البخارىّ بينَ المهابةِ والتَّقدِيس

بالرغمِ من كثرةِ الأباطيل والتُّرهاتِ التى قيلتْ من إسلام البحيرى وهولها ؛ فإنَّ الأشياءَ التى لَم تُقل ولا يُمكن أن تُقال أكثر وأهول …ماذَا يَحيكُ في النُّفوسِ المريضَة ، ماذَا يجول في بالِهم ، ماذا يدور في خَلَدِهم ، ما الذى يختلجُ في أفئدتِهم ؟؟ أشياء تفوقُ مدى التَّصور ، أشياء تتجاوزُ نطاق الواقعِ ، أشيَاء تروّع المجتمعَ الإسلامىّ وتذهلهُ ، وسفاسِف وأوضَار .

يتحدّث إسلام البحيرى بمفارقات ومتناقضَات لا يُمكن أنْ يُحيط بها حسبان ، وإنْ بدتْ مكررة ومسبوق صاحبها إلا أنَّها ترتفع بها الاتّهامَات ، وتنخفضُ بها الأذهان ، وهى على تنوعها من طعنٍ في البخارىّ لاتّهام لأئمة الفقه ؛ إلا أنّ اختلافها وركاكتها تعيى كلّ تعبير ، وتنفلت على كلِّ بيان ؛ لأنَّها دونَ الأفهَام .

ومن حُسن حظّ البشريةِ أنَّ ما كلّ ما يخطر بالبالِ يُقال ، ولا كلّ ما يقالُ يُكتب ، ولا كلّ مَا يُكتب يُنشر ، وإلا لانتشرَ على النَّاس وباءٌ وفسادٌ كأرجالِ الجَراد ! .

ولو أنَّنا ذكرنا كلّ القضايا الأكّاديميّة والشبهات والأباطيل والتّرهات التى تعرّضت لها السُّنة ، بل والإسلام عامّة منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام ، إذن لأصبحت الأرض مستنقعا وخيماً ، ولو جرت حولها الأنهار والترع – كما كان يقول المرحوم مصطفى الرافعى إمام العربية في عصره – .

إنّ ادعاء البحيرى أنّه يقوم بتنقيةِ التراثِ لوحده دون معطيات تُذكر ، أو مؤهلاتٍ تُعرف ، مُخالِف للفطرةِ النّقيَّةِ ؛ فمن آياتِ الله سبحانه وتعالى أنّ الإنسانَ مهمَا كانَ لا يمكنهُ أن يقُوم بأهون أمر بمفرده على حده … إلّا إذا كان مستعينًا بجهةٍ أو متعلقًا بناحيةٍ ، أو متصلًا بقدرة خارجة عن نطاقهِ … أمَّا إذا كانَ وحده ، فإنَّه أخيبُ من أنْ يصنع شيئًا ولو لنفسهِ فضلًا عن سواه !

لذا فإنَّ مؤسسة الأزهر وجامعته الأكّاديمية والتى أنشئت منذ أكثر من ألف عام جديرة بذلك وتقوم به على أكمل وجه دون إفراطٍ أو تفريطٍ ، حسب معطيات المناهج البحثيّة المعروفة .

إنَّ البحيرى يتحدّث بكلِّ ما يجُوز ومَا لا يجُوز ، ويهرفُ بالممكنِ وغير الممكنِ ، ويأتى بالأباطيلِ فيحلّها محلّ الحقائق ، ويلعبُ بذهنِ المستمع تصعيدًا وتصويبًا ، فتتذبذب عقيدة الإنسان بكلّ ذلك علوًا وسفلًا !

وبهذهِ البضَاعة القليلة والتى هى بمقياسٍ صغيرٍ لا تزيد عن ( الفِتْر ) في بحرِ العلمِ ، بضعة ضئيلة صغيرة التى يمتلكها إسلام البحيرى ، وللأسفِ يظلّ يتأرجَح يمينًا وشمالًا ولا يَستقرّ لحظَة …. صنع اضطرابًا في المجتمعِ ، واضطرابًا بمختلفِ الإحسَاسَات .

ولا يعنِى ذلك أنّنا نحتقر البحيرى – معاذ الله – فما منْ إنسانٍ مهما ضؤل وتفه إلّا وهُو يستحقّ الاحترام في ناحيةٍ ما من نَواحيه … ودواعى الاحترام تختلفُ بذلك أيمَا اختلاف في نفسِ المحترِم ، ( بكسر الراء ) وفى نفس المحترَم – بفتحها – على السّواءِ ، على أنّ هناك أمورًا يجبُ مراعاتها وحسابها في الردِّ العلمى ودواعيه التى دعت إليه .

بيد أنَّ أفكار إسلام البحيرى فقاقيع فارغة كفقاقيع الصّابون … تبدُو لمنْ لا يَعرف عن علم الحديث شيئًا برّاقة وجميلة التّكوين ، وكثيرًا ما تزدانُ بألوانِ العصر وأفكارِ المستشرقين فنجدُ فيها الأزرق والأخضر والبرتقالىّ ، ممّا يخطف البصر في لمحةٍ سريعةٍ ، لكنّها – وا أسفاه – لا تكاد تمسّ الهواء أو يمسُّها الهواء حتى تنفَجِر وتختفى كأن لم تنتفخ بلمعتها وألوانها منذ لحظةٍ يسيرةٍ ، ولا جَرم في ذلك ؛ لأنّ إسلام البحيرى يجعل من عقلهِ وما يَسرقه من ترهات وأباطيل معروفة أداة يعبثُ بها ويلهو ، ويصبح إنسانًا عابثًا لاهيًا ؛ إذ ما شحذ عقله شحذًا ، ليلد له عقله تصورات تبدو له وكأنها ” أفكار تنويرية ” يدفع بها الأمّة نحو التقدم ، وإذا هى في حقيقتها تنتسب إلى أسرة الفقاقيع الصابونيّة الخاليَة ِفي أجوافها حتَّى من الهواءِ ، وكأنّى بسائلٍ يسألُ : ما الفرق إذن بين الأفكار التى تُناقش ، وفقاقيع الصابون ؟ ، الأُولى ترسم لك طريقًا للردّ العلمى ، وقد تقودك إلى النجاح والتقدّم ، وإحكام النتائج البحثيّة وإتقانها ، أما الثّانية فهى تهوى بك إلى ما يُشبه الموت إذا لم يكن هو الموت نفسه ، وإنما هى – في أهون حالاتها – تقعد بنا قعودًا لا فعلَ فيه ولا حركة ولا تقدّم ولا إنتاج ، وتنحدر بالبحث العلمى انحدارًا ربما يُودى إلى التَّهلُكة .

وفى هذه الحلقةِ نناقش مهابة البخارى وعلو إسناده ؛ لأنّنا نجد البحيرى ومن على شاكلته يَطعن في البخارى نفسه وفى تراجم صحيحه ، وتارة أخرى يتعرض لعدم المناسبة بين التراجم والأحاديث المذكورة فيه :

وكم من عائب قولاً صحيحًا … وآفته من الفهمِ السقيم

وتعالوا نبدأ من البداية فنسأل : ولماذا نهيبُ صحيح البخارى ؟ ، ولكى أُجيب إجابةً بسيطةً وخاليةً من التعقيدِ وأضرب بعض الأمثلة من الصحيح الجامعِ ، أقولُ : رغم أنَّ حكم المحدثين والفقهاءِ – أيضًا- في شأنِ تراجم البخارى ّوفى منهجه أصبح مضربًا للمثلِ ، ونجدُ البخارى في صحيحه يعمل على تبيينِ الأصُول الحديثيّة أحيانًا ، ويحاولُ كشف عللها الغامضَة التى تحتاج إلى نظرٍ ثاقبٍ ، وفهمٍ صائبٍ ، وفطنةٍ خارقةٍ وذكاء ٍموهوبٍ مع سَعة الأفقِ وكثرةِ الاطّلاع ، وأنَّى لمن قلّتْ بضَاعته أنْ يَفهم كلَّ هذا ؟ .

فالبحيرى ومن على شاكلته طبائعهم معكوسة زائغة ، وعقُولهم قاصِرة ، وأنظارهُم ضَيقة ، يقيدون أنفسَهم برأيهم دونَ النّظر إلى معرفةٍ سابقةٍ ، أو الاتِّكاءِ على علمٍ ينيرُ لهُم الطّريق ، ويفتحُ لهُم فهم المغْلق …

ولو كلّفوا أنفسَهم ونظرُوا في مصنفاتِ كثيرٍ من المحدّثين وفحُول المصنّفين التى بيّنت مقاصد تراجم البخارى الجليلة ، ومنهجه في الجامع الصحيح ، وإشاراته الخفية الغامضة ، لزال اللبس الذى تعمدوا إظهاره وبيانه .

ولا يعنى ذلك أنَّ البخارىّ مسئول عن الفهمِ السقيم لنصوص الأحاديث ، أو الشرح الخاطئ للأحاديثِ ، فقد جمع الحديث ورتّبه بطريقة عجيبة ، في أبواب معروفة ، ولم يدّخر البخارى قليلا ولا كثيرًا من جهده وسعيه وتعبه وتضحياته وذاكرته الموهوبة إلاّ وقد بذلها في تأليفِ هذا الكتاب .

لقد التزم علماء المسلمين ، على اختلافِ مذاهبِهم ووجهاتِ نظرهم – ما عدا بعضُ الفرق – بأنْ يصلوا سلسلة أسانيدهم بالإمام البخارى إلى يومنا هذا ، وحقّ لهم ذلك فصحيح البخارى له مزيّة خاصة في هذا المجال ، فماذا تَرى في تَواتر كتابٍ قرأهُ تسعون ألف تلميذ على المؤلفِ في حياته ، فالنسفىّ الحنفىّ ت 537هــ صاحب ” النجاح في أخبار الصحاح ” وهو شرح لصحيح البخارى ذكر فيه أنَّ سلسلة سنده تتَّصل بالإمام البخارى من خمسين طريقًا ، إذن هذه هى المهابة !.

إنَّ الجامع الصحيح للإمام البخارى وهو المعروف بصحيح البخارىّ ، له خصوصية تميّزه عن باقى المصنفاتِ في الحديثِ ، فلا يوجدُ مكان على وجهِ الأرض وصَل إليه الإسلام إلا وتجد صحيحَ البخارى فيه ، ولم يحصلْ قطّ على امتدادِ التاريخ الإسلامىّ أن نالَ أىّ مصنف لأىّ محدّث ، أو أىّ مؤلَّفٍ لأىّ إمامٍ أو فقيه من المتقدمين أو المتأخّرين ، ما نالهُ هذا الكتاب من الفضلِ والشرفِ ، والقبولِ لدى الأمّة ، وأىُّ كتابٍ على وجهِ الأرض – عدا كتاب الله – تخضع له الأمّة الإسلاميّة كلّها؟ !

له الكتاب الذى يتلو الكتاب هدى … هذى السيادة طَود ليس ينصدع

فالكلّ مجمِع على الاعتراف بأنّ هذا الكتابَ أصحّ الكتبِ بعد كتاب الله ، ويتساوى في ذلك العربى والعجمى المصرى والسودانى والخليجى ، والمغربى ، والتركى ، والهندى … إلخ ، والمحدث والفقيه ، والمتكلم والصوفى ، ولا يشذّ عن ذلك إلا الجاهل الجهول .

ولذا استصعبَ الناس شرحهُ ؛ لأنّه يحتاج إلى معرفةِ الطّرق المتعددة ، ورجالها من أهل الحجاز والشام والعراق ، ومعرفة أحوالهم واختلافِ الناس فيهم … إلخ ، وقد قال العلاّمة ابن خلدون وهو من مؤرخى القرن الثامن ، وقد توفى في أوائل القرن التاسع وأكمل مقدمته في سنة 779هــ : ” أنَّ شرح البخارى إلى الآن دين على الأمة ” .

لذا لم يُؤلّف أحد من علماء المسلمين شرحًا يفى بهذا الدَّين ، ويبرئ الأمّة الإسلاميّة من عهدته على الرغم من أنَّ شروحًا عدّة قد ألّفت إلا أن أحدًا منها لم يَستوعبْ تلك النّكات الفقهية التى أودعها البخارى في تراجم أبوابِه ، ولا تلك الجواهر العلميّة والدقائق الحديثيّة والتاريخيّة التى أودعها في تكرارِ الأحاديث وتعليقها ووقفها ووصلها ، وبعد كلّ هذا يَتهم البحيرى البخارىّ بالكذب ويقرن معه عكرمة مولى ابن عباس – رضى الله عنهما – ، وهو لا يعرف شيئًا عن منهجه ، ولا علم الجرح والتعديل ، أوثق علم عرفه التاريخ في الحكم على الرجال ، فالإسناد الذى اعتمد عليه البخارى هو من خصائصِ الأمّة المحمّدية .

ولا عجب في ذلك فإنّ المشايخ قاطبة أجمعُوا على قَدَمه وقدَّمُوه على أنفسهم في عنفوان شبَابه.

قال محمد بن عبد الرحمن الدَّغُولىّ ت 325هــ : كتب أهل بغداد إلى محمد بن إسماعيل البخارى كتابًا فيه :

المسلمُون بخيرٍ ما بَقِيتَ لهُم … وليس بعدكَ خيرٌ حينَ تُفْتَقَدُ

وحسْبنا ما قاله إمام الأئمة ابن خُزيمة ـ وهو الذى لقى المشايخ والأئمة شرقًا وغربًا : ” ما تحت أديم السماء أعلمُ بالحديث من محمد بن إسماعيل ” .

ونأسف كثيرًا لأنّنا لا نستطيع أن نستوعب تلك الشهادات والأقوال التى تبيّن مكانة البخارى وصحيحه الجامع ، وما ذكرناهُ من بعض النماذج غيض من فيض ، لكى يطمئن بها القراء .

وقد قال البخارى بيتًا من الشّعر للبحيرى وأمثاله :

خالق الناس بخلق واسعٍ … ولا تكن كلبًا على النَّاس تَهِرّ

وقد أنصف بعض المستشرقين الإمام البخارى فقال توماس وليام بيل : ” صحيح البخارى يُحترمُ أكثر من أى كتابٍ بعد القرآن ، ويُعتمدُ عليه في الأمور الروحانيّة والدنيويّة ” ، وقال في نفس الكتاب الذى طبع في لندن سنة 1890م : ” هذا الكتاب لا يجمع الوحى الذى نزل على محمد ، وإلهاماته وأفعاله وأقواله فحسب ، بل ذُكِرَ فيه – أيضًا – تفسير أكثر المواضع المشكلة في القرآن ” .

لقد كان هدف البخارى دائمًا استخراج المسائل ، واستنباط الفوائد ، والنزول إلى أعماق الحديث ، والتقاط درره : فقد روى مثلًا حديث بريرة عن عائشة – رضى الله عنها – أكثر من اثنين وعشرين مرة ، لاستخراج أحكام وقواعد جديدة منه ، في كل مرة يرويه .

وروى حديث جابر أكثر من عشرين مرة ، كنت مع النبى- صلى الله عليه وسلم – في غزوة فأبطأ بى جملى وأعيا … الحديث .

ونجد أطول سند في البخارى سند إسماعيل بن إدريس ، من باب يأجوج ومأجوج وهو تساعي .

وأعلى سند فيه الثلاثيات ، وقد بلغت ثلاثة وعشرين على ما ذهب إليه الشبيهى في شرحه للجامع الصحيح ، ونعنى بالثلاثيات ما اتصل إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من الحديث بثلاثة رواة ، فهى الأحاديث التى في سندها ثلاث وسائط بين النبى – صلى الله عليه وسلم – وبين المخرج صحابى ، وتابعى وتابع التابعى ، حقّا إنها أعلى ما في البخارى على الإطلاق ، وأكثر سند ذكرًا للصحابة ، سند أبى سليمان في بعده ، وأطول حديث فيه حديث عمرة الحديبية المذكور في كتاب الصلح ، وأكثر أبوابه أحاديث باب ذكر الملائكة ، وأكثر من روى عنه من الصحابة أبوهريرة – رضى الله عنه – .

بعد عرض هذا النَّذر اليسير لشئ من منهج البخارى في إعادة الحديث وتقطيعه ، نرى البحيرى يعرض علينا منهجًا جديدًا سمّاه بالمنهج الأخلاقى ، ولا نعرفُ ماذا يقصدُ بالمنهج الأخلاقى ؟

سوى ما ذكره من سقيم تفسيره لحديث زواج السيدة عائشة – رضى الله عنها – ، وتفسير بعض العلماء لآية سورة الطلاق ” واللائى لم يحضن ” / 4 – سنقوم بالرد في حلقة قادمة بإذن الله – ، أتريدنا أن نستبدل هذا المنهج الدقيق بمنهج لا ضابط له سوى فهمك السقيم للنص ، أو اتكائك على تفسيرٍ غير مستقيم ، لا علاقة للمنهج الإسنادىّ به ، ولا مسئوليّة للبخارى – رحمه الله – في وضع النص ، أو تفسيره .

وهكذا ظلّ العلماء والمحدّثون منذ الصحابة وعلى مر العصور يهتمون بالرواية والإسناد ، حتى وصلت إلينا الشريعة الغراء نقيّة خالصة ، يرويها عن رسول الله الأمين ، الصحابى الثقة ، وعنه الثقة إلى عصر البخارى إلى عصرنا هذا .

ولا مراء في أنّ الإنسان الذى يطعن في البخارى ويتهمنا بتقديسه تقديسًا مطلقًا على جانبٍ من الخبث وسوء النية فيما يَعرض ، وإن لم يكن يَقصد ذلك كما صرّح في مناظرتهِ الشهيرة منذ أيام ، ومهمَا يكن من شئ فلم يكن هذا الشابّ الذى يطعن في البخاري وبعض رجاله كعكرمة

يدعو إلى تفتّح الذهن لكن في غير موضعه ، فقد أرهقه ما لقيه من منهج المحدثين ، ومصطلحاتهم التى عرفها لأول مرة منذ أشهر قليلة ، وقد بحّ صوته ودمى لسانه وتقطّعت حماليقه ، وهو يَصرخ ” هم رجال ونحن رجال ” ، لا جَرم أنّهم رجال أنفقوا أعمارهم في خدمة السنة ، وتصحيحها والذّودِ عنها .

لقد أكثر الإمام البخارى الرحلة إلى الأمصار والأقاليم ، وأطال السفر إلى الحواضر الإسلامية ، طلبًا لعالى الإسناد ، رغبة فيه وتحقيقًا للمقصد الأسمى منه ، وكان يجهد نفسه ، ويقطع المراحل ، ويقصد البلاد مهما نأت ، من أجل حديث واحدٍ أو حديثين ، طلبًا لسند عالٍ قلّ رواته ورجاله ، وكان شديد القرب من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ؛ من هنا أتتْ مهابةُ صحيح البخارى ، واستقطب اهتمام العلماء والمحدثين ، حتى قال أبوالحسن المقدسى في الرجل الذى يخرج عنه البخارى : ” هذا جاز القنطرة ” .

ولقد صنع البخارى والمحدثون منهجًا نقديًّا خاصًا لمحاكمة الروايات محاكمة دقيقة ، وأبدع البخارى والمحدثون – أيضا – في إحاطة تراثهم بالخدمة الكبيرة من جهة تكثير المؤلفات والكتب التى تضمن بقاءه على مستمر الأيام والدهور .

وهذا الإنسانُ العجيب الخفيف الشمائل استطاع أن يؤرق جفنه ليالى عدة ، وأعمل تفكيره البدائى ، والذى مع بداءته اعتبره بعض الناس – للأسف الشديد – أرقى تفكير في عصرِنا ، حتَّى غدَا يزعم أنَّه صاحب مشروع تنويرىّ ، وأنَّه الوحيدُ القادرُ على فكّ طلاسم التراث ، ذات الدلالات المختلفة المعانى غير ميسورة الأداء .

وبهذا يتبين لنا أنَّ البخارى ليس دينًا مقدّسًا نعبده – كما ذكر البحيرى بالنصّ في إحدى حلقاته – ، وإنما إسناد عال نفخر به ، ومنهج دقيق له مهابة مكتسبة من صاحبه – رحمه الله – .

وفى الختام نمدح البخارى ببيت المتنبى في مديحه لأبى شجاع :

تملك الحمد حتى ما لمفتخر … في الحمد حاء ولا ميم ولا دال .


نشر منذ

في

من طرف

الآراء

  1. الصورة الرمزية لـ د. إبراهيم عبدالسلام الفرد

    السيد الفاضل : د. محمد مبارك البندارى
    السلام عليكم.
    بارك الله فيك وفي علمك ونفع بك الامة ، ولن يستطيع البحيري ولا غيره أن ينالوا من تراث الامة ودينها، بما ينمقون من كلام باطل وادعاءات كاذبة، ولكنه الابتلاء ليقع في نار جهنم من لم يكن أهلا لدخول الجنة ، والله حافظ دينه ولو كره الكافرون ، وهؤلاء النعاق كثر وفي كل زمان .
    ولكن الاسلام لا يضره أمثالهم مادام علماء يبينون للامة طريقها.

اترك رد