القول الإشاري وانفلات المعنى:
في القول الإشاري ضروب من المعرفة التي تستغلق على من يحاول معالجتها بأدوات محدودة وفهم مغلق، لأن القول الإشاري فيما نرى وإن كان لا ينفك عن أصل عباري يظهره، ويوجده للعيان ويبرزه(1)، إلا أنه لا يملك يكشف مضمونه القضوي الباطني الذي هو محل تكثيف شديد مقصود من قبل أرباب المعارف الذين ظلوا طوال مسيرة مجاهداتهم يصرون على ترميزه في لعبة لا تتاح معرفة أسرارها إلا لمن دخل مجاهيل دروبهم وطرقهم العرفانية، وأصر على المضي إلى آخر الطريق في تقصي الحقائق.
ولا يستقيم للباحث في لسانيات الإشراق نظر إلا بفقه مبادئ هذا الضرب من القول الإشاري، والتي أجملها الدكتور الفيلسوف طه عبد الرحمن في ثلاثة:
- مبدأ المجاز: وهو مبدأ لغوي يوجب أن تكون الألفاظ التي تدخل في تركيب الإشارة مستعملة في غير ما وضعت له في الأصل من المعاني.
-
مبدأ الاشتباه:ويوجب هذا المبدأ الثاني أن لا تختلف معاني الإشارة باختلاف سياقات استعمالها فحسب، بل أن تحتمل التردد بين معان متقابلة في السياق الاستعمالي الواحد، ولا يتعين واحد منها إلا بواسطة غير إشارية.
-
مبدأ الإضمار: ويقضي هذا المبدأ أن تختصر الإشارة من الألفاظ والتراكيب ما تتوفر عليه أدلة من سياق الكلام أو من مقامه، مع جواز وجود الخفاء في ما أبقي عليه وحوفظ من الألفاظ والتراكيب.
وإذا تقرر هذا ، فاعلم أن كتاب الشيخ الأكبر محي الدين ابن عربي المعروف بالفتوحات المكية مَجَرةَ معارف كونية لكثافة القول الإشاري فيه،حتى ليبدو للغائص فيه وكأنه لا قعر له ، وقد رأينا أن كثيرين ممن عُرفوا من المتخصصين فيه صاروا إلى التسليم في كثير من تحليلاتهم بانغلاق المعنى، وانفلاته من بين أصابع مناهجهم التي رأوا أنهم أحكموا بها السيطرة على نص الفتوحات. ونحن كما كنا نعتقد -وما نزال – أنه من النصوص التي لا تنتهي بقول واحد ووحيد، وهو يأبى أن يقال بصيغة واحدة، فهو نص مثمر لقراءات عديدة، وقابل لمقاربات مختلفة لا تصمد كلها إلا بإرادته. وكأن لنص الفتوحات سلطة خفية يقبل بها أو يرفض ما يقال عنه أو فيه، وشاهده في ذلك التاريخ.
وحتى نبين لك غرضنا من هذه القراءة الجزئية، التي حاولنا فيها تضييق مجال النظر في موضوع لساني ذي بعد تداولي عرفاني، ننطلق للقول بأن قضية الخلق الأول هي قضية لغوية، وأن أساس هذه القضية اللغوية هو بحث في الدلالة التي تقبع في طبقات إشارية من القول الإيجادي، لا تستطيع أن تظفر منها إلا على أطياف من المعنى أو بقايا من الظلال.
التواصل بين اللاهوت والناسوت:
ضروب التواصل بين اللاهوت والناسوت نوعان: جمالي وجلالي، وقد أطلقنا هذه الأوصاف بالنظر إلى الوجود الكامل أو المتكلم الأول(الله)، ولا اعتبار في التسمية بالمخاطب به لنقصه وقصوره، وإن كان لاختلاف المتخاطبين دور أساس في شحذ التواصل ونمائه(2).
وعند ابن عربي هذا التواصل إما حديث أو محادثة أو خطاب بحسب الجواب من عدمه وبحسب نوع الإجابة من المخاطَب، عندية أو لدنية “فإن أجابوه به فهو حديث، وإن أجابوه بهم فهي محادثة، وإن سمعوا حديثه به فليس بحديث في حقهم، وإنما هو خطاب أو كلام”(3).
أما التواصل الجمالي: وهو من الجمال الإلهي الذي تسمى الله به جميلا، ووصف نفسه سبحانه بلسان رسوله أنه يحب الجمال في جميع الأشياء، فإن الله ما خلق العالم إلا على صورته، وهو جميل، فالعالم بالتبع أيضا جميل، ومن أحب الجمال أحب الجميل، وهذا النمط من التواصل قائم عند ابن عربي “على الرجاء والبسط واللطف والرحمة والحنان والرأفة والجود والإحسان والنِقَم التي في طيها نِعَم”(4). وهي كلها معان مقامية وسياقات تداولية إيجابية بنائية، حيث المحب لا يعذب محبوبه إلا على إيصال الراحة أو على التأديب لأمر وقع منه على طريق الجهالة، كما يؤدب الرجل ولده مع حبه فيه، ومع هذا يضربه وينتهره لأمور تقع منه مع استصحاب الحب له في نفسه.
وهذا النوع من التواصل في عالم الناس أكثره مبني على التعاون والتعارف والتآنس والتآلف، يجري على الاستفهام والفهم،والتوجيه باللين والامتثال بالمعروف، والتعليم والتعلم.
أما التواصل الجلالي: وهو من الجلال بمعنى العزة والعلو، ولهذا لا يقع به التجلي في الأغلب لضعف الوجود الناقص عن تلقيه، وهو جماع مظاهر القهر الإلهي في العالم، ولهذا امتنع وصفه،”فمن وصفه إنما وصف نفسه، ولا يعرف منه إلا نفسه، لأن رب العزة لا يعينه وصف ولا يقيده نعت، ولا يدل على حقيقته اسم خاص”(5) يقول فيه ابن عربي:
إِن الجَلِيلَ هوَ الذِي لاَ يُعْرَفُ****وَهُوَ الذِي فِي كُل حَال يُوصَفُ
فَهُوَ الذِي يَبْدُو فَيُظْهِرُ نَفْسَهُ**** فِي خَلْقِهِ وَهُوَ الذِي لاَ يُعْرَفُ
ويبين ابن عربي أن السر في هذا النوع من التواصل اختصاصه بما يلقيه في القلوب من هيبة وتعظيم (6). ونظرا لشدته تنفرد “به الملائكة بطريق الهيبة والعظمة والخوف والخشوع والخضوع”(7)
وهذا النوع من التواصل في عالم الناس أكثره مبني على الأخذ بالقوة، وعلى العزائم في اتخاذ الأمور وسلوك الاستقامة طريقا ومنهجا واعتقادا. كما أن مبناه على الحزم في التقدير التخاطبي لدرء آفات الالتباس والزيغ والتضليل.
الإنشاء خلق وإبداع:
اللغة في لسانيات ابن العربي سر الوجود، والأصل الإنشائي السابق لكل موجود في أنطولوجيا الخلق، يقول” فأول كلام شق أسماع الممكنات كلمة(كن)” [سورة النحل،الآية40]،التي ابتدأ بها الله(أي الوجود الكامل) العالم (أي الوجود الناقص). وإذا تأملنا وجدنا النظر الكلامي الذي تتأسس عليه لسانيات الإشراق عند الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي يذهب إلى أن الفعل اللغوي الإنشائي كان الأول ، وهو السابق على غيره ، وهو فعل اجتراح وإبداع للكائنات الممكنة من صورتها العدمية إلى صورتها الوجودية، فالكلام”صفة نفسية رحمانية مشتقة من الكلم وهو الجرح، فلهذا قلنا مؤثرة كما أثر الكلم في جسم المجروح”(8).
إن الكلامَ عباراتٌ وألفاظٌ****وقدْ تنوبُ إشاراتٌ وإيماءُ
لولاَ الكلامُ لَكُنا اليومَ في عدمٍ****ولم تكنْ ثَم أحكامٌ وأنباءُ
وإنهُ نَفَسُ الرحمنِ عَينَهُ****عقلٌ صريحٌ وفي التشريعِ أنباءُ
فيهِ بدتْ صورُ الأشخاصِ بارزةً****معنىً وحِسًا وذَا البَدْوُ إنشاءُ
فَانْظُرْ تَرَ الحكمةَ الغراءَ قائمةً****فيهَا لِعَينِ اللبيبِ القلبِ أشياءُ
ولولا الوسيط اللغوي لما كان هناك خلق(كون)، إذ لولا الواسطة لذهب كما قيل الموسوط، والأولية كما نفهمها عند ابن عربي أولية في الوجود وتقدم في الزمان، فالأمر على شريط التوالي الزمني متقدم على الفعل .
إن الفعل الإنشائي الأول جاء في صيغة طلبيةImperative mode، فخرج العالم للوجود مع انتهائه، إذ فعل الأمر بالكينونة هو عين خلق الله وتكوينه، أي أنه حين قال عز في علاه(كن) فإنه كَوَنَهُ بالفعل، أو شرع في تكوينه وانتهى منه بتزامن مع انتهاء ملفوظه(كن). فهناك مطابقة نوعية بين الكلام والعالم لا من جهة الصدق والكذب لأنه ليس خبرا، بل من جهة أن الكلام هو عين الخلق والفعل(9) لأنه إنشاء أو فعل إنشائي أدائي Performatife.
إن التمييز هنا راجع إلى تمييز التداولييين خاصة أوستين(10) بين النوعين، يعني بين الأفعالdoings والأقوالsayings(11). والخلق والإنشاء حين يتحول القول إلى فعل”فما ظهر العالم إلا عن صفة الكلام”(12).
اعلم أن الفعل الإنشائي (كن) بحسب المتكلم به عند ابن عربي على ثلاثة أقسام: إلهي ورباني ورحماني. وهذا التقييد بالمتكلم من هذه الجهة لما يثمره فعله بالأمر من استجابة أو عدمها في علاقته بالمخاطَب به. فقد يأمر المتكلم (زيدا) فيقول له:قم. فهذا المخاطب إن قام لأمره واستجاب لطلب المتكلم، فقد أنشأ المتكلم(الآمر) حينئذ صورة القيام في زيد عن نشأة لفظة(قم)، فهو إلهي في هذه الحالة، لأن إنشاء الأعيان إنما هو لله وهذا عام في جميع الخلق.
فإن لم يثمر أمر المتكلم استجابة، فلم يسمع منه ولا أثرت في المخاطب نشأة أمر المتكلم (الآمر) فهو إما رباني أو رحماني، ويرجع ابن عربي علة التخلف في هذه الصورة التواصلية إلى قصور الهمة(13)، وهو مفهوم نراه مقابلا لما سماه بول كرايس P. Grice(14)بتخلف أو سقوط مبدأ التعاون في التواصل Co-operative principle (15) الذي يقتضي أن المتكلمين والمخاطبين (المتخاطبون Interlocuteurs) متعاونون فيما بينهم حتى يحصل بناء الانسجام التخاطبي، ويعطينا ابن عربي مثالا على هذا التخلف في مبدأ التعاون من دعوة النبي صلى الله عليه وسلم(الإنسان الكامل)، فقد اجتهد بالدعوة، لكن ليس كل من توجه إليهم بالنصح انتصحوا ولا كل من خاطبهم بالتوحيد أسلموا، ولهذا قال تعالى(إنك لا تهدي من أحببت) [سورة القصص،الآية56]” أي إنك لا تقدر على من تريد أن تجعله محلا لظهور ما تريد إنشاءه فيه أن يكون محلا لوجود إنشائك فيه، فليس كل متكلم في الدنيا بإلهي مطلقا، لكن له الإطلاق فيما يريد أن ينشئه في نفسه لا في غيره، فاعلم سر هذان واعلم هل أنت متكلم أو لافظ”(16).
والتمييز هنا بين المتكلم واللافظ تمييز تداولي عرفاني دقيق، ترجع فيه السمة الفارقة إلى صاحب الإرادة الفاعلة التي ينبني عليها عامل الاقتدار الأصلي أو التبعي(17) بالإضافة إلى القوة التغييرية.
وإذا تأملنا نص الفتوحات وجدنا ابن عربي يشبه أمر الكلام وتولد المعنى الناشئ من تفاعل المتكلم والمخاطب بعملية الاتصال الجنسي بين الرجل والمرأة، وعنده أن كل مؤثر أب وكل مؤثر فيه أم ،والمتولد بينهما من ذلك الأثر يسمى ابنا ومولدا، وهو ميزان ينظر من خلاله المنطق وسائر العلوم الروحانية، يقول:”فالمتكلم أب والسامع أم والتكلم نكاح، والموجود من ذلك في فهم السامع ابن…ومن هنا يفهم قول المتكلم لمن يريد قيامه(قم) فيقوم المراد بالقيام عن أثر لفظة (قم)، فإن لم يقم السامع وهو أم بلا شك فهو عقيم، وإذا كان عقيما فليس بأم في تلك الحالة”(18) وهذا ما يمكن أن نسميه بالعقم التواصلي ، وهو مرتبة من مراتب انقطاع التواصلIncommunicabilité.
والاستناد في الأمر إلى الفعل يعود إلى ” كون الفعل حدثا منفتحا على المتكلم والمخاطب، وذلك بما يشتمل عليه من مقولات العاملية والحدثية والحادثية والفاعلية”(19).
والإنشاء هنا إيجاد وإيقاع لما لم يكن له وجود، بغض النظر عن الأثر الحاصل في الخارج من ذلك المعنى أي الامتثال أو الإعراض والصد والعصيان(20).
وابن عربي يميز في الشرع الظاهر بين نسب ثلاث لوجود التكوين المعبر عنها بـ(فيكون):
الأولى نسبة قولية، عند قوله تعالى(إنما قولنا) فهذا الضمير الذي هو النون راجع إلى عين وجود ذاته تعالى وكناية عنه. وهو الإطار السابق من القول الأزلي الأول الذي كان به عز وجل متكلما آمرا.
الثانية نسبة إرادية، عند قوله تعالى(إذا أردناه). وهي سابقة على القول ومنشئة للفعل. والإرادة والمشيئة واحدة، إذ هي القوة التي هي مبدأ النزوع والاختيار من غير موجب ملزم أو داع.والإرادة هنا بمعنى سلبي أي أنه تعالى غير مغلوب ولا مستكره، وبمعنى ثبوتي بمعنى العلم(21).
والثالثة نسبة تكوينية، عند قوله تعالى(أن نقول له كن)، والاقتدار الإلهي على التكوين لم يقم إلا من اعتبار هذه الأمور الثلاثة. والأمر كما هو معروف في المساطر النحوية لا يكون ولا يقع إلا بالفعل، لأنه عمل يقوم على تزجية المخاطَب إلى أمر لإنفاذه وأدائه في الكون الخارجي(22)، والتزجية دفع الشيء ، وهو هنا دفع وإخراج من الكون العدمي إلى الكون الوجودي.
والإرادة وإن تأخرت في البناء التركيبي اللغوي فهي سابقة على القول لما أفادته العبارة الشرطية التي تقتضي أحقية التقدم النفسي والوجودي، وهكذا تكون: (تابع قراءة الموضوع)
اترك رد