مؤتمر تعايش الأنظمة القانونية في القانون الجزائري والمقاربات الجهوية للقانون

تنظم جامعة الجزائر1 ملتقى دولي “تعايش الأنظمة القانونية في القانون الجزائري والمقاربات الجهوية للقانون” بتاريخ 24-25 نوفمبر 2015.

الإشكالية:

إن تصور القانون، لم يعد يتحدد بالمقتضيات الشكلية والصياغة الفنية لقواعده، على اعتبار أنه فقط، مجموعة متماسكة من الضوابط والأدوات التقنية، تنظم وفقها –عادة- علاقات الناس لتسيير شؤونهم الاجتماعية، بضبطها سلميا قدر الإمكان، بل أصبح معناه، أكثر ارتباطا بما تفرضه المضامين السوسيولوجية التي تنطوي عليها قواعده والتي تعد تعبيرا عن ثقافة المجتمع وهويته.

هذا وإذا كان من الثابت، أن لكل مجتمع إنساني متماسك نمطه الثقافي الذي يحدد المعالم الأساسية لتوجهاته في التنظيم، فإنه في ذات الوقت يجب التسليم بحقيقة، أن الأنظمة القانونية عموما، وعلى تنوعها إنما هي انعكاس لفلسفة هي في حد ذاتها نتاج لمجتمع الذي تطبق فيه. وهكذا يمكن أن نبادر بالقول، بأن القانون، وإن كان عميق التجذر بالتركيبة الاجتماعية، فإن ذات المجتمع من زاوية أخرى هو الذي يطور مع مرور الزمن، بعض المبادئ والأسس والضوابط التي تضع الإطار التنظيمي المناسب الذي تتطور العملية القانونية من خلاله وباستمرار.

والجزائر، وعلى غرار بقية البلدان الإفريقية، كانت قد حظيت هي الأخرى في فتراتها التاريخية، التي سبقت الهيمنة الاستعمارية، مجموعة من الآليات التنظيمية شكلت إطارا قانونيا خاصا بها تبلورت عناصره على مر السنين، لتفرز منظومة تنظيمية متكاملة ، تعززت – عمليا- بقضاء كان يستلهم حلوله التطبيقية من مجموع المبادئ والأحكام التي كان يستوحيها في الغالب، من الشريعة الإسلامية، وتارة أخرى، من مجموع الأعراف المحلية المتنوعة التي رسخت في عمق الوجدان الجماعي للجزائريين، والتي اتسع نطاقها في بعض الجهات من الوطن، كمنطقة القبائل شمالا ومنطقة ميزاب جنوبا .وما يلاحظ هو أن التطبيقات التي استمدت من الشريعة وتواتر العمل بها في هذه الفترة السابقة للاحتلال الفرنسي، لم تكن مقصورة على مسائل الأحوال الشخصية للمسلمين الجزائريين تحديدا، بل امتد سلطانها واتسع ليحيط بجميع الأحوال المالية مدنية كانت أو تجارية. وبهذه الكيفية المعممة في التنظيم، تحددت تدريجيا المعالم الاساسية لتركيبة المنظومة التنظيمية السائدة في ذلك الوقت.

على أن هذا الوضع العام الذي ألفه الجزائريون في معاملاتهم ومنازعاتهم في فترة معينة من تاريخهم، لم يستمر مع البدايات الأولى للاحتلال، حيث تبددت ملامحه وتشوهت معالمه، خصوصا بعد ظهور محاولات كثيرة من المستعمر استهدفت في جوهرها فرض سياسة تشريعية جديدة، مع مطلع القرن 19، عن طريق ممارسة أسلوب الضغط المستمر على السكان الجزائريين الأصليين، وذلك بإرغامهم عنوة لتقبل منطق هذه السياسة والاستجابة لها، رغم ميلهم الشديد في التمسك بأهداب شريعتهم، عقيدة وديانة، ورغم تعارض ذلك مع ما تفرضه نزعتهم الوجدانية الثابتة تجاه كل ما توارثوه من عادات أو تقاليد أو أعراف اجتماعية جيل بعد جيل .

ورغم كل ذلك ، فقد ازداد إصرار المحتل في المضي وفق هذا المنهج ، ولم يتردد في استبعاد قواعد وأحكام الشريعة الإسلامية من حيث الأصل في كل المسائل التي تتعلق بالمواد المدنية والتجارية والجنائية، ولم يعترف لها إلا بولاية محدودة في التطبيق، ولم يسمح بانعقاد اختصاصها سوى في مجال الأحوال الشخصية والميراث والأموال الوقفية استثناء، وذلك على تقدير أن هذا التقييد في هذه المسائل المسموح بها، والتي يجب أن ينسحب إليها التنظيم الاسلامي بصفة عامة ، إنها ترتبط من وجهة نظر المحتل، بجوهر العلاقات العائلية الحيوية، ومن ثم وجب أن تشملها العناية الكاملة وتحاط بالاحترام الواجب، وتصان حرمتها الدينية المقدسة. وقد مهدت هذه النظرة في تعزيز هذا التوجه وهذه النزعة الجديدة في التعامل بالحرص مع ما تقتضيه الديانة الإسلامية، والاستمرار في الإبقاء عليها في كل ما يمت لهذه المسائل بصلة.

وبالفعل، فقد تعهدت الإدارة الفرنسية، بوجوب التزام هذا المنهج، بالإبقاء على ضرورة تطبيق أحكام الشريعة على المسلمين الجزائريين في كل ما يتصل بأحوالهم الشخصية، وهذا ما تقرر رسميا وتأكد بموجب الأمر الملكي الصادر بتاريخ 14/07/1834 وكذلك بمقتضى قانون CONSULT SENATUS الذي تلاه فيما بعد والصادر بتاريخ 14/07/1865.

ونفس الاتجاه، هو الذي سار عليه القضاء الفرنسي في ذلك الوقت، حيث كان يبدي حرصه في الكثير من المناسبات على التذكير به في عدة قرارات التي أصدرها، ملمحا فيها للحكومة الفرنسية بهذا الحرص، على الاستمرارية في ضمان احترام أحوال المسلمين الشخصية، وحثها على إخضاع هذه المسائل لأحكام شريعتهم.

ومع هذه البدايات الأولى لعهد الاحتلال، وباتجاه تكريس هذه الفلسفة الجديدة، بادر المشرع الفرنسي باتخاذ جملة من التدابير القانونية، حددت ملامح سياسة التشريعية الجديدة، لعل أهمها، هو ما تعلق بالإجراء الخاص بتنظيم القضاء وجهاته، والذي جاء به الامر الصادر بتاريخ 26/09/1842. وبموجب ذلك فقد تم إقرار فكرة ازدواجية النظام القضائي السائد، وتكريس الفصل بين اختصاصات المحاكم الفرنسية من جهة، وبين اختصاصات محاكم المسلمين من جهة أخرى، وهي التفرقة التي نجم عنها تقييد محسوس ومقصود في سلطات قاضي المسلمين، بالموازاة مع اتساع في الاختصاصات والسلطات الممنوحة لقاضي الصلح الفرنسي، لأن العدالة، من منظور المستعمر، تعد من أنجع الأدوات التي تتحقق بها مظاهر السيادة، وأسلوب قوي في إحكام قبضته في السيطرة والهيمنة.

وفي ذات السياق، صدرت عدة مراسيم، وهي كلها تندرج في إطار سياسة تعميق الفرق بين اختصاصات كل من قاضي المسلمين والقاضي الفرنسي. ومن بينها، نذكر مرسوم 10/06/1886 ومرسوم 17/04/1889 وفيهما، تم التأكيد على فكرة التضييق هذه في سلطات قاضي المسلمين والحد من صلاحياته، خارج حدود الأحوال الشخصية والمواريث، للإبقاء على اختصاصاته في هذين المجالين فقط. وعلى ذات المنوال تقريبا، تم التعامل مع ” الغرفة الإسلامية للمراجعة ” بتقييد اختصاصاتها أيضا، وهي الغرفة التي نظمت بموجب الأمر الصادر في 23/11/1944، واستحدثت على مستوى مجلس قضاء الجزائر، بغرض محدود، يتمثل فقط في قصر مهمتها على الحرص في تطبيق مبادئ القانون، والأعراف التي يخضع لها المسلمون الجزائريين.

ومع هذا التتابع في سير الاحداث وتطورها، تبلورت معالم نظام قانوني مزدوج، بتواجد نظامين قانونيين متميزين: نظام تتأسس أرضيته على الشريعة الإسلامية، بمقوماته التنظيمية وأجهزته القضائية، من جهة، وآخر فرنسي بأسسه التنظيمية والقضائية من جهة ثانية.

وهذا الوضع قد دفع بالسلطات الفرنسية، وفي إطار محاولاتها الرامية إلى تمرير سياستها الاندماجية، وبالتمهيد لذلك، سعت نحو التقريب بين النظامين المتجاورين، من خلال محاولة جر الأهالي، للانطواء تحت أحكام منظومتهم والقبول بالنموذج الفرنسي بدل نموذجهم الشرعي الأصلي، الذي سينصهر مع الوقت ويذوب في النمط التنظيمي الفرنسي، فيحل هذا الأخير محل النمط التقليدي الأول.

وقد اندرجت المحاولة أو المبادرة التي شرع فيها، لتقنين القانون الإسلامي أو بالأحرى ” تقنين الأحوال الشخصية “، في الجزائر، ضمن هذا السياق، ولو أن المساعي المبذولة في هذا الاتجاه لم تكلل بالنجاح. ويكفي هنا، التذكير بالمصير الذي آل إليه مشروع القانون الذي حمل تسمية ” مدونة القانون الإسلامي ” والذي أشتهر آنذاك بتقنين موراند CODE MORAND الذي تم الانتهاء من صياغته ومن نشره سنة 1961 إلا أنه مع ذلك لم يتم إصداره. ونفس هذه المحاولة الفاشلة تكررت في تونس أيضا في سنة 1944.

ومن الأسباب التي يقر بها البعض، في فشل هذه المحاولات، هو تفرد القانون الإسلامي وتميزه بطبيعة خاصة، تستعصي فنيا على التقنين بالمنهج الغربي، ولعل ذلك – أي نظرا لخصوبة الشريعة وتنوع أحكامها وخصوصيتها- هو الذي دفع ببعض القوى الدينية في ذلك الوقت إلى رفض فكرة تقنين الشريعة ومقاومة أي محاولة في هذا الاتجاه. وهو الرأي الذي استساغه جمهور علماء المسلمين الجزائريين عندما رفضوا مبدئيا فكرة أي إصلاح جديد للقانون الإسلامي بمحاولة تقنينه على الطريقة الغربية. وهذه هي الوجهة التي سلكها القضاء الإسلامي بمناسبة تطبيقاته لأحكام الشريعة في النوازل التي كانت تعرض عليه، فالثابت أن الرجوع إلى أحكامها كان يتأسس على المبادئ والأصول العامة لها، بالطريقة التقليدية وليس على الطريقة الجديدة المقننة.

ومباشرة بعد الإعلان عن استقلال الجزائر، طرحت بإلحاح مسألة جزأرة القوانين كمسلمة أولية بل وكقناعة بالنسبة للمجتمع مسؤولين كانوا أو كمفكرين، حيث اعتبروها، ونظرا لطابعها الاستعجالي أولى التحديات التي ينبغي على الجميع مواجهتها بتسخير كل الطاقات وتوظيف كل ما من شأنه، أن يعزز إثبات استقلالية الذات الجزائرية بتحقيق متطلباتها وتطلعاتها، ورد اعتبارها، والاهتمام الكامل بإحياء مكونات الشخصية الجزائرية، وتدعيم كل ما من شأنه أن يرتبط بأصالة المجتمع وهويته من قيم متجذرة على مر العصور. ومن هنا تجلت الأهمية الأساسية للمكانة التي ينبغي أن يحتلها القانون إلى جانب اللغة العربية، باعتبارها دعامتين أساسيتين في صقل مكونات ثقافة المجتمع الجزائري وإثبات هوية عناصره أو أفراده.

وانطلاقا من محددات هذه السياسة المختارة، تم اعتماد اللغة العربية كلغة رسمية وطنية. وبنفس الاهتمام والحرص حظيت الشريعة الإسلامية هي الأخرى باعتراف مماثل وتفردت بنظام خاص بها، حيث اعتبرت كمصدر لقوانين الدولة، وهذا الموقف تكرر مرارا وتأكد علنيا ورسميا في عديد الخطابات والتصريحات السياسية لمسئولين كبار في السلطة، بل وتجسد فعليا فيما بعد في النصوص الأساسية للدولة الجزائرية، حيث تضمنت كل الدساتير المتعاقبة والتي عرفتها الجزائر، بدء بدستور 1963 وانتهاء إلى آخر دستور 1996 والذي تمت مراجعته بتاريخ 10/11/2002، النص على أن ” الإسلام هو دين الدولة”، وأن ” العربية هي اللغة الوطنية والرسمية “، وهذان العنصران الأساسيان اللذان يتصلان بمكونات الهوية الجزائرية، قد أضيف لها فيما بعد، مكون الأمازيغية في ضل دستور 1996، باعتباره لغة وطنية تطبيقا للمادة 3 مكرر منه.

وهذه المقومات مجتمعة، شكلت بحسب ديباجة دستور 1963 قوى مقاومة ضد أي استهداف استعماري لطمس الشخصية الجزائرية. وهي ذات الوجهة التي تعززت بوضوح في ظل الميثاق الوطني الصادر بتاريخ 27/06/1976.

ومعلوم أن هذه الوثيقة الاساسية قبل إلغائها، كانت تعد بمثابة المصدر الأساسي والعلوي لقوانين الجمهورية. لذلك، ومن أهم ما جاء فيها على وجه الخصوص بمناسبة رسم أهداف الثورة الثقافية، هو وجوب توافق هذه الأهداف، مع ” الأخلاق الإسلامية ” وعدم تعارضها مع مبادئ الثورة الاشتراكية بالتحديد الذي جاء به الميثاق الوطني. على أنه، وبمثل ما ورد ذكره في الدساتير التي عرفتها الجزائر إتباعا، فقد أكد الميثاق الوطني على أهمية مكانة الإسلام بتحديد دوره في الأنظمة القانونية للدولة، حيث نص صراحة على” أن الإسلام هو دين الدولة ” كما أوجب أن يكون رئيس الجمهورية ” مسلم الديانة ” وفرض عليه تأدية اليمين الدستورية، واحترام وتمجيد الديانة الإسلامية، واشترط أخيرا، في أي مشروع مراجعة الدستور، ألا يكون فيه مساسا بديانة الدولة (أي الإسلام) .

وعلى هذا الأساس، تم تكريس هذه الثوابت، باعتبارها أساليب مشروعة كفيلة باستعادة السيادة الوطنية. فصدرت عدة قرارات في هذا الاتجاه، وهي في مجموعها، تتعلق بهذا المطلب الشرعي السيد، الذي يجب أن تنعكس آثاره على حياة المواطن عمليا وفي شتى المجالات، وحتى لا يبقى شعارا فارغا من أي محتوى، ويكفينا هنا الاستشهاد بما أكده المرحوم الرئيس هواري بومدين حول مسألة استعمال اللغة الوطنية في المجال القضائي، عندما صرح بأنه من غير المقبول عقلا ومنطقا، أن يحضر المواطن خصومته ويتابع أطوار جلساتها بلغة غريبة عنه وعليه، أوجب أن تستعيد هذه اللغة العربية وعلى الفور مكانتها في القضاء وعلى جميع مستوياتها.

وعلى نفس الوتيرة، واصل النظام سياسته في هذا المجال، فشرع بالفعل في تعريب التعليم بمختلف أطواره، كما قرر العمل على أسلمة المجتمع إتباعا، بمقتضى سلسلة من التدابير المتخذة في هذا الشأن أهمها المرسوم الصادر في 16/08/1976 والذي تم فيه ترسيم يوم الجمعة كيوم عطلة أسبوعية بدلا من يوم الأحد، وفي مرسوم آخر صادر في 12/03/1976، منع وحرم بيع المشروبات الكحولية للمسلمين، وفي فيفري 1980 جاء مرسوم آخر يتضمن دعوة وزارة الشؤون الدينية إلى بذل عناية أكبر في تطوير الفهم الإسلامي على ضوء المبادئ الاشتراكية للنظام القائم آنذاك. ولكن ما يستدعي الانتباه هنا، هو أن الوضع القانوني المرتبط بتلك الفترة، أربكه موروث تاريخي ثقيل، امتد لعدة سنوات، كان يصعب من الناحية الواقعية التحرر النهائي من تبعاته في لحضة.

خصوصا وأن المجتمع الجزائري لم يعرف استقلاله إلا بعد معاناة مأساوية دامت قرابة 132 سنة من الاحتلال. ولاشك أن هذا العبء التاريخي قد انعكست آثاره السلبية على واقع المجتمع الجزائري، بعد الاستقلال، فتحولت إلى معوقات حقيقية كان يصعب تجاهلها في هذه الفترة الانتقالية. وفي مواجهة هذه التحديات وحرصا منها في سد الثغرات أو الفراغات القانونية المحتملة، وجدت السلطات العمومية الجزائرية نفسها مرغمة على تقبل فكرة تمديد التشريعات السارية المفعول في 31/12/1962 والعمل على استمرارية تطبيقها، إلا أن هذا الوضع الخاص الذي تراخى لعدة سنوات قد توقف بالفعل في 05/07/1975 وهي السنة التي تقرر فيها، كما هو معلوم، بإلغاء التشريعات السابقة القديمة بإحلال أخرى جديدة أكثر ملائمة وتوافقا مع خصوصية الهوية العربية الإسلامية للمجتمع الجزائري ولنظامه الاقتصادي والسياسي، وما يلاحظ، هو أن هذه السياسة التشريعية المنتهجة من طرف المشرع لم تؤد إلى إحداث قطيعة حقيقية مع القانون الفرنسي الذي أعتبر بحق كأحد أهم وأقوى مصادر الإلهام والإيحاء للتشريع الجزائري الجديد في مختلف فروعه.

فعلى سبيل المثال نجد القانون المدني الصادر في 1975 قد تضمن كثيرا من الأحكام المستوحاة مباشرة من القانون المدني الفرنسي: فالمادة 54 والمادة 124 منه، والمتعلقتين على التوالي بالعقد وبالمسؤولية عن الفعل الشخصي، تم نقلهما حرفيا، ومباشرة من المواد 1101 و1382 من القانون المدني الفرنسي.

وعلى صعيد آخر، أعتبر قضاء محكمة النقض الفرنسية في كل ما يتصل بالمبادئ والقواعد الأساسية للالتزامات، مصدرا إيحائيا مؤثرا على توجهات السياسة التشريعية لمشرعنا في تناول هذه المسائل. وما يصدق في مجال القانون الخاص، موضوعيا أو إجرائيا، ينسحب أيضا بالنسبة لمجالات الفروع الأخرى للقانون، كالقانون الجنائي مثلا.

ومن اللافت في هذا الصدد، هو أن النظام القانوني الجزائري قد آثر فكرة تقسيم القانون إلى عام وخاص، وتبنى فكرة تصنيف قواعده إلى آمرة ومكملة على منوال القانون الفرنسي. والظاهر أنه بتكريسه هذا التقسيم، الذي ترتد أصوله التاريخية إلى القانون الروماني، فإن المشرع يكون قد أقر في نفس الوقت بأساس هذه التفرقة أيضا في مختلف فروع القانون بوجه عام.

على أن عملية التصنيف هذه وما تقوم عليه من فوائد علمية وعملية، إنما تعد أيضا منطلقا حاسما للإحاطة بكل فروع القانون وبكافة المجلات التي تشملها القواعد القانونية بالتنظيم، وأساسا يجب التعويل عليه أيضا للتعرف على مختلف التخصصات النوعية التي يتيحها المجال الواسع والمتشعب لعلم القانون بمختلف موضوعاته وتفريعاته.

ومهما يكن، فإن التشريع الوضعي الجزائري، وبقطع النظر عن الطابع الفرنسي الغالب فيه، وعن درجة تأثره كذلك بكل من القانون المصري أو الشريعة الإسلامية، فهو من الناحية المبدئية يغطي كل مجالات القانون، وذلك لافتراض سريانه على جميع المسائل التي تتناولها نصوصه في لفظها أو في فحواها وفقا للمادة 1-1 مدني، إلا أن ذلك من الناحية الواقعية، ولافتراض أو احتمال وجود نقص فيه، فهو لا يشكل إلا أحد أهم مكونات القانون الوضعي الذي تتعدد مصادره إلى أصلية واحتياطية، وهو الوضع الذي يسمح فيه للشريعة الإسلامية بالوقوف خلف النص تارة لتكملة نقصه، باعتبارها مصدرا رسميا احتياطيا للقانون، حيث يستطيع القاضي الرجوع إلى أحكامها ومبادئها في كل مرة، وعندما لا تسعفه النصوص في إيجاد حل لتطبيقها …. ومن جهة أخرى تفرض الشريعة الإسلامية نفسها كمصدر أصلي أساسي بالنسبة لكافة موضوعات قانون الأسرة، سواء ما تعلق منها بحالة الأشخاص أو الزواج أو النسب أو المواريث وبصفة عامة، بالنسبة لكل قواعد والنصوص التي تضمنها قانون الأسرة الصادر في 1984 والمعدل في 2005 بالأمر رقم 05/02 الصادر بتاريخ 27/02/2005، كما أنها اعتبرت كذلك مصدرا ماديا للقوانين، ولم تكتس وصف الوضعية إلا بعد أن قننت أحكامها على الطريقة الفرنسية في قانون الأسرة السالف الذكر.

وقد ترتب على هذا الوضع الجديد بإتباع أسلوب تقنين أحكام الشريعة في قانون الأسرة على المنهج الغربي الأوروبي، مفارقات كبيرة بين أحكامها الأصلية الاولى وبين ما تضمنه قانون الأسرة من قواعد وفق هذه الطريقة الجديدة في تناول المسائل المتعلقة بقضايا الأسرة الجزائرية، وهو ما زاد في تعميق الهوة بين الخطاب السياسي والحقيقة الواقعية للمجتمع مع مرور الزمن ومع تغير الظروف.

وبناء على هذا التشخيص العام للحقائق السابقة، يمكن لنا إبداء بعض الملاحظات حول طبيعة النظام القانوني الجزائري، الذي يعرف فعلا نظامين قانونيين متميزين: نظام خاص من طبيعة إسلامية يعتبر مصدرا أساسيا لكافة القواعد القانونية المتعلقة بموضوعات قانون الأسرة، ولبعض النصوص القانونية الأخرى كتلك التي تتناول بالتنظيم الأموال الوقفية، وهي النصوص التي استلهم القانون المدني منها بعضا من أحكامه بمناسبة مجلس العقد وفكرة مرض الموت والشفعة إلخ ….. ونظام آخر من طبيعة ” لاتينية جرمانية “، وهو الذي يمثله القانون الفرنسي بحيث يعد هذا الاخير مصدرا لمختلف فروع القانون الأخرى كالقانون الجنائي والتجاري والمالي إلخ ….وهذا النظام المغاير في جوهره للنظام الأول سواء من حيث المبادئ أو الأسس أو أساليب التنظيم، بل وتتسع هيمنته حتى بالنسبة للمناهج المعتمدة سواء في إعداد النصوص أو تفسيرها أو تطبيقها أو إلغائها، أو حتى بالنسبة لطرق إصدار الأحكام أو القرارات القضائية أو كيفيات تنفيذها، ومن هنا تنفرد هذه النزعة الفرنسية بمنهج خاص بها مغاير في جوهره لمنهج الشريعة الإسلامية من ناحية آليات التصور أو طرق الفهم ومبادئ التفسير والتطبيق ، بل وكذلك في بعض المفاهيم والمصطلحات و الميكانيزمات التي تحفل بها والتي تتطلب كلها منطقا متميزا في أساليب التفكير التي تمكن من التدقيق في المعاني الحقيقية لهذه المفاهيم القانونية داخل فئات معينة من التصنيف والتقسيم ، وهذا المنهج بمختلف جوانبه هو المسيطر على التوجهات العامة للنظام القانوني الجزائري، خارج الدائرة التنظيمية للقانون الإسلامي في الموضوعات الداخلة في نطاق اختصاصاته.

ومن هنا تتجلى بوضوح معالم الخصوصية لهذا النظام المركب للقانون الوضعي الجزائري، وهي تثير بالنظر إلى تواجد نظامين مختلفين بداخله، إشكالية إمكان تحقق تعايشهما على نحو لا يخل بتماسك النظام وانسجام عناصره، حتى تتوافق قواعده وتتفاعل في تمام ووئام، وإذن فهل يمكن تجاوز عقبة الاختلاف بينهما في الطبيعة، بمحاولة إدماجهما أو الجمع بينهما أو بين عناصرهما لتحقيق هذا التعايش المنشود دونما أي إخلال بوحدة النظام القانوني وشموليته؟

هذا وباتجاه رفض أي محاولة من هذا القبيل رأى البعض، في فكرة الإدماج المثارة هذه إرباكا للنظام وإخلالا في تماسك ما يقوم بين عناصره من انسجام، بل وفي تصورهم أنه من الغير المستساغ عقلا ومنطقا إخضاع المسألة التنظيمية إلى أسلوبين متميزين في الأسس.

إلا أن البعض الآخر، لا يرى مانعا من حصول ذلك ومن قصور إمكانية هذا التعايش بين الأنظمة المختلفة. لكن وفي خضم تصادم هدين الرأيين بين مناصر ومناهض لتعايش الأنظمة القانونية ترتسم معالم المقاربة الجديدة في معالجة هذه المسألة وهي التي تستدعي ضرورة تجاوز ذلك بالتوقف مليا عند مجموع الآليات الفنية والعملية التي تسمح فعلا بتسيير هذا التواجد بين الأنظمة المختلفة هدفا في تحقيق تعايشها بعيدا عن التضارب أو التناقض أو التنافر المحتمل بين قواعدها.

بالإضافة إلى هذه الاعتبارات على المستوى الداخلي، ظهرت كذلك مشكلة تنوع الأنظمة القانونية على المستوي الدولي، لا سيما وأن اختلاف القواعد القانونية كان عائقا لاستحداث فضاءات اقتصادية مندمجة فرضتها البيئة الاقتصادية الدولية. كما كان هذا التنوع أيضا سببا في انعدام الأمن القانون وتحفظات على القاضي الأجنبي.

تاريخيا، كان تجاوز هذه الصعوبات يتم من خلال الاتفاقيات الدولية، ولو أن فيها بعض التردد لكون هذه الوسيلة تعد خرقا للسيادة الوطنية للبلدان، فضلا عن المشاكل التي يثيرها التنسيق بين قواعد القانون الدولي وقواعد القانون الداخلي. وقد ظهرت في وقتنا الحالي طرق جديدة لتفادي مساوئ هذا التنوع القانوني والتي تتمثل في تنسيق قوانين البلدان التي تنتمي إلى نفس المنطقة أو توحيدها أو تطابقها، على غرار ما هو موجود في الاتحاد الأوروبي والعالم العربي والافريقي عموما.

ومن الواضح أن مثل هذه الاندماجات الجهوية لا يمكن تصورها إلا بوجود عناصر تقارب واضحة وبارزة بين دول المنطقة، خصوصا في المجال الثقافي والتاريخي والأيديولوجي والتنمية واللغة. غير أنه للوهلة الأولي وبالنظر إلى الطابع النسبي للعلوم القانونية يظهر أن مجهودات الاندماج القانوني احتمالية، كلما كنا بصدد اختلاف في التقاليد القانونية أوفي اللغات.

والملاحظ أنه في أغلب الأحيان لا تتسع المجهودات المبذولة في إطار الاندماج القانوني كل العلاقات القانونية، حيث يتبين من مختلف التجارب الدولية على اختلاف الأصعدة أن المجالات التي لا تثير صعوبات كثيرة بشأن توحيد أو تنسيق القواعد القانونية هي تلك التي تكون مقصورة على التبادلات الاقتصادية، أو ما تعلق بالفروع الجديدة للقانون، مثل قوانين البيئة، والملكية الفكرية والعمران. وبصفة عامة كل مالم يتعارض مضمونها مع المبادئ والتقاليد الراسخة في القوانين الوطنية. أو بعبارة أخرى المواد التي يغلب عليها الطابع التقني.

أما فيما يتعلق بالطرق المستعملة في تحقيق هذا الاندماج القانوني، فإنها تشمل تنسيق القوانين، وتوحيدها، وتطابقها. وطريقة تنسيق القوانين هذه لا تلزم الدول الأعضاء إلا بتحقيق النتيجة المقررة في إطار عملية تنسيق القوانين، بحيث تترك لهم الحرية بشأن تقرير الأحكام التي يرونها أكثر انسجاما و تطابقا مع قيمهم، كما هي الحال بالنسبة لتجسيد التوجيهات الأوروبية. وللتذكير أن البلدان الأعضاء في الاتحاد الأوروبي يتكلمون 24 لغة ولهم ثلاثة أنظمة قانونية.

وأما طريقة تطابق القوانين، فإنها تتطلب التزاما أكبر من الأعضاء، إذ تقتضي منهم تنظيم مادة معينة بصفة مدققة في وثيقة موحدة، لا يمكن مخالفتها، وهذا ما هو ساري العمل به بالنسبة لأعمال المطابقة التي تقوم بها منظمة تنسيق قانون الأعمال افريقيا (OHADA) . وتجدر الملاحظة في هذا الشأن أن الانشغال الأول بالنسبة للبلدان الافريقية هو تحديث مجتمعاتهم من خلال التخلي عن التقاليد القانونية المحلية ووضع قوانين مكتوبة ومدونة، مستلهمة من القانون الغربي.

أما أسلوب توحيد القانون فهو عملية تتمثل في إعداد نص قانوني واحد ينظم مسالة معينة، يتم تطبيقه مباشرة من قبل الدول الأعضاء، علما وأن هذا النص لا يتعارض مع النظام الداخلي للبلدان الأعضاء، ويبدو أن هذه الطريقة هي المعتمدة من قبل الدول العربية والتي تجد مبرراتها في وحدة عوامل ومقومات عديدة في مقدمتها وحدة اللغة والانتماء إلى الحضارة العربية الإسلامية.

أما خيار وسيلة الاندماج القانوني يحدد بالنظر إلى أهمية التنوع القانوني، ونرى في هذا الشأن أن تجارب الاتحاد الأوروبي ومنظمة تنسيق قانون الاعمال الافريقية والجامعة العربية (لا سيما مجلس وزراء العدل العرب الذي من مهامه تحديث النظم العربية القضائية العربية وتطويرها وتوحيدها)، وقد انشأ في هذا الاطار المركز العربي للبحوث القانونية والقضائية. ونظرا لثراي هذه التجارب، فهي تمكننا من دون شك تسليط الضوء أكثر على مسألة تعايش الأنظمة القانونية.

وبناء على ما تقدم، تتمحور أشغال هذا الملتقى الدولي حول المحاور الثلاثة الآتية:

  • تعايش الأنظمة القانونية في القانون الجزائري،
  • دراسة مقارنة لبعض الحالات القانونية (قانون خاص وقانون عام)
  • تجارب الاتحاد الأوروبي والمنظمة الافريقية والجامعة العربية في مجال توحيد وتنسيق القوانين.

المشاركة:

تأكيد مشاركتكم بمداخلة وملخص حول هذه التظاهرة العلمية عن طريق البريد الالكتروني:

[email protected]

[email protected]

أو عن طريق الهاتف : 021637727 / 021637691

مواعيد مهمة:

أخر أجل 30 أفريل 2015 وتكون تكاليف النقل والإيواء على عاتق الجامعة

وترسل المداخلات في آجال أقصاه 31 جويلية 2015


نشر منذ

في

,

من طرف

الآراء

اترك رد