بساط التفكير الايجابي مطية أي تنمية

تعلم الانسان من السبورة الكونية كل العلوم ، فما مختلف مظاهر الحداثة التي نعيشها الا تجميع لمتباين التجارب الانسانية و ابتداع الأفكار الخلاقة و تطويرها من خلال قوة الخيال العقلي لدى الإنسان و تنزيلها على أرض الواقع حسب الامكانات المتاحة.
إن حث القرآن الكريم على قراءة الكتاب الكوني بمعية قراءة الكتاب المسطور في قوله الأزلي “اقرأ “أصبح حقيقة لا مراء فيها لكل من كان له قلب أو ألقى السمع و هو شهيد.
سيرا على نفس المنهج تدبر أحد الحكماء و هو الروائي الفرنسي المعروف غي دو موباسان Guy de Maupassant،1 في حقيقة العطر و ما حباه الله من رائحة تفوح لتعبق فوق ثياب كل من رش أمامه بقضية سامية في حياة الإنسان و هي السعادة ، فعبر عن ذلك في حكمة بليغة قائلا: “السعادة كالعطر لا يمكن أن ترشها على الآخرين دون أن تصيبك منها بعض القطرات”2. و هكذا فمن خلال هاته الإشارة اللبيبة يتضح بما لا يدع مجالا للشك دور المرافقة و الكوتشيغ في الترقي في أي ميدان علمي سواء كان تجريبيا أو نظريا، ماديا أو روحيا، فرديا أو مجتمعيا.
أشار الحديث الشريف المعروف قبل ظهور روائينا غي دو موباسان بألف سنة و نيف الى نفس هذا الفقه و الفهم قائلا ” إِنَّمَا مَثَلُ الجليس الصالحُ والجليسُ السوءِ كحامِلِ المسك، ونافخِ الكِيْرِ فحاملُ المسك: إِما أن يُحْذِيَكَ، وإِما أن تبتاع منه، وإِمَّا أن تجِدَ منه ريحا طيِّبة، ونافخُ الكير: إِما أن يَحرقَ ثِيَابَكَ، وإِما أن تجد منه ريحا خبيثَة” أخرجه البخاري و مسلم، فيتجلى من خلال الحديث ذي المغزي العميق دور المرافقة و الكوتشينغ في تنمية الفرد و المجتمع من خلال عدوى الأفكار الإيجابية و دورها في تلقيح هاته الأخيرة بعضها البعض و تطويرها من أجل انجاز كل مشروع فكري أو ثقافي أو روحي أو حتى مادي، كما لا ينجلي أيضا دور هاته المصاحبة في تجنب الأفكار السلبية و العكس بالعكس بمعنى أن الرفقة السيئة لا يخفى تأثيرها السلبي على الفرد و المجتمع.
شكى أحد علماء الاسلام السابقين و هو ابن عطاء الله السكندري معاناته من الهموم و الأحزان في فترة من فترات حياته الى شيخه في العلم أبي العباس المرسي فما كان من شيخه الذي خبر الحياة و تجاربها الا أن صاغ له قاعدة ذهبية من صميم فلسفة الاسلام ليجعلها نصب عينيه فتكون له بحسب رأينا بساطا و مطية للنجاة من الهموم و سبيلا لكل ترقية و تنمية فقال:”أحوال العبد أربع لا خامسة لها : النعمة و البلية و الطاعة و المعصية، فإن كنت في النعمة فمقتضى الحق منك الشكر، و إن كنت في البلية فمقتضى الحق منك الصبر، و إن كنت في الطاعة فمقتضى الحق منك شهود المنة عليك ، و إن كنت في المعصية فمقتضى الحق منك وجود الاستغفار” فقال ابن عطاء الله بعد أن سمع ذلك من مرافقه: “فقمت من عنده و كأنما كانت الهموم ثوبا نزعته”3.
لا ينبغي في رأينا فهم الشكر في هذا المقام ترداد كلمة الحمد باللسان و ان كان ذلك مفيدا، بقدر ما ينبغي فهمه بمعنى تقدير النعم حق قدرها أو تدبر المنح الالهية أو بالمصطلح العصري الوعي تمام الوعي بالإمكانات المتاحة التي وهبها الله لكل إنسان حتى يستطيع استخدامها أحسن استخدام و الاستفادة منها في تطوير الحياة اليومية بأعلى نسب الاستفادة، و يكفي أن نضرب مثالا وحيدا لفهم المقصود ، عبارة عن طرح تساؤل نبقيه مفتوحا هو : ماذا يمكن أن يحقق الانسان في مختلف مجالات الحياة إن هو وعى حقيقة عن طريق تطوير العلم بمدى قدرة الذاكرة و قوتها الحقيقية حيث أثبت العلم أن “للذاكرة البشرية قدرة كبيرة على استيعاب مليارات المليارات من المعلومات قدرها بعض العلماء بالرقم واحد و الى جانبه 79 صفرا..و لا يخفى على أحد أنه لا يمكن للإنسان استرجاع كل هذا العدد الهائل من المعلومات فإن ما يستطيع استرجاعه يكفي لملأ 90 مليون مجلد ضخم و يضاهي هذا العدد أضخم مكتبات العالم في العصر الحاضر و لو تم صف هذه المجلدات جنبا الى جنب لشكلت خطا طوله 450 كلم”4.
لا غرو أنه ينبغي أيضا أن لا نفهم من الصبر مفهومه التقليدي من انتظار الفرج و إن كان ذلك هو عين المقصود إن نحن صاحبناه بالعمل الدؤوب و تكرار المحاولة دون ملل و إن تكرر الفشل آلاف المرات و ما أديسون الا خير مثال يمكن أن نضربه في هذا السياق حيث أجاب أحد الصحفيين عندما سأله عن شعوره حيال 25ألف محاولة فاشلة قبل النجاح فى اختراع بطارية تخزين بسيطة، أجاب، “لست أفهم لم تسميها محاولات فاشلة؟ أنا أعرف الآن 25ألف طريقة لا يمكنك بها صنع بطارية.5.
مما سبق يمكن أن نستخلص ما يمكن أين يجنيه راكب بساط التفكير الايجابي من فوائد جمة تجعل منه سائرا في طريق كل رقي و مسرعا في سبيل كل تنمية إن هو أحسن الفقه و الفهم لكل نداء علمي أو آذان قرآني لما فيه صلاح دنياه و فلاح آخرته.

الهوامش:
1، غي دو موباسان (Guy de Maupassant) (1850- 1893)
كاتب وروائي فرنسي وأحد آباء القصة القصيرة الحديثة. وكان عضوا في ندوة إميل زولا.
2، دكتور عبد الستار ابراهيم ، عين العقل؟ دليل المعالج المعرفي لتنمية التفكير العقلاني-الايجابي، ص 5
3، ابن عطاء الله السكندري، لطائف المنن، ص8.
4، انظر هانون كوبر فيلد، قوة الذاكرة.
5، موقع كايرو دار: متعة المعرفة ، توماس أديسون المخترع الذى أضاء الدنيا.


نشر منذ

في

من طرف

الكلمات المفاتيح:

الآراء

  1. الصورة الرمزية لـ د.منى عبد القادر سعيد بلبيسي
    د.منى عبد القادر سعيد بلبيسي

    ومع ذلك فبساطة التفكير الايجابي تدعونا الى التوقف والتأمل الكبيرين لما حبانا به الله سبحانه وتعالى ولما ميزنا به عن بقية الكائنات الحية ،فالعقل البشري آية من أيات الله في خلقه ،لذا علينا احترام هذا الجهاز الفكري لدينا وان نعمل على رعايته حق رعايته منذ اللحظات الأولى لولادته…وذلك بتهيئة البيئة الغنية بالمثيرات الفكرية للطفل واعطائه الفرصة تلو الفرصة لتوجيهه للتعلم السليم من خلال البحث والاستكشاف والمتابعة غير المتسلطة …انما المحفزة لقدراته ، ودعم ثقته بنفسه وتوفير كافة الفرص المتاحة له في بيئته المحفزة لقدراته الابداعية ، شريطة توفير السلامة النفسية والحرية النفسية له كشرطين هامين لظهور القدرات الابداعية لدى الطفل اذا توفر لديه الاستعداد الوراثي لذلك.


اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: