من الإسلام السياسي إلى الإسلام الصوفي (الفرار إلى روحانية الإسلام)

للتصوف الإسلامي إمكانات ومقومّات استطاع من خلالها أن يضرب بجذوره في المشرق والمغرب الإسلامي، ويتعدى أثره من بلاد الإسلام لينتقل من الشرق إلى الغرب، ويشهد إقبالاً في عصرنا الحالي لم يكن يشهده من قبل، فمن خلال دراسة أجرتها جامعة ييل الأمريكية، يمكن القول: إن ثلثي مناطق العالم وصلها الإسلام عن طريق المتصوفة، نفس النتيجة تؤكدها الباحثة الأمريكية جيزيلا ويب، قائلة: كان الصوفية هم الناقلين الفعليين للإسلام إلى مناطق أبعد من الشرق الأوسط، خصوصًا إلى إفريقيا وشبه الجزيرة الهندية والعالم الماليزي-الأندونيسي، وفي سياق روح التقليد الصوفي نفسه، ما زال المتصوفة يواصلون هذا الدّور في أمريكا.
وفي أوروبا أيضًا تروى قصص كثيرة حول كيفية انجذاب بعض المفكّرين الأوروبيين الكبار للتصوف الإسلامي، والدخول عبر أبوابه الواسعة إلى رحاب الإسلام، ويمكن الإشارة هنا إلى رينيه جينو (الشيخ عبد الواحد يحيى)، وفريتجوف شيوون، وتيتوس بوركهاردت، ومارتن لينجز (الشيخ أبو بكر سراج الدين)، الذين وجدوا في الشرق الإسلامي نوذجًا عاليًا من نماذج الحكمة وحياة الحقائق. وعلى المستوى الشعبي ينجذب كثير من الشباب الأوروبي ذي النزعة اليسارية إلى التصوف الإسلامي ويرون فيه ثروة روحية تساعدهم على تحمل الحياة.
ومن اللافت للنظر أن فئات كثيرة في مجتمعاتنا العربية – كانت أبعد ما تكون عن التصوّف والمسائل الروحية في حياتها من حيث ظاهر سلوكها واهتماماتها – انجذبت اليوم إلى التصوف، واتقدت عقولها بما تقرأه أو تسمعه أو تشارك فيه من نشاطات صوفية، وصارت تشعر بشكل مختلف للحياة بعدما سمعت عبارة لذي النون أو بيتًا من الشعر لرابعة، أو وردًا لأحد الصوفية الشاذلية، أو حديثًا لأحد النقشبندية، أو مديحًا لمنشد صوفي، أو رقصة من رقصات المولوية!
وهو الأمر الذي نظرنا إليه نظرة استخفاف أحيانًا؛ فمثل هؤلاء لا يلتفتون إلى التصوف إلا من باب (الموضة والظاهرة) التي سرعان ما تأخذ وقتها وتنتهي آفلة! أو نظرت إليه فئات من المخاصمين للتصوف على أنه نافذة يمكن الدخول منها لمهاجمة التصوف وأهله، أو رأى بعض الدارسين فيه استلابًا للشباب اليوم!
ما مدى أهمية التصوف للمسلم المعاصر؟ وكيف يمكن للتصوف أن يسهم في تأسيس إنسان يتسق مع ماضيه العريق ويساهم في بناء مجتمعه الحالي؟ وكيف يمكن تفسير الحنين إلى التصوف في بلداننا الإسلامية، خصوصًا بعد انتفاضات الدول العربية؟ وهل يعود ذلك لممارسات جماعات الإسلام السياسي التي رغّبت الشباب عن الإسلام الذي يُعرض من خلالهم مستغلين فيه الدين؟ هل للتراث الروحي في هذه البلدان أثر أعاد المجتمع إليه اليوم؟
أهميةُ التّصوفِ للمسلم المعاصر:
مع انتفاضات الشعوب العربية اليوم، والتي بدأت منذ سنوات، تمكّن الكثيرون من أبناء التيّارات الإسلامية من الوصول بخطابهم الديني إلى فئات عريضة من الشعوب، ولم يكن هذا الوصول محض صدفة، بل كان امتدادًا طبيعيًّا للقنوات الفضائية التي صارت إعلامًا بديلاً عن الإعلام الرسمي المعبّر عن سياسة البلاد فيما يتعلّقُ بالتعامل مع قضايا الدين ومشكلاته، فمع عدم تبني الدّولة بشكل رسمي لخطاب ديني يلبّي حاجات النّاس، تمكّن أهل هذه التيارات من سدّ تلك الفجوة لنزولهم إلى واقع الناس وهمومهم وطرحهم حلولاً لها!
في ظلّ الأحداث المتلاحقة التي تتغيّر في كلّ لحظةٍ، حدث حراكٌ هائل وما كان مسكوتًا عنه بالأمس أصبح بارزًا ويتكرر الحديث عنه في الإعلام المقروء والمرئيّ. بعضُ المشكلات السياسية كانت هذه التيارات حديثة عهد بها على الرغم من تبشيرهم ليل نهار بالدّولة الإسلامية وضرورة الاحتكام إلى الشريعة، لكن يبدو أن قصورًا شاب أطروحاتهم ولم يحالفهم النّجاح في التّعامل مع الواقع بأدواته أو أدواتهم.
ورغم تهويل الإعلام الرّسمي الذي تتبناه الدولة لكل ما يطرحه الإسلاميون من أفكار أو يعلّقون به على مجريات الأحداث، فإن هذه التيارات تعاملت مع الجماهير كأطفالٍ ينبغي أن تُردع ويتمّ تأديبُها من جديد. وتكرر الحديث عن الفتوحات الإسلامية وعن عقائد أهل السّنة والجماعة، وتم الخلطُ بين القوانين المدنية والدساتير والآراء الفقهية، وبين التاريخ والواقع، وانتشرت الكتاباتُ التي تُروّج للإسلام الحركي والسّلفي، وتحدث البعض عن منع الكُتب، وروّجت الشائعات حول ما وُصف بفقه الموتى والحمامات، وتم استدعاء شخصيات بعينها خاصمت هذا الطرح السلفي لتكون أقوالها حائط صدّ تجاه ما يُطرح من أفكار وُصفت أنها تعود بنا إلى الوراء.
وبصرف النظر عن صدق الشائعات من كذبها، وما ثبت صدوره عن أهل الإسلام الحركي والسلفي من فتاوى وتصريحات، فإن كثيرًا من الشباب زهد في هذا الخطاب الديني الذي لم يترك صغيرة أو كبيرة إلاّ تدخّل فيها، وتنصّل بعض المنتمين إلى هذه التيارات منها، وبعضهم وصل به الأمر إلى إعلان عدم انتمائه إلى الدين ككل؛ لأن هؤلاء في نظره يمثّلون الدين نفسه لا صورة من صوره!
اهتمامٌ ملحوظٌ بالتّصوف:
في ظلّ احتدام الصراع السياسي الديني الذي لم تُستثن منه الطُّرقُ الصوفية في مصر على سبيل المثال، ورغم مشاركة الطرق في إعلان خصومتها للتيار الحاكم بعد الثورة (الذي تمثّله قوى الإسلام الحركي) ورغم تصالحها مع النظام السابق للثورة الذي كان يحرك المشهد كله حسب مصالحه، فإن الشباب والكهول أبدوا اهتمامًا كبيرًا بالتصوف طريقة ومسلكًا وتجربة، ربّما للابتعاد عن الاهتمام باليومي والسائد، وربّما لأن الروحَ ضجرت من صور التّدين المتاحة ورأتها تبتعد عن أهداف الدين وغاياته، فأخذت تبحث في القديم عمّا يلبّي رغائبَها، وأبدت اهتمامًا ملحوظًا بتمظهرات هذا النمط الروحي في الآداب والفنون، فاهتمت بالسماع الصوفي والروايات التي تعتمد الموضوع الصوفي وشخصيات المتصوفين، كروايات سالم بن حميش، وعبد الإله بن عرفة، كما أبدت اهتمامًا بالكتابات الأعجمية التي تُرجمت إلى العربية كحكايات الصوفية لإدريس شاه، وقواعد العشق الأربعون لأليف شافاق التركية.
تم ترديد عبارات البسطامي وذي النّون المصري والحلاّج والجيلاني ورابعة العدوية وابن الفارض والرّومي وسنائي الغزنوي وغيرهم من أعلام التصوف، دون التفاتٍ لتنظير الدّارسين للتصوف ودون اهتمام بما يُقال من أهل الطّرق الصوفية عن أمثال هذه الشخصيات وعباراتهم التي تقال في مقام تستحق أن تُطوى ولا تُروى.
وقصد بعض الناس مقامات الأولياء من جديد، على الرغم مما أثير من غبار الكلام حول المقامات والأضرحة، إذ تمّ استدعاء فتاوى التحريم وكراهة الصلاة في المساجد التي تشتمل على أضرحة. وأعلنت بعض أجهزة الدولة عن إفشال أكثر من عملية تفجير للمقامات في مصر، ورغم كل هذا ازدادت الزيارات للمقامات، وقصدت جميع شرائح المجتمع هذه المساجد، وعقد بعض الشيوخ الصوفية الجدد مجالسهم فيها.
التصوف رحابٌ لا يعرف الحدود:
ومن الواقع إلى فضاء التواصل الاجتماعي، فكما شكّلت المواقع التي تتواصل عبرها الجماهير عاملاً مهمًّا في اندلاع الثورات وتحريك الأحداث وخلق وعي جديد، كذلك شهدت هذه المواقع ثورة معلوماتية، فكثيرٌ من المعلومات والإشارات والإحالات على كتب الصوفية في اللغات كافة، وتأسست صفحات ومجموعات للتحاور في الشأن الصوفي، وبعض المغمورين من الصوفية السالكين كوّنوا مجموعات من المريدين من خلالها، وبعض الشباب تخصص في إذاعة أخبار الأولياء والعارفين، ولم يقتصر الحضور في هذه المساحات الأثيرية على الذكور، بل كانت النساء حاضرة وكنّ أكثر ولعًا واهتمامًا ومشاركة.
التصوّف الأعجمي:
لم يقتصر الاهتمام بالتصوف العربي وأعلامه، بل وجدنا اهتمامًا كبيرًا بالتصوف الفارسي وعرفائه، وحضرت شخصيات صوفية كان الاهتمام بها قد اختفى بعد أن كانت حاضرة في الواقع المصري، كشخصية الرّومي الذي طُبعت مؤلفاته في مصر في وقت مبكّر، فأصدرت مطبعة بولاق كتابه الأشهر باللغة الفارسية (المثنوي)، وكانت نصوص هذا الكتاب تُقرأ وتُشرحُ ويكلّف الطلاّب في جامعة القاهرة بالعناية بها كما يروي الأستاذ محمد عبد السلام كفافي عن أستاذه عبد الوهّاب عزّام عميد الدراسات الشرقية في مصر في مقدمته لترجمة المثنوي الصادرة في ستينيات القرن المنصرم، وبدأت الصُّحفُ اليومية المطبوعة والإلكترونية تُعيدُ الحديث عن الرّومي كقيمة إسلامية عليا من قيم التسامح والانفتاح وقبول التعددية ونبذ العنف والتطرّف.
ومن الاهتمام بالتصوف الفارسي إلى التّصوف الهندي الجامع لشتّى صنوف التصوف بين طيّاته، وهنا برز الاهتمام بعنايت خان الموسيقى الصوفي الذي ارتحل من الهند إلى لندن وشاعت تعاليمه التي كتبها بالإنجليزية وانتشرت في أرجاء المعمورة، ومن الطريف أن كتابه الذائع بين الجمهور العربي اليوم تُرجم عن الرّوسية، والمقصود هنا كتابه (تعاليم المتصوفيين) الذي سعى فيه لإظهار هذه التعاليم مستفيدًا بتجربته الصوفية والموسيقية ومطالعته للفلسفة وانخراطه في أجواء التعددية الدينية في الغرب والهند على حد سواء. كذلك وجد كتابُه الذي ترجمه عيسى علي العاكوب وحمل عنوانَ (يدَ الشّعرِ) عناية من القرّاء العربِ، ربما لاختياره الموفّق لشخصيات من التصوف الفارسي، الذي يولع القراءُ بهم اليوم.
وعلى الرغم من شهرة محمد إقبال الفيلسوف الهندي في عالمنا العربي، فإن حضوره في فضاء معرفتنا لم يكن باعتباره على خُطى ابن الرومي الذي اتخذه مرشدًا وهاديًا في طريق كتابته للشعر والتصوف وفي معراجه الروحي، بل كان حاضرًا كمجدد ديني، وشاعر ألهب حماس الجماهير وجعلهم يؤسسون وطنًا خاصًّا بهم. وتمّ الجمعُ بين إقبال ومفكرين معاصرين منهم من رحل عن عالمنا ومنهم من لا يزال حيًّا يصدر الكتب والمقالات.
التّصوفُ من الهند إلى الأندلس:
وتجدد الاهتمام بالشاعر الصوفي الششتري الذي ملأ الدنيا في وقته وشغل الناس، وبدا الاهتمام الصوفي به أكثر تأصيلاً ومعرفة من الاهتمام السلبي الذي تمثّل في تحذير التيار السلفي من كتاباته اعتمادًا على ما قاله ابن تيمية في كتبه، وخصوصًا (السبعينية). وطُرح الصوفي الششتري من جديد كشاعرٍ وزجّال خاطب وجدان المسلمين في شتّى البقاع التي ارتحل إليها من الأندلس والمغرب وطرابلس ومصر، ولا يزال أكثرُ الناس ولعًا واهتمامًا به أهل المغرب، إذ يجوّدون غناء أشعاره ويعيدون تحقيق تراثه.
وفي سوريا التي يُعلن كلُّ يوم عن وفاة العديد من الأشخاص إثر قصف أو هجوم مسلّح، بُعث عبد الغني النابلسي شارح الششتري وابن عربي من جديد، فخصص أحد السوريين على الإنترنت صفحة لنشر أشعاره ونثره، وبدا في اهتمامه مطّلعًا بشكل جيّد على ما كتبه النابلسي، ولا غرابة في ذلك إذ التقليد الصوفي في سوريا يُولي النابلسي كبير عناية، وكذلك الأكاديميون المتخصصون في درس الفلسفة الإسلامية.
ظمأٌ إلى الروحانية:
ومن الخاصِّ إلى العامِ تلتفُ مجموعاتٌ من مذاهب وتيارات وديانات مختلفة حول مقولات الروحانية والتصوف التي تنشرها صفحاتٌ عدّة، لا تفرّق بين قائل حسب ديانته، المهم أن يصبَّ القول في إطار الروحانية وقبول التعددية الدينية، ونبذ العنف والتطرف، ومثل هذه الصفحات لا تهتم ولو بشكل عرضيّ بحديث السياسة وما يجري في العالم العربي، رغم أن روّادها عربٌ يعايشون الأحداث.
ويمكن رصد درجات الوعي المعرفي والديني عند الجمهور المتابع للتصوف والمتصوفين على مواقع التواصل من خلال متابعة النقاش في أي موضوع مهما كانت العبارة أو الفقرة محل النّقاش، ففي غالب الأحيان تكون العبارة واضحة منبئة عما تحمله من معنى، ويكون نشرها لمقصد ظاهر عند بعض المتابعين إلاّ أن التعاليق تأتي لتتشعب بالحديث في سياقات أخرى، وغالبًا ما تستعيد الجدل الفقهي والديني القديم.
وتعلو حدة الحوار ويزيد العنف اللفظي أكثر في منتديات الحوار إذا كان النقاش بين منتمٍ إلى التيار السلفي والصوفية الطُّرقية، وتُقتبسُ النصوصُ، وتضربُ بعضُها، ويتبادلُ طرفا الحوار تُهم التّكفير والخروج عن جادة الصراط المستقيم، وهي هي الأفكار القديمة والقضايا التي شُغل بها الأقدمون، يُعادُ طرحُها بنفسِ الأسلوبِ، وتُناقشُ على نفس الصورة، وإن كان الأقدمون أكثر تأصيلاً كلّ لموقفه.
بركةُ النساءِ:
ومن الرّجال إلى النساءِ، وكما غُيّبت النساء في المدونة الصوفية كما يؤكد الدّارسون للتصوف وقرّاء الكتب الصوفية التراثية (تراجم وطبقات) قلّ الاهتمامُ بهن وبسيرهن، اللهم إلا بعضِ السيداتِ كرابعة العدوية التي تنوقلت أقوالها وقصصها بشكل كبير حتى اليوم، وهناك محاولة لأحدهم أراد أن يجمع أخبار النسوة المتعبدات في صفحة واحدة وينشر سيرهن من باب إظهار هذه التجارب المطوية والمسكوت عنها في درسنا العربي، وهي محاولة جديرة بالانتباه.
إذ نلاحظ قلة الكتابات عن المرأة الصوفية في الفضاء الثقافي، وقليلة جدًّا الكتابات التراثية عنها أيضًا، فأغلب المرويات تشير إلى نساء في صحبة الرجال من الأولياء أو يمرُّ الوليّ الصوفي عليهم في الصحراء ورغم تكوينه المعرفي ومقامه الذوقي الكبير، فإنه إذا ما وقف أمام امرأة من هاتيك النسوة علّمته الكثير، نلاحظ ذلك على سبيل المثال في قصة شهيرة بطلتها سيدة مجهولة وذو النون المصري، كذلك نلاحظه في ذكر بعض النسوة كفاطمة زوجة أحمد بن أبي الحواري الذي قيل له: تعلّم الفتوة من زوجتك. ويروي ابن الجوزي في كتاباته التراجمية كثيرًا من قصص النساء، من كنّ منهن معيّنات في التاريخ أو مجاهيل لا ذِكر لأسمائهن، ويفرد السُّلميُّ كُتيّبًا صغيرًا لبعض النسوة المتعبدات، وكما هو الحال في كتب السّنةِ نجد الشيعة صنفوا في ذكر السالكات.
وفي عصر التقدّم والتكنولوجيا تحوّلت المرأة إلى موضوع حديثٍ مستمرٍ من كافة التّيارات والمدارسِ، ويسبق الغربُ كعادته في درس المرأة الصوفية، وتخصص دراسات في المرأة الصوفية في عصر بعينه، وتتطوّر الدراسات من بقعة جغرافية محدودة لتتوسع في الحديث عن النساء الصوفية في الهند وباكستان وغيرها من بلدان الإسلام، وإذا كانت الدراسات تفرّق بين التصوّف العربي والعرفان الفارسي فإن بركة النساء لا تختص بمذهب دون غيره، إذ تنتقل البركةُ إلى المريدين أيًّا كانت طريقتهم، وهكذا توجد البركة في مصر كما توجد في تونس، كما يلتمسها أهل المغرب.
التّصوّفُ جامعًا للفرقاء:
يشير روشندل الكاتب الإيراني في مقدمته للكتاب العرفاني “روضة الأسرار” لمحمود الشبستري إلى أن حركات المقاومة الإيرانية ضد العرب رغبة منها في بعث القومية الإيرانية اتخذت لها طابعًا مذهبيًّا فتناحرت الأحزاب وتصادمت العقائد، ووقعت الفرقة بين المسلمين المتخاصمين، فصحّ العزم لدى بعض الإيرانيين في القرن الثاني من الهجرة على الدعوة إلى الأخذ بمبادئ التصوف التي لا تُفرّق بين فرقة وأخرى، وبذلك يعتصم المختلفون بالعشق الإلهي، الذي يكفل لهم الوحدة والصفاء بين الفرقة والعداء.
ربّما يظن البعض أن هذا كلامٌ عاطفي لا يؤيده سند من تاريخ المسلمين ولا يؤكده عقل فاحص، إلاّ أنه وإن لم يصدق على الفرق الإسلامية بشكل عام فإنه يتجسد في أفراد من الصوفية بالأمس واليوم! فنسمع عن كثيرين من أئمة التصوف وأعلامه أن فلانًا يحضر مجلسه أهل الأديان طُرًّا من مسيحيين ويهود وبوذيين، وأن هؤلاء على اختلاف توجّهاتهم يحزنون عند فَقد هذا الشيخ أو ذاك، وأحب هنا أن أروي قصة لمولانا جلال الدّين الرومي جاء فيها: كان بعض المسيحيين في مجلس مولانا جلال الدين الرومي يستمعون إليه، وعلى الرغم من عدم معرفتهم باللغة التي يتحدث بها إلاّ أنهم كانوا يحزنون ويفرحون ويبكون حسب جو المجلس، في إحدى المرات قال أحد المسلمين في المجلس باستخفاف: ما بال هؤلاء يبكون؟! مع أن المسلمين أنفسهم لا يصِلون إلى فهم مُعظم ما يُقال في هذه المجالس ويدركونه.
فسمعه مولانا، فعلّق قائلاً: ليس من المهم أن يفهموا الكلمات، هم يفهمون لُبّ الكلمات، هم يدركون أن ما يدور في هذا المجلس هو عن الله، وعن كونه رزّاقًا عفوًّا غفورًا رحيمًا جميلاً قادرًا حكيمًا مُثيبًا مُعاقبًا، وهم يشمون من هذه الكلمة رائحة أحبابهم؛ لذا يتأثرون وتثور عواطفهم. كل إنـسـان يحبُّ الله من جماع قلبه ويتضرع إليه؛ إذ ليس بوسعنا أن نضع اسمًا لهذا الإيمان القاطن في القلب، وعندما يسيل هذا الإيمانُ إلى مجرى الكلام وقالبه يتشكّل ويُكتب اسمٌ له.
ونلاحظ اليوم اهتمامَ أهل الشرق والغرب على حد سواء بشخصيات التصوف الكبرى، وإن رأى بعض الدارسين في اهتمام الغرب بالتصوف الرغبة في ملء الفراغ الروحي! فإن هناك من يرى اهتمام الشرق اليوم بالتصوف من باب أنه عاصمٌ من (الإلحاد)؛ إذ يمثّل التصوف برقّته وتسامح سُلاّكه والمؤمنين به حائط صدٍّ أمام التطرف بوجهيه! كما يمنح المكبّل المثقل بهموم الحياة بعض الحرية.
أيُّ دورٍ للصوفية اليوم؟
حافظ كثيرٌ من أهل التصوف على التراث الروحي المنتمي إلى رحاب الإسلام، وقرأوا الكثير من الدفاتر والأوراق التي خطّتها قمم التصوف الكبرى، ولا يزالون يتبركون بالمشايخ والأكابر، ويتوارثون أذكارهم، ويلقنون المريدين أورادهم، وإذا كان التصوف في بلاد العرب ظلّ أمينًا على الموروث لا يغادره، ولا يبتدع في شأنه جديدًا محافظة منه على ميراث عزيز، فالحالُ أنه قد تطوّر كثيرًا في الغرب عبر الهجرات فرادى وجماعات، وعبر التجارة وغيرها من النشاطات، ويمكن رصد مظاهر هذا التطور والاستفادة منها في تطوير الخطاب الصوفي والخروج به من دائرة اعتدنا عليها إلى رحاب أوسع، والتوجّه به إلى شرائح أكبر، وأحيل هنا على دراسة عربية للباحث المغربي عزيز الكبيطي بعنوان : التصوف الإسلامي في الولايات المتحدة الأمريكية، عايش الباحث فيها البيئة التي كتب عنها بشكل جيد، وساعده ميراثه الصوفي في فهم ما لاحق هذا العالم من تطورات، كما أسهم بدوره في إلقاء محاضرات للتعريف بالإسلام يمكن من خلال مشاهدتها التعرّف على عطاء الباحثين الجدد وإسهامهم في الدرس الصوفي.


نشر منذ

في

من طرف

الكلمات المفاتيح:

الآراء

  1. الصورة الرمزية لـ فواز
    فواز

    لا شك أن أعداء الدين فشلوا في أن يطفئوا نور الله بأفواههم، ولم يجدوا من سبيل إلا أن يلبسوا على المسلمين في دينهم ويثيروا بينهم الخلاف ولعلهم وجدوا بغيتهم في التطرف المتناقض الرافضة والناصبة فهما وإن كانا متناقضين في أفكارهم ومعتقداتهم إلا أنهما من مشكاة واحدة ألا وهي التطرف والغلو الذي يضعف من وحدة المسلمين ويزيد من التناحر فيما بينهم ويشغلهم عن رسالتهم العظيمة.
    وتمكن الاعداء من ايصال رجال الى سدة الحكم في البلاد الاسلامية ترعى هذا التطرف المتناقض ولعل من ابرزها ايران والسعودية اللتان دأبتا على ايثار الانتقاص من المقابل على التقارب والاصلاح ونبذ الخلاف مع الآخر، ولأجل ان يضمنا هذا التناقض غيبا التصوف الصحيح الذي يكن عظيم الاحترام لآل بيت النبي (صلى الله عليه وسلم) والالتزام بسنة النبي (صلى الله عليه وسلم) ليس بالصورة فحسب الذي هو أدنى انواع الالتزام بل الالتزام بالسريرة والسيرة والصورة.
    واحذر أيضا أهل التصوف من مدعي التصوف الذين يتخذون من مظاهر التصوف غطاء لتحقيق مصالحهم الخاصة وينخرطون في مخططات الاعداء.
    على أهل التصوف أن يتحلوا بأخلاق نبيهم (صلى الله عليه وسلم) وأخلاق رجالهم الاوائل الحسن البصري وجنيد البغدادي والشيخ عبد القادر الكيلاني شيخ الحنابلة والشافعية، ليتحملوا صعوبة هذه المرحلة التي تمر بها الامة ليصلوا بها الى بر الامان على عهد العصور الاولى المزدهرة من عصور الاسلام. وهم قادرون على ذلك بإذن الله وتوفيقه.

  2. الصورة الرمزية لـ غنية بوحوش
    غنية بوحوش

    بسم الله الرحمن الرحيم
    لم يقض على الإسلام إلا هذا التبعيض والتجزيء ، فالبعض يُعْنَى بالجانب السياسي والبعض الآخر بالجانب الروحي ، وآخرون بالجانب المالي …
    الإسلام نظام ومنهج للحياة شامل وكامل . يجب أخذه كله أو تركه كله .
    قال الله تعالى : ” أتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ” .

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: