-أسباب التداخلية.
-أثار التداخلية في العلوم .
– تجليات التداخلية في العلوم:
-علم الكلام- علم أصول الفقه-
-مقدمات أولية:
-التداخلية بين العلوم في التراث العربي :الدواعي والاسباب والتجليات.
-التداخلية بين العلوم في التراث العربي الاسلامي:
1- مقدمات اولية:
من الظواهر الثقافية والفكرية التي تستوقف الدارس والباحث ، والمتابع لمسار التراث العربي الإسلامي في تطوره التاريخي ، هو ذلك التداخل القائم بين العلوم التي نشأت في أحضان هذه التراث وتطورت فيه ،… حيث إن العلاقة التداخلية ،والتكاملية ، كانت هي السمة البارزة ، والغالبة ، والمهيمنة ،على جميع العلوم التي نشأت، وتطورت ، ونمت في أحضان الثقافة العربية الإسلامية……1 .
وهذه التداخلية القائمة بين العلوم في الإسلامية، كشف عنها كثير من العلماء ، واقرها عدد من الباحثين، وأثبتها المشتغلون بالتراث العربي الإسلامي، في سياق تدارسهم ،وحديثهم ، في موضوع تصنيف العلوم ، وترتيبهم للعلوم التراثية، من حيث الحاجة .وبيانهم لمكانة العلم في الإسلام،2 و ذلك عن طريق الفصل بين علوم الوسائل، وهي العلوم المقصودة لغيرها ، لا لذاتها، والتي تنعت بعلوم الآلة، لأنها آلة لغيرها، من العلوم . وعلوم المقاصد ، وهي العلوم المقصودة لذاتها ، لا لغيرها .فقد ذكر ابن حزم أن:” العلوم كلها ، كان بعضها متعلق ببعض ،ومحتاج بعضها إلى البعض…”3. .
وهذا التداخل بين العلوم، الذي استوقف كثيرا من الدارسين،وأثار عددا من الباحثين . هو الذي جعل الباحثين يتوجهون نحو البحث عن الأسباب،و التنقيب عن الدواعي ،و العمل على رصد النتائج، و يتابعون الآثار، ويكشفون عن البواعث ، التي كانت من وراء هذا التداخل ،الحاضر بقوة ، و الواقع بشكل جلي في العلوم التراثية ، ويقرون في نفس الوقت، بأن التداخلية بين العلوم، كانت من ابرز الخصائص المميزة ، للعلوم في التراث ا لعربي الإسلامي….وأنها وصف علمي لا يمكن التنكر، أو التغاضي عنه…
ومن ابرز الباحثين الدين اختاروا الاشتغال بمرجعية التداخلية في العلوم، للكشف عن التطور الحاصل بين العلوم، و وتمثل الآليات ،والبنيات المشكلة و المشتركة بين هذه العلوم ،والمنتجة لها الدكتور طه عبد الرحمان ، الذي صرح بان التداخلية بين العلوم ،كانت من ابرز الآليات التي اتخذها، واستند عليها ، واعتمدها ،واستعان بها في مقاربته للتراث العربي الإسلامي ،وفي ممارسته، و مدارسته للعلوم التراثية ،أو في رصده لتاريخ العلوم، . كما صرح بالتزامه بالتداخلية من حيث هي منهج ، في مدارساته للتراث العربي الإسلامي، أوفي بحثه عن الآليات المنتجة للمضامين المحمولة في هدا التراث….
فلقد صرح علنا بقوله : ” نقول نحن بالتداخلية، والتكاملية ، بين العلوم ،ويقول خصمنا بالتقاطعية والتفاضلية في علوم التراث..”.4 …
ويقول في موضع أخرفي كتابه :” تجديد المنهج في تقويم التراث:” ولقد نحونا في تقويم التراث،منحى غير مسبوق ،ولا مألوف ،ولا معهود .فهو غير مسبوق، لأننا نقول بالنظرة التكاملية .وحيث يقول غيرنا بالنظرة التفاضلية، وهو غير مألوف.لأننا توسلنا فيه بأدوات ماصولة ،وحيث توسل غيرنا بأدوات منقولة…”5 .
وفي هدا السياق ، المتعلق بالتداخلية بين العلوم ،و في هدا الاختيار القائم على مقاربة التراث بالآليات المؤسسة على التداخلية، قسم الدكتور طه عبد الرحمان ،هدا التداخل الحاصل بين العلوم في التراث العربي الإسلامي ،إلى قسمين أساسين اثنين :
1-التكامل الداخلي الذي يحصل بين العلوم التراثية الداخلية بعضها مع بعض،دون تأثير للعلوم المنقولة إليها من ثقافات أخرى….
2-التكامل الخارجي، وهو الذي يحصل بين العلوم الماصولة الأصلية ، والعلوم المنقولة، الوافدة عليها من ثقافات أخرى،من دلك تداخل علم أصول الفقه مع المنطق، وعلم النحو مع علم المنطق في القرن الخامس الهجري … ….6 …وهي المرحلة المسماة بمرحلة المتأخرين، لان المجال التداولي لهده المرحلة كان بحاجة ماسة إلى علم المنطق… بحكم خاصية المعيا رية الحاكمة لهدا العلم…..
من ثم فإن حضور المنطق بين علماء الأصول حاصة ،اكتسب دعامته، و اثبت مشروعيته،من خلال كونه العلم الراشد، والخادم، والمساعد على تشييد الاستدلالات، وبناء الأنساق ، وتركيب البراهين. والفصل بين الصحيح والفاسد، والهادي إلى المسالك الصحيحة المعتمدة في الاستدلال . فهو الأداة التي تجنب صاحبها االوقوع في الاستدلال الفاسد ،والتمييز بين البراهين الصحيحة من الفاسدة ،وهي تبعد المستدل الخطأ في الاستدلال، وتساعده على استدراك الخطأ في بناء الأحكام…. .
ومما يذكره الدكتور طه عبدا لرحمان في حديثه عن تقارب العلوم الماصولة مع العلوم المنقولة مثل المنطق ،هو صعوبة تقويم إنتاج أي احد من العلماء في الإسلام ، أو احد حكمائهم مال لم يقع التسليم،بان إنتاجه قد تداخل مع اقرب العلوم، في مجال التداولي العربي ،ومنها علم لمنطق..7 …
وبحكم أن الحاجة إلى المنطق ،ظهرت متأخرة ، لعدة اعتبارات علميو،ومعطيات ثقافية وحضارية، . دلك أن الحقل المعرفي الإسلامي في بدايته ،،كان همه الأول ،هو الاشتغال بالنص توثيقا ،وتحقيقا ،وبيانا ،واستمدادا…8 وذلك بتثبيت مجموعة من المعارف ، و تشييد العلوم الموصولة والموجهة مباشرة إلى خدمة النص القرءاني… 9.
-2–أسباب التداخلية بين العلوم:
ومن الأسباب التي ساهمت في هدا التداخل ، الحاضر بين العلوم ،هو مركزية، ومحورية النص القرءاني في الثقافة العربية الإسلامية ، فمن أبرز هده الأسباب التي ساهمت في هذه التداخلية ، هو حضور النص، ومحوريته في التراث العربي الإسلامي ،وهو الحضور الذي كان متجسدا بقوة ،ومتجليا ، بشكل ملفت للانتباه ،في جميع العلوم الحاضرة ،والقائمة في التراث العربي الإسلامي… ..
فقد تمخض عن مركزية النص القرآني في الثقافة العربية الإسلامية ، ومحوريته في هده الثقافة ، أن قامت شبكة متكاملة ، ومتداخلة من العلوم، من فقه وأصول ،وحديث وسنة ،وتفسير وقراءات، وغيرها من العلوم الشرعية، بالإضافة إلى علوم الآلة، وهي علوم العربية التي تعرف بعلوم المساعدة، من نحو، وصرف ، وتصريف ومعجم ،وفقه لغة ،وبلاغة، والتي لها حيّز واسع ،وحضور قوي ،وتواجد معلوم،في مباحث العلوم الشرعية…
فما من علم إلا، وكان القرءان الكريم ، هو المحور الذي يتحرك حوله هذا العلم .وهذا الأمر ينطبق على مختلف فروع المعرفة الإنسانية التي ظهرت في الثقافة العربية الإسلامية ، وتطورت في أحضانها ..فمدار العلوم الإسلامية كلها ،كان هو النص المؤسس .وهو القرءان الكريم مما جعل البحث في أي علم من العلوم الإسلامية يشكل ميدانا فسيحا، و فضاء واسعا ،و محورا متشابكا، ومتداخلا بين عدد من العلوم .وهو مما انعكس أثره على تطور المعرفة في الثقافة الإسلامية . ..
من هنا وجب الإقرار، والاعتراف، وبدون تردد، بان هناك خلفية دينية ساهمت بشكل مباشر، في تشكيل العلوم، وفي تطورها،و في نموها ،وفي ارتقائها من حال إلى أخر…10 .
و من هنا نقول أن مما ساعد على هذا التكامل والتواصل بين هذه العلوم، بجميع فروعها وأقسامها أصلية كانت أو خادمة للأصل نقليه كانت أم عقلية هو وحدة الإطار، و وحدة المرجع الذي يجمع هذه العلوم. إذ التحمت هذه العلوم بمجملها، و في نسق واحد من اجل خدمتها للقران الكريم توثيقا ،واستمدادا وبيانا. فقد اتجهت كل العلوم نحو القرءان الكريم بيانا واستنباطا واستمدادا وتفسيرا وتأويلا وتوثيقا وتحقيقا وقراءة…11 .ذلك آن القرءان –كما قال ابن جزي الكلبي -كان هو المقصود بذاته ، وسائر العلوم أدوات تعين عليه أو تتعلق به، أو تتفرع عنه….”12 .
هذا الأصل المعرفي الثابت، هو ما جعل كثيرا من الدارسين يرون أن عطاء الفكر العربي الإسلامي ،وإبداعه، إنما نشا أساسا من خلال تعامله المباشر مع النص القرءاني. وهو التعامل الذي أدى إلى تشكل ،وتكون كثير من للعلوم . وهو الأمر الذي يجعلنا ننعت الثقافة العربية الإسلامية بأنها ثقافة محورها النص….. و هذا ما يفضي بنا إلى القول ، والاعتراف بأن هناك خلفية دينية تحكمت ،وأثرت في توجيه الدراسات اللغوية والقرءانية. وجعلت العلوم على اختلاف تخصصاتها، ومنازعها ،وتوجهاتها تتجه نحو خدمة النص القرءاني13 … في جميع مستوياته ومناحيه ، ومكوناته ،خاصة في مستوى التوثيق ، والتحقيق .أو في مستوى الاستمداد ،واستخلاص المعنى والنظر….
إن التداخلية القائمة بين العلوم، قدر محتوم لا مفر منه ، يجب على الدارس للتراث العربي الإسلامي، ان يتعرف عليه … فهو احد الخصائص الهامة، والمميزة للعلوم في مسرة الحضارة الإسلامية…
-3- اثار التداخلية بين العلوم:
ا-تميز العلوم ، من حيث الموضوع والمنهج:
ومما نتج عن هذا التوجه في هذه التداخلية التي كانت قائمة بين العلوم ، وحاضرة بين عدد من المعارف ،هو استقلالية كل علم بمنهجيته الخاصة به ، والمتميز له في موضوعه ،والمنفردة له بقواعده، فكان لكل منهج استقلال في جهازه المعرفي، والمفاهيمي . فكان لكل علم ميزة خاصة ،على مستوى الموضوع ،و على مستوى المنهج ،بحيث تميز كل علم بمسالكه، وبمبادئه. وهو ما جعل أصحابه والمشتغلون به ، يقومون بتحرير المنهج المعتمد لديهم . و ذلك بتقعيد المفاهيم المشيدة له .وهذا ما يدل على مدى الأهمية التي اكتسبها المنهج في الثقافة العربية الإسلامية،14 فكان لكل علم منهجه الخاص ، المميز له عن غيره من المناهج التي تركب العلوم ، التي يشتغل بها أصحاب دلك العلم ،بصفة عامة …وهو ما يفسر لنا أن سؤال المنهج كان حاضرا ، بقوة ، وراسخا بشكل واضح ، عند علماء الإسلام ، خاصة في كل ما يدونون وما يكتبون ، وما يؤلفون، ويحررون من مباحث، يسيرون على دلك المنهج في جميع بحوثهم، وفي جميع دراساتهم ، وكذا في نظرتهم الكلية للعلوم بصفة عامة…15 .
وهذه العناية بالمنهج تعود أساسا إلى كون الثقافة العربية الإسلامية تنطلق من هذا الثابت المنهجي وهو ” أن سلامة الفكر متوقفة على مدى سلامة المنهاج، وصحة طرقه ومسالكه..16 . ..
كما أن المنهج هو الطريق الناظم للثقافة، و المميز للفكر ،والموصل للمعرفة ،بأقصر جهد، وبأقل تكلفة…وهو طريق عاصم من أن يضل الباحث، أو أن يتيه الدارس، أو أن يضل الباحث ،أو أن يبتعد عن الطريق الموصل، والسبيل ، الهادي إلى اكتساب المعرفة….ولا يخرجون عنها .
من هنا فإن الحضور المنهجي ،كان حاضرا بقوة بين علماء الإسلام، يسيرون عليه في بحوثهم ودراساتهم ،ويلتزمون به فيما يكتبون..
ومن هنا فما يقتضيه هذا الموقف، العلمي ، هو أن طلب العلوم التراثية معرفيا ،ومنهجيا يقتضي من طالبها ومتلقيها ، والباحث فيها ، وعنها ، أن يعمل على استحضار قبلي ،وأولي لمجموعة من المعارف ،والعلوم المركبة ،والمشكلة لهذا التراث ،لكون هذه العلوم في نسقيتها ،علوما جامعة لمجموعة من العلوم ، بحيث يجمعها ، ويؤلفها عدة قواسم مشتركة في مجموعة من القضايا المعرفية ، والمسائل النظرية المشتركة ،خاصة ما كان من قبيل المرجعيات، والمفاهيم ،والمصطلحات التي انتقلت من حقولها المعرفية الأصلية ،التي نشأت ، وتأسست فيها إلى حقول معرفية أخرى وافدة عليها ،و مستقبلة لها ، وبهذا الانتقال ، والعبور ، قد اكتسبت ،هده المفاهيم معان مستحدثة ، ودلالات جديدة. غير معهودة في حقلها الأول ، وهو ما جعل هذه العلوم في مجملها ، متداخلة في الوظائف، و مشتركة في المهام، و متقاسمة في الأدوار. و إن كان القاسم المشترك ،والجامع الذي يجمع هذه العلوم هو خدمتها للنص القرءاني توثيقا واستمدادا وبيانا وتفسيرا…….
ب-انتقال ورحلة المفاهيم:
ومن أثار هذا التداخل بين العلوم ،هو انتقال كثير من المفاهيم، والمصطلحات من حقولها المعرفية الأصلية التي نشأت فيها، إلى حقول معرفية أخرى مستقبلة لها ،بحيث إن انتقال المفاهيم من حقولها الأصلية التي نشأت فيها إلى حقول أخرى ، مستقبلة لها ،شكلت إحدى المسلمات بين المشتغلين بالمفاهيم في التراث العربي الإسلامي ….17 .
من ذلك أن مفاهيم ، ومصطلحات الأصوليين التي كانت متداولة بينهم، فقد انتقلت هذه المفاهيم إلى علماء اللغة مثل القياس ، والعلة ، والنسخ ،والاستحسان ،والوضع والحمل ، والاستعمال …وأخذت في هذا النقل استعمالا مغايرا، ومفهوما جديدا، وخاصا، ومتميزا عند النحويين ،يختلف عن المفهوم الذي كان عليه متداولا في السابق ، ومستعملا في أصله الأول ،و اعني استعماله في علم أصول الفقه …18 .
. كما أن بعض مفاهيم اللغويين ومصطلحاهم انتقلت وهجرت أصلها التي نشأت فيه ، وتكونت فيه، وأخذت في تداول الأصوليين، وفي استعمالاتهم، وفي بحوثهم اللغوية مفاهيم جديدة ، خاصة ،غير مسبوقة، ولا معهودة ، ولا مألوفة بينهم .بحيث لم تكن تلك المفاهيم معهودة بينهم مثل :الكلمة ، والترادف ، والاشتراك، ، والحمل ، والوضع ،والتباين. والمعنى الأصلي، والمعنى التبعي والسياق ، والقرائن . وهذا العبور المصطلحي من علم إلى أخر نعته البعض وسماه برحلة المصطلحات والمفاهيم ….19 .
هذا التوجه في رحلة المفاهيم ،واكتسابها لمفاهيم جديدة ،غير ما كانت عليه في حقولها الأصلية ،التي نشأت فيها ينبغي استحضاره ، والوقوف عنده ،في أية مقاربة أو مدارسة ، لأي حقل معرفي معين في التراث العربي الإسلامي…. خاصة الحقل اللغوي والبياني، و هو الحقل الذي استثمرت فيه كثير من المفاهيم ، وفيه رحلت إليه ، وتداخلت ، وانصهرت فيه هذه المفاهيم اللغوية ، منتقلة من أصلها الأول ، ومتوجهة ومنتقلة إلى علم أخر ….20 .
من هنا نقول ا ن انتقال المفاهيم والمصطلحات من حقولها المعرفية الأصلية التي نشأت فيها إلى حقول معرفية أخرى ،هي من الأساسيات والمميزات ،والمواصفات التي طبعت التراث العربي الإسلامي.و من ثم لا ينبغي التنكر، أو التغاضي ، أو التقليل من اثر هذا العبور، ومن هذا الانتقال في أية مدارسة ، من هنا لا ينبغي إهماله ، أو إبعاده أو مصادرته لكل من توجه أو قصد ،أو أراد ، أو ا ختار مقاربة ، أو مدارسة ،أية قضية من القضايا الكبرى التراث العربي الإسلامي ، أو أراد البحث الأكاديمي في المسائل المعرفية الكبرى التي يطرحها التراث العربي الإسلامي ،في مختلف حقوله المعرفية. خاصة ما كان من قبيل البحوث التي اختارت وجهة الدراسة المصطلحية تأصيلا ، وتوصيفا ،وتنظيرا، وإحصاء،وجردا وتحديدا . ……..21 …
من هنا نقول إن انتقال المفاهيم من حقولها المعرفية ، إلى حقول معرفية أخرى ،ظاهرة علمية تستحق الدرس ، والتوقف ،والمتابعة العلمية في جميع المعارف ، والمناحي ،والتخصصات العلمية… 22
ج-الموسوعية:
ومن آثار هذه التداخلية بين العلوم ، والقائمة بين العلوم ،هو حضور الموسوعية في التأليف والتصنيف ، والكتابة، بحيث صنفت الموسوعات ،و وضعت المصنفات الضخمة ، و المؤلفات الكبيرة في مختلف العلوم . بحيث كان العالم الواحد يشتغل بأكثر من علم .وكانت هذه الموسوعية طابع علماء الإسلام، باختلاف مدارسهم …..وهي ميزة غالبة على اغلب علماء الإسلام.
وقد” أدى الاقتناع بتداخل العلوم ،في الممارسة التراثية، تراتبا، وتفاعلا ،ان اتجه التعليم والتكوين والتأليف جميعا إلى الأحد بالموسوعية…”23 .
وهده الموسوعية هي التي تفسر لنا أن كثيرا من علماء الكلام ،اختاروا الاشتغال بعلم اللغة ،وعلم أصول الفقه، في إن واحد . ومنهم من مارس الاشتغال بالعلوم المنقولة مثل علم المنطق ، وقام بإدماجها ،تأصيلها ، في العلوم الماصولة سواء في علم الكلام، أو في علم أصول الفقه، أو في علم البلاغة.. …..
وهدا الاختيار العلمي ، الذي يفضي بنا إلى الإقرار، والتصريح بأنه يتعذر في التراث العربي الإسلامي ،الفصل بين المتكلم، واللغوي، والأصولي، والمنطقي في التراث العربي الإسلامي……
فهدا فإمام الحرمين الجوييني، وآبوا بكر الباقلاني، والقاضي عبد الجبار الهمذاني ،وانو حامد الغزالي ،وأبو الحسين البصري ،والإمام فخر الدين الرازي، والإمام ابن فورك ،والإمام أبوا الوليد الباجي، وابن حزم الأندلسي ،و القاضي أبوا بكر بن العربي المعافرفي ، وابن رشد الجد،وابن رشد الحفيد… فهذه الأسماء جمعت بين الاشتغال بعلم الكلام وعلم اللغة، وعلم الأصول الفقه …من هنا نقول إن الموسوعية كانت من ابرز مواصفات التأليف، والطابع المشترك للكتابة عند علماء الإسلام سواء في المشرق أوفي المغرب….24 .
بل منهم من جمع بين هذه العلوم الماصولة ، في التراث ، و العلوم المنقولة إلى التراث من ثقافات الغير مثل: المنطق ، و عمل إدماجه علم المنطق بغيره من العلوم الإسلامية ،من حيث هو علم خادم لغيره من العلوم، ومسدد للاستدلال، وكاشف للطرق الصحيحة من الفاسدة في الاستدلال . و ممن تفرد بهذا المشروع الإمام أبو المعالي الجويني ، والإمام أبو حامد الغزالي ،و ابن حزم الأندلسي الأصولي والمنطقي، وابن فورك ….
وان كانت هده الريادة يبقى يتقاسمها الإمام الغزالي في المشرق، وابن حزم الأندلسي في الغرب الإسلامي. فقد عمل كل واحد منها على تقريب القول المنطقي إلى علم الأصول الفقه…25 . وان كان البعض ينسب هده الريادة ،والأسبقية ،في هدا التقريب بين المنقول المنطقي وعلم أصول الفقه إلى الأمام الغزالي….
وهدا التقريب المنطقي إلى علم أصول الفقه ،تجسد في صياغة الحدود، و صياغة ،وصناعة التعريفات المنطقية صياغة منطقية. فان كثيرا من العلوم تلقفت علم المنطق،واختارت صياغة حدودها ،ومسائلها ومعارفها ،صياغة منطقية على شكل قواعد كلية. وهو ما يلزم عنه ،ومن المشتغل بالتراث أن يكون طالبا لعلم المنطق .26
علما أن هذا العلم ، أثار طلبه نقاشا حادا،وحوارا مستفيضا بين العلماء،خاصة في القرن الرابع الهجري في العالم الإسلامي من خلال المناظرة المشهورة بين أبي بشر متى رئيس مناطقه بغداد وأبي سعيد السيرافي رئيس النحاة. 27.
وقد توزعت المواقف بين رافد ،واخذ لهده الممارسة ذات ،التوجه، و المنزع المطقيي،واستثمارها في العلوم المنقولة خاصة في علم أصول الفقه…
من هنا نقول إن هذه المصنفات ذات المنزع الموسوعي، كان من نتائجها ، ومن أثارها ، لزوم العالم ،والباحث من التمكن من أكثر من علم ،خاصة في مقاربته لأي موضوع او ظاهرة ثقافية ،في أي نص تراثي ، لان هذا النص هو نتاج،وحصيلة ،ومستخلص من مجموعة من العلوم المتقاربة ، والمتداخلة من حيث الموضوع والمنهج .وهو ما يقتضي من القارئ والدارس من أن يستحضر مكونات التداخلية، الحاضرة في هذا النص في جميع جوانبه ومستوياته المعرفية ، القريبة منها أو البعيدة….
فالخطأ كل الخطأ أن تقرأ نصا تراثيا ، أو تحقق هذا النص ، أو تقارب هذا النص من احد جوانبه ،او في احد مكوناته من دون استحضار قبلي لهذه التداخلية التي كانت قائمة بين العلوم، والحاضرة بقوة ، في العلوم التراثية ، وبشكل جلي خاصة في علوم التراث العربي الإسلامي…
-د-نموعلوم في احضان علوم اخرى:
ومما يثير الباحث،وهو يستحضر ويتابع أثار هذا التداخل أن كثيرا من العلوم نضجت وتطورت في أحضان علوم أخرى خاصة العلوم التي يجمعها وحدة الموضوع ،وتشترك في وحدة الهدف والغاية. فعلم البلاغة وعلم اللغة وعلم النحو من العلوم التي نضجت ونمت وتطورت في أحضان علم التفسير.فكتب التفسير حافلة بمباحث اللغة و علم الدلالة.28 فهذا العلم اعني التفسير، فقد اجتمع فيه من العلوم ما تفرق في غيره. وهو ما يفسر لنا أن عددا من المفسرين كانوا علماء لغة وبلاغة مثل الإمام الزمخشري، والإمام الراغب الأصفهاني ، والإمام السمين الحلبي ،والإمام الفيروز أبادي والإمام فخر الدين الرازي والإمام القرطبي والإمام ابن عطية الغرناطي ،والإمام اليضاوي، الإمام ابن العربي الاشبيلي الأندلسي والإمام أبو حيان الأندلسي….. ويعد علم أصول الفقه من ابرز العلوم التي شكلت محورا تقاطعت فيه مجموعة من العلوم حيث وظفت فيه عدة معارف ،واستثمرت فيه عدة مفاهيم مما أهله لان يكون علما جامعا بين العلوم النقلية و العوم العقلية ،وبين علوم الفهم وعلوم الاستدلال وعلوم الشريعة وعلوم النظر…… …
-4-تصنيف العلوم:
فمن ابرز أ ثار هدا التداخل ، في التراث العربي الإسلامي، ظهور علم جليل يسمي بعلم تصنيف العلوم،وهو علم يعني بتصنيف العلوم،وترتيبها من حيث الأهمية ،والمرجعية ، والمكانة ،والفائدة ، والوظيفة التي تؤديها بين العلوم .ومدى خدمتها للعلوم الأخرى ،و هدا التصنيف ،هو مؤشر على مدى ترابط العلوم في ما بينها ،وتناسق مكوناتها وعناصرها…وتوجهها نحو خدمة القرءان الكريم أساسا …..
من هنا نكشف صراحة ،بأن من أثار هذا التداخل القائم بين العلوم ،أن ظهر علم جليل يشتغل على تصنيف العلوم ،وببين مكانتها ،و ومدى الحاجة إليها…..
وكان من أثارا لاشتغال بتصنيف العلوم ، أن ترتبت على هذا التصنيف عدة نتائج ، منها ،الاعتراف الصريح بقوة هذا التداخل القائم بين العلوم،وهو وصف يعد من ابرز المواصفات الغالبة على العلوم في الحضارة لعربية الإسلامية.29 …
فعلم تصنيف العلوم ،وهو علم يعنى ، بترتيب العلوم ،وتصنيفها ، لتأكيد من مدى وجود ترابط بينها ،والعلاقة التي تربط ا لعلومفيما بينها اوفي بين غيرها من العلوم، . وهدا مؤشرواضح ،و صريح على مدى الترابط القويم ،والقائم بين العلوم..
و من ثم فان من ابرز العلماء اشتغالا على تصنيف العلوم،أبو نصر الفارابي، ت 399في كتابه إحصاء العلوم ، و الخوارزمي ت387ه في كتابه مفاتيح العلوم ، ،وابن النديم ت 438ه في الفهرست.وابن حزم الاندلسي ت426ه في رسالته “في مراتب العلوم .وابن خلدون ت808ه في المقدمة .والإمام ألشاطبي في الموافقات.وابن رشد الحفيد في كتابه |”الضروري في صناعة النحو”… 30.
-5عواقب عدم تمثل اثار التداخلية بين العلوم:
وكان من أثار هده التداخلية ، أن عدم تمثل هذه العلاقة التداخلية بين العلوم ،أن كثيرا من الوهن والضعف والسقوط المنهجي اعترى ، وأصاب بعض العلوم .فقد عاتب ابن جزي الكلبي في مقدمة تفسيره ، بعض المفسرين لأنهم تغاضوا، واغفلوا علم أصول الفقه ، وجهود الأصوليين في التفسير .ولم يستحضروا في مباحثهم وفي سياق تفسيرهم للقرءان الكريم خاصة ،ما تعلق بالقواعد اللغوية المخصصة للتفسير عامة ، وتفسير النص القرءاني خاصة …. 31.
وهذا العتاب ،يعود بالأساس إلى الصلة القوية القائمة بين علم أصول الفقه والتفسير. فكلاهما يشتغل على محور التفسير، و على تمثل المعاني، واستمداد الدلالات اللغوية ، المحمولة في النص القرءاني. 32.من هنا فان الضرورة المنهجية ، و العلمية ملزمة للمفسر، والقارئ في أن يستعين بجهود الأصوليين، و يستحضر بحوثهم ، و يستأنس باجتهاداتهم ، واختياراتهم في قراءة النص الشرعي ، وتفسيره ،وان لا يتغاضى عن هذه الجهود في كل عمل اتصل بقراءة النص …….
و في نفس السياق ألح ابن جزي الكلبي في مقدمة تفسيره التسهيل على ضرورة انفتاح المفسر على علم أصول الفقه، خاصة،ما كان من قبيل القواعد المخصصة للفهم والتفسير، والتأويل. فقواعد هذا العلم آليات معينة، ووسائل مساعدة على الفهم والتأويل والنظر في النص . 33لأنها قواعد وضعت أساسا لضبط فهم وتسديد التأويل….
والسبب في المراهنة على علم أصول الفقه، من حيث هو يتوخى فهم النص، يعود إلى مراهنة علماء الأصول على اللغة العربية ،واستثمارهم لمباحثها من اجل ا استنباط أصولهم و استمداد قواعدهم اللغوية المتعلقة بالتفسير، والبيان. لان الأصل في الاستدلال من اجل تفهم النص هو اللغة. ومن ثم فإن أساس البناء الأصولي قائم على العلم باللغة العربية في جميع مستوياتها ومكوناتها .لأنها عبارة عن منهج للفهم والتفسير… 34.
-5-تجليات التداخليةفي العلوم:
1- علم الكلام :
يعد علم الكلام من العلوم التي نشأت في الحضارة الإسلامية ،لأسباب اقتضاها المسار الثقافي والحضاري لهذه الحضارة، خاصة في تفاعلها مع الحضارات الأخرى ، الوافدة ، والدخيلة على الإسلام خاصة ،وكانت الغاية من هذا العلم هو الدفاع عن العقيدة الإسلامية، وإبطال أقاويل الخصوم ،ولا أدل على ذلك من هذا التعريف الذي جاء في كتاب إحصاء العلوم للفارابي إذ عرف هذا العلم بأنه: ” صناعة علم الكلام ملكة يقتدر بها الإنسان على نصرة الأفعال المصرح بها واضع الملة ،وتزييف كل ما خالفها من الأقاويل ” 35.
وهو التعريف الذي اختاره أبو حامد الغزالي إذ عرف علم الكلام بأنه: ” حفظ عقيدة أهل السنة،وحراستها من تشويش أهل البدعة …” 36.
و هذه التعاريف رغم اختلافها ، فإنها تشترك في البعد الدفاعي ، والحجاجي لهذا العلم،ومن هنا اختار ابن خلدون في المقدمة ن وقرر أن يعرف هذا العلم بقوله:”علم الكلام هو علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية،بالأدلة العقلية ،والرد على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف…” 37..
وهو من العلوم التي جسدت مشاغل الحضارة الإسلامية في تفاعلها مع الحضارات الأخرى…وهو من العلوم المتأخرة في النشأة، كما قال الفارابي في كتابه الحروف ،لان الحاجة إلى الدفاع عن العقائد في وجه الخصوم، لم تكن قائمة في بداية الإسلام ، ،وإنما نشأت الحاجة إليه ، بعد امتزاج حضارة الإسلام مع الحضارات الأخرى ، و بعد أن تداخلت الحضارة الإسلامية بغيرها من الحضارات والثقافات الأخرى ،التي حملت كثيرا من عقائدها ،وثقافاتها ، وأفكارها إلى الحضارة الإسلامية…. 38.
واختار الدكتور طه عبد الرحمان أن يصفه ،و أن يسميه بعلم المناظرة العقدي ،لانه يحمل الصفة الحجاجية في بنائه …39 .وهو ما جعله يستفيد من مباحث المناطقة المسلمين.. 40.ومن حيث تسخيره لآليات الحجا جية الحاضرة في علم المنطق . فهو من العلوم التي تأثرت،بغيره من العلوم ، وأثرت على غيره من العلوم الأخرى،لان كان هوا لعلم الأصل، بحيث كان ينعت بأصول الدين….والعلوم الأخرى كانت فروعا له، وهو ما جعل البعض ينعتها بعلوم الفروع….فهواصل لعلم الأصول ….
2-علم اصول الفقه:
يعد علم أصول الفقه من أهم العلوم التي جسدت مبدأ التداخل ،و التواصل ،والتكامل بين العلوم,والسبب يعود إلى نسقية هذا العلم،ومعيارته في بناء القواعد ، وتشييد الضوابط وصناعة الاستدلالات ،وتركيب البراهين ،.ذلك أن علم أصول الفقه هو في بنائه العام ” يظهر بمظهر نسق من العلوم. لم تدخل فيه شعب العلوم الإسلامية ،وحدها.بل دخلت فيه أيضا العلوم العقلية المنقولة والدخيلة،على الثقافة العربية الإسلامية، والوافدة عليها ، من ثقافات أخرى… 41.
وقد تحدث ابن خلدون في المقدمة عن علم أصول الفقه فقال” اعلم أن أصول الفقه من أعظم العلوم الشرعية واجلها قدرا ،وأكثرها فائدة،وهو النظر في الأدلة الشرعية،من حيث تؤخذ منها الأحكام،…”. 42..
واعتبره ابن خلدون علم أصول الفقه ، من العلوم المستحدثة في الملة، حيث لم يكن المتقدمون في حاجة إليه…وإنما نشأت الحاجة إليه بعد فساد الألسنة ،واختلاط المسلمين بغيرهم من أهل الديانات الأخرى…
وهو علم منهجي كاشف لطرق الاستدلال، ومسدد لفهم النصوص الشرعية،فهو يعكس مدى اشتغال علماء الإسلام بالمسالة المنهجية في العلوم، وعنايتهم البالغة بالعلوم في مستواها المنهجي، حيث كان لكل علم منهجه الخاص به، المميزله…. 43
-موضوع علم أصول الفقه:
إن علم أصول الفقه من حيث علم مركب من مجموعة من العلوم ، فان موضوعه العام ،والأساسي هو الاستنباط ،والاستدلال على الأحكام الشرعية ،واستجلاء دلالة الخطاب.وهذا العمل لا يتأتى إلا بفهم النص الشرعي ،فهما سليما ،ومنضبطا تقره ضوابط اللغة العربية في الأداء، والإبلاغ ،وتشهد له أعرافها ،و وتؤسسه أصولها ، وسننها في التعبير، والأداء ،والإبلاغ…
ولقد قرر اللغويون ،وعلماء الأصول، أن سبب الخطأ في العلوم الشرعية وعدم إدراك معاني الوحي إنما يعود، ويرجع إلى ضعف الاهتمام باللغة العربية، والقصور في امتلاك ناصيتها ، و عدم التمكن من علومها، المتفرعة عنها ،او المركبة لها . يقول ابن جني العالم اللغوي في هذا الموضوع :”وذلك أن أكثر من ضل من أهل الشريعة عن القصد فيها، وحاد عن الطريقة المثلى إليها، فإنما استهواه ،واستخلف حلمه ضعفه في هذه اللغة الكريمة الشريفة”( 44)….
ومن هنا وجب الإقرار، والاعتراف، بأن التلقي السليم للنص الشرعي ،على ضوء قواعد التفسير،المستمدة من اللغة العربية، من شانه أن يساعد على التلقي السليم للنص القرءاني ، ويحافظ على مقصديته.التي من اجلها نزل. ولان هده القواعد آليات مساعدة، و أصول معينة على اكتساب المعنى في النص…
من هنا فقد أراد لعلم أصول الفقه ، مؤسسه الإمام الشافعي ت204ه أن يكون علما مسددا ، وخادما لفهم النص ،ومعينا على الاستدلال للأحكام الشرعية ، انطلاقا من تفهم النص .فهو منهج قائم بذاته ،جامع بين النقل والعقل ،وبين النص والاجتهاد… فهو يزاوج بين الرأي والنص.ويستمد مكوناته ومرجعياته من مجموعة من العلوم التي تشاركه ، وتتقاسم معه الموضوع.وتتداخل معه في المنهج، وتشترك معه في الجهاز المفاهيمي…
من هنا نقول أن علم أصول الفقه الذي يظهر بمظهر نسق من العلوم، لم تدخل فيه شعب العلوم الإسلامية وحدها. بل دخلت فيه أيضا مجموعة من العلوم العقلية المنقولة من الثقافات ،والحضارات الأخرى والتي لها قرابة معرفية ،أو صلة منهجية مع علم أصول الفقه…..” 45….
ولقد رد الدكتور طه عبد الرحمان بقوة على من استصغر هدا العلم، أو هو قلل من شانه أومن قيمته العلمية ،لان القضايا والمباحث والإشكاليات الكبرى ،التي استحضرها علماء هدا العلم ،لا يستطيع استحضارها الباحثون اليوم….
كما اعتبر الدكتور مهدي فضل الله ،ان علم أصول الفقه ، منهج دقيق .انه منهج لا يعادله منهج أخر ، في دقته وتماسكه ، ومرونته ،وقدرته على الخوض في مختلف موضوعات الشريعة ،والوصول فيه إلى حلول اجتماعية إنسانية….. 46.
– مراحل علم أصول الفقه:
– لقد ذكر ابن خلدون في سياق حديثه عن علم أصول الفقه ،بان علم أصول الفقه ، مر بعدة مراحل، وقطع عدة أشواط .ويمكن التمييز بين مرحلتين أساسيتين في تطور هدا العلم :
1-مرحلة الإمام الشافعي ، حيث كانت مباحثه مركبة من العلوم الأصلية ، الم صولة،غير الدخيلة ،ولا يتألف من العلوم المنقولة ….
-2 -مرحلة الإمام الغزالي ت505ه ،وتعد هده المرحلة من ابرز المراحل التي قطعها هدا العلم في مساره التاريخي ، وفي تطوره ،وفي تداخله، وامتزاجه مع علم المنطق.
لقد مثل الإمام ا الغزالي في المشرق، الريادة ، والأسبقية في تداخل علوم الشريعة مع علم المنطق .حيث ذكر نجم الدين الطوفي الحنبلي في شرح مختصر الروضة أن الريادة هي للإمام الغزالي في إدراج، وإدخال المنطق إلى علم أصول لفقه، بحيث اعتبر الإمام الغزالي الممارسة المنطقية ممارسة ضرورية لمتعاطي علم أصول الفقه….و اعتبر المنطق وممارسته ، ليست من جملة علم أصول الفقه،ولا هي من مقدماته ،بل هي مقدمة لكل لعلوم… 47.
كما مثل ابن حزم الأندلسي في الأندلس ،و في بلاد ا لمغرب ، هدا التداخل والتقارب بين علمي أصول الفقه ،وعلم المنطق….
وتبقى مساهمة الإمام الغزالي مساهمة رائدة في بابها ، بحيث إن أبا حامد الغزالي ادخل المنطق إلى العلوم الإسلامية ، وألزم على مفكري الإسلام مدارسته ،والتمكن منه ـ وعلل حضور المنطق في التداول العربي الإسلامي ، بان الاستدلال في الفقيهات لا يباين الاستدلالات في العقليات . بل بين أن هناك انسجاما، وتوافقا ، وتكاملا بين الاستدلال البرهاني .والاستدلال الفقهي…..
كما كشف عن الحاجة إلى المنطق من خلال بيان حقيقة المنطق التي حددها بقوله :”علم المنطق هو القانون الذي به يميز صحيح الحد والقياس ، من فاسدهما ، فيتميز العلم اليقيني مما ليس يفينيا ،وكأنه الميزان،زالمعيار للعلومكلها…”.48
و تعد هده المرحلة التي حضر فيها المنطق بجانب علم أصول الفقه سواء مع الغزالي، أو مع ابن حزم . من ابرز المراحل في تاريخ المنطق . حيث اكتسب المنطق المشروعية، والحضور العلمي ، والفعلي المتميز بين المعارف الإسلامية.. 49.
و شكل الجانب المنهجي للمنطق أهمية خاصة لهذه المرحلة، من حيث حضوره بين العلوم .و يقوم هدا الحضور على استثمار نتائج علم المنطق ،وبحوث علماء المنطق ، وتوظيفها ،في معرفة أشكال الاستدلال على الأحكام الشرعية، المستنبطة من النصوص الشرعية ،.وهو ما يفسر لنا حضور الدرس المنطقي بين الأصوليين بشكل كبير خاصة مع علماء الأصول الذين عاشوا في القرن الخامس الهجري .واطلعوا على التراث المنطقي اليوناني سواء في مظانه الأصلية ،أو المؤلفات المترجمة ،… 50.
-الحاجة إلى علم أصول الفقه: من حيث هو علم تؤخد منه ا لاحكام…
حدد ابن خلدون قيمة هذا العلم فقال :”اعلم أن علم أصول الفقه ،من أعظم العلوم الشرعية ، واجلها قدرا ،وأكثرها فائدة. فهو النظر في بناء الأدلة الشر عية، من حيث تؤخذ منها أدلة الشرعية….” 51.
فقد كانت الحاجة إلى هدا العلم ضرورية، سواء في بناء الاستدلالات ،أوفي تقعيد القواعد، من اجل استنباط الأحكام الشرعية ، وتنزيلها على أفعال المكلف ،وهو ما جعل علماء الإسلام يتجهون إلى هذا العلم، ويطورون من مباحثه، ويوسعون من محاوره المشيدة له ، خاصة الكبرى ،و أنساقه الأساسية…52 .علما أن المحور المشيد، والغالب لهذا العلم هو منطق الألفاظ ،ودلالتها على المعاني ،وعلاقتها بعضها مع بعض،إضافة إلى القواعد الأصولية، ذات المنزع اللغوي ،التي تعد من تجليات هدا المنهج الدقيق….سواء في تسديد الفهم في النص لشرعي ، أو في استنباط الأحكام الشرعية…..
ان تبرير ابن خلدون لحضور المباحث اللغوية في كتب الأصول ، يعود إلى أن القرءان الكريم ،هو نص كتب بالغة العربية وبأسلوبها وقع فيه التخاطب ،فهو حامل لأعلى مستويات الانجاز اللغوي،وهو ما يلزم معه استحضار ما له صلة بمجال التركيب المعجم التصريف ، دون أبعاد البعد السياقي في النص القرءاني…” 53.
أما الريادة، والأسبقية في هذا العلم. فقد جعلها ابن خلدون ،ونسبها في مقدمته إلى إمام الحرمين الجوييني صاحب البرهان ، والى الإمام الغزالي صاحب المستصفى، و الإمام القاضي عبد الجبار الهمذاني ، الاسدابادي صاحب العمد ،و إلى الإمام أبي الحسين البصري المعتزلي صاحب كتاب المعتمد … …54 .
فهدا العلم، قد اكتمل ،واستوي” مع هؤلاء الأئمة الأربعة خاصة.وكل الذين جاؤوا بعدهم ،هم كانوا عيالا عليهم… 55.
قال في المقدمة :”إن من أحسن ما كتبه المتكلمون في أصول الفقه كتاب “البرهان” لإمام الحرمين الجويني و “المستصفى” للغزالي، وهما من الأشعرية.”، واعتبرهما ضمن الكتب الأربعة التي تعدّ قواعد هذا الفنّ وأركانه. ……
، أما الإمام بدر الدين الزركشي في البحر المحيط ، فانه اختار مسلكا أخر،في بيان العلماء الدين اشتغلوا على التصنيف في علم أصول الفقه ،فانه اختزل هذه الريادة ،والاسبقية ، في شخصيتين اثنتين . قال في البحر :” وجاء من بعدهم ـ أي الشافعي والصدر الأول ـ فبينوا وأوضحوا، وضبطوا، وشرحوا، حتى جاء القاضيان، قاضي السنة أبو بكر بن الطيب، وقاضي المعتزلة عبد الجبار، فوسعا العبارات وفكا الإشارات، وبينا الإجمال، ورفعا الإشكال، واقتنع الناس بآثارهم، وساروا على أخذ نارهم، فحرروا وقرروا، وصوبوا وصوروا فجزآهم الله خير الجزاء ومنحهم كل مسرة وهناء ” 56 .
-تركيب واستنتاج
إن مفهوم التداخلية بين العلوم ، كان من ابرز المفاهيم التي يجب الاستعانة بها في قراءة التراث العربي الإسلامي، آو في فهم الآليات المنتجة لهذا التراث ، أو في تمثل المفاهيم الحاضرة في هذه الآليات ، سواء في المضامين ا لكبرى، لهذا التراث ،أو في المحتويات المركبة له.
ومن ثم فان في أية مقاربة لهذه المضامين ،أو في المحتويات المركبة للنص التراثي في بنائه الداخلي ،أوفي بنائه الخارجي،فانه يجب استحضار هذا المعطى العلمي التداخلي الحاضر في العلوم التراثية ،الذي كان قائما ، وحاضرا بين العلوم .فهو حاضرا بشكل جلي في النسقية المشيدة لعلوم التراث العربي الإسلامي .
وهذا التوجه القائم على تأسيس العلوم على البعد التداخلي . هو الذي استقر عليه الباحثون مؤخرا ،في مدارستهم،للتراث، و في مقاربتهم للتراث العربي الإسلامي…..
الهوامش:
-يراجع : منهجية التكامل المعرفي:مقدمات في المنهجية الإسلامية للدكتور حسن ملكاوي.منشوران المعهد العالمي للفكر الإسلامي: “2012.
– يراجع :مكانة العلم في الثقافة العربية للدكتور سالم يفوت .دار الطليعة بيروت.2006.
– مراتب العلوم لابن حزم الأندلسي : 4/89.
-هده العبارة تكررت عند الدكتور طه عبد الرحمان
-تجديد المنهج في تقويم التراث :12
-تجديد المنهج في تقويم التراث:76.
– مشروعية المنطق للدكتور طه عبد الرحمان .ع1-س1-1989.ص:92..
-يراجع دراستنا :الدرس المنطقي في التراث العربي الإسلامي،الفصل الخاص الحاجة إلى المنطق.
-تأريخ المنطق عند العرب .للدكتور محمد مرسلي .ضمن كتال : كيف نؤرخ للعلم.العدد:58.السنة:1996.
-المعنى في تفسير الطبري :22
– يراجع: دراسة الطبري للمعنى من خلال تفسيره جامع البيان. للدكتور محمد المالكي: ص :21 وهو من منشورات وزارة الأوقاف المغربية.2000.
-مقدمة كتاب التسهيل لعلوم التنزيل :1/5
– جهود الطبري في دراسة الشواهد الشعرية للدكتور محمد المالكي:12.منشورات كلية الآداب فآس المغرب :1994 .
-يراجع : مقدمة في المنهج للدكتور ة عائشة عبد الرحمان بنت الشاطئ.المقدمة
–نظرية العبور في العلوم الإسلامية:9
-نظرية الاعتبار في العلوم الإسلامية للدكتور عبد الكريم عكيوي:10.منشورات المعهد العالمي للفكر الإسلامي السنة :2008.
-مقدمة كتاب : انتقال النظريات والمفاهيم :76 منشورات كلية الآداب الرباط العدد رقم :67.
-للوقوف على مفاهيم الأصوليين،في انتقالها إلى علماء اللغة. يراجع دراسة :تمام حسان في كتابه الأصول.
-المفاهيم الرحالة من علم إلى أخر لمحمد حمدوش . ضمن ندوة : قضايا المصطلح في الآداب والعلوم الإنسانية.العدد:12.السنة:2001.
-مفهوم المصطلح ووظائفه للدكتور عز الدين البوشيخي.ضمن أعمال ندوة : المدخل إلى الدراسة المصطلحية.الشارقة المنتدى الإسلامي ماي 2013.
-يراجع مداخلتنا :الدرس المصطلحي عند الأصوليين .مداخلة قدمناها إلى مؤتمر الدراسات المصطلحية الذي انعقد بكلية الآداب بسطيف بنعمر :2012.
-انتقال المفاهيم والنظريات .مداخلات ندوة كلية الآداب الرباط .المغرب
-تجديد المنهج في تقويم التراص :90
-انتقال المفاهيم من علم الكلام إلى علم أصول الفقه.محمد بنعمر مداخلة شاركنا ببها في أعمال ندوة تراث الغرب الإسلامي في علم الكلام..مركز الدراسات ولبحوث 14-15-وجدة المغرب.
-يراجع رسالتنا الجامعية : ابن جزم وراؤه الأصولية .كلية الآداب ظهر المهراز فاس المغرب.
-يراجع ندوة :قضية التعريف في الدراسات المنطقية .مشورات كلي الآداب بوجدة المغرب .العدد:13-
-تكوين العقل العربي للدكتور محمد عابد الجابري:55.كما كانت هذه المناظرة موضوع أطروحة الدكتور طه عبد الرحمان التي قدمها إلى جامعة السربون وحللها بشكل مستفيض….
–18من قبيل ذلك : ابن العربي المعارفي الأندلسي مفسرا لغويا للأستاذة موسي عائشة رسالة مرقونة بكلية الآداب وجدة المغرب. ا لمباحث اللغوية والنحوية في بصائر ذوي التمييز للدكتورة :وفاء عباس الدليمي جامعة بغداد :2000.-البلاغة القرءانية في تفسير الزمخشري لدكتور محمد أبو موسى. وقد تابع الدكتور مساعد الطيار حضور اللغة في كتب التفسير في أطروحته الجامعية الموسعة :التفسير اللغوي للقرءان الكريم دار ابن الجوزي 1422ه. وأطروحة :قضايا اللغة في كتب التفسير: المنهج، التأويل، الإعجاز، تأليف: د. الهادي الجطلاوي.التفسير اللغوي للقرءان الكريم في لسان العرب.للدكتور حسن المشهداني دار اليمان مصر 2012.
-التداخل بين العلوم الإسلامية للدكتور ميمون بريش.مجلة بصائر الرباط العدد4- السنة :2007.
– تصنيف العلوم عند العلماء المسلمين: 41
– مقدمة تفسير ابن جزي الكلبي المسمى التسهيل :1/3
– يراجع أطروحة الدكتور فهد الوهبي :المسائل المشتركة بين علوم القرءان وعلم أصول الفقه وهي رسالة جامعية.
-نفسه.
-الدرس اللغوي عد ا لأصوليين لمحمد بنعمر:25
-إحصاء العلوم للفارابي :131.
-المنقذ من الضلال :16.
-المقدمة لابن خلدون:400
-كتاب الحروف للفارابي :129.
-في أصول الحوار وتجديد علم الكلام لطه عبد الرحمان :8
– أصول الفقه عند ابن الفرس ومنهج إعماله في التفسير من خلال كتابه أحكام القرآن “،ي تقويم التراث:269.
-تجديد المنهج في تقويم الثرات :23
-المقدمة :583.
-نظرية الاعتبار في العلوم الاسلامية:9
-الخصائص لابن جني :3/345
-تجديد المنهج في تقويم التراث:32
العقل والشريعة للدكتور مهدي فضل الله:13.
– شرح مختصرا لروضة: 100.
-محك النظر:6
-يراجع الفصل المخصص للمنطق في المقدمة :
-للوقوف على هذه العلاقة الجامعة بين علم أصول الفقه والمنطق يراجع :المنطق وفقهاء الغرب الإسلامي للدكتور ميمون بريش.رسالة جامعية مرقونة بكلية الآداب الرباط.يراجع :كتابنا : ابن حزم وآراؤه الأصولية حيث خصصنا جزءا موسعا لإبراز هذه العلاقة بين العلمين.كما اصدر مركز نماء دراسة بعنوان:علاقة أصول الفقه بعلم المنطق للدكتور وائل بن سلطان الحارثي سنة 2012.ومن الدراسات الجادة في الموضوع أطروحة الدكتور عباس ارحيلة” الأثر الأرسطي في البلاغة والنقد .وقد صدرت عن منشورات كلية الآداب الرباط.
-المقدمة:585.
-الفارابي ونسق العلوم في الثقافة الإسلامية للدكتور محمد وقيدي. مجلة دعوة الحقالعدد:364.السنة:2002.
-ع:52.-2008.ملامح التفكيرالتداوليوالبيانيعند الاصوليين.
-مشروعية المنطق للدكتور طه عبد الرحمان. مجلة المناظرة ا لعدد:1.السنة :1998.
– المقدمة :422
-مقدمة البخر المحيط:1/22
اترك رد