ناقش الباحث محمد الناسك يوم الإثنين 11 جمادى الأولى 1436/02 مارس 2015 بكلية الآداب والعلوم الإنسانية فاس سايس أطروحة دكتوراه في موضوع القراءات المعاصرة للقرآن الكريم (الجابري نموذج) تحت إشراف الدكتور عبد الله غازيوي ولجنة علمية تتكون من الدكتور عمر جدية رئيسا والدكتور الحسين العمريش عضوا والدكتورة جميلة زيان عضوا وبعد ثلاث ساعات من المناقشة نال الباحث شهادة الدكتوراه في علوم القرآن بميزة مشرف جدا.
تقرير الأطروحة:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أتوجه ابتداء بجزيل الشكر وعظيم الامتنان لأستاذي الفاضل الدكتور سيدي عبد الله غازيوي على ما بذله معي من جهد في سبيل إنجاز هذا البحث وما خصني به من وقت ونصح وتوجيه بصدر رحب وتواضع جم.
كما أتوجه بجزيل الشكر لأعضاء هذه اللجنة المباركة على ما بذلوه من جهد في فحص هذا البحث وتقويمه.
أما بعد:
فقد كثرت في الآونة الأخيرة وانتشرت الأقلام المسمومة التي تطعن في الدين تلميحا وتصريحا بتحريف معانيه، وقلب مقاصده، ومحاولة فهمه على غير مراده، وتجزيء أحكامه بقصد التشويه، وعدم رد الجزئي إلى الكلي، وقد جاء هذا الفعل في بعض الأحيان من كتاب كبار في نظر كثير من الناس، ولكن ليس لهم حظ من العلم الشرعي، فوقعوا في أخطاء، واقترفوا خطايا لا يقترفها مسلم عامي، مدفوعين في ذلك بما يحملون من رواسب الثقافة الغربية التي تشبعوا بها، وبصراعها المرير مع كل ما ينتمي إلى الدين، رغم إقرارهم صراحة بوجود مزايا وخصائص في دين الإسلام لا توجد في غيره من الأديان، فالثورة الفرنسية ما قامت إلا عندما ضيقت الكنيسة على العلماء واضطهدتهم وسفكت دمائهم بينما في الإسلام, كما يقول محمد أركون: »لا يبدو أن البحث العلمي واجه عقبات دينية في الميدان الإسلامي. لقد دعا القرآن الكريم المؤمنين، بإلحاح، إلى ” تأمل ” العوالم المخلوقة، ليدركوا مدى عظمة الله وقدرته. فالمعرفة العلمية، للطبيعة والنجوم والسماوات والأرض والحيوان والنبات، توطد بلا ريب الإيمان، وتنير إشارات القرآن الرمزية1[1]…وتوقف حركة المعرفة العلمية هذه كتوقف الفلسفة، ليس مردها إلى رقابة لاهوتية شبيهة بالسلطة العقائدية المسيحية، بل إلى تطور الأطر الاجتماعية، والسياسية للمعرفة في مجموع العالم الإسلامي، بدءا من القرنين الحادي عشر والثاني عشر2 « [2]. كما أنهم يعلمون أن الحضارة الغربية قد وصلت حد التخمة في الحريات والحقوق، مقابل فراغ روحي قاتل، وغياب تام للحديث عن الآخرة، مما جعل »الكثير من الغربيين يعتنقون الإسلام بواسطة الصوفية، أو ما يقد لهم بمثابة الصوفية. وهذه ظاهرة نفسية وثقافية معقدة تستحق أن تدرس على ضوء ملل بعضهم من المجتمع الغربي الذي يعتبرونه باردا، عقلانويا، ماديا، لا مثل أعلى له 3« [3].
هؤلاء الكتاب الكبار ومع كل تناقضاتهم لهم مكانة كبيرة بين عدد من المثقفين الذين يأخذون كلامهم على أنه حق وصدق، بل لا سبيل إلى دفعه بغيره، فآفة الناس قديما وحديثا أنهم متى عظموا شخصا لم تظهر لهم أخطاؤه، ولم ينتبهوا لعيوبه وقديما قيل :
وعين الرضى عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا
ولذلك وجب التنبيه على تلك الأخطاء، وإظهار تلك الخطايا، ليس تنقصيا لأحد، حاشا لله– بل نسأل الله تعالى الهداية لجميع خلقه – ولكن إحقاقا للحق، وقياما بالواجب الشرعي المنوط بكل مسلم في الدفاع عن دينه حسبة لله جل وعلا .
وقد عكفت مدة من الزمان على قراءة بعض ما كتب في هذا الباب، مع تركيز شديد على ما كتبه كل من محمد أركون الذي اشتهر بنقد ” العقل الإسلامي “، ومحمد عابد الجابري الذي اشتهر بنقد ” العقل العربي ” ، وقد كان موضوع البحث هو ” القراءات المعاصرة للقرآن الكريم، أركون والجابري نموذجان ” ولكن بعد جمع المادة العلمية تبين لي أن الموضوع سيكون كبيرا جدا، لأن فكر كل واحد من الرجلين يحتاج إلى بحث مستقل، والمقارنة بينهما قد تحتاج إلى بحث ثالث، ومن ثم قررت الاقتصار على واحد منهما، وفي النهاية استقر رأيي – بعد استشارة الأستاذ المشرف – على عنوان جديد هو : ” القراءات المعاصرة للقرآن الكريم، الجابري نموذج “.
وقد وقع اختياري على الجابري للأسباب التالية :
أولا : يمكن القول إن للجابري مشروعا متكاملا، ففي كتابه مدخل إلى القرآن أثار مجموعة من القضايا التي لها علاقة بعلوم القرآن، وفي كتابه فهم القرآن تعرض ” لتفسير” كل سور القرآن دون استثناء، بينما أركون له قراءات في بعض سور القرآن كالفاتحة والكهف والتوبة…الخ، وأحيانا لآيات من القرآن الكريم.
ثانيا : أركون والجابري ” يختلفان على مستوى المنهج4 [4]“، فالجابري يزعم أنه يعتمد نفس المنهج الذي اعتمده المفسرون القدامى كتفسير القرآن بالقرآن ودلالة السياق…الخ، بينما أركون5[5] يذهب إلى غير ذلك صراحة عندما يقول إن »المنهجيات التي أطبقها على التراث العربي الإسلامي هي المنهجيات نفسها التي يطبقها علماء فرنسا على تراثهم اللاتيني المسيحي أو الأوروبي6 « [6]. بل يدعونا إلى أن »نطبق التحليل الألسني، والتحليل السيميائي الدلالي، والتحليل التاريخي، والتحليل الاجتماعي أو السوسيولوجي، والتحليل الأنتربولوجي، والتحليل الفلسفي. وعلى هذا النحو نحرر المجال أو نفسح المجال لولادة فكر تأويلي جديد للظاهرة الدينية، ولكن من دون أن نعزلها أبدا عن الظواهر الأخرى المشكلة للواقع الاجتماعي – التاريخي الكلي 7« [7]. رغم أن أركون يعترف صراحة بفشل كل هذه المناهج. فأركون يعتقد »بأن العلوم الإنسانية تزعزع أشياء كثيرة وتقدم لنا أشياء كثيرة، ولكن كلما جربتها ومارستها كلما أصبحت حذرا ومرتابا8[8]…نحن واعون، في الواقع، بالنواقص أو نقط الضعف التي تعتري القراءة الألسنية، وبخاصة عندما تطبق على ما يدعى بالكتابات المقدسة. والأمر لا يتعلق أبدا بإخضاع القرآن – أو التوراة، أو الأناجيل – إلى امتحان علم واثق من أسسه وإمكانياته أو وسائله. بل على العكس، فنحن لا نستبعد أبدا فكرة إخضاع الألسنيات المعاصرة إلى امتحان نص يمكنه أن يزعزع الكثير من اليقينيات الدوغمائية 9« [9]. وأنا أجد أن ما ذهب إليه الجابري أقرب إلى مجال اشتغالي.
ثالثا : اشتغال أركون بالبحث في موضوع القرآن الكريم قديم جدا، والردود على ما كتبه كثيرة ومتوفرة، بينما اشتغال الجابري بموضوع القرآن الكريم جديد، والردود عليه قليلة جدا.
أما فيما يتعلق بمضمون هذا البحث المتواضع فقد اشتمل على مقدمة وتمهيد وبابين وخاتمة.
أما المقدمة فقد خصصتها للحديث عن أهمية الموضوع وخطورته وعن الصعوبات التي اعترضت طريقي وخطة البحث التي اعتمدتها.
وأما التمهيد فقد خصصته لإلقاء نظرات على بعض محددات فكر الجابري وتجلياته في مشروعه الفكري الذي عرف به والموسوم بنقد العقل العربي.
وأما الباب الأول فهو في : ” الجابري والتعريف بالقرآن ” وهو متعلق بالأمور التي يمكن تصنيفها ضمن علوم القرآن، وقد قسمته إلى فصول ثمانية :
الفصل الأول : هو ” آراء الجابري حول القرآن الكريم ” وقد قسمته إلى ثلاثة مباحث :
المبحث الأول : هو شبهات الجابري حول جمع القرآن. والثاني : في مواقف بعض كبار المستشرقين من طريقة جمع القرآن. والثالث : في الرد على شبهات الجابري.
الفصل الثاني : هو “حقيقة جمع القرآن كما وردت في المصادر الإسلامية “. وقد جعلته مباحث ثلاثة :
المبحث الأول : في جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والثاني : في جمع القرآن على عهد أبي بكر رضي الله عنه. والثالث : في جمع القرآن على عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه.
الفصل الثالث: هو ” أسباب النزول بين النقل والتخمين ” بينت فيه أن الأصل في أسباب النزول هو النقل، كما بينت فيه خطأ الجابري في القول بأسباب النزول انطلاقا من تخمينات لا دليل عليها.
الفصل الرابع : هو ” النسخ في القرآن بين الثبوت و الإنكار “، بينت فيه أن القول بالنسخ يعتمد على أدلة دامغة لا مجال لإنكارها، وقد جعلته خمسة مباحث : المبحث الأول : في حقيقة النسخ. والثاني : في ضروب النسخ في القرآن الكريم. والثالث : في دعوى الجابري بأنه لا دليل في القرآن على وقوع النسخ فيه. والرابع : في حقيقة آي القرآن وسوره. والخامس : في فهم الجابري لنماذج من الآيات المنسوخة.
الفصل الخامس : هو ” المحكم و المتشابه من سعة الفهم إلى سوء الفهم “، وقد قسمته إلى مبحثين :
المبحث الأول : في مذاهب العلماء في المحكم و المتشابه و تعريفاتهم. والثاني : في رأي الجابري في المحكم و المتشابه.
الفصل السادس : هو ” القصص القرآني “، وقد جعلته أربعة مباحث :
المبحث الأول : في الجابري والتشكيك في حقيقة القصص القرآني. والثاني : في علاقة القصص القرآني بالدعوة المحمدية عند الجابري. والثالث : في الحكم الربانية المبثوثة في القصص القرآني. والرابع : في إنكار الجابري وجود معجزات – غير القرآن – لرسول الله صلى الله عليه و سلم.
الفصل السابع : هو ” تسوية الجابري بين دين الحق وأديان الباطل “، وقد جعلته مبحثين :
المبحث الأول : في تسوية الجابري بين القرآن الكريم والكتب التي سبقته. والثاني : في تسوية الجابري بين دين الإسلام وغيره من الأديان.
الفصل الثامن : هو ” نظرة الجابري للنبوة والأنبياء “، وقد قسمته إلى ثلاثة مباحث :
المبحث الأول : في الجابري ينكر عصمة الأنبياء. والثاني : في تنقيص الجابري لرسول الله صلى الله عليه وسلم. والثالث : في تنقيص الجابري للصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين.
وأما الباب الثاني فهو في : ” منهج الجابري في فهم القرآن الكريم “، وقد بينت فيه مدى التزام الجابري بالمنهج الذي ألزم نفسه به، وجعلته في سبعة فصول :
الفصل الأول : هو ” بدعة الجابري في ترتيب سور القرآن حسب أسباب النزول “، وقد قسمته إلى ثلاثة مباحث :
المبحث الأول : في مقاصد الجابري من إعادة ترتيب القرآن حسب أسباب النزول. والثاني : في التعرف على المسار التكويني للنص القرآني باعتماد مطابقته مع مسار الدعوة المحمدية. والثالث : في فهم القرآن أو استنباط أحكام منه تغطي المستجدات.
الفصل الثاني : هو ” إنكار الجابري لحجية السنة النبوية “، وقد بينت فيه تهافت حجج الجابري في رد السنة النبوية الصحيحة.
الفصل الثالث : هو ” سوء فهم الجابري لمعهود العرب “، وقد بينت فيه خطأ الجابري في فهم مقصد العلماء في هذا الموضوع.
الفصل الرابع : هو ” سوء استعمال الجابري لدلالة السياق “، وقد بينت فيه ما بدا لي انحرافا وتعسفا في التأويل بحجة دلالة السياق.
الفصل الخامس : هو ” وحدة السورة “، وقد بينت فيه ضعف هذا القول، ومخالفته لما استقر عند العلماء من نزول آيات السورة الواحدة في فترات زمنية متباعدة.
الفصل السادس : هو ” القرآن يشهد بعضه لبعض “، وقد بينت فيه كيف أخطأ الجابري في فهم و تنزيل هذا المعنى.
الفصل السابع : هو ” آثار منهج الجابري في الفهم على تناوله لبعض المسائل الشرعية “، وقد بينت فيه كيف أن الخطأ في المنهج يؤدي إلى خطايا في النتائج، وقد جعلته ستة مباحث :
المبحث الأول : في إنكار الجابري لوجود عذاب القبر. والثاني : في موقف الجابري من عقوبة المرتد. والثالث : في فهم الجابري لآيات الصلاة في القرآن المكي. والرابع : في موقف الجابري من الآيات التي تتحدث عن خلق حواء. والخامس : في شبه الجابري في تجويز نكاح المتعة. والسادس : في موقف الجابري من رؤية الله عز وجل يوم القيامة.
ثم أنهيت هذا البحث بخاتمة تضمنت مجمل نتائج البحث التي توصلت إليها، وعددا من المقترحات التي أراها ضرورية للتصدي لهذه الهجمات المنظمة على القرآن الكريم.
ثم ذيلت عملي هذا بلائحة للمصادر والمراجع، وفهرس للآيات القرآنية وثان للأحاديث النبوية وآخر للمحتويات.
وأما النتائج التي توصلت إليها فيمكن إجمالها فيما يلي :
1 – مشروع الجابري مشروع قديم وكبير وخطير جدا، فقد بدأ فيه بالسعي لهدم التراث الإسلامي تحت عنوان نقد العقل العربي، وهو في الحقيقة نقض وليس نقدا، إذ تجد في ثنايا حديثه تحميل كل الرزايا العربية في عهد النكسة لعصر التدوين، بل يتهم صراحة كل العلماء الذين ساهموا في تدوين العلوم العربية والإسلامية بالتحريف والزيادة والنقصان.
2 – رغم أن الجابري ردد على مسامع قرائه كثيرا أنه لا يعتبر القرآن الكريم جزءا من التراث إلا أنه تعامل معه في الفهم و” التفهيم ” بنفس المنهج الذي تعامل به مع سائر كتب التراث، مما يطرح العديد من علامات الاستفهام.
3 – يزعم الجابري في صدر كل كتاب من كتبه أنه يضع بين يدي القارئ المنهج والرؤية التي سيعتمدها في تناول الموضوع، وغالبا ما يكون المنهج والرؤية المعتمدة من قبل الجابري مأخوذة مما سطره أساتذة الغرب وفلاسفته. وكذلك فعل في كتابيه مدخل إلى القرآن الكريم وفهم القرآن الكريم، إلا أنه زعم أنه سيعتمد نفس مناهج المفسرين، والقواعد العلمية التي سطرها العلماء المعتبرون، كتفسير القرآن بالقرآن ومعهود العرب…الخ، ولكن هذا لم يحدث، ولا أدري هل كان كلامه هذا تضليلا، أم هو سوء في الفهم وتخبط في التنزيل، وقد ذكرت في هذا البحث عددا من الأدلة على هذا الذي أقول.
4 – وظف الجابري هذا المنهج في الوصول إلى عدد من النتائج الخبيثة، والأحكام المنحرفة لعدد من القضايا الشرعية، كالقول بتحريف القرآن وجواز زواج المتعة…الخ.
5 – يتميز الجابري بدهاء شديد وقدرة فائقة على تضليل القارئ وفق منهج خاص يزعم العقلانية والتجرد والموضوعية وطرح الأسئلة ” الصعبة ” التي يكون الغرض منها في أحسن الأحوال إدخال الشك إلى نفس القارئ، حتى في بعض المسلمات العقدية.
6 – إن تعامل هذا النوع من الناس مع القرآن الكريم خصوصا، ومع الدين عموما ليس رغبة في الفهم ولا طمعا في الإصلاح، ولا حتى من باب الحرص على الدين، ولكنه نوع من أنواع الهدم ومنهج من مناهج التضليل، يرقى إلى درجة أنه يجب علينا أن نقول لهم في أنفسهم قولا بليغا.
وأما المقترحات فهي كالتالي :
أولا : اعتمد القرآن الكريم لغة الحوار ومحاولة الإقناع بالحجة العقلية والبرهان الكوني مع معارضيه، وقد أثبت هذا الأسلوب جدواه، لأن الخصوم لم يكن لديهم ما به يعارضون، فلجئوا إلى الإعراض تارة، واللغو تارة أخرى فيما حكاه الله عز وجل عنهم في قوله تعالى : » وَقَالَ الذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْءَانِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ10 « [10]، وهذا العجز عن معارضة الحجج القرآنية مازال قائما إلى الآن، وفي هذا السياق يقول محمد أركون : »ولقد مارست هذا الحوار شخصيا مع التقليديين أكثر من مرة، وذلك ضمن إطار ندوة الفكر الإسلامي في الجزائر. كما وأني أمارسه مع طلابي الذين يأتون السوربون من كليات الشريعة في البلدان الإسلامية والعربية. وأعترف بأن الحوار مع أصحاب هذا التيار صعب وقاس، ولكنه يشكل ضرورة لا بد منها في ما أرى11 « [11].
فإذا كان خصوم الدين ودعاة نحل الغرب يرون الحوار ضرورة لإقناع المسلمين بما عندهم، فإن الحوار عندنا يجب أن يكون أشد ضرورة لإظهار سفاهة ما يدعون إليه، وعظمة ما يعرضون عنه، وإقامة الحجة عليهم، ولذلك لا بد من جعل لغة الحوار علما قائما بذاته، ولا بد من إحياء تراث أسلافنا في آداب المناظرة والجدل كالجويني والباجي وغيرهم، مع تطويره وإعداد كفاءات علمية تدافع عن دينها حسبة لله تعالى، ليكون هذا الحوار والجدل العلمي مثمرا بإذن الله تعالى، فلا يليق بنا التفريط في بني جلدتنا – إلا من أبى – ونحن نسعى إلى تبليغ الدعوة ونشر الهداية حتى بين غير المسلمين.
ثانيا : لقد أصبح الاهتمام بتحصيل العلوم الشرعية في الآونة الأخيرة ضعيفا جدا، وتراجع المستوى التعليمي عموما في بلاد المسلمين والتعليم الشرعي بشكل خاص، وفي كثير من الأحيان تجد من يمثلون العلم الشرعي بضاعتهم مزجاه، ورغم ضعف أداء كليات الشريعة والمعاهد الدينية فإنها تسبب لخصوم الدين صداعا لا يهدأ أبدا إلا بزوالها، أو علمنتها، وفي ذلك يقول محمد أركون : » أما هذه الأخيرة – أقصد كليات الشريعة – فهي معقل لمعارف ومزاعم العقل ” الإسلامي ” الأكثر دوغمائية كما كان الأصوليون قد حددوه وعرفوه بشكل خاص12[12]…ينبغي على كليات الشريعة ) وعموم المعاهد الدينية التقليدية ( أن تعدل مناهجها وأساليبها لكي تمارس دورها كما يمارس معهد الدراسات الكاثوليكية في باريس دوره، وكما يمارس معهد التيولوجيا الكاثوليكية في ستراسبورغ دوره..إذهب إلى هذه المعاهد وانظر في مناهجها وبرامجها لكي ترى الفرق بينها وبين كليات الشريعة لدينا ! انظر مثلا في نرنامج التعليم الخاص بمعهد التيولوجيا الكاثوليكية في ستراسبورغ. فهو معهد تشرف عليه الدولة الفرنسية وهو يقدم الشهادات الجامعية للطلاب كما يحصل في بقية الكليات والجامعات الفرنسية الأخرى. والتعليم فيه يقدم بطريقة علمانية 3« [13].
وقياما بالواجب الشرعي فإن أهل الحق مطالبون بدعم هذه الكليات والمعاهد، وتطويرها بشكل َيَشْفِ ويثلج صُدُورَ قَوْمٍ مُّومِنِينَ، وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ، ويقر أعينهم حتى تقوم بدورها في تخريج علماء أكفاء يرفعون مستوى الوعي عند الناس، وينافحون عن دينهم ويردون عنه بعلم كيد المعتدين.
ثالثا : ما كتب حول السياسة الشرعية – قديما وحديثا – ضعيف جدا، إذا ما قورن بما كتب في الطهارة والصلاة والزكاة…الخ، كما أن التأصيل الشرعي للشؤون السياسية والاقتصادية قليل، ويكاد يكون منعدما في كثير من المجالات، ولعل هذا من الأسباب التي جعلت المفكرين اللائكيين يدافعون عن ضرورة فصل الدين عن الدولة بقوة وجرأة منقطعة النظير، بل نجد هذا النوع من الفهم قد تسرب إلى شريحة لا بأس بها من عموم الناس، مما يشكل خطرا حقيقيا على الفهم الصحيح والسليم للإسلام، يقول أركون: »وهكذا يستمر الناس يرددون كالببغاوات أن الإسلام يخلط بين الروحي والزمني، أو أنه دين ودنيا. إن هذا ليس صحيحا أبدا وليس مقبولا علميا اللهم إلا إذا قبل المؤرخ الخضوع للروح التقليدية الإسلامية المهيمنة التي تطغى عليها الأدبيات والتصورات البدعوية« 14[14].
هكذا يبدو التحدي في هذا المجال كبيرا، والفراغ واسعا، يحتاج إلى ثلة مباركة تصل الليل بالنهار لتصحيح الفهم وتصويب القصد.
رابعا : رغم أن المؤسسات الدينية الرسمية تخضع للدولة وتسعى لخدمة سياساتها العامة التي قد تتعارض في كثير من الأحيان مع مقاصد الدعوة المحمدية والمصلحة العامة للدين والمجتمع، فإن هذه المؤسسات تثير مخاوف، بل غيظ خصوم الدين، مما دفع ببعضهم إلى الدعوة للنظر في طريقة اشتغالها أو حتى إغلاقها، يقول أركون : »أما إذا حافظت هذه الوزارة بكل مؤسساتها ومعاهدها الدينية على بث التعاليم التقليدية والمذهبية والطائفية واللاتاريخية. التي تقسم المجتمع وتزرع فيه روح الفتنة والشقاق فينبغي إغلاقها فورا. ينبغي أن تشتغل هذه الوزارة بروح الانفتاح لتحرير المجتمع المدني من عقده القديمة، وليس بروح الدعاية الإيديولوجية التي تفضل نوعا معينا من الأديان أو المذاهب وتحتقر بقية الأديان والمذاهب الأخرى كما لا يزال حاصلا حتى اليوم للأسف الشديد. هذه الروح القروسطية الضيقة ينبغي أن تحجم، وإلا فلا حل ولا تحرير 15« [15]. ونحن أولى بالمطالبة بتحرير هذه المؤسسات الرسمية من قبضة الدولة، لتقوم بواجبها في تحرير الناس من الخضوع لغير الله جل وعلا، وبذلك نكون قد رددنا أحسن رد على هذه الدعاوى المغرضة.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
الهوامش:
[1] نافذة على الإسلام ، لمحمد أركون ، ترجمة صياح الجهيم ، دار عطية للنشر بيروت ، الطبعة الأولى ، سنة 1996 . ص 124 .
[2] نفس المرجع ص 125 .
[3] الفكر الإسلامي نقد واجتهاد ص 156 .
[4] هذا الاختلاف في اعتقادي صوري ، لأن كلا المنهجين يؤديان إلى نفس النتائج ، مع العلم أن منهج الجابري أخطر بل أشد فتكا.
[5] يرد روجيه أرنالديز أحد كبار المستشرقين على أركون بقوله : » إن المسلمين المحدثين الذين يستعيرون المناهج الغربية كان أحرى بهم أن يكتفوا بمناهج أسلافهم من القدماء، فهي توصلهم بالدقة نفسها، لأن يستخلصوا من الآيات القرآنية ما توصلهم إليه هذه المناهج التابعة للعلوم الإنسانية، التي يتغنى بها محمد أركون… « الفكر الإسلامي نقد واجتهاد ص 223 .
[6] الفكر الإسلامي نقد واجتهاد ص 247 .
[7] القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني ، لمحمد أركون ، ترجمة هاشم صالح ، دار الطليعة للطباعة والنشر بيروت ، الطبعة الثانية ، سنة 2005 . ص 70 .
[8] الفكر الإسلامي قراءة علمية ، ص 221 .
[9] القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني ص 112 .
[10] سورة فصلت ، الآية 26 .
[11] الفكر الإسلامي نقد واجتهاد ، ص 21 .
[12] تاريخية الفكر العربي والإسلامي ، ص 13
[13] الفكر الإسلامي نقد واجتهاد ، ص 290 – 291 .
[14] تاريخية الفكر العربي و الإسلامي ، ص 287 .
[15] الفكر الإسلامي نقد واجتهاد ، ص 281 .
اترك رد