هلْ بعد هَذا الشَّرّ من خَير؟

الخيرُ والشرُّ قوام المجتمع الإنسانىّ ، وبدونهما تستحيلُ حركة الحياةِ وتتعذَّر ، فالخير لا يُعرف إلا بالشَّر ، والشَّر لا يتميَّزُ إلا بالخير ، فهما اسمان كسنّة مضطردة ، وصفتان باقيتان متصارعتان لكل منهما أتباعه ومريدوه .
وقد يظنُّ بعض الناس أنَّ الخير قد نفذ ، وأنَّ الشرّ قد غطَّت غيومه سماء المعمورة ، وقد يتسرَّب اليأس إلى نفوسهم خاصَّة بعدما رأوا من حرق للإنسان وهو على قيد الحياة ، وقد يخطر على بال بعضهم أن يقف لحظة ليسأل نفسه والناس من حوله : هل بعد هذا الشرّ من خير ؟
ويمكننا القول : إنّ الخير والشر متعاقبان كسنة مضطردة ، فالمستقرئ للتاريخ يرى ذلك متجسمًا في سيادَة ِالشَّرِّ قبل النبوة ، ثم سيادة الخير بعدها ، فالخير كائن حتى يأتى أمر الله ، والإسلام محفوظ بحفظ الله له ، ولا يزال الناس يذبّون عن دينِ الله تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجَاهلين ، ويحمُونه ممَّا يحوم حول حماه .
وهذا ما نجده في الإشارة النبوية في حديث حذيفة بن اليمان – رضى الله عنه – إذ قال : كان الناس يسألون رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن الخير ، وكنتُ أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلتُ يا رسول الله : إنَّا كنَّا في جاهلية وشرّ فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير شر ؟ ، قال: نعم ، فقلتُ :هل بعد ذلك الشرّ من خير؟ قال : نعم ، وفيه دخَن ! ، قلت : وما دخَنه ؟ قال : قوم يستنّون بغير سنّتي ويهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر، فقلتُ : هل بعد ذلك الخير من شرّ؟ ، قال : نعم ، دعاة على أبوابِ جهنّم من أجابهم إليها قذفوه فيها ، فقلتُ يا رسول الله صِفهم لنَا؟ ، قال : نعم ، قوم من جلدتنا ويتكلمُون بألسنتنا ، قلتُ يا رسول الله : فما ترى إن أدركني ذلك ، قال : تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، فقلتُ : فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام ، قال : فاعتزل تلك الفرق كلّها ، ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك ” ( متفق عليه ) .
والدَّخَن- بفتح الدال المهملة والخاء المعجمة – كما ذكر أبو عبيد وغيره : أصله أن تكون في لون الدابة كدورة إلى سواد ، قالوا : والمراد هنا ألا تصفُو القلوب بعضها لبعض ، ولا يزول خبثها ، ولا ترجع إلى ما كانت عليه من الصَّفاء .
نعم ، هذه الفرق الضالة ” دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها ” قال العلماء : هؤلاء من كان من الأمراء يدعو إلى بدعة أو ضلال آخر كالخوارج وأصحاب المحنة ، وما استجد الآن كداعش .

إنَّ السموم الفتَّاكة التى أنهكت قوة المسلمين ، وشلّت حركتهم ، ونزعتْ بركتهم ، ليستْ قنابل أو مدافع الكفر التى اجتمعت على الكيد للإسلام وأهله عبر كلِّ زمان ومكان ، وإنما هى الجراثيم الخبيثة التى تسللت إلى داخل كيان الأمة الإسلاميّة على فتراتٍ بطيئة ؛ لكنها متوالية ، وأكيدة المفعول .
وهذه البكتريا والفيروسات التى نمتْ وترعرعتْ في أحضان ومحاضن الدولِ المخرِّبة ، وشربتْ من لبانهم حتَّى الثُّمالة ، هى التى نراها الآن تعثُوا فسادًا في أرضِ الفيروز ، وتروّج إعلاميًّا ، وقد فرحت بحرقِ الأسير الأردنى .

ليس هناك ثمّت شكّ أنَّ هذا الشر يعقبه الخير بإذن الله ، فهذه التنظيمات الإرهابية التى تأتى الشَّر من أوسع أبوابه وتستحلّ القتل ، لا شكَّ أنّها تنظيمات مجرمة ذكيَّة ، يؤمن أصحابها أنَّهم لن يهزمُوا دون خسائر كبيرة في صفوف الخصوم ، وتدركُ – أيضًا – أنَّها لا تستطيع الانتصار على جيشٍ منظَّم ، أو جيوشٍ متحالفة ؛ لذا فإن غايَة ما يفعلونه جريمة فردية بشعة مثل حرق الطيار الأردنى الأسير ، أو نحر الرهينتين اليابانيين ، بيد أنّهم يستعينون على ترويج وحشيتهم بالإعلام ، فيصوّرون شرَّهم وجرائمهم ويقدمونها بإخراجٍ وتقنية عاليين؛ لتكسب مشاهدة فتثير الرعب بين الناس من” داعش ” وجنُوده الذين لا يقدرون أن يتقدَّموا إلى إسرائيل حتَّى ولو أَحرقت فلسطين كلها .
وممّا يؤسفُ له أنْ يصرَّ بعضُ الإعلاميين على تسميةِ هذا الشّرّ باسم الدولة الإسلامية ، وقد يتعلَّل بعضهم بأنَّ ذلك من المهنيةِ ، وهو لا يعلم أنَّه يتَّهم الإسلام بجرائم عصَابات لا تعى عظمة الإسلام وتاريخه المشرّف في الحرب قبل السلم ، ويبثون هذه الصور الناقلة لكل الدماء
المسفوكة باسم الدين، وبصورة توغّلت في البشاعة حتى قال الناس : أبعد هذا الشر من خير ؟ .
والحياد يستلزم منا ألا نسمّى هذا الشر ” داعش ” بالدولة الإسلامية ، فمن الذى منح هذا التنظيم الإجرامى أن يكون الدولة الإسلامية ويتسمّى بالإسلام ، والإسلام من أفعالهم براء .
ولا توجد جملة يمكن لها الإحاطة بالفعل الوحشىّ الذى أقدمت عليه ” داعش ” ، والإمعان في الوحشيّة بحرق الأسير حيًّا ، هذا الشر وهذه البشاعة يتم ّتصديرها للعالمِ بلباسٍ دينىٍّ – وعبر التاريخ لم يتمّ تشويه الدين الإسلامىّ كما يحدث الآن -، ومهما حاول البعض تبرير هذا الشرّ وتغطيةِ هذه الدمويَّة بأنَّ تلك الأفعال تخلقُ مراجعة لدى الغربِ وتدفعُ بالكثيرين إلى التفكير في الدين الإسلامىِّ ، ، فهى تغطيةٌ مكشوفةٌ لأناسٍ استملحُوا هذه الأفعال وسَعوا إلى تزينهَا بأن َّ منتجهَا خلقَ حالةَ تفاعل ودفع الناس للتعرُّف على الإسلامِ ثمَّ الإيمان به .
وهذهِ التركيبة العجيبة من الفعلِ والتبريرِ تقودُ إلى عمقِ حالنا كمسلمين بأنَّنا اقترفنا كثيرًا من المفاهيم الجوهرية للدين ؛ إذْ لا يُمكن لأىّ دين يحثُّ أفراده على اقتراف هذه الدموية من أجل اكتسابِ مناصرينَ أو محبينَ له .
فهل هذا الشر من قتلٍ بشعٍ ومتوحشٍ يَحمل بين طيَّاته رسالة مبطَّنة تريد ” داعش ” منها تحقيق أهداف استيراتيجيّة تحذيريّة للدولِ المتحالفةِ ضدها ؟
ويبدُو لى أنّه سؤال غير مستقيم لأسبابٍ عدَّة أهمهَا غياب القيادة وتحول كلّ فرد إلى قيادى – يشرّع ويُفتى ويَقضى ويُنفّذ – فتعدّد الشر بتعدد الأهواء ، وسَرى شرّهم على الجميعِ سواء أكانوا خصومًا ومتحالفين أو أعضاء من الجماعة نفسِها .
إنّ هذا الشرّ انحراف عن السنة في المنهج ، وانصراف عن السمت النَّبوى في السلوك والعمل
وبهذا يتضح أن الدخَن الذى شابَ الخير ، فكدَّر معينهُ ، وغيَّر رواءه هو القتلُ حرقًا ، و” داعش ” التى أطلّت برؤوسها من أوكار الفكر الضَّال ، فأمعنتْ في الإسلامِ تحريفًا ، وانتحالًا وتأويلًا ، نسأل الله أنْ يعقب هذا الشرّ خيرًا .


نشر منذ

في

من طرف

الكلمات المفاتيح:

الآراء

اترك رد