جاه ومال ومنزلة عند رجال الدولة والأمراء، ونفذَتْ كلمتُه وقُبِلت شفاعتُه، وصار لأهل العلم والعلماء في زمنه وفي عهد توليته لمشيخة الأزهر رفعة مقام ومهابة عند الجميع، وأقبلَتْ عليه الأمراء وهادوه بأنفَسِ ما عندهم، وقد ظهَر ذلك جليًّا عندما سعَى إليه الوالي العثماني عبدالله باشا، وتتلمَذَ على يديه، وطلب إجازتَه – بمنزلة أنْ يروي عنه – وحينما حدثت تعديلاتٌ ماليَّة في المرتَّبات والأوقاف من جانب السلطان العثماني بها إجحاف ببعض المستحقِّين لأموال الأوقاف من جانب خِزانة الدولة، قال القاضي: “أمرُ السلطان لا يُخالَف وتجبُ طاعته”، وكان القاضي تركيًّا، فقال الشيخ المنصوري للقاضي: يا شيخ الإسلام، هذه المرتَّبات هي بأمر نائب السُّلطان، وفعل النائب كفعل السلطان، وهذا شيء جَرَتْ به العادة من صرف الرَّواتب في مدَّة الملوك المتقدِّمين، وهذا الأمر مُرتَّب على خيرات ومساجد، وأسبلة – سبيل الشرب – ولا يجوزُ إبطالُ ذلك، وإذا أبطل بطلت الخيرات، وتعطَّلت الشعائر المرصد لها ذلك، وإن أمَر وليُّ الأمر بإبطالِه لا يسلم له ويخالف أمره؛ لأنَّ ذلك مخالفةٌ للشرع، ولا يُسلَّم للإمام في فعل ما يخالفُ الشرع، ولا لنائبه أيضًا، وهذا يعدُّ موقفًا كريمًا لأحد علماء الأزهر البارزين، وفي وقتها كتب الإمام الشيخ “عبدالله الشبراوي” شيخ الأزهر عرضًا في شأن المرتبات من إنشائه وتأليفه، تمَّت المصالحة عليه ووافَق السلطان.
والقصيدة التى بين أيدينا ” هذه أنوار طه العربى ” من بحر الرمل، وعدد أبياتها ٢٣بيتا ، وقد أنشدها الشيخ عندما حج – كما ذكر – يقول : ” قلتُ متوسلا به ص حين حججتُ وواجهتُ قبره ، سنة إحدى وثلاثين ومائة وألف ” ، ولعل هذا الجو الدينى الذى عاشه الشاعر في المدينة من خلال رؤيته لقبر النبى – صلى الله عليه وسلم – وتأمّله في الروضة قد انعكسَ أثره على نفسيةِ الشاعر ، فصدرت عنه هذه المعانى التى تفيض بالمناجاة والتضرع .
ويعد المديح النبوى من الأدب الذى يعنى بالتعبير عن العواطف الدينية المتعلقة بشخصية النبى – صلى الله عليه وسلم – وتصوير ملامح تلك الشخصية الكريمة ، وغالبا ما يصدر عن قلوب مفعمة بالصدق والإخلاص والمحبة .
وهذا اللون من الشعر هو أبرز موضوعات الشعر الدينى وأكثرها شيوعًا وشهرة في الأدب العربى.
فنراه يقف أمام عدد من الانفعالات الوجدانية التى تصف حبه تجاه ” طه ” النبى – صلى الله عليه وسلم – ، وما تحمله من مشاعر نحو جمالها المعنوى والحسىّ ، مع تركيزه على واقعه النفسىّ وتجليته بكل جوانبه العاطفية ، ومحاولة نقل هذه المشاعر إلى القارئ ليقف على حقيقة الحب المستكن في داخله نحو “طه ” -عليه السلام – .
لقد استطاع شيخ الأزهر الشيخ الشبراوى أن يعبّر عن حبّه للنبى – صلى الله عليه وسلم – دون مغالاة ، أو تجاوزات ، ولا غرو في ذلك فقد التزم بما حدّده النبى – صلى الله عليه وسلم – من إطار عام لشخصيته ، ونهى عن الغلو فيه أو وصفه بما ليس من صفاته ، وهو إنما حذّر من ذلك لما يعرفه من توغل حبه في قلوب المسلمين ، وحذرا من أن يجاوز هذا الحب الحدود فيكون الغلو كما وقع ذلك للأنبياء السابقين – عليهم السلام – … فالشيخ لم يجاوز كل ذلك فلم يطلب النفع مثلًا من النبى – صلى الله عليه وسلم – ، ولم يذكر ما ينافى جوهر الإسلام الصحيح ولا يُقبل في عقيدة الإسلام الصافية النقية ؛ لأن مدح الرجل بما ليس فيه منبوذ فكيف به إذا كان في مَن نهى عن ذلك .
ويبتدئ الشاعر قصيدته بمطلع رائع ، ما زال ينشده المداح إلى يومنا هذا :
مُقلَتي قَد نِلتُ كُل الأرب ….. هذِه أَنوار طه العَربي
هذهِ أَنوارُ طه المُصطَفى …. خاتِمُ الرُسُل شَريف النَسَب
هذهِ أَنوارِهِ قَد ظَهَرَت ….. وَبدت من خَلف تِلك الحجب
هذِهِ أَنوارُهُ فَاِبتَهِجي …. وَاِطرَبي فَالوَقتُ وَقت الطَرَبِ
ونجده في هذه القصيدة يذكر أنوار المصطفى مباشرة ، دون مقدمة غزلية – كما فعل في قصيدته السابقة التى ذكرنا مطلعها – ، وبهذا النَّفَس الالتياعى المكبد بنار الفراق وحرارة الشوق راح شاعرنا يفيض بجملة من تداعيات الحنين ، وينقلنا من موطن إلى آخر مصورًا مشاعره وأحاسيسه تجاه ” طيبة ” ، ولا شك أنّها صور ولوحات مليئة بزخم المعاناة الوجدانية الحقّة التى تربط بين الشاعر وهاتيك البقاع ، وحنينه الدائم لزيارة قبر النبى – صلى الله عليه وسلم- في يثرب ، ليرى هذه الأنوار .
هذِهِ طيبَة يا عَين وَما …. بَعد من طابَت بهِ من طيب
طالَ ما كنت تَحنين إلى ……رُؤيَة القَبرِ الَّذي في يَثرِب
هذِهِ أَنوارُ ذاكَ القَبر قَد … أشرَفَت يا مُقلَتي فَاِقتَرِبي
ويلتفت الشاعر نحو ذاته التفافة ملؤها اليقظة والانتباه ، فيعود مخاطبا ذاته ونفسه بأن تستغل هذه الفرصة ، لتنظر لهذا الكوكب الدرىّ ، وتشهد قبر النبى – صلى الله عليه وسلم – ؛ لأنه بمحض إرادته فارق بلده وجاء زائرًا إلى طيبة الطيبة ، فعليها أن تغتنم هذه الفرصة لعلها تكون مرة في العمر لا تتكرر :
وَاِنظُري لِلكَوكَبِ الدَرّي فَكَم ….. أَنفُس تَصبو لِهذا الكَوكَب
وَاِشهَدي القَبر الَّذي رَتبته……بِرَسول اللَهِ أَعلى الرُتَب
ذاكَ قَبرُ مَن أَتاهُ زائِراً …… مَرّة في عُمرِهِ لَم يَخب
ثم يمضى في قصيدته فنراه يخاطب أحبته في الشوق إلى زيارة قبر المصطفى
يا أَخا الاِشواقِ هذا المُصطَفى …. بثّ شَكواكَ لَهُ وَاِنتَخِب
وَتَأَدّب يا أَخا الوَجد فَما. …… أَنتَ اِلّا في مَقامِ الأدَب
وَاسكُب الدَّمعَ سُرورًا فَعَلى ….. غَيره دَمعُ الهَنا لَم يُسكَب
وَاِكحَل الآماقَ مِن تُربَتِه …. وَتَوسّع في الأَماني وَاطلُب
وَتَذلل وَتَضَرَّع وَابتَهِل …. وَتَوَسّع في الأماني وَاطلُب
فَهُوَ بَحر زاخِر من جاءَه …. طالِبا فازَ بِأَسنى المَطلَب
أَيّ جاه مِثل جاه المُصطَفى …. معدن المَعروف كَنز الحسب
ويعود بعد ذلك إلى نفسه مرة ثانية مسطّرا توبته في تلك البقاع الطاهرة وما يصاحب الوقوف أمام قبر النبى –صلى الله عليه وسلم – من انفعالات نفسيّة وإيمانيّة ووجدانيّة ، ويفيض بعد ذلك في ذكر حبه للنبى – صلى الله عليه وسلم – واشياقه إليه وتوسّله به ، وهكذا لا تخلو قصيدة الشاعر كباقى المدائح النبوية من التوسل والشكوى ، فيقول :
يا رَسولُ اللَهِ اِنّي مُذنب…. وَمن الجود قبول المُذنب
يا نَبِيّ اللَهِ مالي حيلَة …. غَير حبي لَكَ يا خَير نَبي
وَيَقيني فيكَ يا خَير الوَرى …. أَن حبي لَكَ أَقوى سَبَب
عظم الكرب وَلي فيكَ رَجا ….فيهِ يا رَب فَرّج كُربي
وأخيرا بعد توسله بالنبى – صلى الله عليه وسلم – ورجائه أن يكون شفيعا له ، ونحو ذلك ،- تأتى خاتمة القصيدة حيث يصور فيها الشاعر نفسه ملتجئا إلى الله سبحانه وتعالى بقلب خاشع ونفس منكسرة كثيرة الذنوب فيما مضى من العمر بسبب حبّ اللهو واللعب ، طالبا العفو والرحمة والغفران من المولى جلا وعلا ، وأن يعصمه فيما تبقى من عمره ، وقد صاغها بأسلوب يوحى بالتذلل والخضوع والتضرع لله سبحانه كيما ينال رضاه ويفوز بغفرانه ، فيقول :
وَأَغِثني يا اله العَرش مِن نَفس…. سوء في الهَوى تَلعَب بي
وَتدارك ما بَقى لي فَلَقَد …. ضاعَ عُمري في الهَوى وَاللَعِب
ولعلنا نلحظ قصر هذه القصيدة مما هو مخالف لسمة شعر المديح النبوى في هذه الفترة ، فقصيدة المدح تتعدد موضوعاتها ، وتتنوع قضاياها ، وهنا نجد الشاعر يدور حول نفسه من جهة واحدة لا يتعداها ‘ إلى جهة أخرى سوى جهة مدح النبى ص ضمنا ، وهذا مما يحسب للشاعر ، ونرى في القصيدة مراعاة جانب السهولة والوضوح في المعانى والبعد عن التكلف الممقوت ، غلى جانب الصدق الشعورى والعاطفى المبثوث في أثناء القصيدة ، هذا مع موسيقتها العذبة” بحر الرمل ” التى تتناغم مع الموضوع ، وتدل على صدق التعبير وحرارة التجربة ، خاصة عند حديثه عن مدى حبه للنبى – صلى الله عليه وسلم – وتصوير مشاعره تجاه ذاته وما اقترفه في حياته من أعمال لا يرضى عنها ، مع الاستغفار وطلب الرحمة في ختام مدائحه النّبوية عامة وفى أنوار طه خاصة .
واختيار حرف الباء ليكون قافية القصيدة يدل على المعاناة في الحب ، لأن الباء شديدة ، وتدلّ – أيضًا – على الانفراجة بعد الشدة ، وتحقيق المنى بعد معاناة .
اترك رد