كلّنا يفكر في الاستثمار ؛ لأنَّ فيه زيادة ونماء ، فلماذا لا يكون الاستثمار في الوقت ؟ .
هب أنّ هناك مصرفًا يضع في حسابكَ دفعة يوميَّة بعدد ثواني ذلك اليوم 86400 دولارا، بيد أنَّ المصرف يسحب منه كلّ المتبقي في نهايةِ تعاملات اليوم ، ولم تستطع الاستفادة منه .
ماذا تفعل عندئذٍ ؟ بالطبع ستسحب كل مليم في حسابك .
لا شكَّ أن كلَّ واحدٍ منَّا لديه مثل هذا المصرف ، إنَّه ” الوقـــــــــــــــت ” يُعطي كل واحدٍ منَّا مع كلِّ إشراقةِ صباحٍ 86400ثانية ، وفى نهايةِ ذلكَ اليوم تَخسر كلّ ما لم تستطع تَسخيره في عملٍ مثمرٍ بنَّاءٍ .
وإذا أردت أن تعرف قيمة ثانية ، فاسأل شخصًا نجا لتوّه من حادث سيَّارة !
وإذا أردتَ أن تعرف قيمة فيمتو ثانية ، فاسأل شخصًا كسب ميدالية فضية في الألعاب الأولمبية !
إذن ليس في الوجودِ أغلَى من الوقتِ ، وإنَّ الأوقات لتتفاوتُ في يُمنها وبركتها ، وحسن حظّها وسعادةِ جِدّها ، فساعةٌ أعظم من سَاعة ، ويومٌ أفضلُ عند اللهِ من يومٍ ، وشهرٌ أكرمُ من شهرٍ :
هو الجَدُّ حتَّى تفُلُ العيْنُ أختَها … وحتَّى يكونُ اليومُ لليومِ سيِّدا
نعم هو الجَدُّ أى الحظّ .
ومن المؤسفِ أنّ بعض النّاسِ لا يُبَالون بإضاعةِ أوقاتِهم سُدًى وَيضُمُّون إلى هذهِ الجريمةِ السطوَ على أوقاتِ غيرهم لإراقتِها على التُّراب ! وإنَّهم ليقتَحِمُون على العلماءِ خلواتِهم الجَادّة ، ليشغلُوهم بالشؤونِ التَّافهة ! .
فِي حين لو فقد أحدهم جَوهرة ، لحزن عليها حزنًا شديدًا ، بل لو ضاع منه جنيهًا واحدًا لساءه ، فكيف يفرّط في سَاعاتِه وأوقاته ، فكلّ نَفَسٍ ينقص بهِ جزء من الإنسَانِ ، والعمر كلّه قَصير ، والباقى منهُ هو اليَسير .
ورحم الله ابن الجوزى ت 597هــــ إذْ يقولُ :
والوقتُ أنفَسُ ما عُنِيتَ بحفظهِ …وأَراهُ سهلًا مَا عليكَ يضيعُ
وقد حثَّ الإسلامُ على استغلالِ الوقتِ بأفضلِ الوسائلِ ، فحثَّ على مداومةِ العملِ وإنْ كان قليلًا ، وذلكَ أنَّ استدامةَ العملِ القليلِ مَع اطِّرادِ الزَّمن وسَيْرِهِ المَوصُول ، يَجعلُ منَ التَّافهِ الضَّئيلِ زِنَةَ الجِبالِ من حيثُ لا يَشعرُ المَرْء .
وَكرهَ الكثير المنقَطِع ؛ لأنَّه يهيج بالإنسانِ رَغبة سَريعة ، فتدفعهُ إلى الإكثارِ والإسرافِ ،
ثمَّ تغلبُ عليه السآمة ُ فينقطع ، فهذا مَا كَرههُ الإسلام .
ومنْ أعظمِ الصُّور التى نَظر الإسلامُ فيها إلى قيمةِ الوقتِ الحثّ على التبكيرِ ، ورغبته أنْ يبدأَ المسلمُ أعمالَ يومهِ نشِيطًا طيِّبَ النفسِ ، فإنَّ الحرصَ على الانتفاعِ من أولِ اليومِ يستتبعُ الرَّغبة القويَّةَ في أَلَّا يَضِيع سائرُهُ سُدًى .
ونظامُ الحياةِ الإسلاميَّة يجعلُ ابتداءَ اليومِ من الفجرِ ، ويفترضُ اليقظَةَ الكاملةَ قبلَ طلوعِ الشمسِ ، ويكرهُ السَّهر الذى يؤخِّرُ صلاَةَ الصُّبحِ عن وَقتِها المسنُون ، وفى الحَدِيثِ الذى رواهُ أبو داود : ” اللهمَّ بارِكْ لأُمَّتِى في بكُورهَا ” .
ومن كلمات الحسن البصرى – رحمه الله – ت 110هـــ : ” ما من يومٍ يَنْشَقُّ فجرهُ ، إلا نادَى منَادٍ من قِبَلِ الحقِّ : يا ابن آدم ، أَنَا خلقٌ جديد ، وعلَى عملِكَ شَهيد ، فتزوَّد منِّى بعملٍ صَالح ، فإِنِّى لا أعُودُ إلى يومِ القيَامةِ ” .
وإنَّه من الغفلةِ والحرمانِ أن يأْلفَ بعضُ الناسِ خاصَّةً الشباب النومَ إلى الضُّحى ! فتطْلُعَ عليهم الشمسُ وهُم يغُطّون ! على حِينِ تَطلُعُ علَى آخرين وهُم منهمكُونَ في وسائِل مَعاشهم ومصالحِ معادهم ، وإِعمارِ بلدِهم .
روى البيهقىّ عن فاطمة بن محمد – عليه الصلاة والسلام – قالتْ : – مرَّ بى رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – وأنا مضطجعةٌ مُتَصَبِّحَة ( أى نائمة أوّل النهار ) ، فحرَّكنى برجلهِ ، ثمَّ قالَ : ” يا بُنيَّة ، قُـــــــومِى اشْهَدِى رِزْقَ رَبِّك ولا تكُونِى منَ الغَافلين ، فإنَّ الله يُقسِمُ أَرزاقَ النَّاسِ ما بينَ طلُوع الفجرِ إلى طلُوع الشمسِ ” .
إذ إن الجادّين والكُسَالى يتميَّزونَ في هذا الوقتِ ، فيُعطَى كلُّ امرئٍ حسْبَ استعدادهِ من خيرِ الدُّنيا والآخِرة .
قال بشار بن برد ت 168هــــ :
بَكّرا صاحبى قَبل الهَجِير … إنَّ ذاك النَّجَاح فى التَّبكِير
ولا يقتصرُ الأمر على التبكيرِ فالإسلام يَنظرُ إلى قيمةِ الوقتِ في كثيرٍ من أوامرهِ ونواهيهِ ، فعندما جعل الإعراضَ عن اللغوِ من معالمِ الإيمانِ ، كانَ حكيمًا في مُحاربةِ طوائفِ المتبطّلين ، الذين يُنادى بعضُهم بعضًا : تعالَ نقتلُ الوقتَ بشئٍ من التسليَّةِ !!! ويجلسُون على المقاهى الليل كله ، ومَا درَى الحمقَى أنَّ هذا لَعِبٌ بالعمر ، وأنَّ قتلَ الوقتِ على هذا النَّحو إهلاكٌ للفردِ ، وتدميرٌ مجتمعىّ ، وإِضَاعةٌ للاقتصادِ الوطنىّ .
فمن نتائِج ضَياع الوقت ضَياع كثيرٍ من منابعِ الثّرَوة القوميّة ، كان يمكن أن تستغلّ لولا إهمال الزَّمان والجهلُ باستعماله ، فكم من الأراضى في سيناء الحبيبة كان يُمكن أن تستغلّ ، ومن المصانع يُمكن أن تَعمل ، ومنَ المؤسساتِ المختلفةِ يمكن أن تَنشأ وتُدار بِجزءٍ من الزَّمانِ الفارغِ ، والحمدُ لله اتجهتْ أعينُنا إلى كلّ خيرات بلدنا ، ولا ينقصنَا إلا استثمار الوقت في التَّعمير والبِناء .
وقد حفرت تفريعة قناة السويس في عام ، كما حفر خليج المؤمنين ليربط النيل بالبحر الأحمر ( القلزم ) في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضى الله عنه – في عام – أيضًا – ،
ومصرنا غنية بأبنائها في شَتَّى فروع العلمِ والمعارفِ والفنونِ ، تَعتمدُ على كلّ فيما تَخصَّص فيه من نَواحى الحيَاة .
فالعاقلُ الموفَّقُ من يَملأُ كلَّ لحظةٍ وثانية من حَاضرِ عمره ووقته بفائدةٍ أو عملٍ صالحٍ ، وقد كَره سيدنا عمر بن الخطاب – رضى الله عنه – التَّعطّلَ والبطَالةَ وإضاعةَ الزَّمن سُدًى ، فقال : إنِّى أَكرهُ أنْ أرَى أحدكم سَبَهللًا – أى فارغًا – لا في عمل دُنيَا ولا في عمل آخرة .
ومن الحِكَم التى يجبُ أَلَّا تغيب عن بَالِنَا :” الوقتُ كالسَّيفِ إِن لم تقطَعهُ قطَعَك ” ، ” الأعمالُ أَكثرُ منَ الأَوقاتِ ” ، ” الزَّمنُ لا يقفُ مُحَايدًا ، فهُو إمَّا صديقٌ ودود ، أَو عدوٌّ لَدُود ” ،
إذا فاتنِى يوم ولم أصطنعْ يدًا ……… ولم أَكتسِبْ علمًا فمَا ذاكَ من عُمرِى
إنَّ الوقتَ سيفٌ قاطعٌ وبرقٌ لامع ، ومن الحزمِ انتهازُ الفرصة ، وتركُ التَّوانِى فيما يُخاف عليه الفوت .
اترك رد