من أوائل الأخبار التي رويت عن النقد البلاغي في العصر الجاهلي حكومة أم جندب الطّائية بين امرئ القيس ( توفي نحو 544م ) وعلقَمة بن عَبَدة الفحل ( ت 603م ) …
فقد رُوي أنَّ امرأ القيس لما كان عند بني طَئ زوَّجوه منهم أم جندب وبقي عندهم ما شاء الله ، وجَاءهُ يوما علقمة بن عبدة التَّميمي وهُو قاعدٌ في خيمته ، وخلفهُ أم جندب فتذاكرَا الشعر …
– فقالَ امرؤ القيس : أنَا أشعرُ منك !!
– وقال علقمة : بل أنَا أشعر منك !!
فقال امرؤ القيس قصيدته التي مطلعها : – ( بحر الطويل )
خَليلَىَّ مُرَّا بِى عَلى أُمّ جُنْدَبِ … نُقضِّ لُبَانَاتِ الفُؤَادِ المُعَذَّبِ
ثم قال علقمة من القافية والروي قصيدته التي مطلعها : –
ذَهبتَ منَ الهُجرانِ فِي غَيرِ مَذهَبٍ … وَلــم يـَكُ حــقّاً كـلّ هَـذا التَّجَنّب
واستطردَ كلٌّ منهمَا في وصف ناقته وفرسه ، فلما انتهيا تحاكما إليها فحكمت لعلقمة بالجودة والسبق .
فقال لها امرؤ القيس : بم فضلت شعره علي شعري ؟
قالت : لأن فرس ابن عبدة أجود من فرسك !
قال : وبماذا ؟
قالت : إنك زجرت ، وضربت بسوطك .
وهي تعني قوله في وصف فرسه :
فـللــساق ألـهـوب وللـسوط درة … وللــزجر منــه وقـع أخرج مهذب
أما علقمة فقال :
فـأدركــهن ثـانيــا مــن عنانه … يمــر كـــمر الــرائح المتـحلب
ففرسه أجود من فرسك ؛ لأنه قد أدرك الخيل ثانيا من عنانه من غير أن يضربه بسوط أو يحرك ساقيه !!
فقال امرؤ القيس : ما هو بأشعر مني ، ولكنك له وامقة فطلقها فخلف عليها علقمة ؛ فسمي بذلك الفحل1 .
التحليل
هذه القصة من أوائل ما روي من الصور النقدية في العصر الجاهلية بيد أنها لا يمكن أن تدلنا علي النشأة الأولي لهذا الذوق البلاغي – الذي كان سائدا آنذاك – ، لأن هذا الحكم الذي أصدرته أم جندب قد تجاوز مرحلة الذوق الفطري غير المعلل ، فقد عللت أم جندب لحكمها وبينت لماذا فضّلت شعر علقمة علي شعر امرئ القيس .
وهذا النقد المعلل ألقى ظلا من الشك على صحة هذه القصة لقربها من صنيع المتأخرين في النقد والموازنة. وبعدها عن النقد الجاهلي المبني على الذوق الفطري الخالي من التعليل.
ولكنَّنا مع ذلك لا نستبعد صُدور مثل هذا النقد عن عربية جاهلية ؛ لأنَّ الحياةَ الأدبية في عصرِ امرئ القيس لم تكن من البساطة إِلى حدّ عدم القدرة على إدارك مثل هذه الملاحظات النَّقدية .
لقد طلب الشَّاعر من أم جندب أن تَحكم بينهمَا فلم يكن من الطَّبعي بعد أن تستمع إليهمَا أن تقول لأحدهما أنت أشعر من صاحبك ثم تقف عند هذا الحد ، وإنما كان من الطبعي أن تصدر حكما معلَّلا حتَّى تنفي عن نفسهَا شبهة التّحيز التي تطعن في عدالة الحكم ، ومع هذا فقد اتّهمها زوجها بالتحيز لعلقمة ؛ ولعلّ الحكمَ المعلّل هنَا ممَّا يرجّح صِحة هذه القصة عندنا.
بيد أن بعض النقاد يرى : أنَّ هذا النقد يلمح فيه القارئ أثر البساطة وقرب المأخذ 2…
قلت : إنَّ الحقيقة عكس ذلك ، فهو من المراحل المتقدمة للنقد المعلّل في هذا العصر .
ومهما قيل في تحيّز ” أم جندب ” وأنها فضلت علقمة لأنها كانت تحبه ، وكانت تكره امرأ القيس ؛ لأنَّه كان مفركا تعافه النساء فقد علَّلت لرأيها وتجاوزت حد النظرة السريعة إلي شئ من التأمل والروية 3 .
ويري الدكتور / بدوي طبانة أنَّ أم جندب قد حكّمت هواهَا فعلاً ، وأنَّها ليست علي صوابٍ فيما التمستهُ من تَعليل ؛ لأنَّ امرأ القيس لم يرد أن جَواده لا يسير إلا بتحريك الساقين ، والزجر ، والضرب بالسوط ، فالحقيقة : أن تحريك الساقين ، واستعمال السوط لازمتان من لوازم كل فارس مهمَا يكن فرسُه كليلاً بليداً ، أو جواداً حديداً ، وذلك ليكون متمكّنا منه .
وليس في بيت امرئ القيس ما يدل علي بلادةِ جواده ، فإنَّ معني بيته أنَّه إذا مسَّه بساقه ألهبه الجري، أي جري جرياً شديداً كالتهاب النَّار ، وإذا مسَّه بسوطه در بالجري كما يدر السيل والمطر، وإذا زجره بلسانه وقع الزجر منه موقعه من الأهوج الذي لا عقل له4 .
ويرد د / محمد إبراهيم نصر علي الدكتور / طبانه في كتابه الموسوم بـ ” النقد الأدبي في العصر الجاهلي وصدر الإسلام” بقوله : ” ومع هذا الدفاع الذي أبداه الدكتور / طبانه عن امرئ القيس ، ومحاولته التقليل من شأن حكومة أم جندب والتهوين من أمرها ، فإنني أري أنها لمست لحكمها علّة مقبولة ، وأنّ الجواد الذي يحتاج في إتمام سرعته واكتمال عدوه إلي أن يلهب بالسوط ، ويحرك بالساق ، ويزجر بالصوت … فهو أقل جودة من ذلك الجواد الذي ينطلق في سرعة الريح الحَاصب ويعدُو بشدّة حتى يدرك طَريدته ثانياً من عنانه دُون أن يضرب بسَوط أن يمريه بساق ، أو يزجره بصوت 5 .
فعلقمة يقول في وصف جواده : –
فــولّي علي آثـارهـن بحـَاصب وغيبـة شـؤبـوب من الشّـد ملهب
فــأدركـهنّ ثـانـيا من عنــانه يـمر كــمر الـرائح المــتحـلب
فجواده علي هذا لم يحتج إلي ما يحفزه إلي السرعة و الانطلاق ….فهو لا شك أجود .
ونستطيع أن نقرّر أنَّ حكومةَ أم جندب جَاءت معلّلة ، رغم أنَّها نظرة جزئية ، ولم تستقرئ كلا القصيدتين وتوازن بينهمَا ولكنَّها جرت مع الضوابط الذَّوقية السَّائدة آنذاك ..
فلفتَ نظرها أنَّ ألفاظ امرئ القيس لا تتناسب مع المعني الذي يقصده بينمَا تتناسب ألفاظ علقمة معها ، فهي – أي ألفاظ علقمة – جاءت مطابقة لما يقتضيهِ المقام6 .
بالطَّبع لم يأتِ حكم أم جندب دقيقاً ؛ لأنّه نظر إلي جزئية واحدة وهي الّصفة المثالية ، ولأنّه تغاضي عن أن يكونَ العيب في فرسِ امرئ القيس لا في الشَّاعر أو في مقدرته علي الوصفِ الشعري ، غير أن هذا الحكم لا يخرج عن دائرة الذَّوق البلاغي الذي عَايش الرَّجل الجاهليّ ، وكذا المرأة الجاهليّة ولم يخرج عن النّطاق المألوف في هذا العصر 7 .
ومهمَا يكُن من تشكيك في هَذه الرّواية من أنها منتحلة ، وأنَّ النصَّ معدٌ ومرتبٌ ، رتّبَ في العصرِ الإسلامي ، فقد جاء النص سافراً جليّاً في كتب الأدب ، ولا سبيل إلي الطعن في الرّواية ، فليس التنافس بين شَاعرين كبيرين بغريب ، أو تَحكيم المرأة ببدعة آنذاك ، وكذا عقد التَّحكيم في غير الأسواقِ الأدبيةِ بغريبٍ علي هذهِ البيئة … ولتكن نظرتنَا إلي هذهِ الروايةِ نظرة تقديرٍ واهتمامٍ ، وتمحيصٍ وإمعانٍ ، لنخرجَ محمَّلين باللآلئ غير مُحمَّلين بالشَّوائبِ .
الهوامش:
[1] – فسمي الفحل لذلك ؛ تنظر القصة في : الموشح للمرزباني ، ص 26، 27 ط . السلفية 1385 هـ .
[2] – دراسات في نقد الأدب العربي ، د . بدوي طبانة ، ص 53 ، ط . الأنجلو المصرية ( د . ت ) .
[3] – روي الأصمعي رواية تدل علي أن أم جندب كانت تريد الخلاص من امرئ القيس تنظر في : ديوان امرئ القيس ص 40 ، تحقيق : محمد أبو الفضل إبراهيم ،ط . دار المعارف ، الطبعة الخامسة .
وينظر : شرح ديوان رئيس الشعراء أبي الحرث امرئ القيس بن حجر الكندي للوزير أبي بكر عاصم بن أيوب ،طبعة المطبعة الخيرية مصر سنة 1307 هـ ، الطبعة الأولى .
[4] – دراسات في نقد الأدب العربي ص 62 ،63 .
[5] – النقد الأدبي في العصر الجاهلي وصدر الإسلام ، د. محمد إبراهيم نصر ، ص 50 – دار الفكر العربي – الطبعة الأولي 1398 هـ .
اترك رد