تغييب العلماء وأهل الذكر العلمي

تغييب العلماء، تهميشهم، إقصاؤهم، والتضييق عليهم…عناوين مؤلمة حقا لا يستحقها مَنْ رَفَعَهُم الله جلّ وعلا في قوله: (يَرْفَعِ الْلهُ الْذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالْذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ). [سورة المجادلة، الآية 11]، ولا يستحقها من أمر الله جلّ في العُلا بوجوب مُراجعتهم وسؤالهم فيما يقع في دائرة اختصاصهم العلمي في قوله: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ). [سورة النحل، الآية 43، سورة الأنبياء، الآية 7].
إن العلماء العالمين العاملين هم النخبة وصناع مجد الأمم ورفعة الدول، هم أهل الهيئة المتميّزين والرّفعة المتفرّدين الذين يتعيّن لزاما على الأمراء والحكام وأفراد الأمة رفعهم وتوقيرهم وإجلالهم ومعرفة قدرهم وحقوقهم. فأمة لا تقّدّر علماءها ونخبها حقّ قدرهم قد رغبت عن هدي توجيهات قانون الإسلام المرسومة معالمها الصريحة في عديد النصوص الشرعية؛ قال النبي صلى الله عليه وآله سلم: “لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُوَقّرَ كَبِيرَنَا وَيَرْحَمَ صَغِيرَنَا وَيَعْلَمَ لِعَالِمِنَا حَقَّهُ”. [رواه أحمد والحاكم عن عبادة بن الصامت. أنظر: صحيح الجامع وزيادته لمحمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان، ط 3، 1408هـ-1988م، رقم 5443، 1/ 957. ].
إنّ أمة لا تهتم لأمر علمائها ونخبها أمة لا خير فيها، أمة لا تُقيم لعلمائها ونخبها وزنا لا صلاح فيها وأمة لا تُراجع علماءها ونخبها في مسائل التخطيط والتسيير والتوجيه وحركية البناء والتشييد لا بركة فيها. وللتنبيه لست هنا بنافٍ للخير والصلاح كله والبركة كلها؛ وإنّما هو نفيُ كمال الخير والصلاح والبركة أقصد.
الحقيقة أن تغييب العلماء والنخب من أهل الذكر العلمي تتضح صورته أكثر في قضايا الأمة ونوازلها المهمة؛ التي تتطلّب تدخلهم ليس في المجال الشرعي فحسب بل في جميع المجالات العلمية المرتبطة بمناحي الحياة والواقع المختلفة؛ لأن أهل الذكر في الآية السابقة هم أهل الاختصاص العلمي كلّ في مجال تخصصه (الشريعة الإسلامية، الطب، الصيدلة، الإقتصاد، الإجتماع…).
لكن يأتي التركيز على المجال الشرعي أحيانا كثيرة لأهميته وقيمته العلمية؛ ولأن أكثر من يتطفّل اليوم على مسائل العلم ويتلفعّ بمروط أهله، ويتزيّا بهم وهو دخيل عليهم وليس منهم؛ إنما يقع في مجال الشرع الإسلامي، فنجد أن رويبضة الناس اليوم وبدون حرج أو وازع يتكلّم باسم الشرع ويُفتي بأحكامه في مسائل العامة وأمرهم، وهو ليس مختصا في تبيين أحكام الشريعة الإسلامية وإظهارها وتبليغها والإخبار بها.
الكوارث الطبيعية، الأوبئة الصحية، الانزلاقات الأمنية، الحراكات الاجتماعية، الثورات الشعبية، الأزمات الإقتصادية، الحروب الأهلية والفتن الطّائفية…وغيرها من تحدّيات الواقع الراهن تستدعي تدخل العلماء المختصين عبر وسائل الإعلام والاتصال المختلفة خاصة المرئية منها.
أما تغييب العلماء الأفنان المختصين وتهميشهم بل وإقصاؤهم، ومنعهم من الظهور عبر وسائل الإعلام والاتصال بغير مسوّغ مشروع وداعٍ مقبول؛ فهذه سياسة عرجاء لازالت – للأسف – سنّة متّبعة في بعض البلاد العربية والإسلامية تحت عناوين أقلّ ما يُقال عنها أنها غير معقولة. نتمنى انتهاء هذه الرّاديكالية في التعامل مع أهل العلم المقتدرين.
إن تغييب العلماء كظاهرة سلبية قد يكون عن قصد؛ مثلا بوازع السلطان وأهل النفوذ المؤثّرّين في مشاهد الأمة وواقع الدولة، وقد يكون عن غير قصد؛ طواعية من أهل العلم أنفسهم ممن لا تشرئبّ أعناقهم إلى الظهور على وسائل الإعلام والاتصال تحديدا، مُفضّلين خدمة البلاد والعباد في الظلّ والسرّ، مع أن متطلّبات العولمة الإعلامية والاتصالية تدعوهم إلى الظهور لإفادة الأمة أكثر، والحرص على نشر معارفهم وعلومهم ومواقفهم ورُؤَاهم ممّا يقع ويحصل من مشاهد ووقائع ونوازل محلية أو وطنية أو إقليمية أو دولية.
وفي هذا السياق تتنوّع أساليب تغييب العلماء وتهميشهم من الساحة الإعلامية وغيرها أعدّ منها:
1- التّرفّع عن سؤالهم ومراجعتهم واستشارتهم في مسائل الأمّة وتحديّات واقعها؛ ولهذا عوّدنا علماء السلف إذا نزلوا منزلا (مصر/ بلد) لا يسألهم فيه أحد ولا يُراجعهم ولا يستشيرهم ولا يستفتيهم؛ حملوا متاعهم وارتحلوا عنه ولسان حالهم: هذا منزلٌ يموت فيه العلم ويُزهد في أهله.
2- إنكار فضلهم حال حياتهم فضلا عن حال تغييب الموت لهم، وفي المثل: “لمّا كان حيّا علّقوا له تمرة، ولمّا مات علّقوا له عُرجُونا”؛ مثل جزائري يُضرب في حقّ أهل الفضل والعلم لا يُذكر فضلهم ولا يُعترف به إلا بعد موتهم.
3- عدم ترسيخ ذكراهم للتذكير بمآثرهم وفضلهم.
4- عدم نشر علومهم وفقههم وأفكارهم وفتاويهم وآرائهم إما مسموعة أو مرئية أو مكتوبة.
5- منعهم من الخطابة وإلقاء المحاضرات والمشاركة في الندوات وإدارة الدورات التكوينية والتدريبية تحت دواعٍ غير منطقية؛ الغاية منها التضييق عليهم وخدمة مصالح ضيقة غير مقبولة.
أختم بقولي: إن أمة لا تحترم علماءها ونُخبَها وأذكياءها لا تستحق أن تُحترَم.


نشر منذ

في

من طرف

الكلمات المفاتيح:

الآراء

  1. الصورة الرمزية لـ مسعود أوقروت
    مسعود أوقروت

    صدق من قال:
    ذو العقل يشقي في النعيم بعقله *** واخو الجهالة في الشقاوة ينعم

  2. الصورة الرمزية لـ عبد المنعم نعيمي
    عبد المنعم نعيمي

    صدقت أخي الحبيب

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: