يترك عدد من الأئمة التطرق إلى بعض مشاهد واقع الناس بالتمحيص والبيان، وإفادتهم بحكم الشرع فيما يحل بهم من نوازل، على نحوٍ يـُحدث فصاما بين كلامهم وواقع مستمعيهم، وكأن الإمام لا يرتبط هو أيضا بأي وصال مع هذا الواقع بمشاهده ونوازله السلبية والإيجابية على حدّ سواء.
وأحيانا قد يدع الإمام الخوض في بعض قضايا الأمة؛ بداعي أنها من السياسة، وأن المساجد لم تُبْن يوما للسياسة، مع أن كثيرا من مسائل السياسة تهمّ الأمة وهي من صميم دينها، ولبّ شريعتها، وبإمكان الإمام أن يتناولها من وجهة نظر السياسة الشرعية المرعية بنصوص الكتاب والسنة، ويُوظّفها في واقع أمته الراهن توظيفا صحيحا بحسب مُقتضيات الشريعة الإسلامية.
في السياق نفسه، قد يأبى الإمام التطرق إلى بعض مشاهد واقع مجتمعه، بداعي أنها من المحذورات السياسية، مع أنه يعلم أنها ليست من المحظورات الشرعية، بل إن الدواعي السياسية الجائزة شرعا التي تحقق صلاح الأمة، تأبى أن يُحجم الإمام عن الخوض في هذه المشاهد والتعاطي معها إيجابيا؛ لأن بيان حكمها الشرعي، يسهم في تصحيح كثير من المفاهيم الخاطئة حولها؛ نحو مسائل: الجهاد، وما شَابَهَا من شبهات القتل الجائر، وإزهاق الأرواح، واستباحة الدماء والأعراض والأموال بغير وجه حق، والعمليات الانتحارية ضد المسلمين وغيرهم من أهل الذمة والأمان، وحكم الشرع الإسلامي من حراك الشعوب العربية والإسلامية وخروجها على حكامها…وبيان كل ذلك يخدم صالح العباد والبلاد.
أحيانا أخرى قد يتبرّم الإمام من تناول بعض مشاهد واقع أمته، في دروس وَعظه وإرشاده؛ بداعي أن ذلك من التزلف لذوي الهيئة والرفعة والفخامة والجلالة من الحكام والسلاطين والملوك والأمراء، وهذا خطأ شنيع قَمِنٌ (حريٌّ) بالإمام ألا يتعذّر به، فالمقرّر عند علمائنا أن الحاكم أو السلطان إذا كان مشهورا بالعدل والأمانة، ومعروف بتخوُّل أمته بالنصح والرعاية، وجبت له حقان: حق الطاعة وحق النصرة؛ طاعته فيما أمر من الحق، ونصرته فيما عليه هو من الحق.
بل إن معاونة الأئمة والعلماء لأولياء الأمور في إحقاق الحقوق وإيصالها إلى أهلها، وإبطال الباطل والأخذ على أيدي المبطلين والظلمة، واجب شرعي، وكذلك مُناصحتهم على لزوم منهج الحق والعدل واجب شرعي أيضا؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ»، قُلْنَا لِـمَنْ ؟، -فعدّ منها- قوله: «… وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ»([1]).
قال النووي شارحا نص الحديث: “وأما النصيحة لأئمة المسلمين فمعاونتهم على الحق، وطاعتهم فيه، وأمرهم به ونهيهم، وتذكيرهم برفق، وإعلامهم بما غفلوا عنه ولم يبلغوا من حقوق المسلمين، وترك الخروج بالسيف عليهم، وتأليف قلوب المسلمين وطاعتهم. قال الخطابي: ومن النصيحة لهم الصلاة خلفهم، والجهاد معهم، وأداء الصدقات إليهم، وترك الخروج بالسيف عليهم إذا ظهر منه حيث أو سوء عشرة، وألا يُغَرُّوا بثناء الكاذب عليهم وأن يدعى لهم بالصلاح”([2]).
مثال: مشروع السلم والمصالحة بين أبناء الشعب الجزائري، وهو مشروع شريف، أساسه الصلح، وقد صار ميثاقه واقعا ملموسا الآن، نجني – ولله الحمد- ثماره اليانعة، وأكله الطيب. والصلح حثّت عليه نصوص القرآن والسنة، وحض عليه الصحابة والتابعون والأئمة الأعلام من أهل السنة والجماعة، ولا شك أن تأييد أهل الشريعة الإسلامية لكل ما يُعزّز السلم ويُكرّس الصلح، ويُساهم في بث ثقافته ونشر مضامين ميثاقه كيفما اتفق من وسائل النشر والتبليغ؛ لا يعني أنهم يداهنون أو يتملقون أو يتزلفون، بل حتى على فرض صحة ذلك، فلا عيب أن نتملق لأجل الحق، ولذلك استحب العلماء التملق في طلب العلم بشرائطه وقويده وضوابطه.
على الإمام أن يراعي جانبا مهما في واقعية خطابه ووعظه وإرشاده في بيوت الله عز وجل، وهذا الجانب يتمثل في مستوى الخطاب الذي يُوجهه لجمهور المتلقين، ومضامينه التي يُلقيها على مسامعهم؛ فالناس ليسوا على قدر واحد من الفهم والعلم؛ لهذا يتعين لزاما على الإمام أن يراعي عند مخاطبتهم اختلاف فهومهم ومستوى علمهم، فيخاطبهم على قدر عقولهم حتى لا يُكذّب دين الله تعالى، ويحصل القبول المأمول والأثر المطلوب من وراء الخطاب.
في السياق نفسه، على الإمام كذلك أن يراعي حضرية الناس وبدويتهم؛ فإذا كان الإمام يأمّ الناس في مساجد أهل البادية والريف، فعليه أن يراعي عند مخاطبتهم بساطتهم، بل ربما سذاجة عقول بعضهم؛ حتى لا يُساء فهم خطابه، وينسحب أثر ذلك على دين الله عز وجل فيُساء فهم تعاليمه السمحاء.
وهنا لست بطاعن في أهل البادية والريف؛ فإنهم أهلٌ للخير وتقبّل الموعظة، وأنهم أهل التواضع والمكرمة، فالبادية قد شهدت تحولات كبيرة نقلتها إلى البداوة المتنورة بنور الحضارة والتمدّن والعلم النافع، وأخرجت أبناءها من ظلمة الأمية والجهل والتخلّف. اليوم الريف فيه مُثقفون، فيه نخبة..لكن في الأعم الأغلب هم كما ذكرت قبلا من بساطتهم التي قد تبلغ ببعض مبلغا من السذاجة في فهم الكلام واستيعاب مضامين الخطاب.
أما إذا كان الإمام يأمّ الناس في مساجد أهل الحضر والمدن والحواضر الكبرى، فيراعي كذلك مستوى الفهم والعلم والمعرفة الذي يتمتع به غالبية المخاطبين من أهل المدن والحواضر. وهذا قطعا لا يعني أن هؤلاء يستوعبون جميع مستويات الخطاب بسهولة ويُسر، بل هم في ذلك مستويات أيضا ومراتب قد يوجد فيهم من لا يُحسن الفهم والاستيعاب إلا بالكلام البسيط الذي يُدار بين الناس في حياتهم الاجتماعية العادية.
زيادة على ما ذكرت إن واقعية الخطاب المسجدي، تستلزم من الإمام أن يكون فقيها بواقع من يُخاطبهم، عارفا بنوازله، بصيرا بحوادثه، عالما بمشاهده. ونظرا لأهمية الفقه بالواقع وخَبْرِه؛ اشترط العلماء في الفقيه والمفتي معرفة الناس وواقعهم، وعوائدهم وأعرافهم، كما اشترط بعضهم أن يكون القاضي من أهل بلده؛ لعلمه بواقعهم وأعرافهم وعوائدهم أيضا.
الاهتمام بتكوين الأئمة، وهو سبب آخر لتحسين الخطاب الديني المسجدي، ولا شك أن تغييب التكوين النوعي والدوري للإمام سبب ظاهر لضعف مردوده الخطابي والرسالي، يعني حتى مع وجود التكوين فإنه لا يشفع لرفع الخطاب في منابر وأفنية المساجد إذا لم تُراع فيه النوعية والجودة التي صارت مطلوبة في ميدان الإمامة وهو ميدان الدعوة إلى الله تعالى وتبليغ أحكامه، ومحلّ الخطابة المنبرية والدروس المسجدية، فضلا عن ميدان التدريس والتعليم وهو محلّ التلقين والإلقاء والخطاب.
من المهم أيضا أن يكون هذا التكوين دوريا بصورة منتظمة، وأن تُنظم الدوائر الرسمية إرساليات وبعثات جادة وصادقة للأئمة إلى الحواضر العلمية الإسلامية العالمية؛ قصد تعميق معارفهم وخلق فرص للإحتكاك بكبار المشايخ والأئمة ممن لهم رسوخ في مجال الإمامة والخطابة. وهذا موجود فيما نعلم، والمهم تعزيزه أكثر.
وهنا من الضروري أن يكون الإمام واسع الإطلاع؛ مُطّلعا على المعارف التي تُساعده على ترقية خطابه، فضلا عن العلوم الشرعية؛ فإن الإمام في حاجة أن يكون مُتفتحا على لغات القوم، متمكنا من التكنولوجيا الاتصالية والإعلامية التي تُمكنه من الإطلاع على ما يحتاجه من معلومات، وتتيح له التواصل السريع والسهل بأصحاب الفضيلة المشايخ ليُراجعهم فيما يعرض له من مسائل ويعترضه من نوازل.
من جانب آخر، ونظرا للخطر الذي يكتنف الإمام ويتهدّده من المعتلّين فكريا ونفسيا، الراغبين في النيل منه حسدا، وإلحاق الضرر به ظلما وعدوانا، نرى من الأئمة من يُحجم عن إلقاء درسه وخطبته بأريحية؛ لئلا يتخرّص هؤلاء مضمون خطابه ودرسه عليهم، وأن الإمام يتكلّم عنهم، وأنه يعنيهم ويقصد التشهير بهم، وهذا ربما قد يتسبّب في ترك الإمام التطرق إلى ما يقع للناس من بلايا ورزايا وخصومات ونزاعات ومُهاترات يتسبب لهم فيها إخوان لهم من جيران وأرحام…وغيرهم، رغم أن الإمام معني ببيان الحق وتبليغه وإيصاله، وأن لا يخشى ف الله تعالى لومة لائم.
هنا من المهم التكفل رسميا بحماية الإمام، لا أن يُعيّن في مسجد يموج بالفتن والصرعات، ويُترك وحيدا يُصارع موجها العالي وريحها العاتي. للأسف هذا نفتقده أحيانا في ظلّ واقع قد لا يرحم الإمام ولا يحفظ له هيبته ولا يُقدّر مكانته.
ومن المؤسف أن نرى أفرادا من المجتمع يُطلقون العنان لألسنتهم بامتهان الإمام والانتقاص من عرضه وشرفه، والتقليل من شأنه، وأيضا من جهة اللجان الدينية التي تتدخل في عمل الإمام كيفما اتفق لها، وكأن الإمام ألعوبة في أيديهم يتحكمون فيه كما تشاء أهواءهم؛ لهذا وجدنا أن من أكثر ما يذهب بحرمة المسجد صراعات الدنيا بين أئمة المساجد وأعضاء اللجان الدينية المسجدية، أو بينهم وبين عوام الناس من مُرتادي المسجد وجيرانه.
ووالله لقد بلغنا ورأينا أناسا لا فقه ولا علم لهم، ولا أدب ولا أخلاق تُربّيهم، بل منهم من يدقّ الدّف والبندير في الأعراس يُحييها؛ يتكلّم في الإمام، بل حدّثني بعضهم أن جاره صاحب البندير كان يأوي إلى حائط بيته، يسمر ليلا مع معارفه دون مراعاة لحرمة جاره الإمام الذي قالوا أنه ارتكب أخطاء تتطلّبت اشتكاءه إلى مدير الشؤون الدينية، فإذا دعاهم الإمام إلى اتخاذ مكان آخر لأنهم يُؤذونه بسمرهم ويُزعجونه وأهله، ثاروا عليه وصرخوا في وجهه ولم يمتثلوا أمره، ربما تناسو أن هذا الإمام يظلّ جارا لهم وإن كان مُخطئا.
ومن المعيب أحيانا أن تنساق الدوائر الرسمية (مديريات الشؤون الدينية) إلى صف اللجان فتُعاقب الإمام، وتتهمه بإثارة الفتن، وهو الذي يدعوا إلى تجنب ما ظهر منهما وما بطن، بل ويُعاب على هذه الدوائر قبولها النظر في الشكاوى الكيدية التي يرفعها بعض الناس حتى هاتفيا، والتي تنال من الإمام ظلما وعدونا، دون أن تكلف نفسها عناء البحث الدقيق والتقصي العميق إلا قليلا.
هنا تتنصل الإدارة من دورها في حماية الإمام لتتلفّع ثوب المحاسب والمعاتب والمعاقب، تُنزل بالإمام إحدى العقوبات التأديبية المقرّرة قانونا، فيفقد الإمام الثقة في الإدارة، وقد يدفعه ذلك إلى ترك منصبه والتخلي عن وظيفته طواعية، وهذا واقع قد حصل فعلا، لكنه لا يُلغي الأدوار الإيجابية التي تضطلع بها مديريات الشؤون الدينية تحت وصاية وزراة الشؤون الدينية والأوقاف.
أيضا أرى أن وجود القرار السياسي الذي يضمن للإمام الحرية في الطرح، أعني الحرية التي تتقيّد بقيود الشريعة الإسلامية التي تنصح ولا تفضح، تُيسّر ولا تُعسّر، تُرغّب ولا تُنفّر، تجمع ولا تُفرّق، تُقيم العدل وتنفي الظلم، تبسط الأمن والاستقرار، تنفي الخبث عن الأمة…أقول إن هذا القرار يسمح للإمام أن يخطب في مهابة دون خشية إلا لديّان السموات السبع والأرضين جلّ في عُلاه.
ومن الخطر البيّن أن يتسلط إمام الأمة (الحاكم) أو نائبه والمفوّض عنه على إمام المسجد؛ يحجر عقله ويعقل لسانه ويكسر قلمه؛ فلا يُحدّث الناس خيرا يرضاه الله تعالى ورسوله، ولا يُصلح فسادا حاق بالأمة، ولا يُنير ظلمة أحاطت بها أو فتنة عصفت بها إلا ما يأذن به الإمام وإن خالف فيه أحكام الشريعة الإسلامية، هذا مع التزام الإمام أن يكون هاديا لا مُضلّا، وأن لا يكون فتّانا للناس في أمر دينهم، يُشيع الفتن ويُثير النعرات.
وهنا أطرح إشكالية التسييس التي لم تدع مجالا إلا وتدخلت فيه (التعليم، القضاء، الإعلام…وأضيف المساجد)، سواء كان التسييس برعاية رسمية أو من الأئمة أنفسهم، يُقحمون المساجد في أمور السياسة بطريقة خاطئة..إن التسييس يحيد بالمساجد عن دورها الرساليّ في إصلاح الراعي والرعية، وفق تعاليم الشريعة الإسلامية الصحيحة دون غلوّ أو إطراء أو تطرف.
وعلى ذكر التطرف، فإن خطره بيّن يحيق بالأمن الفكري لأئمة مساجدنا ومُرتديها، حريّ بالإمام أن يجتمع على مرجعية بلده التي تحتكم إلى كتاب الله تعالى وسنته صلى الله عليه وسلم، وأن يدع التعصب والتزمّت جانبا، وأن يلتزم الوسطية والاعتدال التي جاء بها القرآن ودعا إليها النبيّ عليه أفضل الصلاة وأتمّ السلام.
في هذا السياق أيضا، أعتقد جازما أنه لا مكان في المساجد للخطابات الشعبوية التي تُكرّس للجهوية والانفصال الإقليمي والعروشي، فإن نصوص الشريعة الإسلامية واضحة تمام الوضوح في التعامل مع دعوى الجاهلية التي تُكرّس للعصبية والقومية المحلية، فإنما ديننا دين الاعتصام بحبل الله تعالى المتين ودينه القويم امتثالا لقوله جلّ وعلا: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾.
هذا ونجد أن شعور الـمُخَاطَب بواقعية الخطاب الديني المسجدي، يُثير فيه الاهتمام بمضامينه الرسالية، ويجعله أكثر قابلية للتعاطي مع ما يقوله الإمام في خطبته ودرسه. وأيضا إن الخطيب في المسجد إذا تطرّق إلى هموم الناس اليومية وانشغالاتهم الحياتية ستكون خطبته أكثر ملاطفة لمشاعر المستمع، وأبلغ تأثيرا فيهم، بل ويجعل من الإمام نفسه مقبولا لدى الناس، مُهابا بينهم، خاصة مع حرصه أن يكون قدوة وأسوة لمن يُخاطب. وبذلك تتحقق رسالية الإمام في السجد، وعلى الإدارة الوصية والدوائر الرسمية أن تُحسّن من أدائها في التعامل مع الأئمة، كما يتعيّن لزاما على الإمام أن ينهض بمهامه بكل صدق وإخلاص، مُتمثّلا رسالة الأنبياء في الدعوة والإصلاح.
آخره أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وتبعه وسلم تسليما
اترك رد