الرد على أباطيل البحيري

بادئ ذى بدئ نقرر أنّنا سنتناول هذه الأباطيل من خلال منظار لا يزيف في التكبير ولا يخدع في التجسيم ؛ بيد أنه سيفصحُ لنا عن أخفى السمات لهذه الترهات والأباطيل ، وسيكشف عن أدق الخلايا ، وسنحاول أن نعرض على القراء بعض الردُود العلمية ، وأننا سنرتفع بهذا المنظار عن الزيف والخداع والتضليل باسم التنوير .
و قد يلومنى بعض القراء لاهتمامى بهذه الأباطيل والترهات والرد عليها ، خاصة وأن علماء الحديث توقفوا عن الردّ لأنّ أسلوب صاحبه أسلوب طفولى ، لا يساعد على الردّ العلمى ؛
لكنهم لو علموا ما رأيته مما يثار بين الشباب على مواقع التواصل الاجتماعى لعذروننى .
إنّ ثقافة إسلام البحيرى لا تؤهله للحديث في مثل هذه القضايا ، فليس لديه ثمّت ثقافة تاريخية ، أو تضلع في اللغة ومفرداتها ، ومعرفة تامة بفقهها ، … إلخ ؛ لذا فإنّ ما يثيره لا يسيرُ على منهج علمى ليناقشه العلماء ، فمرة نراه يتحدث عن البخارى ( محمد بن إسماعيل ت 256هـــ ) ويجرده من مكانته ، ويطعن فيه وكأنه كان في زمانه اطّلع على ما لم يطلع عليه غيره ، وأخرى يطعن في بعض الأحاديث … إلخ ، ونلحظ أنّ نطقه للآيات ينمّ عن جهل تام بالنطق الصحيح لكتاب الله ، ولذا كان لزامًا عليه أن يذيع الآيات بصوت قارئ معروف – كما يفعل غيره – ، ونراه دائما يحاول أن يمزج الحقائق بخياله المريض .
كان يجب على البحيرى أن يقرأ أولا الشبهات والترهات التى عرضها من سبقه ثم يسلسلها في حلقات ليعرف العلماء كيف يردون عليها ، إن أراد أن يناقش ويتعلم ، ويحافظ على صورته أمام مستمعيه ، وصورته حينئذ لا غبار عليها ، فهو طالب علم يناقش العلماء بكل أدب جم ، وهم يقومونه وأمثاله ، أما ما طغى عليه من جهل وتحدٍّ سافر للأمّة جمعاء ، ولم نسمع من قبل عن عالم تحدى العالم ، حتى الأنبياء لم يفعلوا ذلك ، ونراه يهذى دائما ” أتحدى علماء الأزهر ، وأدعوهم للمناظرة ” ، فالله وحده هو الذى يتحدى وله الغلبة ، سبحانه تحدى العرب أن يأتوا بمثل القرآن فعجزوا ، وسجل عليهم عجزهم ، ولذا لا يعدو إسلام البحيرى كونه مرددًا أبلهًا لكلام قديم ، يخرجه في إطار لا يصلح أن يخرج به ، يقصد من وراءه القفز بعد ذلك على القرآن الكريم ، وإلا فما معنى هذا الكلام الذى يخرج منه ؟

فإسلام البحيرى يريد أن ينهج نهج المستشرق البريطاني ديفيد صمويل مرجليوث الذى نشر بحثا في عام 1925م بعنوان ( أصول الشعر العربي) وهو بالإنكليزية the origns of Arabic poetry ، وذلك في مجلة الجمعية الآسيوية الملكية التي كان يرأس تحريرها ، يشكك في صحة الشعر الجاهلى والإسلامى ، ويزعم أنه كُتب أو نحل واختلق ولفق في العصر الأموي وما تلاه .‏
ومن الشواهد التشكيكية التي عرضها المستشرق البريطاني ما يثيره التساؤل عن الكيفية التي وصل بها هذا الشعر العربي إلينا ، هذا إذا افترضنا جدلاً أن هذا الشعر صحيح ؟ ، وهكذا ردّد أذناب المستشرقين هذا الكلام في منتصف القرن الماضى ، وكذلك يفعل إسلام البحيرى الآن مع صحيح البخارى ؛ ولعل الهدف الأسمى من وراء ما عرف بنظرية الانتحال هو الطعن في القرآن الكريم .
وانبرى علماء الأمة وعلى رأسهم شيخ الجامع الأزهرى آنذاك محمد الخضر حسين ( ت 1958 م ) للرد على قضية الانتحال ، لأنّ طريقة عرضهم للشبهات والطعون والافتراءات جديرة بالردّ العلمى ، أما البحيرى فعلى ماذا يرد العلماء ؟ .
وأحسب أن طريقة البحيرى في التفكير صخابة ومندفعة ، وعليه أن يلتزم كباقى العلماء السكينة ، وأن تكون التؤدة أوضح سمة من سماته ؛ لأنه إذا اجتمعت السكينة والتؤدة مع العقل الراجح والعلم الوافر ، والخبرة المستوفاة في إنسان ، فقد استوفى أهم مميزات العلماء الإنسانيين النافعين الذين يفيضون على الناس من علمهم وروحهم نورا وخيرا – وهذا ما نفقده في شخص البحيرى – ، وبالطبع لا يستغلون العلم لمصالح شخصية أو مآرب فردية ، ولا يتخذونه وسيلة إلى حطام أو سلطان كما يفعل البحيرى وكثيرون في كل زمان ومكان .
وكان يجب عليك أيها البحيرى أن تعلم أنّ مهمة المفكر الدينى المسلم تقع عليه مسئولية تقديم الإسلام بصورته الصحيحة بما يحمل من قيم أخلاقية عليا ، وبما يدعو إليه من النهضة والتقدم ، وذلك تصحيحا للفكرة السائدة الفاسدة التى تساعدُ أنت على رواجها والتى بالطبع يعتقدها الآخرون عن الإسلام ، من كونه دينا يوحى بالتطرف والتعصب ، أو يمنع عن العلم والتقدم ، وهذا على خلاف حقيقة الإسلام .
وللأسف الشديد يطلّ البحيرى بهذه الترهات والأباطيل حول البخارىّ وصحيحه الجامع والتى يستطيع أصغر طالب في قسم الحديث الردّ عليها ، وعلى أناس أمثاله يجهلون تماما علم الحديث ، أو يكادون يجهلون مصطلحه ، ومنهج سدنة السنة أمثال البخارى ومسلم وغيرهما ، إضافة إلى بعدهم عن اللغة العربية ، وإدراك كنهها ، ويبدو لى أن البحيرى نفسه ربما يجهل ذلك، ولا تعدو معرفته أن تكون عدما أو كالعدم ، وإلا لفهم ما أشكل عليه ، ووضعه في موضعه الصحيح ، ويبدو أن جهله بالحديث وعلومه واللغة وفنونها مال به نحو الحكم الظالم ، ويكفيه ظلما أنه حكم على البخارى بذلك .
ويبدو أن بغض البحيرى للبخارى بغض حسد ، فقد ورد أن مسلم بن الحجاج جلس بين يدى البخارى يسأله سؤال الصبى المعلم ويقول : لا يبغضك إلا حاسد ، وأشهد أنه ليس في الدنيا مثلك .
أيها البحيرى : إنّ البخارى يعدّ رمزًا للعبقرية ، وأىّ حديث لا يعرفه محمد بن إسماعيل البخارى ليس بحديث – كما قال أحد العلماء – .
ولا أريد أن أطيل السرد ، والأخذ والرد مع شخص مثلك يهزل ويرى أنه يجد ، صاحب أسلوب طفولى ماجن ، يضرب رأسه بالجبل ليثبت أنّ في الإسلام تناقضات وأنه لا قدسية لنص !
ولكننى أريد أن أقرر حقيقة علمية ربما جهلها كثير من الناس أن منهج المحدثين في تلقى التراث النبوى لا غبار عليه ، بل إنّ هذا المنهج هو ما تحتاج إليه الديانات الأخرى لتكون موضع ثقة وقبول ، فالإسناد عندهم مبتور مقطوع ، وعندنا موّثق موصول بقائله – صلى الله عليه وسلم -.
ولعلك لا تعلم أنّ البخارى كان يتوضأ قبل كل حديث ويصلى ركعتين ، روى ابن حجر عن البخارى قوله : ” ما كتبت في كتاب الصحيح حديثا إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين ” .
فالجامع الصحيح أصحّ كتاب بعد كتاب الله – عز وجل – ، وهو الوصف الذى أطلقته الأمة الإسلامية على كتاب البخارى ، ونعتته به منذ أكثر من ألف سنة إلا الآن .
وهو الأثر الباقى الخالد للإمام البخارى ، الذى جمع فيه السنة الصحيحة وخلدها ، بعد أن نقاها وصفاها مما علق بها من اختلاق ، فخلد به اسمه في العالمين ، وقد سمى البخارى كتابه في الصحيح ” الجامع المسند الصحيح المختصر من أُمور رسول الله – صلى الله عليه وسلّم – وسننه وأيامه ” ونظرا لطول الاسم ، وصعوبة الاستدلال به ، والإشارة به عند الحاجة ، والاستشهاد كثيرًا ، فقد ورد ذكره موجزًا مختصرًا على لسان الإمام البخارى نفسه ، وفى أقواله ، فسماه مرة ” الجامع الصحيح ” ، وسماه صحيح البخارى ، وسماه الصحيح ، وقد اشتهر بين الناس باسم ” صحيح البخارى ” .
لقد طبع البخارى الفكر الإسلامى والإنسانى بنبوغه في مجال علم الحديث النبوى الشريف رواية ودراية ، بما ابتكره من نظريات ، وأصله من أصول في السنة النبوية التى حفظها وأحاط بفنونها وعلومها حتى استوعبها ، وقدم فيها عطاءه الكبير الذى يمثّل عبقريته الفذة ، ألا وهى نظريته في الحديث الصحيح ، بما وضع لها من أسس وقواعد ، ومن شروط وآفاق ، مستخرجا لذلك صحيحه العظيم الذى يعدّ ثانى كتب الإسلام بعد القرآن الكريم .
وقد يعلم أو لا يعلم البحيرى ومن على شاكته ممن يطعنون في البخارى وأنه ليس له قدسيّة ، أن منهج البخارى الذى بذل فيه الجهود المضنية ، والتفكير العميق ، مع ما منحه الله به من حافظة واعية ، وذهن وقاد ، هو الذى أخرج لنا كتابه الصحيح الذى طبق فيه شروطه وقواعده في الحديث الصحيح ، هذا المصطلح الكبير الذى كان أول من قننه وابتكره ووضعه للناس ، ليبقى دليلهم الملهم في مجال السنة النبوية الصحيحة ، ومرشده الم ومعلمهم وهاديهم إلى ما يحتاجون إليه ، في تشريعهم ونظمهم ، وحياتهم ، من حديث الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام .
لقد كان البخارى على معرفة عميقة بالرجال والأسانيد فهو الذى يقول : ” ما عندى حديث لا أذكر إسناده ” .
يقول البخارى : ” رأيت النبى – صلى الله عليه وسلم – في المنام وأنا بين يديه أذب عنه بمروحة في يدى ، فسألت بعض المعبرين في ذلك فقال لى : أنت تذبّ الكذب عن رسول الله ” .


نشر منذ

في

من طرف

الآراء

  1. الصورة الرمزية لـ نعيم موسى
    نعيم موسى

    بارك الله فيك أستاذ محمد وجزاك الله عن الإسلام والمسلمين خيراً
    همم تعالت عن قمم الجبال ….. هكذا كونوا أو لا تكونوا

  2. الصورة الرمزية لـ محمد سعيد الكتيابي
    محمد سعيد الكتيابي

    جزاك الله خيرا فقد كنت ناصحا صادقا لم تشتم ولم تهاتر لكن هو قد صدق فيه قول الاعشي ,كَـنَـاطِـحٍ صَـخــرَةً يَـوْمــاً لـيـوهـنـهــا

    فَــلَــمْ يَـضِــرْهــا وَأوْهَـى قَـرْنَهُ الـوَعِلُ

  3. الصورة الرمزية لـ د.عبد العالم القريدي
    د.عبد العالم القريدي

    جزاكم الله عنا خير الجزاء، فالبخاري وأغلام الحديث أطواد شامخة لا يضيرها من كان بعيداً عن الأمانة والموضوعية، فتلك الكتب تلقتها الأمة بالقبول وهذا يكفي

اترك رد