الشخصية اليهودية في أدب باكثير

رؤية تحليلية تداولية/

تسعى الورقة العلمية التي نقدمها إلى تجريب منهج النموذج الإدراكي المركب الذي وضعه الدكتور عبد الوهاب المسيري على إبداع الراحل علي أحمد باكثير عليهما رحمة الله، وهذه المحاولة الاختبارية النقدية نروم من خلالها وضع اليد على الرؤية المعرفية والفنية التي تحكمت في رسم “الشخصية اليهودية” عند مبدعنا الراحل علي أحمد باكثير .

وتركيزنا على الشخصية اليهودية لأن البحث فيها _كما نعتقد _هو بحث في غور “الإنسان الماكر” بنص الدين والأدب والتاريخ، واستطلاع لكشف أعماقه التي يسيطر عليها في بعض الأحيان النزوع الشيطاني المارد المتمرد على الحق والخير والجمال الطالب للباطل المشيع لقيم القبح والسوء، إن البحث في الشخصية اليهودية هو بحث يرمي إلى التعرف عن قرب كيف تفكر وتدبر هذه الشخصية وكيف تبني منطقها بالمغالطة والالتفاف على حقوق الآخرين، كيف تستبيح حرمات الآخرين ، كيف تتقن بناء منظومة الكذب ببراعة؟ وكيف تحتمي بشرنقة المظلومية لتعاود الإغارة على ضحاياها أصحاب الحق؟

وقد اخترنا مقاربة موضوع ” الشخصية اليهودية” عند علي بن أحمد باكثير من خلال بعض المفاهيم المفتاحية في النموذج التحليلي المركب:

أولا:مفهوم الجماعة الوظيفية:

هو مفهوم تحليلي يقصد به عناصر اجتماعية يوكل إليها القيام بوظائف عادة ما تكون وضيعة وهامشية ومادية ومنحطة ودموية وارتزاقية، ويتوارث أعضاء الجماعة الوظيفية الخبرات في مجال تخصصهم الوظيفي عبر الأجيال ويحتكرونها بل ويتوحدون بها، لينتهي الأمر باكتسابهم هويتهم ورؤيتهم لأنفسهم من خلال هذه الوظيفة لا من خلال إنسانيتهم الكاملة، فإنسان الجماعة الوظيفية إنسان اختزلت إنسانيته فصار كائنا ذا بعد واحد.

والجماعة الوظيفية كما تكون أفرادا يمكن أن تكون دولة بكاملها مثلما هي إسرائيل نفسها في الشرق العربي أو الأوسط، إذ أرادت أمريكا أن ترث الاستعمار القديم فاتخذت إسرائيل آلة لإخضاع العرب من خلال اليهود،ظانة بذلك أنها تخضع العرب لها إلى أمد بعيد” كما ورد على لسان كوهين في”التوراة الضائعة” لباكثير.

، والظاهر أن باكثير كان على وعي بخصوصية هذه الجماعة الوظيفية في دائرة الصراع العربي الإسرائيلي، وقد أحسن توصيفها وتأطيرها دراميا من خلال ما رسمه لها من ملامح وما رصده لها من أدوار، وفي مسرحية شيلوك الجديد على سبيل المثال نصادف نماذج للشخصية اليهودية كلها تمارس أدوارا ضمن مفهوم الجماعة الوظيفية، انطلاقا من شيلوك الذي يرمز للقائم على الاقتصاد الربوي في المنظومة الصهيونية إلى كوهين الذي يمارس المحاماة لانتزاع الحقوق من أصحابها لفائدة التوسع الصهيوني إلى زيكناخ رمز الجماعات الإرهابية المسلحة الدموية التي تصفي المعترضين على المشروع الصهيوني والمقاومين لمخططاته إلى راشيل التي تلعب دور المرأة الجسد في لعبة الصراع .

وقد بينا من خلال تفصيلنا لنموذج “راشيل”بأنه لا مجال للعواطف في عمل الشخصيات المنتمية لـ”الجماعة الوظيفية”، لأن الأخلاق والعواطف قيم إنسانية ترفع من معدلات انتماء الشخصية للمجتمع الإنساني وتزيد من تماسكه وانسجامه، في حين لا يطلب من عضو الجماعة الوظيفية إلا الالتزام الصارم بالوظيفة المحددة لها خالية من أي قيمة، وهذا الفصل بين الفعل والقيمة هو صلب الفلسفة العلمانية الصهيونية.

إن سائر المفاهيم التواصلية من وجهة نظر الجماعة الوظيفية تأخذ معناها من طبيعة المهمة المنوطة بالجماعة ذاتها حتى إن مفهوم “المكافأة” الذي يعتبر مفهوما تحفيزيا في أي عمل إنساني من أجل المواصلة والتقدم، يصبح في تقاليد المجموعة الوظيفية التي تنتمي إليها”راشيل” مفهوما موسعا يبتدأ بـ”المال الحرام” الذي يسيل له لعاب الضعفاء(خليل وأضرابه)، مرورا بـ”الجسد” الذي يتم تسليعه وحوسلته على حد تعبير الدكتور المسيري (أي تحويله إلى وسيلة) من خلال علاقة تعاقدية نفعية محايدة خالية من أي بعد عاطفي وإنساني، فلا مجال للغيرة أو الحب الحقيقي أو أي بعد أخلاقي، إذ لا مجال للصدق أو الإخلاص، فيتم التعامل مع المنتمي لهذه الجماعة الوظيفية””بوصفه مادة نافعة يتم التعامل معها بمقدار نفعها.

كما انتهينا إلى أن “اليهودي” عضو الجماعة الوظيفية إنسان اقتصادي محض له بعد واحد(وظيفة محددة)متحرر من القيم الأخلاقية السائدة، ويكرس ذاته لمنفعته ولذته ويؤمن بالنسبية الأخلاقية وبازدواجية المعايير وبالحتمية، ويتسم بالحركية، ومرجعيته النهائية في علاقته بالمجتمع المضيف مرجعية مادية.

ثانيا:الشخصية اليهودية ومنطق السمات المميزة:

إذا شئنا تعريف”الشخصية اليهودية” فإن ما يعرفها كما يقول الدكتور المسيري هو مجموعة من السمات المميزة، وليس كما تدعي الصهيونية هو القومية المزعومة ، فالطروحات الصهيونية هي طروحات اختزالية بعيدة عن واقع الحقيقة،وقد يقوم بين هذه السمات بعض التناقض والتدافع في الشخصية اليهودية، وهو سر تميزها، ومن هذه السمات التي نرى حضورها من خلال أدب باكثير رحمه الله، والتي استمدها من دون شك من خلال معرفته المباشرة بواقع حال هذه الشخصية وأيضا، وهذا أمر غاية في الأهمية، من خلال اطلاعه الدقيق على تصوير القرآن الكريم لهم:

1_ العنصرية: السياسة العنصرية تذهب في اتجاه التفريق بين العمال العرب واليهود في الأجر، وتذهب أبعد لمنع العمال العرب من العمل واستبدالهم بعمال يهود، وهي الفكرة التي جاء بها “جوردن” اليهودي الصهيوني المعروف صاحب فلسفة”دين العمل” التي انبثقت منها نظرية العمل العبري، حيث ينبغي أن يقوم اليهودي بكافة الأعمال، ويعني ذلك ضمنا عدم تشغيل اليد العاملة العربية.

2_ تجاوز الأخلاق: هذه الزاوية من نظر الشخصية اليهودية للعالم وللعرب تحديدا تفوق أي مستوى لمفهوم التجاوز الأخلاقي المتعارف عليه ، وتذكرنا بما قاله أحد الشعراء اليهود وهو هاينريش هايني الألماني عن اليهودية، فهي عنده”مصيبة وليست دينا”، وقد كتب مرة يقول: توجد أمراض ثلاثة شريرة: الفقر والألم واليهودية ، ويدخل ضمنه إضفاء القداسة في الفكر اليهودي على الفعل الخبيث تجاه الآخرين(الذي يرمز لنوع من التجاوز الأخلاقي) أو أي فعل إنساني منحط مهما تناهى في انحطاطه.

3_ الاستغلال: إن الاستغلال في الشخصية اليهودية عند باكثير قد يأخذ طابع القداسة من أجل إحداث حالة من الرضا لإيقاع الظلم على الآخرين بسلبهم ما يملكون أو تعريضهم للمتاعب والمصائب، كيف لا وموسى نفسه في ما يدعونه “توراة” يأمر أتباعه بسرقة حلي النساء المصريات ليلة الخروج، ألا يكون من الإتباع للموسوية نهج سبيله.

4_ الطهرانية: في الوقت الذي تعلن فيه “الشخصية اليهودية” أخذها بمبدأ التخلق في الممارسة العملية، وانتهاجها سبل الاستقامة، تحرص في السر على خرق هذا الادعاء، بالارتماء في أتون الشهوة والفساد وهتك الحرمات، ولعل السياق الاجتماعي في الواقع كما نقله باكثير يرسخ هذا المعنى، و هذه الطهرانية،أي طهرانية العنصر اليهودي جعلته من أشد الكائنات انغماسا في التناقض بين الظاهر والباطن، وهو تطرف يذكرنا بجماعات يهودية مثل السكوبتسي والخليتسي التي تحرم الجماع الشرعي من ناحية، ثم تقيم من ناحية أخرى احتفالات ذات طابع جنسي داعر، وقد تأثر يهود اليديشية بتلك الحركات، ولعل كل ذلك أدى إلى تهيئة الجو لظهور شبتاي تسفي الذي نادى بالترخيصية، وبإسقاط الأوامر والنواهي، وبدأ في ممارسات جنسية كانت تفسر تفسيرا رمزيا من قبل أتباعه

5_ اصطناع المظلومية: الإحساس بالاضطهاد مكون رئيس في الشخصية اليهودية ، وعليه يعتاش اليهود في الدعاية الصهيونية العالمية،واستمرار الوهم بالاضطهاد يخلق في الكائن اليهودي حالة من عقدة الاضطهاد، إذ يتحول العالم كله إلى شر يحيق باليهود واليهودية، كما يتحول معه أي سلوك تواصلي في التأويل اليهودي إلى محاولة للمحو من الوجود، وهكذا تصير قاعدة التشكيك في النوايا واتهام الآخرين بالظلم وإلقاء اللوم عليهم من الأسلحة النفسية القريبة لكل شخصية يهودية، كما يتحول التبرير باعتباره آلية نفسية مؤقتة إلى سلوك يومي دائم، سلوك للأخطاء ولتاريخ الحقد وتدشين لمجتمع الكراهية.

6_ النبوءة: استطاع باكثير رحمه الله تجسيد هذه السمة في الشخصية اليهودية من خلال عدة ملامح أهمها قضية”شعب الله المختار” التي كتب مسرحية بعنوانها،وفي الوقت ذاته وببراعة فنية تمكن من تفنيد هذه النبوءة بفنية من طريق نقل حالة الصراع التي تغلي بها إسرائيل خصوصا بين اليهود الشرقيين والغربيين، والتي عكست تشظي هذه النبوءة ذاتيا،إذ ينكر اليهود الشرقيون أن يكون خصومهم الغربيون ممن يشملهم وصف”شعب الله المختار، فهم في النهاية جماعة “مفاليك صعاليك” من نسل مختلط لا يصح أن يرقوا إلى مرتبة الاصطفاء.

7_ الإحساس بالاغتراب: يغلب الإحساس بالاغتراب على الشخصية اليهودية في أدب باكثير وفي الواقع، ومرد ذلك إلى ازدواجية الولاء الذي يتنازع اليهودي المهاجر، أيكون ولاؤه لبلده الأصلي الذي ترعرع فيه ونشأ أم لبلده المضيف “إسرائيل”، إن الاغتراب قلق في المكان والزمان، ومحاولة للانعتاق منهما بضرب من التسامي (الترونسوندونطالي) الذي يرى في فكرة عنصرية وعرقية خلاصا من عذابات الواقع الذي يجمع أفرادا من البشر ، أول ما يقومون به هو(التنافي) نفي الصفة المميزة عن بعضهم البعض، فيقول السفارديم للأشكيناز لستم على شيء، ويقول الأشكيناز للسفارديم لستم على شيء، نفي يزيد من اغتراب الإنسان اليهودي حين تضيق به أرض ميعاده لأنه ببساطة لا يجد فيها أمنا كما وعدته النبوءة المزعومة.

ثالثا: الشخصية اليهودية والماشيحانية

يسمي الدكتور المسيري الرغبة في العودة إلى صهيون (أي فلسطين)عند الشخصية اليهودية بـ”الحمى الماشيحانية”، ومعلوم أن الشريعة اليهودية تحرم على اليهود العودة إلى فلسطين، وعلى اليهودي أن ينتظر بصبر وأناة إلى أن يشاء الإله ويرسل “الماشيح”، فيحق حينئذ أن يعود، ويرى كثير من المؤرخين أن حمى العودة ورفض الانتظار بدأت بين اليهود بحملات الفرنجة ووصلت إلى قمتها مع الحركة الصهيونية التي حققت نجاحا كبيرا لأنها قامت على النزعة الاستعمارية وتعاونت مع الغرب ووضعت نفسها تحت تصرفه.

في مسرحية”التوراة الضائعة” يصور لنا باكثير رحمه الله شخصية يهودية ألمانية ماشيحانية(كوهين) غاية في السادية ،عادت من أمريكا مع أسرتها بعد أن جمعت أموالا طائلة(بعد أن صار مليونيرا)، عادت بجنون الماشيحانية تحمل في ضميرها حقدا لا نهاية له على الآخرين(النازيين) و(العرب)، وكل ما سوى اليهود، وهذه الشخصية تتطلع لإسرائيل الكبرى التي تجمع يهود العالم بعد أن ينزحوا إليها من كل حدب وصوب،ينزحون ليقتلوا كل من يجدون أمامهم، مصداقا لنبوءة ميمانود في التلموذ:”يجب قتل الأجنبي لأنه من المحتمل أن يكون من نفس الشعوب السبعة التي كانت في أرض كنعان المطلوب من اليهود أن يقتلوها عن آخرها

فحمى العودة هي حمى ماشيحانية يتحلل فيها اليهودي المهاجر من خارج إسرائيل ليجد فيها دافعا قويا للنزوح المقدس إلى أرض أعدها الله له ولأبنائه، أعدها لهم ليعودوا من جديد على مسرح الأحداث العالمية فيقودوا زمام الحضارة ، ويعيدوا الأوضاع إلى ما ينبغي أن تكون عليه،أي إن وظيفتهم تصحيح وضع التاريخ المختل بأن ينفذوا مشيئة الرب في أرضه باستعباد ما سوى اليهود وتنحيتهم من دائرة الفاعلية إلى دائرة المفعولية. ولعل تصفية الإسلام والمسيحية من جملة الأهداف”النبيلة” في شريط هذه الملحمة المقدسة.

رابعا: الشخصية اليهودية والحلولية

الحلولية عقيدة تقوم على أن مركز الكون ليس مفارقا له، بل حالا إما في الطبيعة أو في الإنسان، وإما حالا فيها جميعا، حيث يشمل الحلول الطبيعة وضمنها الإنسان ،و في مسرحية”إله إسرائيل” يعكس باكثير كيف انتقلت الحلولية إلى الفكر اليهودي وإلى الشخصية اليهودية حيث ينتقل اليهود من عبادة إبليس الذي يعبدونه ويأتمرون بأمره لينتهوا بالحلول فيه،ففي”القسم الأول:الخروج”، يصور باكثير ما حصل من اضطهاد لليهود وخروجهم معه إلى سيناء، حيث يبدأ الاتصال بربهم”إبليس”، وتبدأ السيكولوجيا اليهودية في التشكل من خلال الأنانية والمعصية والجدل العقيم والدموية وعقيدة”الشعب المختار .

وسعي”الشخصية اليهودية” إلى الحلول والاتحاد مع “إبليس” هو سعي لتحقيق هدفين:

الأول: لإقامة مملكة الرب أو “مملكة إبليس” إله إسرائيل الحق .

الثاني: لإضفاء القداسة على السلوك العدواني والشرير، ومنه الاستعمار والاغتصاب

والطبيعة الحلولية للشخصية اليهودية تكمن أيضا فيما تشتغل عليه التربية اليهودية من ربط صارم بين الإنسان والأرض وبالشعب وعقيدة الشعب باعتبارها تحيل على شيء واحد ومرجع واحد، تسقط فيه جميع المسافات ، فإسرائيل هي الإله وهي نفسها الشعب والدين في نفس الآن ، فيظهر من خلال ذلك كيف تتأله الدولة ويتأله الشعب ويتأله الإنسان نفسه اليهودي، لأن حياته لا تنفك عن هذه الأيقونات المذكورة.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

الآراء

اترك رد