يعد رومان رولان Romain Rolland (1944-1866) الفائز بجائزة نوبل للآداب سنة 1915 أحد أبرز الوجوه الفكرية المحترمة في فرنسا التي عارضت الحرب العالمية الأولى (1914-1918) مخاطرا بحياته، وسمعته، ونفوذه من أجل المُثُل الإنسانية العليا. ففي خضم الأجواء المتشنجة التي عرفتها سنوات الحرب والتي خلفت هذيانا جماعيا، وهيجانا مدمرا، وعداء مستفحلا بين الدول الأوروبية، وفوضى دموية تجاوزت العشرين مليون ضحية بين قتيل وجريح ومفقود، بدأ رولان يُعَبِّأ لحلم مغامرته المتمثل في تكوين جبهة ثقافية عالمية ومستقلة تضم الفنانين، والعلماء، والمفكرين المتشبعين بالقيم الإنسانية العالمية والتي تتولى مهمة فتح حوارات أكاديمية علمية وصريحة تقود للسلم الدولي، ولرأب الصدع بين الشعوب المتحاربة.
ففي الوقت الذي توزع فيه المشهد الثقافي الأوروبي ما بين مؤيد ومعارض للحرب ولنتائجها المدمرة، كان رولان خلال هذه المرحلة نموذج المثقف النشيط والدليل الأخلاقي المشتبك مع مجريات الأحداث عبر البحث عن كيفية منع الحرب، ورفض القتل الجماعي، ومقاومة المجزرة في أوروبا، والالتزام بخدمة الحقيقة الحرة. ففي الثالث من أغسطس سنة 1914 كتب يقول: “إنه لأمر فظيع أن تَعِيشَ في خضم هذه الإنسانية المجنونة، وتَشْهَدَ بلا حول منك ولا قوة انهيار الحضارة. فهذه الحرب الأوروبية هي أكبر كارثة في التاريخ.” إن منظور رولان الإنساني للواقع الأوروبي إبان الحرب تمت بلورته من خلال كتابه فوق المعركة Au-dessus de la mêlée الذي يحوي ست عشرة مادة، عبارة عن رسائل مفتوحة، ومقالات، وبيانات في النقد الأدبي والصحافة السياسية، والتي تم نشرها على صفحات لوجورنال دو جونيف Le Journal de Genève. فالمهمة الحاسمة للمثقف وفق رؤيته الواقعية تهدف إلى المصالحة، وأنسنة الحرب، واحترام العدو، والتحضير لسلام مستدام، وإذابة جميع أشكال الكراهية، عوض الانسياق الأعمى وراء النزاعات الشوفينية المجنونة.
أما التحدي الفكري فيتمثل في بقاء المثقف المسؤول ملتزما بالمثل العليا، وبقيم الحرية والعدالة الاجتماعية، وفهم الآخرين، ورفض تعميم الحقائق أو تشويهها، والسعي لمنع الانهيار التام والانتحار الشامل: “لأكثر من أربعين قرنا كان جهد العقول العظيمة التي حققت الحرية يتمثل في توصيل هذه النعمة للآخرين، وتحرير الإنسانية، وتعليم الناس كيفية رؤية الواقع دون خوف أو خطأ. والنظر لأنفسهم في المرآة بنظرة خالية من الافتخار الكاذب أو التواضع الزائف، والاعتراف بضعفهم وبقوتهم، ليكون بمقدورهم معرفة وضعيتهم الحقيقية في الكون”.
لقد كتب رولان العديد من الصفحات عن الانجراف الفكري الأعمى للمثقفين نحو النزاع الدامي، وحَضَّهم على التحرر من الموروث الثقافي والتاريخي الذي يذكي الصراعات بين الأمم. فالحرب لم تكتف بخلق القطيعة بين الشعوب، بل أشعلت معارك ومشاجرات عنيفة بين المثقفين المؤيدين والمعارضين للحرب. كما تناول الكتاب في جوهره الاعتراف المؤلم بفقدان الحس السليم من قبل جميع المشاركين في المذبحة الجماعية خلال الحرب العالمية الأولى. فكلمة ‘فوق المعركة’ لا تحيل فقط على الانفصال والحياد وإلغاء الروابط والولاءات ، بل أيضا على مسافة للسمو فوق الخلافات، وعلى درجة إضافية لتفوق المثقف المفكر الذي يرفض الانحياز لأي طرف من الجانبين المتعاركين، لأنه يؤمن فقط بالإنسانية وسمو الحضارة.
بتعبير آخر، فإن ‘فوق المعركة’ هو هجوم فكري مضاد حاول تعطيل الإجماع الغير المسبوق لصالح الحرب الضروس، واختراق لظلام الرقابة ووحشية الغضب القاتل رغم اعترافه بأن “مثل هذه الأفكار، لديها فرصة ضئيلة للاستمرار في هذا العصر. “بالإضافة إلى ذلك، فإن الكتاب تجسيد لرفض رولان لضغوط كبيرة في لحظة تاريخية مفصلية من تاريخ أوربا، وتحديه لكل الخطابات المثيرة التي تحاول شرعنة الكارثة من قبيل شعارات ‘الوحدة القومية’ و’الاتحاد المقدس’ من أجل الحرب. فقد أشار بوضوح إلى أن كتاباته تدعو لاستعادة التعقل وسط أزيز الرصاص الطائش، ودم الخنادق النازف دون جدوى: “تعالوا لنتخذ موقفا! ألا يمكننا مقاومة هذه العدوى، مهما تكن طبيعتها وخبثها سواء كانت وباء أخلاقيا أو قوة كونية؟ ألا نحارب الطاعون، ونناضل من أجل إصلاح الكارثة التي أحدثها الزلزال؟ . . . لا ! إن حبي لبلدي لا يقتضي أن أكره أو أن أقتل تلك النفوس النبيلة والمخلصة التي تحب وطنها هي الأخرى، ولكن على العكس من ذلك، يتحتم علي تكريمهم والسعي للتوحد معهم لمصلحتنا المشتركة.” وإذا كانت الحرب حسب رولان “تنبع من الضعف والغباء”، فمن واجب قادة الفكر والثقافة في أوروبا النظر بهدوء أكثر وسط أنقاض الدمار والمذابح ليرفعوا الصوت فوق غضب العاصفة، لأن “التاريخ في يوم من الأيام، سيحكم على كل دولة من الدول المشاركة في الحرب، وسيزن مقياس الأخطاء، والأكاذيب، والحماقات الشنيعة”.
من هذه الزاوية، فالكتاب يُعَدُّ بَيَانَ احتجاج ضد المثقفين، والفنانين، والموظفين العموميين، والصحفيين، ورجال الأعمال، ورجال الدين الذين عمقوا مشاعر العداء المخيف وأخضعوا أنفسهم لعَسْكَرَة الفكر، وأهواء التعصب، وديمومة حريق الحرب القاتل. وإن اعترف رولان بأنه “لا يمكننا وقف الحرب، بل الغرض أن نجعلها أقل مرارة” وأن “نحاول تقليل الأخطاء قبل أن يحكم علينا التاريخ”، فقد عبر عن أسفه لتدمير العقل، والتخلي عن الحس النقدي، وحث المثقفين على ممارسة الاحتجاج ضد الحرب، وأعرب عن أمله في أن يكلل جهد المثقف “بحفظ الفكر … في مأمن من ويلات الحرب، من خلال الاستمرار في تذكيره بأن أوجب الواجب، حتى في أسوأ العواصف، هو إنقاذ الاتحاد الروحي للإنسانية المتحضرة.”
وإذا كانت مواقفه صرخة في واد عشية اندلاع الحرب العظمى عام 1914، فإن رولان وخلال فترة 1916-1919 أصبح بمثابة المرجعية الفكرية المركزية لمناهضي الحرب في أوروبا وأمريكا والعالم بأسره. وبعد توقف الحرب، عاد الرجل لحلم مشروعه المتمثل في بناء الأخوة الفكرية من خلال تجنيد النخبة المثقفة القائم على مبادئ استقلالية الفكر والاحترام المتبادل للثقافات، وتوحيد الكتاب من جميع الدول الأوروبية حول المفهوم الثقافي للمجتمع الأوروبي. فقد أكد رولان على حق المثقف في التفكير والتعبير والكتابة والنشر بكل حرية بعيدا عن قيود الرقابة والنزعات القومية والتجاذبات السياسية، علاوة على الوقوف في وجه مؤامرت الصمت والإذعان والعلاقات العديمة الأخلاق. فقد نشرت صحيفة لومانيتيه L’Humanité الفرنسية في السادس والعشرين من يونيو سنة 1919 نصا مكتوبا من طرف رولان تحت عنوان “الإعلان الفخري للمثقفين” (Fière déclaration d’intellectuels) والمعروف أيضا بإعلان استقلال الفكر. وكان هذا البيان مناهضا للحرب، ولعسكرة الحياة الثقافية والفنية، وذا نزعة إنسانية وتنديدا بالمثقفين الذين وضعوا علمهم وفنهم وعقلهم في خدمة الحكومات، وبالتالي المساهمة في الموت والدمار، ونقض قيم التفاهم والحب بين الشعوب.
فتنازل المثقف وتنحيه عن مهمته الفكرية والتاريخية وفق رولان يعني الاستسلام والتخلي عن المسؤولية العقلانية والأخلاقية في لحظة مفصلية يسيطر عليها جنون الحرب والإنتقام. كما أنها انتهاك لسلطة المثقفين الأوروبيين وتَعَدٍّ على حق من حقوقهم في الدفاع عن الثقافة والعقل والقيم الإنسانية. فالحرب قد أبطلت مرارا وتكرارا الأسس الحقيقية للإبداع وخلقت وضعية حرجة لأطروحة استقلالية الفكر، وموضوعية المثقف، وحرية النقد، والحق في الانحياز للعقل والمنطق، ومقاومة الحرب، ومعارضة العنف والقمع والرأي الأحادي الأبعاد. فالعقل، كما يؤكد رولان، سيِّد نفسه، ولا يخضع لأي سلطة أو لأي تسلسل هرمي أومعايير خاصة، بل إن العقل أو الفكر غاية في حد ذاته: نقي، ومقدس، وغير قابل للتجزيء أو للتصرف. وإذا لم يقم المثقفون بعملية النقد الذاتي والتحكم في أهواء المشاعر بلجام العقل، والسمو بالفكر عاليا عن إكراهات التحالفات السياسية والقومية والحزبية والقبلية والاجتماعية، سيبقى المشهد الثقافي أشل ومريضا بالفساد الأخلاقي، وساحة مستباحة لتبرير الخراب ولسفك المزيد من الدماء.
وقد كان لبيانه المذكور ثـأثير قوي حيث حظي بتجاوب واسع من قبل النخب المثقفة إذ وقعه أربعون مثقفا من عدة بلدان شملت فرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، وبلجيكا، وبريطانيا، وأمريكا، وغيرها. فالبيان حث الزملاء المثقفين على نسيان أخطاء الماضي عبر التصدي لِقِوَى التجييش العسكري، والنزعات القومية، والرقابة، والكراهية التي أفضت إلى تقسيم الدول أثناء الحرب العالمية الأولى. ومن أجل تفادي ويلات الماضي، لم يذكر البيان أي شخص باسمه ولم يتهم أحدا، بل دعا إلى إعادة بناء الوحدة الأخوية وفتح حدود مدارك العقل بموازة إعادة فتح الحدود بين الدول. كما أكد على أن دور المثقفين يتجلى في قيادة البشرية جمعاء نحو روح الإخاء الذي سينتصر على الصراعات العبثية والعمياء، بالإضافة إلى تشكيل قوة معارضة للحرب في المستقبل، لأن الحرب مرض يهدد بتدمير الثقافة والحضارة برمتها.
ولأهمية هذا البيان الثقافية والتاريخية نترجم أهم فصوله: “خُدَّامَ العقل ، أيها الرفاق المنتشرون في جميع أنحاء العالم، والمفصولون منذ خمس سنوات من قبل الجيوش والرقابة وكراهية الدول المتحاربة، نخاطبكم في هذا الوقت حيث تسقط الحواجز وتفتح الحدود من جديد لنوجه إليكم نداء لإصلاح اتحادنا الأخوي، يكون اتحادا جديدا أقوى وأشد تثبيثا من سابقيه. لقد ألقت الحرب الإرباك في صفوفنا. فمعظم المثقفين وضعوا علمهم، وفنهم، ومنطقهم في خدمة الحكومات. نحن لا نريد أن نتهم أحدا، أو أن نوجه اللوم لأحد. نحن نعلم ضعف النفوس الفردية والقوة الأساسية للتيارات الجماعية الكبيرة . ففي لحظة وجيزة، خبت جذوة الأولى بسبب الأخيرة، لأنه لم يتم تحضير أي شئ يمكنه المساعدة في العمل المقاوم. لندع هذه التجربة تساعدنا في المستقبل على الأقل. أولا، وبالنظر للكوارث التي أدت إلى اختطافٍ شبه كلي لذكاء العالم واستعباده الطوعي من طرف القوات الغازية، فإن المفكرين، والفنانين قد أضافوا لوباء الطاعون الذي يلتهم جسد أوروبا وروحها قدرا لا يحصى من الكراهية السامة. لقد بحثوا في ترسانة معرفتهم، وفي ذاكرتهم، وفي خيالهم عن الأسباب القديمة والجديدة، وعن الأسباب التاريخية والعلمية والمنطقية والشعرية للكراهية. لقد عملوا على هدم التفاهم والحب بين الناس. وبذلك، شوهوا، وقبحوا، وحطوا، ودمروا الفكر الذي كانوا ممثلين له. لقد جعلوا الفكر(وربما بدون إدراك) أداة للأهواء، وللمصالح الأنانية لعشيرة سياسية أو اجتماعية ما، لدولة ما، لبلد ما، أو لفئة معينة. ولحد الآن، فإن جميع الدول المتصارعة في هذه المعركة الوحشية، سواء كانت منتصرة أو منهزمة تخرج جريحة وفقيرة، ورغم عدم اعترافها بذلك، تحس في قرارة نفسها بالخجل والإهانة بسبب أزمتها الجنونية، حيث يخرج فكر التنازلات المصاحب لحروبهم ساقطا من العلياء. انهضوا! حرروا العقل من هذه التنازلات، من هذه التحالفات المهينة، ومن هذه العبودية الخفية! إن العقل ليس عبدا لأحد، بل نحن خَدَمٌ للعقل. وليس لدينا أي سَيِّدٍ آخر. لقد خُلِقنا لنَحْمِلَ نُورَهُ ونُدَافع عنه. ولنحشد حوله جميع الرجال المتمردين. فَدَوْرُنَا، ووَاجِبُنا هو الحفاظ على نقطة ثابتة، وتبيان موقع النجم القطبي وسط زوبعة الأهواء لَيْلاً. فمن بين أهواء الفخر والتدمير المتبادل، لا ننحاز نحن لأي من الخيارات؛ بل نرفضها جميعا؛ نُكْرِمُ الحقيقة الحرة وحدها بدون حدود، بدون قيود، وبدون أحكام مسبقة عن الأعراق أو الطوائف. بالتأكيد، نحن لا نفتقد الاهتمام بالإنسانية. بل نعمل من أجلها، ولكن من أجلها كُلِّيَّةً. نحن لا نعرف الشعوب. ولكن نعرف الشعب الواحد، العالمي، الشعب الذي يعاني، الذي يكافح، الذي يسقط وينهض، والذي يتقدم دائما على الطريق الوعرة غارقا في العرق والدم – شعب كل الناس وجميع الإخوة بالتساوي. ومن أجل تحقيق الوعي بهذه الأخوة مثلنا، نرفع فوق معاركهم العمياء تابوت عهد الرب، والعقل الحر الأوحد والمتعدد، والأبدي.”
ختاما، وجب التذكير -من الناحية المنهجية- بأن هذه القراءة النقدية تناولت بالتحديد مرحلة رئيسية من حياة رولان بدأت باندلاع الحرب العالمية الأولى سنة 1914 التي تشكل السياق التاريخي لكتابه فوق المعركة، وانتهت بسنة 1919 عندما أطلق رولان مشروعه الشهير ‘النداء الفخري للمثقفين’، قبل أن تعرف مواقفه تغييرات جذرية بسبب التطورات اللاحقة التي عرفتها أوروبا وخصوصا تجاه الثورة البولشيفية بالإتحاد السوفياتي السابق، وسيطرة الفاشية والنازية على إيطاليا وألمانيا.
اترك رد