يعد كتاب “حركية البديع في الخطاب الشعري؛ من التحسين إلى التكوين” للدكتور سعيد العوادي الصادر سنة 2014، عن دار كنوز المعرفة العلمية بالأردن الحلقة الثانية من مشروع بلاغي يسعى إلى تبئير المكون البديعي بهدف رفع الظلم الذي حاق به في المدارس والجامعات والمنتديات، حتى غدا الاتصاف به سبة وشتيمة، واسترجاعه سماجة وابتذالا. وهو ما ساهم في إهماله وتهميشه وعدم العناية ببحثه. فكان منطلق الباحث في الحلقة الأولى هو كتاب “أسئلة البديع؛ عودة إلى النصوص البلاغية الأولى” الصادر سنة 2009، والذي أخلصه لدراسة المرحلة الفنية للبديع من خلال تسليط الضوء على ثمانية مصنفات نقدية وبلاغية وإعجازية، متوقفا عند علاقة أسلوبية البديع بالأسئلة الحضارية التي عرفتها الحضارة العربية وهي: سؤال الشعرية وسؤال المفاضلة وسؤال المنهج وسؤال الإعجاز. وانتهت الدراسة إلى أن البديع لم يكن على هامش التفكير اللساني للأمة، وإنما كان له حضور مركزي من خلال إجابته عن الأسئلة الفنية والحضارية والمنهجية التي عرفتها هذه المرحلة الفنية.
وجاءت الحلقة الثانية من المشروع متمحضة لدراسة علم البديع بوصفه مدخلا قرائيا قادرا على منافذة الخطاب الشعري؛ وهي الحلقة التي بلورها كتاب “حركية البديع في الخطاب الشعري؛ من التحسين إلى التكوين” عندما تناول فيه الباحث، على مدار 350 صفحة، متنا شعريا واسعا يتكون من سبعة شعار كبار، منافذا إياه بوساطة علم البديع. فانبنى هذا البحث على أعمدة قوية أعادت النظر في علم البديع وأخرجته من دائرة التحسين لتدخله في أفق التكوين؛ فليس البديع مجرد محسنات تضاف إلى جودة الكلام، بل هو عنصر مكون لمعمارية الخطاب الشعري، لا يوظفه الشاعر الكبير كما اتفق؛ لأنه قبل أن يصبح نمطا في التعبير يكون قد شكل استراتيجية في التفكير. ومن هنا أمكن للباحث أن يتحدث عن الرؤية البديعية للعالم.
ومن أجل تقوية البعد التكويني للبديع، كان لزاما على الباحث أن ينتقل بالدرس البديعي من مجال البنية وتفريعاتها، الذي أصاب هذا العلم بـ”جنون المصطلح” كما عبر رولان بارث، إلى مجال الوظيفة واشتغالها. مع ما يفرضه هذا الانتقال من غربلة للمصطلح البديعي وإعادة تنسيقه، بالانفتاح على النظريات الأسلوبية والحجاجية. فكانت الحصيلة أن انتظم البحث في ثلاثة أطر ناظمة وهي: فاعلية التوازن وتوترية المفارقة ودينامية الحجاج.
وبذلك، خرجت دراسة الباحث من شرنقة التقسيم البلاغي الكلاسي الذي ظل مطمئنا لذلك التقسيم الثنائي المتداول وهو المحسنات اللفظية والمحسنات المعنوية، كمالو أننا يمكن أن نحلل اللفظ بمعزل عن المعنى. كما أنها ربطت البديع بالحركية والحيوية مما أحال نظرية التحسين والذيل البلاغي إلى مجرد أهواء وسراب.
وانتهى كتاب حركية البديع إلى صياغة جملة من الأسئلة الحارقة التي ترسم لهذا المشروع الرائد مساراته المستقبلية. وهي:
– إذا كان القرآن الكريم خطابا لغويا حافلا بالبديع، فلماذا لا تتجه الهمم صوب كشف ظواهره وإعادة قراءتها قراءة حضارية جديدة قد تفتح أفقا آخر من الآفاق الرحيبة لهذا النص المعجز؟
– ولماذا لا تقودنا تكوينية البديع إلى تناول جديد لكثير من نصوص تراثنا العربي الطافحة بالبديع، والتي ما نزال نلوك حولها كلاما معادا مكرورا نظير: المقامات، وعناوين الكتب، ومقدماتها؟
– بل لماذا نظلم عصرا بديعيا بأكمله امتد في سبعة قرون من الزمن فنسمه بعصر انحطاط وانحسار؟
– ثم أفلا يحين الوقت إلى قراءة منجزه النصي برؤية تنعتق من وصايا تاريخ الأدب التقليدي الذي يربط الأدب بالسياسة، وتلتمس من المستجدات المنهاجية والنظرية ما يقودها إلى اعتبار النص هو مركز الاهتمام لا سياقاته الحافة؟
– وألا يمكن أن يجد تحليل الخطاب “العربي” سنده النظري وأصل امتداده في مباحث علم البديع وإشكالاته بدل اجترار فج للنظريات الغربية دونما وعي، أحيانا، بالمسافة الحضارية التي تربط المرسل الغربي بالمرسل إليه العربي؟
– وأخيرا، لماذا نلاحظ اليوم أن البديع قد بدأ يتسلل من سجونه القديمة ليحيا بيننا حرا شاخصا في مختلف الخطابات الإشهارية دون أن نسارع إلى فك عزلته؟
ولعل خير ما نختم به هذه القراءة الموجزة لمشروع الدكتور سعيد العوادي هي شهادة للباحث الرصين والمبدع الباذخ الدكتور محمد زهير والذي قدم لكتاب “حركية البديع” تقديما متميزا يمكن اعتاباره نصا مرجعيا في البلاغة ونقد الشعر. يقول: ” لقد اجتهد الباحث في التحصيل والاستيعاب والتركيب والتطبيق، وسعى إلى أن يحقق بحثه إضافته، فلا يكون مجرد تردادٍ لما درج عليه القول، أو مجرد نسخة زيدت في البلد.. وقد حقق إضافته فعلا، بما بذل من جهد، واجتنى من ثمار.. والأمور بنتائجها، والزرع بحصائله.. وكل امرئ وما يُسِّر له..”
تصدير الدكتور محمد زهير، أستاذ الأدب و النقد
باختياره البحث في شعرية البديع، يكون الأستاذ سعيد العوادي قد راهن على المسلك الصعب في بحث قيم أسلوبية راقية، ذات نفاذ إشعاعي أفقي وعمودي، في بنية النص الأدبي، حتى ليمكن القول إن إبداعية النص الشعري تتوقف على بديعيته أساسا. فالقيمة البديعية قيمة حيوية في تشييد شعرية النص الشعري، باعتباره بناء لغويا فنيا، تتضافر في تنسيج شعريته عناصر تخييلية وإيقاعية وأسلوبية. وللبديع في كل هذا تمظهرات وسَرَيانات.. والشعر شعر بمقوماته الجمالية أولا، فهي ماؤه وإهابه، والانبثاق الضوئي المساوِر لكيانه الجاذب المدهش، الموحي بالمعنى، والمنفتح على معان ممكنة، يستدرج إليها بفائق صنعه. والبديع في هذا الصنع يقع في المركز من الإبداعية الشعرية، لأنه بؤرة تقاطع التخييلي واللغوي والإيقاعي.. فهو حاضر بالفعل أو القوة، أو بهما معا، في كلية النص الشعري المتوقفة فرادته على ارتقاء تبديعه..
يجلي هذا صعوبة البحث في شعرية البديع.. ويضاعف من هذه الصعوبة أن المتن الشعري، الذي اشتغل عليه الباحث سعيد العوادي، متن أساس لشعراء رؤوس في حركة البديع، أو حركة البديعية في تاريخ الشعر العربي.. وهي حركة من أهم ما تميزت به، وعيها بأن الشعر العربي فن، قبل كل شيء.. فتركيزها على القيم الفنية، كان حركة عميقة في أفق وعي الشعر بذاته، أي بكونه شعرا، لا تنفصل مساحة الفن فيه عن مساحة التدليل، فالإبداع فيه بلاغة والبلاغة إبداع، ومن ثمة فلا مجال في تبديع الشعر للفصل بين تبديع اللفظ وتبديع المعنى، ولا مجال لعدّ التبديع مجرد تحسين وتطرية، يستكمل الشعر بهما هندامه ويحلي قوامه.. فالبديع، خلاف هذا، مكون بنائي عضوي، وقيمة شعرية أساسية في بلاغة النص.. وهو ما انتبه إليه الباحث وأقام بحثه على أساس منه، مدركا أن المتن الشعري البديعي، الذي اختاره للبحث، تأسس في سياق أدبي وثقافي تحويلي، قوي التجاذب، بل الصراع بين التقاليد الشعرية العربية الموروثة، وبين رؤى وممارسات شعرية مستحدثة، عملت على إبداع إضافتها الشعرية النوعية المختلفة عن الموروث، الذي استمدت منه بطرقها الخاصة، وأضافت إليه، فلم تنقطع عن أصوله، وإنما تواصلت معها برؤية مغايرة، تستجيب للشروط الجديدة، التي رَبَت في سياقها حركة البديع وأَمْرَعَت أثمارها المغذاة بدراية معرفية وأدبية راسخة، واقتدار إنجازي راق، وفهم للشعر من صلب طبيعته الإبداعية.. كما تدل على هذا أرصدة الشعراء الذين اختار الباحث أمثلة دالة من منجزهم الشعري البديعي، لبحثها وتسليط الضوء على قيم ووظائف التبديع فيها..
ونحن نعرف ما يستثيره كل جديد في حقل الأدب أو غيره، من الاعتراضات والتصادمات –من المستقر الناجز المألوف- المجاوزة بكثير لما يجده من الاستجابات وميسرات القبول والتداول.. وما جابه حركة البديع في تاريخ الشعر العربي، لم يكن ليشذ عن هذا الدَّيْدَانِ، بل إن ما جابهها كان قوي الدلالة على ما أحدثته من رجَّة تحويلية في مفهوم الشعر وتقاليد ممارسته وتلقيه.. ومن ثمة، ذلك التجاذب العنيف الذي أحاط النظر إليها بالكثير من الظِّنَّةِ واللَّبس، وبالكثير من التجني والغبن، وغمرها، أحيانا كثيرة، بما حجب قيمتها الإبداعية أو شوّش عليها، وحال من هناك، دون قراءتها على أساس أنها قيم شعرية مبدعة، لها الحق في المساءلة والمراجعة والإضافة المختلفة.. وأحسب أن تداعيات كل هذا، لم ترتفع في النظر إلى شعرية البديع حتى الآن، فما زالت في أذهاننا أصداء تلك الصيحات والدعوات التي طالما قرنت التبديع بالطلاء الخارجي الزائف، والزخارف القشرية الجوفاء، والتعابث اللفظي، وما إلى ذلك.. دون تدقيق أو تمييز بين شعرية راسخة صناع، وتصنع لفظي متكلف طاف على السطح.. ودون تمييز كذلك، بين سياق ثقافي أدبي مفعم حيوية، كالسياق الذي أنتج حركة البديع في تاريخ الشعر العربي، وآخر كامِدٍ راكِدٍ مُحَاكٍ غير مستوعب لعمق هذه الحركة، ولا مدرك لمقاصدها الشعرية والثقافية..
وهذه حالة من حالات علاقة البعض المختلة، مع حركة شعرية استجابت في شرطها لحوافز التطور الأدبي، وكانت مظهرا لافتا من مظاهره الدالة على نسبية القيمة الجمالية، وقابليتها للتطور والتحول والتغير في سياقات مختلفة، على نحو ما نهضت به هذه الحركة المبدعة في شرطها، إذ تأصلت من الموروث لتغايره، بما أضافت إليه، فشقت للشعر أفقا مجددا، واستدعت خلال ذلك وفي إثره، أنظارا ومفاهيم بلاغية ونقدية غير معهودة. فكان ذلك هو المَرْبَع الذي ستمرع فيه البديعية، منجزا شعريا ومؤطرات بلاغية..
والبديعية، التي هي مدار البحث في فصول هذا الكتاب القيم، لا يمكن تصورها اليوم، إلا منفتحة موصولة ممتدة في مسارات وتطورات الأدبيات والأسلوبيات والشعريات الراهنة، وذلك في تواشج متنافذ منتج، يمد الظاهرة المبحوثة بما يخصب النظر إليها، ويوسع الآفاق في بحثها ومحاورتها.. وهو ما لم يكن ليغيب عن هذا البحث، وقد راهن على قراءة وتأويل بديعية المتن الشعري الذي اختاره، بجهازه البديعي الموروث متواشجا بمكتسبات بلاغية وأسلوبية معاصرة، مركزا البحث على المقومات الشعرية البديعية، وهي تبدع أساليبها الفنية الدالة، فتنتج الدلالة من خلال القيمة الجمالية، وتنتج الجمال متناصرا مع إنتاج الدلالة..
ومثل هذا الرهان يضعنا أمام ضرورة قراءة المتن الشعري البديعي، باعتباره فنا لا يتم التفاعل معه، إلا باستبصار نافذ متذوق، مدرك لطرق وكيفيات إنتاج أساليبه، إدراكه لقيمته ومقاصده، من منطلق اعتبار البديع ليس مجرَّد فضول وزوائد، وليس مجرد محسنات تؤثث سطوح النص الشعري كالطلاء الطارئ الهش.. ولكنه عكس هذا المنظور الأفقي التبسيطي الرائج كثيرا، بلاغة أساسية بانية. بل يمكن عدّ البديع لغة الشعر العليا، أو مكونا مركزيا في فسيفساء هذه اللغة. لذلك لا أتصور قراءة الشعرية العربية –كأية شعرية أخرى- خارج مقوماتها الجمالية، ومن أهمها جماليات البديع.
إن حركة البديع في الشعر العربي، لتعد من أهم حركات التجديد المرتقية بالشعر مفهوما وإنجازا، على أساس من طبيعته الشعرية. وهذا ما يجعل نتاج هذه الحركة مجالا خصبا لبحث لغة الشعر أسلوبيا، وبحث تكاوينه التصويرية تخييلا، وبحث أثر هذا الصنيع البديعي في النص وفي تلقيه وتحفيز فيض إيحاءاته وتدليلاته.. وفي مجال هذه الأبعاد المتعالقة المرتبطة عضويا تحرك بحث الأستاذ سعيد العوادي، فتعددت موارد تمثيلاته في أطر فصول البحث، بما يدل على اغتناء وقيمة الرصيد البديعي في الشعر العربي، وأهمية، بل ملحاحية إعادة قراءته وفق مقتضيات القيمة الشعرية بعيدا عن الإسقاطات والأحكام المعيارية الجاهزة، التي تهون من شأنه، إذ تقرنه بالتعابث والسرف، أو تحصره في حدود الترقيش والتحلية. وبعيدا أيضا، عن تصنيفية الطبع والصنعة، وهي تصنيفية معيارية غير دقيقة، إذ ليس ثمة شعر خارج الطبع وخارج الصنعة، وإنما ثمة تمايزات في أساليب تبديع الشعر وطرائق تنسيجه، بما يحقق فرادة الشاعر وتميز أسلوبه عن أسلوب غيره. كما ليس ثمة شعر ينتفي فيه التبديع، وإنما ثمة حضور كثيف بارز لافت لقيم التبديع في شعر، قياسا إلى آخر لا تهيمن فيه هذه القيم. مما يدعونا إلى قراءات متجددة للشعرية العربية، تتقرَّى جغرافيات هذه الشعرية، وتعيد اكتشاف مراجعها، من منطلق أن في كل النصوص الراقية مساحات شاغرة للإيراد والاستكشافات.. مثلما نستجلي في هذا البحث، الذي قرأ الظاهرة البديعية –في تمثيلات دالة منها- بما يلائم طبيعتها، أي منظورا إليها بلاغة شعرية علائقية منتجة، وقيمة أساسية من قيم وعي الشعر بذاته.. ومن الدال هنا، أن ثمة من أطلق تسمية علم البديع على عموم مباحث البلاغة، باعتبار أن ليس هناك من بلاغة دون تبديع، أو دون أسلوبية راقية، ودون إبداع.. هذا إلى أن ليس هناك من حدود لضروب البديع وصوره وتنويعاته ومآتيه، فهو حرث غير محدود ولا منقطع في أراضي البلاغة الفيحاء، واستنبات متجدد لمباهج رياضها، وتفتيق دائم لأكمام أزاهيرها.. فحَقّ البديع إذن، أن يكون على رأس أبواب البلاغة، لا أن يموضع في آخرها، كما دأبت عليه بعض أنظار وكتب البلاغة التقليدية.
من ميزات هذا البحث أيضا، فضلا عن صدوفه عن الفصل المخل بين ما اعتُبر محسنات للألفاظ، ومحسنات للمعاني –وكأن الألفاظ لا تحيل على المعاني، وكأن المعاني يمكن أخذها مجردة عن أسلوبيتها!- صدوفه كذلك عن التشقيقات والتفريعات المثقلة لكاهل البديع، والمربكة لمسالكه.. فقد نحا الباحث إلى تبئير مجموعة من التشقيقات والتفريعات والصور البديعية، فهي تبنى موسعة مستوعبة لترتيبات البحث ومقاصده.. فكان أن أقيم البحث على أربع بنيات موسَّعة، هي المدارات المحورية لفصوله، وعُمُده التي نهض عليها.. وكلها فصول خصيبة بما يؤكد بنيوية القيمة البديعية، ويستدل على أنها ليست فضلة أو تحسينا طافيا، أو عنصرا استعماليا خادما لغيره، ولكنها قيمة شعرية لازمة في ذاتها، ومتعدية بتعالقاتها..
لقد اجتهد الباحث في التحصيل والاستيعاب والتركيب والتطبيق، وسعى إلى أن يحقق بحثه إضافته، فلا يكون مجرد تردادٍ لما درج عليه القول، أو مجرد نسخة زيدت في البلد.. وقد حقق إضافته فعلا، بما بذل من جهد، واجتنى من ثمار.. والأمور بنتائجها، والزرع بحصائله.. وكل امرئ وما يُسِّر له..
اترك رد