دلالة رمز الماء لدى الشّاعر أبي تـمّام

إنّ للعبقريّة العظيمة وسائلها الفريدة في تكوين ذاتها و تسيير صاحبها في الطّريق الّتي تؤدّي به إلى تحقيق الإمكانيات الفائقة الّتي زوّدته بها موهبته ، و قصّة حياة أبي تمّام هي قصّة نجاح العبقريّة الفرديّة في شقّ طريقها وسط مجتمع عربيّ منفتح يشجّع الإبداع و يثيب عليه بصرف النّظر عن الدّين و العرق و المذهب.
ومن البيّن عبر ديوانه الشّعريّ أنّه كان يتذوّق الألفاظ و يلوكها في مذاقه الخاصّ به و يستطيب نكهتها ، و كان يتلقّف المعاني و يخوض فيها و يُشرّحها و لم يفرد المعنى الواحد لذاته و بذاته بل إنّه مازج المعاني و استخرج منها معاني جديدة من هذا التّزاوج ، و العصر ذاته كان عصر مزج و تزويج و توليد.
ومهما يكن فإنّ شعر أبي تمّام يستحوذ على صعوبات كثيرة إذ نراه يمتلئ بكثير من الأسرار الغامضة ،وذلك طبيعيّ عند شاعر كان يعتمد في شعره على الفلسفة و الفكر الدّقيق ، و هل يمكن لشاعر يلعب العمق و الخفاء في شعره و تلعب الفلسفة و الثّقافة في فنّه أن يعبّر تعبيرا مألوفا؟، إنّه يبحث و يجرّب و كلّ عبارة عنده إنّما هي بحث و تجربة ، فهو يبتكر أفكارا و صورا جديدة و لكنّه يحسّ دائما أنّ اللّغة لا تستطيع أن تؤدّي ما يريد ، و ما اللّغة ؟ إنّها ليست إلاّ رموزا غامضة بحيث يمكن أن يقال إنّ للكلمات وظيفة لغويّة أو معجميّة و لكن هذه الوظيفة تضاف إليها وظائف أخرى حسب رغبات الأدباء و الشّعراء و ما يريدونه في عباراتهم بتلك الرّموز ، ومن أجل ذلك كانوا يحرّفون في مدلولاتها تحريفا واسعا حتّى يستطيعوا أن يعبّروا عن المعاني الّتي تختلج في نفوسهم.
أمّا الرّمز في شعر أبي تمّام فقد ذكر شوقي ضيف:” أنّ الرمز عنده ولّدَهُ تفكيره العميق إذ كان يلتفّ لون التّصوير على الجانب العقليّ في شعره أو بعبارة أدقّ الجانب الفلسفيّ فتحدث تلك الرّمزيّة الواسعة الّتي يلاحظها كلّ من يقرأ أشعاره ، و كان يستعين على إحكامها بِصِبغين مهمّين من أصباغ التّصويرو هما ” التّجسيم و التّدبيج ” إذ نراه يجسّم معانيه العميقة في صور حسيّة لا يلبث أن يدبجّها بألوان ماديّة ، و انظر إلى قوله في رثاء ابن حميد الطّوسيّ و قد قتل في الحرب:
تردّى ثيابَ الموتِ حُمْرًا فما أتى لها اللَّيْلُ إلاَّ وَ هْيَ من سندسٍ خضرُ

النسخة الكاملة


نشر منذ

في

من طرف

الكلمات المفاتيح:

الآراء

اترك رد