.. وأهمية التدبير العمومي الجديد/
تقديم:
خلال السنوات الأخيرة أصبح موضوع الجهوية يحظى باهتمام ملحوظ، كإطار ملائم لبلورة إستراتيجية بديلة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية المحلية و تنسيق مختلف تدخلات الفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين وتطوير هوامش الحرية السياسية على المستوى الجهوي والمحلي.
فقد غدت سياسة اللامركزية خاصة على المستوى الجهوي موضوعا مركزيا في الخطاب السياسي الرسمي والدراسات الأكاديمية مند صدور دستور 1996 وقانون تنظيم الجهات 96-47 في أبريل 1997 ثم ما تلا ذلك من نقاش حول قضية الصحراء وهو نقاش يعكس في جانب كبير الصعوبات السياسية والتقنية التي ظل تواجهها السلطة المركزية في بلورة سياسة جهوية عقلانية منسجمة مع الدينامية الاجتماعية والمجالية الحالية وما تفرضه من تحديت لآليات ومقاربات السياسات التنموية.
فمن ناحية التاريخ السياسي المغربي الحديث يمكن القول انه مباشرة بعد الاستقلال راهنت الإدارة المغربية الجديدة بوصفها الوصية على إرث الحماية على مراقبة مجالها الترابي بدل البحث عن خلق وتطوير شروط التنمية المحلية والمشاركة السياسية لدلك تراجع الاهتمام بالتنظيم الجهوي ليحل الإطار الإقليمي والجماعي بغية فرض سلطة الدولة الإدارية والسياسية، ولم يعد الاهتمام بالمجال الجهوي إلا بعد استفحال الفوارق الجهوية وعجز الإطار الإقليمي عن تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والقضاء على الاختلالات المجالية الموروثة عن السياسة الاستعمارية.
ومع ذلك فان محاولة تقييمية بسيطة توضح بجلاء مدى ضعف حصيلة السياسة الجهوية بالمغرب بفعل عدة عوامل متعددة ومتداخلة لعل أهمها معضلة سوء التدبير المحلي مما يستدعي إعادة التفكير العلمي في طرق واليات تدبير الشأن العام المحلي والجهوي.
المحور الأول- أهمية التدبير الجديد في تأسيس سياسة جهوية عقلانية
يعتبر مفهوم التدبير من ابرز الاهتمامات الأساسية والأصلية لعلم المنظمات، خاصة الاقتصادية منها، لكن رغم هذا التوجه البرغماتي عمل رواد المقترب التدبيري على استخراج نظريات ونماذج تهم التدبير المحكم المعقلن داخل أي منظمة، كيفما كان مجال اشتغالها سواء عامة أو خاصة.
لذلك يمكن القول أن هدا التطور، قد جاء نتيجة الرغبة في دعم التطور الشامل الذي عرفته المجتمعات الغربية غداة الثورة الصناعية، في المجالات الاقتصادية والاجتماعية وإعطاء نفس جديد لمفهوم الدولة، من خلال ظهور وتطور علم حديت للإدارة.
فإذا كان القانون الإداري بالمعنى الكلاسيكي قد ظل يهتم أساسا بالقواعد القانونية التي يتم من خلالها تنظيم الوظيفة الإدارية فإن علم الإدارة الحديث قد حول هدا الاهتمام نحو الطريقة أو الثقافة التي تطبق بها تلك القواعد القانونية بمعنى دراسة السير الحقيقي للإدارة العمومية ودلك في خضم الاهتمام ببناء الدولة الحديثة كمخرج عقلاني وحيد من النظام الفيدرالي إلى نظام الدولة الموحدة لدلك اهتم العلم الجديد في مرحلته الأولى بجمع النصوص القانونية الوضعية ووصف المؤسسات الإدارية واقتراح التغييرات الضرورية لها، كضمانة أساسية لتكريس واستمرارية النظام الاجتماعي الجديد وبالتالي تقوية الدولة الليبرالية الجديدة وإيجاد الضمانات الضرورية الكفيلة بمنع كل التجاوزات المحتملة ضد شرعيتها.
فمع تسارع وتيرة التحول والتغير الاجتماعيين، طرحت الجهوية كإختيار تدبيري للمجتمع، يهتم بجميع جهاته ومجالاته وقطاعاته الإنتاجية المتعددة. ومن أهم نتائج هده التحولات، والتي كانت – بشكل أو بأخر –وراء تدعيم تبني سياسة ” الجهوية” ما يلي:
– تنامي تقسيم العمل الاجتماعي :فالمجتمعات الحديثة، ونظرا لتعدد وتعقد مكوناتها مؤسسات، وبنيات، وعلاقات، وأنماط معرفية وقيمية الخ قد أصبحت تتطلب ” التخصص الوظيفي بحيث نجد أن كل فرد،وكل جماعة، أو جهة أو قطاع أو مؤسسة،أو مجال الخ تتخصص في مجال معين مضبوط ينتظر منه أن يشتغل في إطاره داخل حدود الأهداف والوظائف المرسوم له من طرف المجتمع العام. ويتوقع، في إطار الإلتزام بمعايير ومقتضيات هذا التخصص، أن يصبح القطاع، أو الجهة، أو المؤسسسة المعنية أكثر من إيجابية ومردودية.
– تطور مفاهيم الديمقراطية ومبادئ تكافئ الفرص الاجتماعية بين الجهات والمناطق ومجالات المجتمع. ويندرج مفهوم” الجهة ” بكل دلالاته وحوامله ضمن السياق العام لتطور الديمقراطية في المجتمعات الغربية. لدلك فإن” الجهة ” كمكون أساسي في المجتمع، ستصبح في ظل هذه الشروط ممتلكة لحقها في ممارسة الإختلاف والتميز في حاجاتها واولوياتها واهتماماتها، وفي نهج مختلف أساليب الديمقراطية للتعبير عن مطالب وخصوصيات هذا الإختلاف والتميز، بل ولهيكلة وتدبير هذا الإختلاف أيضا،وفق ما تمليه ظروفها الاجتماعية والاقتصادية والبشرية الخاصة.
-تبلور المفاهيم المرتبطة بالتنظيم العقلاني للمجتمع، وذلك على إعتبار أن هذا التنظيم كمفهوم جديد، يقوم على إستراتيجية بناء وتنظيم المؤسسات والمجالات الاجتماعية على أساس عقلاني رشيد، يرتكز، في سياسة المهام والوظائف والمسؤوليات- سواء بالنسبة للإفراد أو المؤسسات أو الجهات- على الكفاءات والخبرات الفنية والاجتماعية لا على العلافات القرابية والزبونية أو غيرها من الإعتبارات اللاعقلانية.
لدلك فان تطبيق مناهج الإنتاجية في المقاولات الصناعية الخاصة على الإدارة العمومية قد شكلت أهم رهانات هده المرحلة من خلال تبني المفاهيم والقيم الجديدة في مجال التسيير والتدبير وهي تتمحور حول المنافسة والفعالية والمردودية.
وعليه فان من شأن هذا التصور العقلاني للجهة كفضاء جديد للتداول السياسي والتدبير الجيد للقرار العامة المحلي في مجال السياسات العامة التنموية أن يمكن بشكل أقوى من ترسيخ الديمقراطية على المستوى المحلي بفضل اضطلاع المواطنين بصورة أوسع بطرق تسيير شؤونهم بأنفسهم.
لذلك فإن الجهوية الادارية المعمول بها حاليا لا يمكن أن تشكل حلا لقضية الصحراء ما لم يتم تطويرها الى جهوية سياسية قادرة على خلق المناخ الضروري للحديت عن ثقافة التدبير العمومي الجديد الدي وحده الكفيل بالحفاظ على الوحدة الترابية للدولة.
المحور الثاني- الحكامة الرشيدة وعقلنة القرار المحلي
فلكي تكون الحكامة رشيدة في تدبير الشأن الجهوي والارتقاء بتنمية الجماعات المحلية بالمغرب ينبغي أن تقوم على أساس مشروع تنموي محلي يأخذ بعين الاعتبار عدة مرتكزات أساسية أهمها :
-المشاركة: حيث يتعين أن يشارك في بلورة المشروع مختلف مكونات المجتمع خاصة المؤسسات الجامعية ومراكز البحث في بلورة الشق النظري للمشروع التنموي المحلي والتحديات التي تواجهها الجهة والإقليم والجماعة، والمجتمع المدني في الشق التطبيقي بالإضافة إلى إشراك كل المؤسسات في مجال اختصاصها من منظمات نقابية ومؤسسات الخ
-الشفافية: خاصة في مجال تبادل المعلومات بين مختلف المتدخلين كضمانة ضرورية للتشخيص السليم وللتخطيط العلمي والتقييم الدقيق للقرارات المتخذة.
-المحاسبة: دلك أن كل مشروع تنموي محلي هو في الأساس عبارة عن توافق وتبادل للالتزامات من أجل تحقيق نتائج وأهداف مشتركة. بمعنى أن أي إخلال بأي من هذه الالتزامات سيضر بمجمل المشروع لذا يتعين اتخاذ جميع الإجراءات اللازمة لمتابعة تنفيذه. مما يستدعي أن تلعب المجالس الجهوية للحسابات دورها كاملا في محاسبة ومتابعة وتقييم أداء مالية الجماعات المحلية.
-الانجـاز: بحيث يعد إشراك كافة المتدخلين، والتواصل الفعال والمستمر فيما بينهم من الشروط الأساسية لتأمين الانجاز العقلاني لمشاريع التنمية، على أساس الجودة والفعالية، والحد من هدر الوسائل والإمكانات.
وهو توجه من شانه المساهمة في تاسيس وترسيخ الإدارة العقلانية الحديثة، على المستوى المحلي والجهوي وذلك من خلال المحددات التالية:
المحددات |
التسيير الحالي |
التدبير العمومي الجديد |
الأهداف |
احترام القواعد والمساطر | تحقيق النتائج وإشباع حاجة الزبون |
التنظيم |
المركزي (تراتبية وظيفية وبنية هرمية) | اللامركزي (تفويض الاختصاصات والحكامة) |
تقسيم المسؤوليات (السياسي والإداري) |
غامض | واضح |
تنفيذ المهام |
التقسيم، التجزئ، التخصص | الاستقلالية |
التوظيف |
على أساس المباريات | على أساس العقود |
التحفيز |
على أساس الأقدمية | على أساس الاستحقاق، المسؤولية والمردودية |
الميزانية |
على أساس الإمكانيات | على أساس الأهداف |
المحور الثالث- وظائف التدبير العمومي الجديد
وفي هذا الصدد يقوم التدبير العمومي الجديد على مجموعة من الوظائف أهمها:
أ- الوظيفة الإستراتيجية من خلال:
– تبني تقنيات التسيير المعتمدة على مبدأ النتائج.
– إخضاع القرارات العامة لمبادئ التخطيط الاستراتيجي.
– السير قدما نحو مزيد من سياسات خوصصة المقاولات العمومية.
– وضع أسس شراكات فعالة بين القطاع العام والخاص
– الفصل الصارم بين الوظائف السياسية (التي ينبغي حصرها في التصور العام للقرارات) والوظائف الإدارية (التي ينبغي تكليفها بالسهر على تطبيق وتقييم هذه القرارات).
– دعم اختصاصات الإدارات المحلية بمزيد من سياسات اللامركزية وعدم التركيز.
– تعميم استعمال التقنيات الجديدة في مجال الإعلاميات والتواصل .
– تعميم تقنيات تقييم القرارات وفق ثقافة المردودية.
– تبسيط المساطر والإجراءات الإدارية.
أ- الوظيفة المالية، وتشمل:
– إخضاع كل برنامج أو قرار لمبادئ الميزانية.
– الحرص على تحقيق أعلى مستويات الشفافية المحاسباتية من قبيل تبني تقنيات المحاسبة التحليلية (comptabilité analytique) بهدف مقارنة النتائج بالتوقعات.
ج- الوظيفة التسويقية التواصلية: وذلك عبر تطوير قنوات التواصل والانفتاح بين الإدارة ومحيطها السوسيو اقتصادي من خلال عدة تقنيات أهمها:
– إجراء الاستشارات.
– القيام ببحوث ميدانية
– إجراء استطلاعات للرأي.
د- الوظيفة البشرية أو تدبير الموارد المشرية للإدارة العمومية، وذلك من خلال :
– منح مزيد من المسؤولية للموظفين والعمل على تحفيزهم.
– فتح قنوات المشاركة في اتخاذ القرار.
وعليه فإن تحقيق مبادئ التدبير العمومي الجديد داخل الإدارة العمومية المحلية يتطلب الانفتاح على العديد من التخصصات العلمية والتقنية، خاصة تلك التي نشأت وتطورت داخل المقاولة الخاصة، مما يعني أن الأمر يتعلق بتوجه جديد يدفع الدولة والجماعات المحلية إلى إعادة طرح السؤال حول دورها ومهامها في اطار فصل أفقي للسلطة. وعلى ضوء هذا التحليل يمكن أن نفسر استمرار الاختلالات الجهوية في المغرب، وضعف مردودية جل القرارات المتخدة والسياسات المتبعة محليا وجهويا وذلك بفعل خضوع هذه التجارب للعديد من الراهنات السياسوية والصراعات الاعيانية وتنازع المصالح الخ.
لائحة المراجع
خالد فريد: الحكامة والسياسة مساهمة في نقد البعد المعياري للمفهوم، مجلة الدولية،ع 5 ، مراكش 2009
صالح المستف: التطور الإداري في أفق الجهوية بالمغرب، مطبعة دار النشر، الدار البيضاء 1989
أحمد درداري: الأبعاد السياسية والاجتماعية لنظام الجهة بالمغرب، أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون العام، 2001 -2002
علي سدجاري: الدولة والإدارة بين التقليد والتحديث، دار المناهل للطباعة والنشر، 1994
-Khalid Farid /La théorie des organisations : contribution à une étude psychosociologie des organisations modernes. Imprimerie ELWATANYA, Marrakech(2010)
-Lefevre Christian / Gouvernance, institutions, territoires/ in, Colloque: la ville éclatée 8-20-Juin 1996, Ecole Nationale des Ponts et Chaussées, Paris, 1996
-Balme, A. (et autres) / les Nouvelles politiques locales, Dynamiques de l’action publique/ Presses de la fondation nationale des sciences politiques, 1999
– Chevalier J. et Lochak D. / Rationalité juridique et rationalité managériale dans l’administration française / in “Revue française d’administration publique” n° 24 (1982)
– Laufer Ret Burlaut A / Management public : gestion et légitimité / éd. Dalloz, Paris (1980).
-Hufty M. (et autres / la pensée comptable : Etat, néolibéralisme, nouvelle gestion publique / éd. PUF, Paris (1998).
* د. خالد فريد
أستاذ باحث ( جامعة القاضي عياض-مراكش-)
اترك رد