الفلسفة والسلم العالمي

نظمت مجموعة البحث في حوار الثقافات والأبحاث المتوسطية، بتعاون وتنسيق مع ماستر فلسفة التواصل، الملتقى الفلسفي الثاني “الفلسفة والسلم العالمي”: بتاريخ: الاثنين والثلاثاء 29 و30 نونبر 2010، بقاعة الدكتور محمد الكتاني للمحاضرات، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بمارتيل، التابعة لجامعة عبد الملك السعدي المغرب، وفق البرنامج المسطر أدناه.

وتكونت اللجنة المنظمة من السادة الأساتذة الأفاضل:

– الدكتور مصطفى الغاشي.

– الدكتور مصطفى حنفي.

– الدكتور عبد الواحد العسري.

– الدكتور محمد أرحو.

– الدكتور الصادق الحيرش.

وقائع الملتقى الفلسفي الثاني:

الجلسة الافتتاحية:

(رئيس الجلسة: الدكتور مصطفى الغاشي)

1- كلمة السيد عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الدكتور محمد سعد الزموري:

2- كلمة المنسق المسؤول عن بنية البحث ورئيس سلك الماستر، الدكتور مصطفى حنفي:

ترأس نائب عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية الدكتور مصطفى الغاشي الجلسة الافتتاحية على تمام الساعة التاسعة وخمس وخمسين دقيقة (09:55) من صباح الاثنين 29 نونبر 2010، فرحب بالمشاركين والحاضرين، وعرف بمنظمي الندوة وموضوعها.

كلمات الافتتاح:

1- كلمة السيد عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الدكتور محمد سعد الزموري:

– الإعراب عن الافتخار باحتضان كلية الآداب والعلوم الإنسانية لأشغال ندوة “الفلسفة والسلم العالمي”، وبقدرتها على استقطاب أسماء لامعة، وطرح قضايا للنقاش والتداول المتينيْن.

– التنبيه على خطورة موضوع الندوة: السلم العالمي، والتركيز على إبراز الدور المنوط بالفلسفة بأبعادها الشاملة من حيث مسؤوليتها وقدرتها وسعيها إلى إرساء السلام في العالم.

– الترحيب بالضيوف وجميع المساهمين في إنجاح هذه التظاهرة.

– ربط هذه المناسبة برسوخ الاقتناع بضرورة فتح شعبة الفلسفة كلية الآداب والعلوم الإنسانية، والإخبار بتحقيق هذا المطلب مستهل الموسم الجامعي القادم 2011 – 2012.

2- كلمة المنسق المسؤول عن بنية البحث ورئيس سلك الماستر، الدكتور مصطفى حنفي:

– الترحيب بالضيوف الكرام باسم مجموعة البحث في حوار الثقافات والأبحاث المتوسطية، واللجنة المشرفة على تنظيم الملتقى.

– التنويه بالاستجابة الكبيرة التي لقيته الدعوة إلى المشاركة من الضيوف والمدعوين من مكناس والرباط والدار البيضاء للتواصل والحوار الفلسفي ومناقشة الخبايا الثاوية خلف سياسات الحروب في سياسيات الدول.

– قراءة ديباجة الملتقى المحدِّدةِ لأهدافه وفلسفته ومحاوره وآفاقه. ولغنى هذه الديباجة، وعمقِ خطابها، وجديتِها المتميزة، نثبت نصها الكاملَ هنا (أسفله).

– شكر عميد الكلية الشكر الجزيل على الذي رعايته وحضوره الذي شرف الندوة.

ديباجة الملتقى: (الدكتور مصطفى حنفي)

تحملنا ظاهرة استفحال جرائم الحروب في سياسات تدبير العلاقات الدولية على التساؤل: كيف يمكن أن نكون”كانطيين” في عالم اليوم في مجال الدعوة إلى مشروع للسلام العالمي، ونحن متأكدون تماماً أن التفاؤل الكانطي لم يصمد كثيراً أمام الحقائق ووهج التوترات الكبرى التي نجمت عن كوارث القرنين الماضيين من المناورات والشرور والكذب السياسي في حقل العلاقات الدولية؟

هل من سبيل هنا للاستمرار في الحديث بلغة البنود التمهيدية والبنود النهائية الأنوارية التأسيس، لإنشاء تنظيم عالمي يمكن أن تدار فيه بسلام وبشكل عمومي مجموع العلاقات الدولية على أسس فلسفة الحق، ويتحقق فيها مطلب المواطنة العالمية بين كافة البشر خارج سقف الملل والنحل؟

إن فكرة السلام الدائم والخروج بالشعوب من حالة القصور إلى حالة الرشد التي حرص مشروع كانط على صياغتها، لم تكف أبداً في نظر الفلاسفة والمشتغلين بالفكر السياسي، عن التطور والتجذر في الفضاء السياسي المعاصر، وذلك منذ تأسيس المجتمع الأممي في جنيف. بل إن هذه الفكرة نفسها اتخذت منذ الحرب العالمية الثانية بوصفها مبدأ لإقامة مجتمع السلام، صوراً وتجليات شتى، مقبولة أحيانا ومرفوضة أحياناً أخرى، في المؤسسات والمنظمات السياسية الدولية الراعية لحفظ السلام.

ذلك ما يتعين علينا أن نجعله حاضراً في أذهاننا، ونحن نتأمل المتاح من الأفق التاريخي لتجربة وإرث الأنوار أولاً، ثم نوسع دائرة التفكير فيه ثانياً، ونحن نستدعي معول النقد في إدراك مفارقات السلام في علاقاتها الحاضرة والمتواصلة الحضور بمتغيرات التاريخ والمشهد الإعلامي المعاصر في عصر تقني تحول فيه الاشتغال بمشكلة الحرب إلى ضرب من الأنطولوجيا الخاصة بصناعة الشر وجرائم الموت في العالم. وهو ما يجعل الفروق ذات شأن بين النظر الأخلاقي والنظر السياسي في الحق، ويجعل المسافة بينهما، بالتالي، مسافة إشكالية تضع الجهاز المفاهيمي الحقوقي المستوعب لمشاريع ومعاهدات السلام في فلسفة الحق الحديثة، عرضة لإشكالات نظرية ومفهومية حقوقية وقانونية أمام قيود التاريخ وموانع الواقع.

وحدث تنظيم هذه الملتقى الفلسفي في دورته الثانية، أفق تستشرف لجنته العلمية من المشاركين إطلاق نقاش نقدي جاد متعدد المنظورات، فلسفي وحقوقي وقانوني وسياسي، يساهم في بلورة ما يطور المنظور الفلسفي السياسي المغربي العربي للسلام والتفكير في السياسة كمجال عمومي مستقل، وذلك انطلاقا من مقترح المحاور التالية:

1- إرادة الحرب وإرادة السلام.

2- التحكيم الدولي وآليات فض النزاعات

3- ثقافة السلام والنقاش العمومي.

4- هيئة الأمم المتحدة ورهانات السياسة الدولية.

الجلسة الأولى:

إرادة الحرب وإرادة السلم

(رئيس الجلسة: الدكتور مصطفى الحداد)

العرض الأول: “الحرب وأسس الحداثة السياسية”

(الدكتور عبد الحق منصف)

العرض الثاني: “بنية مقالة «مشروع السلم الدائم»”

(الدكتور مصطفى حنفي)

العرض الثالث: “فكرة السلام الدائم: من التفاؤل الكانطي إلى السياسة الواقعية”

(الدكتور عز الدين الخطابي)

العرض الأول: “الحرب وأسس الحداثة السياسية”

(الدكتور عبد الحق منصف)

– يركز العرض على ثلاث معطيات أساسية:

1- فكرة الحرب في علاقتها باستراتيجية الدولة في العصر الحديث:

– الذي يثير التساؤل ليس السلم بما هو نوع من الارتخاء عادةً، بل ما يختفي وراءه، أي الحرب.

– هذا التفكير حديث، تبلور منذ القرن السادس عشر تقريباً من خلال الإصلاح الديني بعد الحروب المكلِّفة، وبعد تبلوُر الدولة الحديثة، وإعادة صياغة القوانين، وطرح الحق الطبيعي للإنسان، والاكتشافات الجغرافية الحديثة وما جرته من إبادات للجنس البشري.

– مع الفكر الحديث تغير التفكير في السلم نتيجة تغيُّر التفكير في الحرب التي تحولت من مجرد غزوات إلى فعل استراتيجي.

– الحرب الحديثة صارت حرب دول لا أفراد. فالدول هي التي تعلنها وتخوضها بآليات واستراتيجيات مختلفة تماماً عما عرفته البشرية من قبل.

– هل الحرب امتداد للسياسة؟ أم سياسةٌ بشكل آخر؟ أم قطيعةٌ مع السياسة وبديل عنها؟ الحرب، أياً كانت الإجابة، ظاهرة لا يمكن تصوُّرُها ولا إدخالُها في مجال التفكير، لأنها ظاهرة غير إنسانية لدالتها على عدم إنسانية الإنسان، على الرغم من محاولة النصوص الحديثة إضفاءَ شرعية عقلانية على الحرب.

2- نقائض الفكر الحداثي المعاصر:

– في الفكر الغربي المعاصر مفاهيم تأسست ضداً على فكرة الحرب، وأَسَّست لمجال عمومي جديد قائم على السلم العالمي. ولكنها مفاهيم غير متجانسة إلى هذا الحد الذي تقدَّم به، بل كان خطابها حول الحرب والسلم مزدوجاً متناقضاً، ويثير انشقاقاً في الفكر الحداثوي.

– المواقف التي عكسها الخطاب الحداثوي للسلم والحرب حاول إسقاط فعل التفلسف -باعتباره فكراً مسالماً- على منظور مسالم هو منظور السلم الذي يرى أن الدولة تسعى للسلم، وذلك مع هوبز وروسو وكانط، مقابل توجهات حداثية أخرى، استمرت من ميكيافيل إلى نيتشه، اعتبرت عدم إمكان الفصل بين الدولة والحرب. فحتى السياسات العمومية هي في حد ذاتها حرب بشكل من الأشكال. الدولة في هذا المنظور كيان حربي بامتياز.

– كان كانط ذكياً جداً حينما بلور مفهوم الحرب الممكنة، باعتبار أن دولة القرن التاسع عشر قامت أساساً على التهيئ للحرب، وإن كانت في وضعية سلم. وعلى الرغم من تأسيس كلِّ دولة فضاءات عمومية وقوانين، فإنها تهيئ نفسها باستمرار للحرب الممكنة.

– الحرب ممكنة لا بمعنى أنها يمكن أن تتحقق أو لا تتحقق، بل بمعنى أنها أحد حتميات الدولة الحديثة التي تحولت إلى أسطورة، وجرَّت المجتمعات الحديثةَ إلى أقصى حالات الفظاعة ممثَّلاً في النازية. لذلك تعالت أصوات المجتمع المدني بعد الحرب العالمية الثانية مطالِبةً بمنحها حقوقَ الدولة في التسيير والمراقبة… في مسعى للوقوف في وجه تحَوُّل الدولة إلى وثن “Le mythe de l’état”.

– كيف نتصرف حيال إمكانية الحرب هذه؟ بعبارة أخرى: كيف ندبر هذا الإمكان ونؤجله؟ هل هو سؤال يعني تدمير الدولة الحديثة ذاتها؟

– هذا التقديم قادنا إليه خلاصات حول عدم تجانس المفاهيم السياسية الحديثة، أي الفلسفة السياسية الحديثة في شموليتها بتداخل الاقتصاد والتربية والحقوق والتقدم والأنوار… فلسفة تقودنا إذا تأملناها إلى تناقضين كبيرين:

أ- مفهوم يقول بقيام الدولة على تعاقد سياسي يقود إلى سلم اجتماعي مدني. وقد اعتَبر هذا الفكرُ التفكيرَ ذاته تفكيراً مسالماً، أي أنه يبحث عن فضاءات مسالمة. ففعل التفلسف إذن لا يقوم على اعتبار أن ممارسَه سياسي أو مجادل، بل صاحب حكمة تبحث عن تداول داخل المجتمع، عن سلم أخلاقي داخل المدينة فالعالم. غير أن فكرة السلم تفتقر إلى ضامن هو الدولة، ثم الفدرالية الدولية.

ب- مفهوم بني مع ميكيافيلي على التسلط والإكراه في قوة الدولة باعتبارها سلطة لا تقهر، وباعتبار أن فن الحرب هو أحد المقومات الأساسية للسياسة. ثم مع نيتشه الذي انتقد بفلسفة المطرقة والهدم والقوة الأسسَ القيمية والأخلاقية للدولة الألمانية.

– يظهر أن مسار الفلسفات الحديثة كرس تناقض السلم مقابل منطق الحرب التي بلغت درجةَ الإبادة والاستعمار.

3- فلسفة السلم والفضاء الجامعي:

– معنى عنوان الملتقى أن الفلسفة معنية بخطابنا أيضاً، الفلسفة كأحد أهم مكونات الفضاءات الجامعية. فحينما نفكر في السلم والحرب، لا ننسى دور الفلسفة وحضورها في إعادة التأهيل والتكوين والتبادل الثقافي لفضاءاتنا.

– نظام العولمة يعكس مرحلة متقدمة من التحديث. فمع العولمة تغير مفهوم العالم، ولم يعد ذاك العالمَ الذي بناه كانط بالمفاهيم الأخلاقية والسياسية. فأين هو المواطن الكوني في عالم الحدود؟ فحتى مفهوم السلم والحرب نفسُه تغير. فمن الحرب الباردة إلى الحروب الاقتصادية، والحروب الإعلامية، والحروب النفسية، والحروب المائية.

– لدى كانط أمل في تحقيق سلم ثلاثي: أخلاقي بين الأفراد، وسياسي داخل الدولة، ودولي كوني.

– ما هي المسؤولية المجتمعية للفلسفة تجاه فكرة الحرب والسلم؟ هل هي التكوين والتأهيل فقط؟ الجامعة المغربية لم تَفتح قنوات كثيرةً لهذه القضايا على الرغم من تراثها الهائل. فما موقع تراثنا الفقهي في تكويننا وهو الزاخر -في باب التفكير في الدولة- بالكتابة عن سياسة الحرب؟ الواقع أننا ذهبنا مع الفلسفات الحداثية وودعنا تراثنا. أليس التفكير في الحرب نفسُه حرباً؟ إن مسؤولية الفلسفة في فضاءاتنا الجامعية هي أن تعيد هيكلتَها، لتحقق هي الانفتاح على الشعب من جهة، ولتحقق انفتاح فئات الشعب على بعضها. الفضاء الجامعي ملزم اليوم بخلق مشاريع للعمل المستقبلي.

العرض الثاني: “بنية مقالة «مشروع السلم الدائم»”

(الدكتور مصطفى حنفي)

– الباحث المهتم بأسئلة الفلسفة المعاصرة، المشتغلُ بموضوعات السلم والحرب، سيجد نفسه مضطراً ،إذا هو أراد التعرفَ على أقوى اللحظات النقدية الألمانية للسلم والحرب، أمام كتاب كانط: “مشروع السلام الدائم”.

– النظر إلى مقالة كانط هذه عبر واجهتين أساسيتين من واجهات التعاطي النقدي للمقالة مع معضلات التاريخ البشري:

أولاً: الواجهة السياسية:

هي واجهة مسكونة بهموم التساؤل عن فكرتي السلم والحرب في عصر كانط الذي تجذر فيه الكذب السياسي بدعوى كاذبة أيضاً هي الدافع الإنساني”Le prétendu de mentir par humanité”، وأصبحت فيه الحاجةُ إلى السلم الدائم هدفاً أنوارياً يشكِّل الواقعُ الأروبي المثخَنُ بالصراعات والعنف محكَّ مبادئِه الحقيقي.

ثانياً: واجهة أخلاقية:

هي واجهة معبرة عن صيغ اكتمال الفكرة النقدية التي تتولى نقل ميتافيزيقا الأخلاق من أفقها الفكري أو المثالي للعقل إلى أفقها المدني المستوعب لدلالة الحق في معناه الكانطي الدستوري المؤسساتي ووظيفته المؤسسية.

– الوقوف مع الجانب التأسيسي من واجهات المقالة الكانطية في تحديث المجال السياسي، فقد يقلص نص المشروع الكانطي من وهج الفاعلات الحية في جدليات بناء وإعادة بناء المشهد السياسي لمجال العلاقات الدولية الأوروبية في منعرجاتها وأزماتها الكبرى.

– بيان المرجعية الأخلاقية للسقف السياسي للمشروع. حيث يستمد كانط فلسفة الحق من الأخلاق، ناظراً للمبادئ السياسة بوصفها مبادئ للحق وتطبيقاً عملياً للمبدأ الأخلاقي العام.

– التركيز على صياغة كانط لمواد محددة تسمِّي الشروطَ الضرورية لإمكانية إنهاءالحروب.

– تخصيص كانط ست مواد أولية لبيان “الشروط السلبية” للسلم، وثلاثَ مواد نهائية لبيان “الشروط الإيجابية” للسلم.

– اشتراط كانط وجودَ النظام المدني العادل لتحقيق الحرية.

– اقتراح كانط إقرار دستور عالمي لتثبيت السلم الدائم.

تجلية بنية المقالة:

– اشتملت المقالة على قسمين وملحقين وتذييلين.

– يشتمل القسم الأول على ست مواد أولية تحدد الشروط السلبية للسلم.

– ويشتمل القسم الثاني على المواد النهائية للسلم الدائم.

– الملحق الأول: “في ضمان السلام الدائم”.

الملحق الثاني: “مادة سرية للسلام الدائم”.

التذييل الأول: “في الخلاف بين الأخلاق والسياسة.. بالنسبة إلى السلام الدائم”.

التذييل الثاني: “في الاتفاق بين السياسة والأخلاق.. وفقاً للتصور “الترنسندنتالي” للقانون العام”.

– رفع فكرة الفضاء العمومي إلى مستوى شرط تحقيق إرساء السلم الدائم، لأن فكرة الحق هي جوهر جدل الحرب والسلم عند كانط.

– الإلحاح ختاماً على ما تتميز به المقالة الكانطية من راهنية، لقدرة مضامينها على سد حاجتنا الراهنة إلى فلسفة متينة ومحكمة لبناء السلم في فترتنا التاريخية الحاضرة والحاسمة.

العرض الثالث: “فكرة السلام الدائم: من التفاؤل الكانطي إلى السياسة الواقعية”

(الدكتور عز الدين الخطابي)

– يشكل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي مجالاً لاختبار الأطروحة الكانطية.

– ما هي قيمة وحدود الموقف الكانطي في مسألة السلم الدائم؟ وما مدى راهنيته؟

– تقديم هيكلة كتاب كانط “مشروع السلام الدائم”، وملخَّصٍ مركَّز لمحاوره الكبرى.

– التركيز على قراءة ألان رونو (Alain Renaut) لكانط. وهو مفكر وفيلسوف فرنسي ازداد سنة 1948، وأستاذ الفلسفة السياسيّة في جامعة السوربون بباريس، ويدير المرصد الأوروبيّ للسّياسات الجامعيّة.

– تقييم الصراع الفلسطيني الإسرائيلي من المنظور الكانطي الذي يجعل السلام رديفاً طبيعياً للحق، فلا سلام خارج فلسفة الحق. من هنا تبدو الحرب الإسرائيلسة خارجة عن القانون.

– لهذا السبب كان يرى كانط ضرورة وجود هيئة دولية لإخضاع الخلافات لمبدأ الحق. فالحق الكوسموسياسي عنده شرط لقيام الفدرالية الدولية حرة تمنع حدوث الحرب.

– ومن ثم فإن الدولة التي تعترف بالحق هي الدولة الوحيدة التي يمْكنها المساهمةُ في تحقيق السلام، لأنها تعترف لغيرها من الدول بحق السيادة من جهة، وبحق أعضاء هذه الدول في التجول والتجارة على غرار حق أعضائها هي من جهة ثانية.

– تناول الصراع الفلسطيني الإسرائيلي من منظور جينيالوجيا الاستيطان الذي يطرح إمكانية تعايش قوميتين مختلفتين متناحرتين على نفس الرقعة الجغرافية للتساؤل.

– الختم بالتذكير بطرح هابرماس لتواصل مؤسَّس على أخلاق الالتزام التي بإمكننها الاضطلاع بتحقيق السلم العالمي.

الجلسة الثانية:

ثقافة السلام والنقاش العمومي

(رئيس الجلسة: الدكتور عبد الصمد تمورو)

العرض الأول: “ملاحظات عن الكوسموبوليتية”

(الدكتور مصطفى الحداد)

العرض الثاني: “فلسفة الأنوار بين فشل المشروع السياسي وصمود القيم”

(الدكتور أحمد الطريبق)

العرض الثالث: “التحكيم الدولي وآليات فض النزاعات”

(الدكتور محمد المنصوري)

العرض الأول: “ملاحظات عن الكوسموبوليتية”

(الدكتور مصطفى الحداد)

– الفكرة العامة التي ناقشها كانط كانت تندرج أصلاً في نظام إقليمي عملت به أروبا في حينه، نظامٍ ذي آليات خاصة في الحكامة وتدبير البشر، والذي كان واحداً من الأنظمة الإقليمية الأخرى، تماماً كما كان للإمبراطورية العثمانية نظامُها الإقليمي الخاص، وللصين مثلُ ذلك… ولكن قُدر لهذا النظام الأروبي أن يصبح نظاماً كونياً عالمياً شاملاً ملأ بقاع الأرض كلها بفضل السياسة الاستعمارية.

– الحداثة / الاستعمار مكون أساسي في الحداثة. والخطير في الاستعمار أنه تركنا دولاً بالمعنى الإقليمي الغربي اصطُرِرنا إلى إدراجه داخل أنماط حياتنا التي عاشت أجيالٌ عديدة ضمنَها. ولما خرج الاستعمار تركنا “مواطنين”، وهو مفهوم لا نمتلكه في تاريخنا، وترك لنا دولة وطنية، ومفهوم الدولة الوطنية من مخلفات معاهدة “وستفاليا” الموقَّعة بتاريخ 15 ماي سنة 1648، ثم ارتبطنا بالمجتمع الدولي مع عصبة الأمم، ثم منظمة الأمم المتحدة.

– بالإغريقية: الكوسمو يعني: الكون، والبوليتيك تعني: المدينة.

– ركزت العروض السابقة على التوتر في العلاقة بين المثال والواقع بخصوص السلم والحرب.

– الكوسموبوليتية فكرة عقلانية بامتياز، على اعتبار أن العقل ملكة تعميمية تتجاوز الخصوصيات والمحليات والإقليميات والجزئيات، لتفكر عالمياً وبتجرد. فالكوسموبوليتي هو من لا يمتلك مكاناً محدداً، ولا يحس بأنه أجنبي في أي مكان: “Il n’est étranger nulle part”.

– ولكن إيقاع هذا المذهب على النوزال، بلغة الفقهاء، يجابه مشاكل. فمشكل حقوق الإنسان مثلاً هو إنزالها على الأرض، على الأوضاع، للخروج من المثالية الحقوقية.

– هابرماس والكوسموبولوتيون يطالبون بمراجعة مفهوم الدولة الوطنية التي يعتبرونها متجاوَزَة، تماماً كالآلة الكاتبة قياساً على الحاسوب.

– إننا يمكننا الدفاع عن الحداثة، ولكن عن طريق تغيير وجه الاستعمار المتجسد في مخلفاته، وعلى رأسها الهيكلة الغربية التي تربطنا مُكرَهين بمجتمع دولي بصيغته الحالية.

العرض الثاني: “فلسفة الأنوار بين فشل المشروع السياسي وصمود القيم”

(الدكتور أحمد الطريبق)

– الانتقال من القرون الوسطى إلى الحداثة اعتمد على الأقل على مبدأين: العقل، وإسقاط اللاهوت. بمعنى أن مشروع الدولة لم يعد يحدَّد من طرف اللاهوت، بل تحول إلى موضوع يحدده النقاش بين المواطنين، بين الأفراد، بين العقول. وحديث هيغل عن جدلية العبد والسيد كان في هذا الإطار.

– الفرق الأساسي بين الفلسفة والسياسة هو أن الفيلسوف لا ينحاز في موقف من المواقف إلى هذه الضفة أو تلك. هو موجود باستمرار كطرف خارج التناقضات الموجودة، طرف محايد مقترِح.

– هل استطاع هابرماس بلورةَ نظرية مختلفة عن النظرية الكانطية من حيث صياغتها بطريقة إجرائية تجعلها قابلة للتطبيق؟

– هابرماس تأثر بالفيلسوف الأمريكي المثالي شيلينغ صاحب النظرية التأملية إلى أبعد الحدود.

– النص الذي احتوى موقف هابرماس ودريدا من أحداث 11 شتنبر 2001 نص مهم جداً لأنه ينص على أن هذا الحدث غير الكثير من المفاهيم المصاغة قبل الحدث، والتي أصبحت تتطلب مراجعة جذرية شاملة لجميع فرضيات أشد المفاهيم رسوخا في الخطاب الفلسفي.

– مفهوم الحرب عموماً غامض، ويبدو أن هناك من يحرص على بقائه غامضاً، لأنه أنسب أرضية لتحقيق مصالحه. وفي جو الغموض هذا يتم إدراج مفهوم الإرهاب الأشد غموضاً.

– مفارقة السلم والحرب مفارقة لا يمكن حلها.

العرض الثالث: “التحكيم الدولي وآليات فض النزاعات”

(الدكتور محمد المنصوري)

– التعبير عن الاعتزاز بالاستفادة الكبيرة من العروض المتقدمة التي تساعد رجل القانون على فهم أعمق لآليات التحكيم وفض النزاعات.

– التنويه بانسجام هذا اللقاء مع ما يعيشه العالم من تضارب للمصالح وتصارع الحضارات.

– التساؤل عن مدى قدرة الإنسان على الالتزام بالسلم؟

– تحديد الآليات التي يمكن للإنسان من خلالها تحقيق السلم، وهي: الاتفاق، سواء كان بين الأفراد أو بين القبائل والمجموعات أو بين الدول، ويتطور إلى اللجوء إلى هيئة تحكيمية تتولى الفصل بين المتنازعين، وهي آلية قائمة على الإرادة الحرة التي تسعى بحرية إلى إقامة السلم.

– تقديم نظرة تاريخية مقتضبة عن إبرام الاتفاقيات الدولية والهيئات الدولية التي أعقبت الحربين العالميتين الأولى والثانية.

– التذكير بأن الطرف الأضعف هو من يسعى إلى السلم لأنه الأحوج إليه.

مناقشة العروض الستة المقدَّمة في الجلستين الأولى والثانية:

ملخص مضامين المداخلات الثمانية

فتح رئيس الجلسة الثانية الدكتور عبد الصمد تمورو لائحة لتسجيل المتدخلين لمناقشة العروض الستة للجلستين الجلسة الأولى والثانية، والذين بلغ عددهم ثمانية (08) متدخلين، عبروا عن غبطتهم بالندوة، وأثنوا على غنى العروض وعمقها وإحاطتها، وأبدوا ملاحظات وطرحوا تساؤلات نوجز مضامينها في النقط الآتية:

– ما علاقة المنظور الكانطي بالثورة الفرنسية التي فشلت في الالتزام بما نادت به من مبادئ ثورية وأنوارية، وشنت حروباً باسم التمدين وغيره. لماذا هذا التناقض بين الثورة ومبادئها وفعلها السياسي؟ وهل فشلت الفلسفة الكانطية مقابل نجاح فلسفة ميكيافيلي التي منحت الدولة حق المكر بالشعب؟

– عوض مثل من القرن العشرين ممثلاً في القضية الفلسطينية، كان من الأفضل ضرب المثل بأحداث معاصرة لكانط، كإبادة شعوب بكاملها في أمريكا، وإحداث مستوطنات في كنطا والجنوب لشعوب ما زالت إلى الآن تحيا في الأرياف، واحتلال المغرب والجزائر وغيرها، والحروب الفتاكة…

– أليس السلم في حد ذاته هو ما يقتضي الحرب؟ أليس ما أدى إلى تطور المجتمعات وتغيُّرِها هي الحروب؟ فمثلاً، لولا الاستعمار لما كان سيكون المغرب على شاكلته الحالية.

– لا يمكن تصور مجتمع بعيد عن الحرب. وفكرة مشروع السلام الدائم الكانطية فكرة طوباوية، وإلا، هل يمكن تصور المجتمع الواحد بسلام دائم، أي بدون طبقات متصارعة؟ إن القول بالسلام الدائم ذهابٌ بشكل مباشر إلى مجتمع متساوية أفراده بشكل دائم.

– العقل لا يقبل فكرة السلم الدائم في ظل هذا التقدم العلمي، في ظل الحرب البيولوجية، خاصة وأن العلم لا يؤمن بشيء اسمه الأخلاق، وإنما وفقط بالتطور التقني.

– كانط كان يتمتع بالذكاء السياسي. هو ضد العنف كيفما كان، حتى وإن لم يسَمِّ مصدَرَه على عهده من مماليك وإمارات. وعدم راهنية كانط تتجسد في عدم كتابته للأحداث. وغياب تأثيثه النظريةَ بمحطات اقتصادية واجتماعية وسياسية وغيرها هو ما جعل راهنيته الحالية قوية، وذلك بفعل قدرتها على اختراق الزمن والوصول إلينا الآن. وراهنيته تتمثل أخيراً في أن الدافع الرئيسي للرئيس الأمريكي ولسون إلى الدعم الكبير لتأسيس عصبة الأمم هو قراءته المتكررة للكتاب الوحيد الذي لم يكن يفارقه: مشروع السلم الدائم. الفلسفة ليست كلاماً طوباوياً. وحتى الطوباوي يمكن أن نجعل منه أداة لتحقيق السلم عالمياً.

– كانط معادلة قوية يصعب تجاوزُها، خاصة إذا تحدثنا عن الحرب والسلم، إذ أنه بواسطة فكرة الكونية أحدث فلسفة ما زالت أصداؤها تتردد إلى الآن. فكيف لفلسفة الذات أن تستحضر الآخر في منظومتها وتتحدث عن الكونية؟ إنه تناف متعال مع مبدإ الكونية.

– هناك مجموعة من النسائيات اللواتي تحدثن عن الكونية، وطرحن أسئلة عن كيفية إمكانية الجمع بين فلسفة حقوق الإنسان والخصوصيات الثقافية واللسانية والإثنية عند مجموعات بشرية متباينة.

– الكونية الأروبية تأسست على مركزية ليبرالية، وهنا مكمن خطورتها.

– ما موقعنا نحن داخل هذا النقاش الكوني العالمي المثار؟ لقد حاول العرض الأول في الجلسة الأولى خلخلة هذه المركزية حينما عاد بنا الأستاذ عبد الحق منصف إلى المراجع السلطانية. كما حاول ذلك الأستاذ جمال أشقرا في كتابه موجز التنوير بالعودة إلى ابن رشد وإقحام فلسفته وكأنه منخرط من خلال مبدإ الكونية في هذا النقاش. وإن كان شكل التوقف عند محطة هابرماس نكوصاً عن هذه الرشدية.

– لم يكن الانتقال من القرون الوسطى إلى الحداثة وحده الذي اعتمد على العقل وإسقاط اللاهوت، فالاعتماد على العقل تَم مع أفلاطون وأرسطو ومع العرب ومع الإصلاح البروتستانتي.

– المقاربة التي بإمكانها أن تشكل ضغطاً لخلخلة سياسة فرض الأمر الواقع الإسرائيلية، وإحراجاً للولايات المتحدة الأمريكية، هي ورقة حقوق الإنسان، خاصة في الظروف الراهنة، فالدول العظمى هي التي رعت ميثاق حقوق الإنسان وأنشأته. فكيف يصح الحديث عن المساواة بوجود لاجئين يضمن لهم ميثاق حقوق الإنسان حق العودة؟ كيف يمكن الضغط بورقة حقوق الإنسان لتحويل السلطة الفلسطينية عن وضعها الراهن الذي لا هو دولة ولا هو شبه دولة؟

– عندما نتحدث عن العدالة، ينبغي التفريق بين الاعتبارين السياسي والقانوني، وهكذا يمكن فهمُ الفيتو سياسياً باعتبار ميزان القوى، في الوقت الذي يصعب فهمُه قانونياً.

– هناك نوع من التوتر بين الفكرة والممارسة داخل النظرية الكانطية ذاتها، وداخل كل الأشكال النظرية أيضاً لصعوبة إيجاد طرق تطبيقها على الواقع.

– مكمن الصعوبة في المنظور الكانطي يتحدد في مسألتين: في التربية التي تتم عنده من داخل النظام القائم، وفي مفهوم الثورة الذي يريد إصلاحياً لا تناحرياً. ألا يشكل النظام القائم قوة تمنع التغيير؟

– من الصعوبة الجمعُ بين مفهوم المساواة والإكراه عند كانط.

– نظرية مونتيسكيو في فصل السلط كانت طبقية بتمييزها بين المشرع والقاضي والمنفذ، فهي سلط تعمل مجموعة من اللوبيات على استغلالها لخدمة مصالحها.

– فرق شاسع بين الحديث عن العقد الكانطي الأصلي (= عصبة الأمم)، وبين تطبيقها الذي تم به، إذ مكن الدول الأقوى من التحكم في السلاح وغيره.

– التفكير الفلسفي قابل لبلورة المواقف. أفلا يمكن أن تبرز فئة اجتماعية مثقفة تدعو إلى الحرب بدل السلم؟ وما هو الموقف القانوني من هذه الفئة؟ وما هو مصير الأقليات؟

– ما هي الغاية التي حركت كانط لتجاوز الحدود في دعوته لإقامة مجنمع دولي كوني قائم على الحق وهو الذي أقام حدوداً ثلاثية للعقل؟

– ما هو التعريف القانوني للحرب؟ هل يمكن الحديث عن حرب عادلة؟

– هل يمكن الحديث عن كانط في المحافل الدولية ككوبنهاغن؟ فعمق الطرح الكانطي متمثل في الحق، ولكن الحق تغير عبر ثلاثة أجيال، وتقلب بين مدلولاتها القانونية والاجتماعية والاقتصادية. وكانط يعاتَب على الجنسانية العنصرية. وهو وإن كان مفيداً لجيلنا فإن الفلاسفة العالميين الحاضرين في كوبنهاغن لا يمكنهم الوقوف عند الطوباوية الفلسفية دون تفعيل وأجرأة. إنه التغافل والبقاء خارج التاريخ.

ملخص مضامين الإجابات السبعة

تفضل السادة الأساتذة المحاضرون بتقديم إجابات غنية عن تساؤلات المداخلات وملاحظاتها، نوجز هنا الخطوط العريضة لمضامينها مرتبةً كما تمت في الندوة:

أولاً: الدكتور عبد الحق منصف:

– مسألة السلم مفهوم ميثولوجي فيه فخ كبير، لأننا نظن أننا نتحدث عن الأمن الذي هو مفهوم دولة، في حين أن السلم مفهوم ميثولوجي يرتبط بالإنسان ككائن عاقل لاتتحكم فيه عواطفه هذا هو الفخ الذي وقع فيه كانط نفسه.

– ظن كانط أنه بعد انتهائه من دراسة المجال العقلي سينطلق نحو المجال العملي مفتتحاً بالسلام انطلاقاً من الأخلاق.

– تأسيس دولة للحقوق مطلب أخلاقي، ولكن بعد الثورة الفرنسية تنازل كانط عن هذا المبدإ قائلاً بضرورة تأسيس الدولة ولو للشياطين.

– وهم فلسفي كبير وقع فيه كانط. فالسلام مفهوم رجال الدين، ولكن بدخوله المجال السياسي أصبح أيديولوجية قابلة للتلاعب.

– هل نحن متماسكون عندما نتحدث عن الحرب والسلم بمنطق القرن الثامن عشر؟ أي بالمنطق القيمي الكانطي الذي كان يحصر الانتخاب فقط في المالكيم مقصياً العبيد؟ لم يكن كانط آنئذ يعرف مفاهيم المواطن والتنافسية وصراع الثقافات. متطلبات العولمة اليوم غير متطلبات الدولة الوطنية.

– للدولة اليوم مقتضياتها، وللمجتمع حاجياته. فالمجتمع اليوم لا يطالب فقط بالديمقراطية، ولكن أيضاً بالصحة والتغذية وولوج مجتمع آخر هو مجتمع المعرفة. ومسألة السلم والحرب لم تعد اليوم قائمة بين الدول، ولكن بين الدول ومواطنيها الذين يطالبونها بالتخلي عن صلاحياتها لفائدتهم.

– في النصوص التي طرح فيها كانط السلم والحرب، تناول التربية والجامعة وصراع الكليات.

– هناك حروب هادئة ولكنها قاتلة داخل الدولة الواحدة.

– للعولمة دولتها وسلطتها التي تسربت إلى الدول والمجتمعات عبر تقنياتها.

والاجتماعية وغيرها.- الحرب قائمة على قدم وساق لزعزعة سلط ثلاث ما زالت قوية جداً: سلطة الأب والأسرة، وسلطة رجال الدين، وسلطة السياسيين.

– هناك صراع عولمي داخلي نعاني منه، وينبغي للفلسفة أن تتحمل مسؤوليتها فيه. وحتى تتفلسف الفلسفة في هذا الوسط، عليها أن تنفتح على الأوساط العلومية

ثانياً: الدكتور مصطفى حنفي:

– من سذاجة القول والتفكير الحكمُ بجرة قلم على أن مشروع كانط طوباوي. إن في ذلك تسطيحاً مرفوضاً للمسألة.

– لا بد من استحضار مقالة مشروع السلام الدائم بالمتن السياسي لكانط وليس بالمتن النقدي للعقل. لا بد من استحضار متن ما كتبه.

– لماذا كتب كانط في نهاية مشواره الفلسفي مشروع السلام؟ الرجل كان يصدر عن رؤية وتراكم.

– الثورة الفرنسية التي أثارت ردود أفعال نظرية وفلسفية، لم تكن علاقة كانط بها علاقة عابرة. لذلك ناقش إشكالها الفلسفي الرئيسي: هل الذي صنع هذه الثورة هي الأفكار التنويرية، أم أنها حدث مستقل لا علاقة له بأفكار الثوار الأنواريين؟ هنا كتب “النظرية والتطبيق” متناولاً إشكالاً أزَّمه روسو.

– حدث الثورة حدث كبير في عصر كانط، ولم يتحدث عنه إلا في 1798 بعد عشر سنوات، مستعملاً عبارة «ما حدث لجيراننا»، ومغيباً كلمة الثروة الفرنسية بسبب الرقابة التي كانت مسلَّطة عليه.

– كانط كان يفكر في أروبا، في كونية سياسية وليس طوباوية، أي: ما المستقبل الذي ستكون عليه أروبا بعد الثورة وخروجها إلى الجمهورية؟

– صحيح أن الفيلسوف يحمل دائماً مشروعَ حكم، ولكن كانط تحدث عن ضرورة رجوع السياسي إلى حكمة الفيلسوف.

ثالثاً: الدكتور عز الدين الخطابي:

– تحدثنا عن راهنية كانط بالنسبة لنا نحن الآن، وقد قدمت إحدى المداخلات تأيلا راهناً بطرح ورقة حقوق الإنسان الضاغطة.

– الموقف الكانطي من السلام لا يتقادم، وحتى الماركسيون يقرأون كانط ويعملون على تحيين مفاهيمه.

– كانط كان هو الأفق الكبير لأروبا القرن الثامن عشر. فكيف يمكننا تأويله والاستفادة منه في سياقاتنا المختلفة؟

رابعاً: الدكتور مصطفى الحداد:


– إثر ظهور وثائق ويكيليكس قبل يومين، التاريخ تغير بسرعة كبيرة إلى درجة أن أساتذة التاريخ ينبغي أن يراجعوا موادهم الجامعية. إن أقاليم معرفية ستتغير نتيجة ظهور وثائق جديدة. والفلاسفة وإن كانوا يندرجون في عداد العلماء والسوسيولوجيين، فإن لدى الفلسفة جرعةً زائدة من الحس النقدي.

– أعطى مقال دريدا “القوة والقانون” حظوة للمجلات القانونية المتخصصة، خصوصاً الأنجلوسكسونية الأمريكية، وإن لم يكن هو رجل قانون. فقد أشار إلى أن “العدالة” مفهوم غير قابل للتفكيك. يمكننا تفكيك “القانون”، ولكن “العدالة” صعبة التحقيق، لأنك وإن صارعت الواقع فلن تصل إلى التحقيق المطلق للعدالة.

– على الرغم مما يمكن أن نقوله عن نصوص الفلاسفة من جهة الطوباوية، فإن لها –كما هو الحال مع هابرماس اليوم- حضوراً قوياً، ويُحسَب لها ألف حساب في الغرب.

– لكانط أوجه متعددة، ويمكن للقراءة العادية أن تستهين بهذه الأوجه، ولكنها في الحقيقة لم يطوها الزمن، بل تندرج ضمنه. فالنص الكانطي نص أساسي.

– ما زلنا لم نُدخل التصورَ النسائي كبعد في تفكيرنا بسبب مركزيتنا الذكورية، وبسبب بعدنا عن الرؤية الحاضرة بقوة عند الغرب، الرؤية المنطلقة من الأنثى كنوع وجنس. إنه لا يمكن للمرأة أن تكتب نصاً كنص كانط، ولكنها ستكتب نصاً فيه لمسة أخرى. وهذه دعوة للطالبات من أجل الانخراط في مثل هذه الكتابات.

– مشكل القانون أنه مبني على انتهاك القانون، لأن الدولة لا تَنشأ إلا بتصفية دولة أخرى، أي بخروجها عن القانون، وتظل خارجة عن القانون حتى تتمكن من تأسيس قانون آخر.

خامساً: الدكتور أحمد الطريبق:

– من المفارقات أن كانط كان من الأوائل الذين فطنوا للراهنية، للحاضر. لذلك ليس من السهل تصنيفه كطوباوي.

– الفلسفة مجموعة من المفاهيم، وما دام أنها تتعلق بأمور لها علاقة بما يهم الناس، فإن لها قيمة من هذه الجهة. الفلسفة تنتج مفاهيم ذات علاقة بقضايا تهم الناس. المشكل ينتج مفهوماً يحاول معالجته. لذلك فإن مجموعة من المفاهيم الكانطية لا زالت قائمة ولا زالت تلح في السؤال.

– ميشيل فوكو يدعو إلى مفهوم المقاومة المحايثة للسلطة في تداخل، جواباً منه عن فراغ يعتقده في نظريات أخرى.

– صحيح أن العقل كان حاضراً عند اليونان وفي القرون الوسطى، ولكن المطروح هو طبيعة البعد أو الفكرة التي كانت تعطى لهذا العقل لدى القرون الوسطى. فهناك فروقات جوهرية وصلت بالفعل إلى حد الطفرة والقطيعة بين مفهوم العقل في القرون الوسطى ومفهومه في الحداثة.

سادساً: الدكتور محمد المنصوري:

– “الطوباوي” نعت غير علمي لعدم قيامه على أسس علمية تحليلية، لذا لا ينبغي نعت نظرية علمية به.

– ثم إن الأساتذة العارضين لم يتحمسوا للفكرة الكانطية عن فراغ.

– إذا كان كانط طوباوياً فقانوننا الحالي طوباوي مادام مبنياً على فلسفة كانط.

– متى تصبح الحرب مشروعة؟ أو متي يحق لنا وصفُها كذلك؟ ينبغي التمييز بين حق الأقلية المشروع وبين الانفصال عن الجماعة. حق الأقلية مبني على أصل تاريخي ومرجعية تاريخية وقانونية.

سابعاً: الدكتور عبد الصمد تمورو:

– كتب كانط مشروعه بعد أن عانى الأروبيون قرنين من الموت بسبب الحروب. لذلك فإننا إزاء دعاة الحروب وانتشار جبهتهم يجب أن ننشر بكثرة حديثاً عن السلم ولو كان طوباوياً، وجلستُنا هذه تُحسَب لفلسفة التفكير حول السلم وانتمائنا لمجال مجتمع المعرفة.

الجلسة الثالثة:

ثقافة السلام وآليات التحكيم الدولي

(رئيس الجلسة: الدكتور مصطفى الحداد)

العرض الأول: “من مشروع السلام الدائم إلى مشروع التنوير الدائم”

(الدكتور عثمان أشقرا)

العرض الثاني: “نحو حكمة جديدة من أجل السلام”

(الدكتور عبد الصمد تمورو)

العرض الثالث: “سلم التواصل العقلاني”

(الدكتور عبد الجليل بادو)

العرض الأول: “من مشروع السلام الدائم إلى مشروع التنوير الدائم”

(الدكتور عثمان أشقرا)

– استهل الدكتور عثمان أشقرا عرضه بالتركيز على التعريف الأصلي للفلسفة باعتبارها “محبة الحكمة”، ليخلص منه إلى أن “محبة السلام من محبة الحكمة”. وبالتالي لا عجب أن يحضر السلام في تاريخ الفكر الفلسفي، إنْ في جذوره اليونانية، وفي امتداداته الإسلامية واليهودية والمسيحية، أو ضمن نصوص الفلسفة الحديثة والمعاصرة. بل يمكن الذهاب إلى أبعد من الحكمة اليونانية، لنتكلم عن الحكمة المشرقية.

– ثم أشار إلى أن حضور السلام في الحكمة عبر كل هذه الحقب هو حضور ثلاثي الأبعاد: البعد الأول هو السلم الداخلي الفردي الذي يحققه الإنسان مع نفسه باعتباره نوعاً من المن والسلوى والسكينة. والبعد الثاني هو السلم الذي يتحقق داخل المدينة بين الأفراد. والبعد الثالث هو السلم بين الدول والقوميات والحكومات.

– ثم توقف مع إشكالية شكَّل النص الكانطيُّ “نحو مشروع السلم الدائم: مقاربة فلسفية” منطلقَها، ومع موقعة هذا النص في زمنه الفلسفي على المدى البعيد لا التاريخي الاعتباري، معتبراً عدمَ كفايةِ ربط النصوص الكانطية في الفكر السياسي، والمكتوبةِ على هامش النص الأصلي الذي هو الثلاثية النقدية المعروفة، بفلسفته السياسية ومنظوره التاريخي، ملحّاً على ضرورة استحضار نص آخر أساسي وأصلي منشور سنة 1784 تحت عنوان: “ما هو التنوير”؟، لأن هذا النص هو التجلي الأكبر لمشروع التنوير الكانطي.

– ثم تناول مضمون مقالة التنوير عبر ثلاثة محاور أساسية: تحديث التنوير في الانتقال من حالة القصور إلى حالة الرشد وفي الجرأة على استعمال العقل، ثم الفصلُ بين الاستعمال العمومي والاستعمال الخصوصي للعقل، ثم المراهنةُ -في التغيير- على التربية لا على الثورة العنيفة.

– وانتقل إلى تأمل البنية العامة لـ”مشروع السلام الدائم”، ملاحظاً نوعاً من الأجرأة التاريخية والسياسية لهذه المحاور الثلاث المشَكِّلة لمضمون مقالة التنوير. وبالتالي فنحن إزاء بدء كانط، وقد أنهى ثلاثيته العظيمة، دخولَ مجال العقل العمومي من جهة، وتحديد مجموعة من المواقف من جهة أخرى، وعلى رأسها الموقف الحذر الذي أعقب الموقف الحماسي من الثورة الفرنسية، موقفاً مبنياً على درس فلسفي لا سياسي، مفاده أن الجنس البشري قادر على التحسين عن طريق التربية وليس العنف. وعندما ننقل هذا الإشكال من مجاله الفلسفي الفكري إلى المجال السياسي التاريخي، نكون إزاء مشكلة ما سماه كانط بمشروع السلم الدائم. فالربط ينبغي أن يكون بين هذا المشروع وبين مشروع التنوير المنطلِق. فكانط، الذي يمكن اعتباره رائد التنوير بامتياز، سيطرح مجموعة من المجالات لتَحَقُّق هذا المشروع التنويري.

– ثم تحول إلى طرح سؤال مركزي هو: لماذا فشل مشروع السلام الدائم، وفشل بالتالي مشروع التنوير المنشود؟ كيف يعقل أن مجتمعاً أنتج لفائدة الإنسانية روادَ الأدب والفن والفلسفة، أفرز وحشاً مثل هيتلر والنازية ليَدخُل العالمُ في فظلئع الحرب العالمية الثانية؟

– فانبرى إلى البحث عن تفسير لهذا السؤال المؤَرق، متسائلاً: هل للمسألة علاقة بقدر ميتافيزيقي؟ أم هي مرتبطة فقط بمجموعة من المعطيات السوسيو – اقتصادية؟

وكانت فرضيته، بالبقاء في المجال الفلسفي، هي أن هذا الفشل نتج عن عاملين اثنين:

أولا: “خيانة التنوير” من طرف النخب الأروبية.

ثانياً: “تحطيم العقل” الذي بلغ نوعاً من السمو والمرتبة الرائدة مع كانط، وتحول إلى نوع من الواقع مع هيغل.

وبعد موت كانط (1804) وهيجل (1831) ستدخل أروبا في هذا المسار المزدوج: خيانة قيم التنوير وبروز ظاهرة الاستعمار والامبريالية من جهة، وانطلاق مسلسل تحطيم العقل الذي بدأ مع شبنهاور وتعمق مع نيتشه واستمر مع هايدجر وبلغ أوجه مع فلاسفة ما بعد الحداثة من جهة ثانية. مما أدى عموماً إلى تراجع المشروع التنويري الأصلي إلى الخلف.

– ثم عرج على أهم المدارس التي حاولت إحياء مشروع التنوير، ابتداءً من الكانطيين الجدد العائدين إلى كانط. ولكن هذا التيار ظل باهتاً وعاش على الهامش. ومروراً بمدرسة فراكفورت التي حاولت أن تستعيد بشكل من الأشكال الفلسفة النقدية داخل النظرية النقدية، وأن تعيد لنوع من “العقلانية”، ولكنها ستنتهي نهاية كارثية ومأساوية بوصول النازية إلى الحكم ومغادرة أغلب روادها ألمانيا وتشردهم بين منتحر ومحبَط يراهن على مخَلِّص هو الفن والجمال. لذا كان ينبغي انتظار الجيل الثاني من مدرسة فرانكفورت مع هابرماس في السبعينات والثمانينات والتسعينات لتبدأ العودة إلى نوع من اعتبار فكر التنوير من جديد بنفس ذي مرجعية كانطية واضحة، ومنه إعادة هابرماس قراءة النص الكانطي “مشروع السلم الدائم” بمناسبة مرور قرنين على كتابته. ووصولاً إلى تيار التنويريين الجدد فرنسا، والذين انخرطوا من جهة في نقد ما آل إليه الوضع الفلسفي في أروبا مع تيار “ما بعد الحداثة”، وفي المحاسبة العسيرة للنخب الأروبية التي مارست أبشع أنواع الاستغلال والاستعمار باسم قيم التنوير بعد إفراغها من نسقها الحي، ومن جهة ثانية في المراهنة على نوع من اليوتوبيا التنويرية الإنسانية الجديدة.

– وهنا توقَّفَ في استطراد تصحيحي عند مصطلح “اليوتوبيا”، مبيناً أنه لا يعني ضرورةً القدح، ولا ما هو سلبي. فالإنسان في حاجة دائمة إلى اليوتوبيا. وإن واحدةً من المآسي الإنسانية المعصرة هي فقدانُها ليوتوبيا جديدة تُكسبنا نحن المعاصرين الجرأةَ على أن نكون يوتوبيين، على أن نحلم مستيقظين منتبهين واعين، بالمفهوم الإيجابي للكلمة، بإنسانية غير منتمية إلى عالم الصراعات، خاصةً ونحن نقتحم غمار الألفية الثالثة التي نجد من ينظر في مستهلها للدخول الوشيك للعالم في نوع من صراع الحضارات. والصحيح هو أن الذي يتصارع هو البربريات وليس الحضارات التي تتكامل.

– ثم استأنف حديثه بطرح إمكانية المراهنة على عالم يعيد أولاً الاعتبار إلى قيم التنوير، وتسوده ثانياً ثقافة التأثيرات الإيجابية لا ثقافة النبذ والنفي. معتقِداً أن هذا من شأنه تحقيق نوع من السلم الثقافي الذي تنمحي فيه الحدود وتزول الفروارق لصالح سنفونية إنسانية كونية يعزف فيها كلُّ شعب نغمتَه الخاصة.

– وختم عرضه بسؤال يطرح مسألة موقعنا نحن العرب والمسلمين من الإعراب في هذه القضايا الكبرى التي تثار الآن على المستوى العالمي، ملاحظاً أن العالم العربي الإسلامي انخرط في سيرورة التحديث انخراطاً إجبارياً كأنه مفروض من فوق. انخراطاً حمَلَ الكثيرَ من العنف والجروح، ولم يحصُل نتيجةَ تطوُّرٍ عضوي سلسٍ للوصول إلى تحديث ما كان يَلزَم تحديثُه. مذكِّراً بعمل النخبة المغربية في شخص روادها الإصلاحيين مثل خالد أحمد الناصري ومحمد حسن الحجوي في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين على التخلص والتجاوز لواحد من الإشكاليات الكبرى التي كانت مهيمنةً من قبل ومطروحة آنذاك: تقسيم العالم إلى دار الحرب ودار الإسلام. وهو تقسيم يجعل المسلمين وكأنهم يعيشون في قلعة محاصَرة، كما يحَرِّم عليهم العيشَ في ضيافة الآخَر. وقد كان هذا الإشكال الكبير أيديولوجية حقيقية فرضت نفسها متظهِرةً في قضية الجهاد. وقد حاولت النخبة الإصلاحية إنجاز هذا التصالح بين المسلم والآخر عبر تجاوز هذه النظرة الحربية “الجهادية”. فإلى أي حد نجح الإصلاحيون في ذلك؟

هذا هو ما اعتبره المحاضرُ عنوان وعربون فشل إرهاصات التنوير المغربي والعربي بصفة عامة، إلى حد أن واحداً من القضايا المطروحة اليوم على المستوى الجيو – استراتيجي الدولي هو عودة هذا المفهوم من جديد.

– وذكّر أخيراً بالجملة الرائعة الموضوعة على قبر كانط: «السماء مزينة بالنجوم فوق رأسي، والقانون الأخلاقي في قبري»، عبارة اعتبَرها محاضرُنا صالحةً لتكون منطلَقاً لطرح جديد، لتنوير جديد، لعصر إنساني جديد، في أفق حرصنا على بقاء السماء مزهوةً بالنجوم لا مغطاةً بما يخرق طبقات الأوزون في الحرب المندلعة الآن بين الإنسان والطبيعة، وعلى بقاء القانون الأخلاقي في قلوبنا من أجل الواجب والإنسان منعاً لطغيان منطق الواقعية الفجة. رحم الله القائل: «كونوا واقعيين، أَطلُبُ المستحيل».

العرض الثاني: “نحو حكمة جديدة من أجل السلام”

(الدكتور عبد الصمد تمورو)

– ذكَّر الدكتور عبد الصمد تمورو في مفتتح عرضه بأن مداخلته جزء من مشروع أكبر يتضمن جانباً تنظيرياً وآخر عملياً ينبغي استحضارُهما، كما ينبغي استحضارُ انقسام الفلسفة إلى قسمين: قسم تنظيريٍّ وآخر فاعلٍ، فاعلٍ بمعنى (acte)، أي (agir)، أي كيف يمكن للفلسفة أن تَفعَل، لأنه فعلُ الفعلِ، والاستمرار، والانتماء إلى الفرد أو الجماعة، أي فتحُ آفاق أكبر، وليس بمعنى (action) الخاص بالأحداث الاجتماعية الكبرى، (action) أي النشاط والفعل الجماعي الذي يرتهن بالجماعة والظروف والأيديولوجيا، أو ما يسميه ابن خلدون بالوازع. ولكن المطلوب منا هو أن نفعل بفكرنا. كيف نجعل –كما هو في علم التداول- أن يكون الفعل (un acte). فالأمر مثلاً يتطلب السلطة. كيف يمكن أن نجعل للقول إمكانيةَ الفعل؟

– ثم ضرب مثلاً لذلك بالجنرال الصيني “تسومتسي” الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، والذي كتب أول كتاب حول الحرب اسمه: “فن الحرب”، تُرجِم من طرف أب يسوعي اسمه “جون جاك أميو” سنة 1772. فبالتزامن، كُتبت كتابات حول السلم، وتُرجِمت أخرى حول الحرب، في القرن الثامن عشر.

الحرب بالنسبة لهذا الجنرال، رجلِ الحرب، عبثيةٌ ومكلفة جداً. وقد اختار الأستاذ المتدخل نصاً وصفياً دقيقاً يعكس وجهةَ النظر هاته. يقول في ص 13 من الكتاب: «عندما يؤلَّف جيش من مائة ألف رجل، ويكون من المفروض نقلُه إلى ألف فرسخ، فلا تشكوا في أن ذلك سيكون بدون انتشار الخَبر في الداخل كما هو في الخارج. ففي المدن والقرى التي يكون منها التجنيدُ، والبوادي التي تؤخَذ منها المُؤَنُ والعرابات، والطرُقُ التي تَشهَد حركةَ مرور كثيفةً، تَمنح صورةَ كآبةِ الأُسَر، والتخلي عن الأراضي المزروعة، وكذا الضرائب الثقيلة لمواجهة نفقات المملكة. سبْعُ مائة ألف أسرة تفارق رئيسَها أو مُعيلَها، وتصبع غيرَ قادرة على القيام بحياتها العادية، وتَفقد الأراضي اليدَ العاملةَ الضرورية، وتتناقص مردوديتُها كماً وكيفاً. من أجل أداء أجور الجيش وإعالتِه وتغذيتِه تُفْرغُ مخازنُ وكنوزُ الأمير والخواصِّ، بل تُهدَّد بالنضوب. قضاءُ عدةِ سنوات في مراقبة العدو أو محاربتِه يعني أنك لا تحب شعبَك، أو أن تكون عدوَّه. كلُّ النفقات، كلُّ الآلام، كلُّ الأشغال، كلُّ أنواع التعذيب لمدة سنين، لا تؤدي في الغالب، حتى بالنسبة للمنتصرين أنفسِهم، إلا إلى يوم واحدٍ ووحيد من نشوة الانتصار، أي اليوم الذي انتصروا فيه».

– ثم طرح أسئلةً صميميةً قال إنها بعدد قتلى الحروب، وبعدد أماني محبي السلام: كيف يمْكن لنا أن نجعل من السلم قيمةً كونية؟ كيف يمكننا جعلُ التظاهرات من أجل السلم ومناهضةِ الحروب قادرةً على التأثير؟ كيف يمكن مَلْأُ الفجوة بين الخطاب والفكر من جهة، والواقعِ من جهة أخرى؟ كيف يمكن إعادةُ الاعتبار للحكمة والمعرفة في مجال التحديث الإيجابي والصالحِ لأفعالنا؟ كيف يمكن لنا وضعُ الحكماء في مراكز القرار؟ كيف يمكن لنا أن نجعل من السلم لا حُلماً أو أمنية، بل أمراً مستداماً، والحربَ غيرَ مربحة؟

– ثم تناول مسألة الحرب من جهة كونها فعلاً غير عادي، مركِّزاً على إيمان طوماس هوبز بأن الإنسان مدفوعاً بخوفه من حالة الحرب التي يوجد فيها بحالة الطبيعة، يجد في عقله الوسائل التي تمَكنه من تحقيق هذه الغاية. والذي يشتغل على العقل هو الفلسفة. وكما يقول: «هكذا يقترح العقلُ بنوداً –أي قوانين- ملائمةً للسلام، يمكن للناس أن يُدفَعوا للاتفاق عليه». ويضيف: «الأهواء التي تدفع الناسَ نحو السلم هي الخوفُ من الموت العنيف، والرغبةُ في كل ما هو ضروري ويَمنح الرفاهيةَ». ولذلك يتزامن دائماً تفكير الإنسان في العنف مع محاولته تقنينَه، حتى إنه يتحدث عن العنف الشرعي.

– ثم أسهب في الحديث عما يفعله الخطاب واللغة في تحريف الوقائع وتزييف الوعي بالنتائج الكارثية للحرب. فبواسطة الكلمات تصبح كلُّ الأشياء ذاتَ صبغة إنسانية، بل تصبح مقبولة وصالحة. وهكذا تصبح فظاعاتُ الحروب قصصاً وحكايات، فقرات ودخلات (Des Entrées)، بالموسوعات، أفلاماً وكتباً، وهكذا التسميات، مثل: حرب المائة سنة، أو حرب الفيتنام، أو الحرب العالمية الأولى، أو الحرب العالمية الثانية، وكأنها حلقات من مسلسل تلفزيوني، والحرب الطويلة… والاغتصاب والاحتلال يسمى بالنزاع العربي الإسلامي، ومئات الآلاف من القتلى أو الملايين تسمى حرب العراق. وكما لو كنا في أي معجم: وردة، زربية، كتاب، دفتر، فهي دَخْلة عادية.

– واستخلص أنه لا يجب أن ننسى بأن وراء كل تسمية من هذه التسميات يقبع آلاف أو ملايين من الموتى. وأن العسكريين ورجالَ السياسة يتفننون في اقتراح مصطلحات لطيفة لتلطيف الفظائع. ويلعبون على النسيان وفقدان الذاكرة باعتبارهما وسيلتين لتبريد الحروب الساخنة. فعوض الانسحاب يقولون إعادة الانتشار، وعوض المقاومة يفضلون الإرهاب أو العنف، ويتحدثون عن القنابل الذكية والحرب النقية والتدخلات الجراحية، وباسم (La raison d éhat) يُقبَل المساسُ بأي حق. وهكذا يتحول الفلسطينيون إلى إرهابيين، ويعوَّض شعبُ أفغانستان بطالبان.

– ووقف عند الزيف الذي يمارسه أهلُ السياسية الحربية حين يريدون أن نصدق أن أقوال الحكيم والمثقف، أو المستنير بثقافة الخير والحياة الإنسانية، ليس إلا قولاً بارداً، لا يُعتد به، لا أساس له، طوباويات، أقوال على عواهنها تنقصها الخبرة والواقعية، أحلام يقظة، بل لا مجال لأن تكون أو نسمعها، لأن أصحاب السياسية هم من يمثل الشعب ويَفهمهه. الحكيم أحمق مجنون، ذو لسان طويل. والمثقف إما أنه قابل للبيع والشراء، أو قابل للرمي. هو موضة، شعار. إنه المكان الذي نعلق عليه بعض الجوائز وبعض المقالات والبرامج التلفزيونية.

هم يريدون حصرَ وظيفة المؤرخ في تقديم الأحداث ببرودة في لغة موضوعية ونزيهة، من خلال إضفاء الطابع العادي، بل المبتذَل والطبيعي، على الأحداث والوقائع الخطيرة، كأن الحروب تصبح بمداد قلمه حكايات وقصصاً وسرداً تاريخياً بارداً.

ولكن الأمر مع أصحاب السياسية الحربية يختلف، فإنهم يخطونها بماكياج الألقاب والأوسمة والقيم والخطابات التي تربط بين الحرب والوطنية، الحرب والشرف، والمجد والنصر والشجاعة. إلا أن رجال السياسة الحربية في الزمن الراهن مستعدون لإعطاء كل شيء من أجل الحروب التي يريدونها ما عدا أرواحهم. أهل السياسة الحربية الراهنة يتوفرون على كل شيء تقريباً: الأيديولوجيا، الأموال، التقنيات، وخاصة إصدار القرار. ولكن أستاذنا يوسع المسؤولية لتشمل لذلك فئات رجال الإعلام ورجال العلم وغيرهم.

– ثم تطرق إلى سر عنونة المداخلة بـ”حكمة من أجل السلام”، مؤكداً أن كلمة حكمة أبلغ من كلمة فلسفة. فالحكمة ليست فقط تفديراً كمل هي الفلسفة، ولكنها جمْعٌ بين التفكير بما هو تنظير ومفاهيم، والعملِ الصالح.

– ثم ذكَّر بأن المبدأ الأول المتحكم في الجنس البشري هو إرادة البقاء. وهذا هو (La condition humaine)، ومنه يجب أن ننطلق.

ومن هذا المبدأ التفت العرضُ إلى هيروشيما، إلى التطبيق العملي لإرادة البقاء، باعتبارها:

أ- الدليلَ الأكبرَ على الغباء القاتل، على الفظاعة. إنها الدرجة العليا من العنف، أي تدمير كل أنواع الحياة. لكنها أيضاً الدليل الحي على إرادة البناء والحياة.

ب- الدرس الذي يعلمنا أنه عوض التوازن بواسطة الرعب والدمار، يمكننا أن نأمل التوازن عن طريق الحكمة والعبرة من أجل السلام.

ج- قاموساً حياً مفتوحاً مضاداً للرعب النووي. لا يجب أن نفتح هذا القاموس مرة كل سنة فقط يوم السادس (06) من غشت، بل العودة إليه كلما دقت طبول الحرب، وأن نلقنه لكل الأجيال.

– واستخلص العبرة المباشرة من هذا التطبيق العملي. إنه الحكمة. والحكمة اجتماع حسنِ النظر الفلسفي وحسنِ الفعل العملي. إنها التأمل الحكيم، والخلق الكريم. الحكمة تعلمنا أن السلم الحقيقي ليس هو الذي يلي الحروب، ليس هو تلك الورقة التي تسمى معاهدة السلام، ليس هي إملاءات المنتصر بعد تدمير الحياة. إن السلم الذي نريده هو السلم الشامل للأفراد والجماعات داخل كل إنسان وخارجه. إنه السلم الدائم أو المستديم كما يقول كانط. السلم الحقيقي يفترض شجاعة تفوق شجاعة الحرب. إنها نشاط خلاق. طاقة روحية تتطلب الإرادة.

– ولكنه تدارك منبهاً بشكل مطوَّل على وجود من يتساءل: ما جدوى الفلسفة؟ وهل نحتاج إلى الفلسفة والفلاسفة؟ بل وجود من يعتبر ضرورة الانتهاء من الفلسفة بدعوى أنها إلحاد أو ثرثرة أو كلام فارغ أو كلام مثالي متعال، نظري تجريدي لا طائلة منه، يؤدي إلى صداع الرأس أو إلى فساد عقول الشباب، أو على الأقل إلى طرح الشك والحيرة. الفلسفة بالنسبة إليهم منافية أو متخاصمة أو جاهلة بالواقع. ثم كيف للفلاسفة أصحاب التجريد البعيدين عن الواقع اليومي أن يفكروا في السلم، وهم لا يتقنون لغة الإحصاءات والوقائع والمعطيات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والاستراتيجية، ومعطيات التاريخ والجغرافيا وتكنولوجيا السلاح وتوزيع الثروات؟ إنهم أصحاب المفاهيم. والسلمُ والحربُ مسألة جدية لا علاقة لها بدراسة المفاهيم. ثم إن الحديث عن السلم مسألة مثالية، لأن العالم لا يعرف إلا الحروب وأنواعاً جديدة من الحروب. فكيف يصح الحديث عن السلم؟ بل الأدهى هو الحديث عن سلم دائم؟ بالنسبة للجميع، هذا هذيان.

– ثم أجاب عن كل هذا الركام من التساؤلات بالقول: لأن هذا هذيان، نحتاج إلى الفلسفة. لأنها تفكير حتى حول هذا الهذيان، وحتى في مفهوم محوري كالسلم بالنسبة للإنسانية. إنها مسألة ضرورية ارتبطت بالفكر الفلسفي. فتبعات أنواع التفكير حول السلام، كالعدالة والتسامح والعقد الاجتماعي والأمن والسعادة والخير والأخلاق نجدها بداياتها وأحسنَ تنظيراتِها في الفلسفة.

– ثم ميز بين فلسفة السلام وثقافة السلام. معتبراً أن بينهما عمومٌ وخصوصٌ بلغة الأصوليين. فليست فلسفة السلام إلا جزءً من ثقافة السلام التي هي أكبر، لأنها تُدخِل جميعَ أنواع الوسائل والأدوات والمعارف والأعراف والتقاليد والتاريخ… والتي تمَكِّن مجموعة ما من هويات ما من استعمال كل هذا الموروث من أجل تحويله إلى ثقافة السلام. أي أن الفلسفة هي فقط فاعل داخل ثقافة السلام. فهناك فاعلون آخرون مثل التربية والسياسة والإعلام…

– ثم قدم ثلاثة أمثلة من الواقع الحالي للفلسفة كفعل.

1- التقى عدد محدود لا يتجاوز ثمانية وعشرين متفلسفاً، في قاعة بهيروشيما، بمناسبة الذكرى الثالثة والستين لإطلاق القنبلة الذرية في المكان الذي سقطت فيه، وقرروا إصدار بيان قوي لمطالبة الرأي العالمي بـ:

أولاً: حضور أمريكا والدول العظمى في التخليدات المقبلة يوم 06 غشت في ذكرى إلقاء القنبلة الذرية لرد الاعتبار لليابانيين، ورد الاعتبار للسلم.

ثانياً: حظر جميع الاستعمالات العسكرية النووية، وأولُها ذخيرة الأورانيوم (Dip). وهو اقتراح طبيب عراقي طرح على المنتدين مشكل استعماله في العراق.

أُطلِق هذا البلاغ من طرف هؤلاء الثمانية والعشرين متفلسفاً، وبعد ثلاثة أشهر تم منعُ صناعة أو تخزين أو بيع جميع الذخائر من الأورانيوم، من طرف الأمم المتحدة، بل تم تجريم استعمال هذه الذخيرة، وعُد هذا الاستعمال مثل جرائم الحرب. وكُلفَت الولاياتُ المتحدة الأمريكية، باعتبارها مخترعةَ هذا السلاح، بمساعدة خمس دول تخزن هذه الذخيرة على إتلافها.

إذن هناك اهتمام وإنصات للعالم العارف، للحكمة الدولية، إلى كلام المتفلسفين. فلا ينبغي ونحن نرى في بلداننا تخلفَ القول الفلسفي وعدمَ الاستماع إلى القول الفلسفي أن نحكم بأن الفلسفة ليست فعلاً في مكان آخر.

2- في سنة 2005 تم تعيين فيلسوف عمره 39 سنة من طرف البنك المركزي النرويجي على رأس لجنة خارقة للعادة لتدبير مائة وخمسين مليار يورو، (ألف وسبعمائة مليار درهم مغربي)، أي ما يعادل الميزانية المغربية لثمانين سنة تقريباً. الدولة النرويجية أبت وضعَ عائدات البترول هذه بين يدي الاقتصاديين أو رجال الأعمال أو السياسيين، لأنهم لن يدبروها إلا ضمن البرامج العادية. أما الفيلسوف، بتفكيره في أفق خارج الأفق النفعي، فإنه يدافع عن ثروة الأجيال المقبلة.

3- في وثائق تأسيس اليونيسكو قولةٌ مفادها: ما دامت الحروب تُولَد في عقول الإنسان، فيجب أن نبني حصونَ السلام في عقولهم. أي أن اليونيسكو والأمم المتحدة وغيرها هي منظمات تؤمن بهذا السلام، ولهذا قررت تخصيصَ سنة 2000 لثقافة السلام، وتخصيصَ عقد 2000 – 2010 للتربية على ثقافة السلام، فكانت مؤتمراتٌ عدة جعلت من هذه العشرية حديثاً عن السلام.

– وركز قبل ختم عرضه على وجوب الاستمرار في هذا العمل، وضرورةِ ربط الحديث عن السلام بالتربية والبرامج وتدخلاتنا الممكنة.

– ثم أنهى مداخلته بذكر مجموعة من الشروط التي ضمنَّها مشروعَه، وهي شروط طويلة من أجل خلق فلسفة للسلام وثقافة للسلام، يسميها “شروط الأخلاق الجديدة”. مثلاً: الاتفاق الدولي لجعل كل فعل علمي فعلاً أخلاقياً من أجل الحفاظ على الإنسان وبيئتِه، أي منْعُ جميع التجارب والاختبارات والدراسات والأبحاث التي تُستعمَل من القوة أو التسلط. وهكذا نقضي على الحروب الكيماوية أو البيولوجية المقبلة.

ومن بين هذه الشروط:

– التخليق العام.

– تمكين عقل الإنسان وعقل الحياة من التفوق على عقل الدولة، لأننا باسم عقل الدولة نقضي على الحياة ونخوض الحروب.

– تدريس جميع الأخطاء والإبادات والفظاعات والحروب الإنسانية بشكل قوي جداً، ضداً على الاتجاه الذي ينادي بالاقتصار على تدريس السلم والمحبة.

– بناءُ كلِّ فعل جماعي كوني على مبدأ أخلاقي حتى يكون فعلاً أخلاقياً، أي خالياً من الانتقام والمنع والحد من وجود دولة مثلا.

– اعتماد منظومة حقوق الإنسان كأساس لثقافة السلام، ولكن بالذهاب إلى أبعد من ميثاق حقوق الإنسان، إلى أبعد من الحريات الفردية، أي الذهاب إلى الجوانب الاقتصادية والاجتماعية.

– خلق مفوضية عليا للحدود، تتولى مسؤولية الترسيم النهائي للحدود بين جميع الدول.

– خلق مفوضية الماء ما دامت الحروب المقبلة ستكون صراعات حول الماء.

– خلق مؤسسات دولية استباقية للتدخل في النزاعات المقبلة مثل توزيع الثروات.

– تخليق وسائل الاتصال والإعلام.

– تجريم السب والقذف العلني ضد الدول والشعوب والأفراد.

العرض الثالث: “سلم التواصل العقلاني”

(الدكتور عبد الجليل بادو)

– ذكَّر الدكتور عبد الجليل بادو في مفتتح عرضه بأن مداخلته تروم توضيح كيف أن قيم ومبادئ حقوق الإنسان في عصرنا يمكن أن تشكل أساساً لتواصل عقلاني يمكنه أن يخلصنا من الكثير من المشاكل التي تنتهي إلى الحروب ونسفِ جهود السلم الذي نسعى إلى تحقيقه وترسيخه.

– فاستهل بنص الديباجة التي تؤسِّس للإعلان العالمي لحقوق الإنسان: «لما كان الإقرار لجميع أعضاء الأسرة البشرية بالكرامة المتأصلة فيهم، وبالحقوق المتساوية والثابتة، فإن هذا يشكل أساس الحرية والعدل والسلام في العالم»، ملاحظاً أن العناصر التي توجه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ومنذ البداية، تحرص على السلام والحرية والعدل.

وفي الديباجة فقرة تنص على أن القيم الكبيرة، من حرية وعدل وديمقراطية ومساواة، هي الأساس للسلام، كما أن الخروج عنها أو تجاوزَها يؤدي إلى الاضطراب والحروب ونسف السلم، ومن هنا أهمية هذه القيم الكونية: «ومن الأساسي أن تتمتع حقوق الإنسان بحماية النظام القانوني إذا أريد للبشر ألا يضطروا إلى التورط والطغيان والاضطهاد».

– ثم عقب بملاحظة أنه وعلى الرغم من اعتبار السلم هو الأصلَ في العلاقات الإنسانية، فإننا نجد في الواقع حروباً ونزاعات مسلحة تشمل مختلف مناطق العالم، ومناطق أخرى كثيرة مهدَّدةً بالحرب. مستنتجاً أن الحروب تهددنا باستمرار بقيامها على سلوكات مخالفة للقيم الإنسانية أو للسلوك الإنساني. لهذا شغلت الحروب المفكرين والفلاسفة الذين سجل تراثُهم ملاحمَ في هذا الشأن.

– ثم استخلص من تأمُّلِ مختلف القيم الكونية التي تشكل منظومة حقوق الإنسان، من ربطِها بالفلسفة، خلاصةً أولية تنص على أن القاسم المشترك بين الفلسفة وحقوق الإنسان هو الاستناد إلى العقل. فكل قيم ومبادئ حقوق الإنسان تعتبَر قيماً معقولة يستحيل رفضُها إذا أُخِذت في بعدها الكلي لانبنائها على العقل، مثل مبادئ الحرية والعدل والديمقراطية والمساواة. بل أكثر من ذلك، فإن السلم يتعرض للتهديد متى حصلت انتهاكاتٌ للحقوق والحريات الأساسية أو المدنية والسياسية أو الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وكل نوع من الانتهاكات يقَربنا من الحرب ويُبعدنا عن السلم.

– واستشهد على سلامة هذه الخلاصة بقول الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة بطرس غالي وهو يربط بين الديمقراطية والسلم، وبين انتهاك الديمقراطية والحرب: «إن كل يوم يبين لنا أن الأنظمة الاستبدادية يمكن أن تكون بواعث للحرب. أما الأنظمة الديمقراطية فهي في المقابل تضمن إقرار السلام»، وبقولة لإدوارد سعيد في كتابه “تجليات المثقف” تكشف خطورة التصورات التي تتنافى مع القيم الكونية: «إن مهمة المثقف تفكيك التصورات الاختزالية السائدة التي تحُدُّ من التفكير الإنساني ومن التواصل».

– ثم استدرك منبهاً على صعوبة نشر ثقافة حقوق الإنسان والقيم الكونية، لأنها تتطلب تغيير العقليات وإحلال أخرى مكانها، وتغييرَ الثقافة السائدة. وشدد على الدور الأساسي والحاسم للتعليم والتربية على حقوق الإنسان في ترسيخ الثقافة الحقوقية الإنسانية والاتجاه في مسلك الحفاظ على السلام، لأن ثقافة حقوق الإنسان هي التي ترسخ وتعزز التسامح الذي لا يمكننا إنكار أهميته في السعي إلى السلام. وكذلك الأمر بالنسبة للتفاهم والصداقة، والعكس صحيح. فغياب التسامح ينتج التعصب الذي هو الطريق المباشر للحرب، لأن التعصب هو إحلال للمطلق مكان النسبي، يفضي مباشرة إلى رفض الآخر والتشدد والحرب في تضاد مطلق مع مشروع الحداثة القائم على الحق في الاختلاف بما هو احترام للغير وتخلصٌ من المطلق لإحلال النسبي محله، وعلى الحرية والعقلانية.

– ثم طرح تساؤلا نقدياً يستفسر عن مدى استطاعة مجتمعاتنا اليوم تحقيقَ قبول الاختلاف والحرية، ونشرَ العقلانية. واستعار في الجواب تعبيرَ هابرماس في هذا المجال: «الحداثة مشروع لم يكتمل»، فقرر أنه ما زال على هذه المجتمعاتِ العملُ من أجل الحق في الاختلاف والحرية والعقلانية، بسبب فشلها في تطبيق المنهج العقلاني التواصلي، وفي نشر الديمقراطية والعدالة والمساواة، وفي اجتثاث الوثوقيات التي ما زالت إلى اليوم قائمةً في مجالات متعدة، مما يجعل الحربَ احتمالاً قائماً وباباً مفتوحاً. وفهم من هذا المنطلق دواعيَ اعتبار هابرماس الحداثةَ تفكيكاً للتصورات الوثوقية للعالَم، وإحلالاً للتصورات العلمية والفلسفية محلها. هو إضفاءٌ للنسبية عليها لتخليصها من المطلق. وهذا ينسجم مع نظرته للعقلانية التي تستلزم نسقاً اجتماعياً ديمقراطياً هدفُه الوصولُ إلى التفاهم وليس الهيمنة، بما أن الهيمنة مؤشر على الحرب، والتفاهم مؤشر على السلم.

– ثم جزم باستحالة الحديث عن بيئة أخرى للعقلانية خارج بيئتها الطبيعية التي هي الديمقراطية التي تمَكننا في بيئة من هذا الطراز من خلق حوار تواصلي بين مختلف المكونات، بين المفكرين: السياسي والديني والأخلاقي والفلسفي، حوارٍ يوصل إلى نظرة مغايرة في قضايا متعددة تخص الإنسان والدولة والمجتمع، انطلاقاً من كون الحقيقة المتوصَّل إليها ليست هي الحقيقة التي يتبناها هذا أو ذاك، وإنما هي ما يتوصَّل إليه عن طريق الحوار الذي يكون سنده دائماً عقلانياً، لأنه يقوم على الدليل والبرهان والحجة. وعلى هذا رأى هابرمس أن الحداثة تستدعي أن يقوم النظامُ الأخلاقي بدوره على أساس عقلاني. وهكذا تصبح القيم الكونية الإنسانية حاضرةً بقوة، لأن لا أحد يستطيع رفضَها عقلياً، وإلا وقع في التناقض.

– وختم العرض بوضع اليد على ما يبرر مصداقيةَ هذه القيم من جهة، وما يبرر دواعيَ مصادقة مختلف الدول وتوقيعِها على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وما ارتبط به من معاهدات أخرى من جهة ثانية: إن هذه القيم تفرض نفسها بالحوار العقلاني. من هنا تتجلى أهميةُ إدماج مقاربة حقوق الإنسان في كل ما يمكن أن يؤثر على السلم في العالم ويوجهه، لأن دعم حقوق الإنسان يعزز الاتجاه نحو السلم، في حين يولد انتهاكُ حقوق الإنسان العنفَ والتوجهَ نحو الحرب.

لا ينبغي أن نفهم من هذا أن حقوق الإنسان هي التي تولد الحربَ أو السلم. فهناك فعلاً مصالحُ دولية كبرى هي التي تتحكم في علاقات الحرب والسلم من دون أن تنتصر للسلام. إلا أن قيام عدالة دولية تستند إلى القيم الكونية وتُدَعم التواصلَ العقلاني تستطيع فعلاً أن تُنجز ما عجزت عنه سياساتُ المصالح الدولية الخاصة.

مناقشة العروض الثلاثة المقدَّمة في الجلسة الثالثة:

ملخص مضامين المداخلات التسع عشرة

فتح رئيس الجلسة الدكتور مصطفى الحداد لائحة لتسجيل المتدخلين لمناقشة العروض الثلاثة، والذين بلغ عددهم تسعة عشر (19) متدخلا. وقد افتُتِحت المناقشةُ، التي كانت غنية وساخنة بتنوعها وجديتها وتناولها الموضوع من زوايا متباينة، بمداخلتين مهمتين دقيقتين لكل من الأستاذين الكريمين: الدكتور عز الدين الخطابي ملقي العرض الثالث في الجلسة الأولى: “فكرة السلم الدائم: من التفاؤل الكانطي إلى السياسة الواقعية”، والدكتور عبد الحق منصف صاحب العرض الأول في الجلسة الأولى: “الحرب وأسس الحداثة السياسية”. ونوجز هنا مضامين هذه المداخلات في النقط الآتية:

مداخلة الدكتور عز الدين الخطابي:


– فشل مشروع التنوير عامل أساسي في تفسير مشروع السلام الدائم. فإلى ماذا يرجع فشل التنوير؟ مشروع التنوير نفسه ينطوي على ثغرات. ومن المعلوم أنه لا يمكن فصل التنوير عن الحداثة. وإذن فالخطاب التنويري خطاب حداثي يتضمن مجموعة من الثغرات.

– صحيح أن الحداثة ساهمت في ابتكار العديد من التقنيات والوسائل المتطورة، ولكنها بنفس القدر ساهمت في ابتكار أدوات التدمير كالقنابل النووية والعنقودية والفسفورية…

– السؤال على هامش قولة هابرماس الشهيرة: «الحداثة مشروع لم يكتمل»، والتي فُهمت بشكل فضفاض: ما هو هذا الشيء الذي لم يتحقق؟ وهل نحن مطالَبون في عصرنا هذا بإعادة النظر في الكثير من مفاهيم الحداثة في سياق اجتماعي واقتصادي مختلف؟

– هل فضاؤنا العمومي يشكل أرضية خصبة ملائمة لتنمية ما يسمى بالعقلانية التواصلية؟

مداخلة الدكتور عبد الحق منصف:

– خطاب الحقوق خطاب فلسفي كوني. ولكن ما مآل هذا الخطاب بقيمه حين يدخل المجال العمومي؟ فالذي يحدث أن الدولة بكل مكوناتها حولت نفسها إلى “أب جد”، إلى بديل كوني، إلى مصدر للخير والفضيلة والحقوق. تحولت بلغة نيتشه إلى وثن جديد استسلم له الجميع، إلى درجة أن خطاب الحقوق والسلم تحول في بعض الأحيان إلى حكاية منوِّمة، على حساب ثقافة الحياة والجسد. ما هو مطلب المجتمع المدني؟ مطلبه الصحة والسكن اللائق والفضاء المفتوح المريح… ولكن الدولة احتكرت بحيل سياسية شيطانية هذه العقلانية وهذا الخطاب الذي تسلمه الناس. ألا يتحول هذا الخطاب العقلاني إلى حرب أخرى تقودها الدولة ضد المجتمع وأفراده؟

– هل من الضروري أن يكون خطابُنا عن الحرب سلبياً؟ ألم يقل كانط في مشروع السلم الدائم بأن الحرب في تاريخ البشر هي تعبر بشكل من الأشكال عن التقدم؟ أليس للتقنيات المكتشَفة مظهراً إيجابياً باعتبارها استمراراً لهذا التقدم؟ الحرب ضريبة التقدم التي علينا تحملها.

– ما موقعنا نحن كمغاربة وطلبة باحثين في فضاء مغربي من الحرب والسلم؟ هل سنظل دائماً مسالمين مع ذواتنا ومع تراثنا ومع تقاليدنا؟ هل المطلوب منا باسم ثقافة السلم أن نبقى مسالمين مع تراثنا الفقهي والديني والفلسفي والأدبي والتاريخي؟ أما كانط فكان شجاعاً، وخصوصاً في أخلاقه، حيث مارس على نفسه الحل الفرويدي، فقتل الأب، وقطع مع النزعة الأبوية، وحول الله إلى قانون أخلاقي داخله. هذا هو الدين بالنيبة لكانط. فهل من الضروري أن نظل حاملين لأعباء هذا التراث محافظين على بنية التقاليد في حياتنا؟

المداخلات التالية:

– إشكالية استمرار المفارقة على مستوى السياسية الدولية بين فلسفة السلام وواقع الحرب.

– ما رد العرب والمسلمين على القوى الصهيونية المتمادية في اعتدائها ضداً على القانون الدولي العاجز أهله عن حمايته؟

– الحضارات التي لم تفترض أن الاخر عدو، تعرضت للتدمير.

– غالباً ما نلوذ، في مثل هذه القضية التي نحن بصددها، بمفهوم الحوار وكأنه هو الوسيلة التي ستحل لنا كل مشاكل الصراع وأسبابه، متصورين أن الحوار مجموعة مبادئ وكليات تتداول في قاعات موصدة للخروج بنتائج. والصحيح هو أن الحوار كممارسة وليس كمثال هو ممارسة صراعية تدافعية.

– ماذا نستطيع تقديمه للمساهمة في موضوع السلم والحرب من منظورنا الذاتي؟

– هل يمكن أن نضطلع بمشروع السلام الدائم وقد وصفه أعد العروض بأنه مشروع أروبي وغير مكتمل. هل يمكن أن نجمع إلى العقل والحرية والعدالة المستجدات الأخيرة التي من بينها تغير مفهوم الحرب والسلم؟

– التنوير سيرورة. ونحن ما زلنا في حاجة إلى التنوير الذي يشكل الأمل في إعادة ترتيب الأوضاع. لكن هل نحن في سلم أم في حرب؟

– فشل مشروع السلام الكانطي راجع إلى كونه كان بعيداً إلى حد ما عن الواقعية. فالعدالة التي أكثر الفلاسفة الأمان من الحديث عنها لم تتحقق في ألمانيا بل في فرنسا عبر الثورة الفرنسية. وهنا نستحضر انتقاد ماركس في الفلاسفة الألمان عملهم على تفسير العالم بدل تغييره.

– التنوير وإن كان قد ارتبط بمحاربة الظلم والخوف، فإنه وقع في مزالق أخرى، وعلى رأسها أَسْطَرَة التنوير ذاته، والعقل تالياً، وخداع الجماهير بلغة هوركايمر وأدورنو، والتحول إلى أيديولوجيا عن طريق الإعلام.

– جاءت في أحد العروض وجهة نظر الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة الذي رأى في الدول الكتاتورية تهديداً للسلم العالمي. وهو موقف ينبني على أيديولوجيا غربية سائدة ترى أن الأنظمة الديمقراطية هي أسمى الأنظمة السياسية والاقتصادية بانبنائها على مبادئ السلم والحرية وحقوق الإنسان. فإذا كان الأمر بهذا الشكل، فميف يمكن تفسير كون الولايات المتحدة الأمريكية، التي تُعتبَر من الدول الرائدة ديمقراطياً على الصعيد العالمي، هي الأكثر من قاد الحروب وارتكب الجرائم في حق الإنسانية؟

– أي نوع من الديمقراطية من شأنه وضع حد لهذه الحروب؟

– مهاتما غاندي خير من جسد السلم بشكل تطبيقي في القرن العشرين.

-ألا نستطيع إبدال لعبة الحرب بلعبة أخرى هي لعبة السلم؟ ألا ينبغي أن نشارك جميعاً كباراً وصغاراً -بالمدلول السياسي الدولي- في هذه اللعبة ووضع قوانين مشتركة؟

– أي دور للمثقف المغربي أستاتذةً وطلبة في تحصيل ثقافة السلم وحقوق الإنسان كما حصل في انتفاضة فرنسا؟

– تغيير العقليات يمر عبر ثلاث مراحل: مرحلة تغيير المساطر وهي أبسط مرحلة، ثم مرحلة ترسيخ القوانين وهي تتطلب نضالاً مستميتاً، ثم مرحلة ثقافية تعيد طرح مسؤوليتنا التاريخية لترسيخ هذه الثقافة والانخراك في الكوني.

– الإنسان الضعيف هو الذي يبحث عن السلم، أما مالك الصواريخ فهو العاشق للخراب والدمار. فما موقع دول العالم الثالث ضمن هذا الصراع الذي أُقحِمنا داخله رغماً عنا وبطريقة ثعلبة مخادعة؟

– ألا يمكن اعتبار التواصل وباسم الفلسفة وبمباركة هابرماسية فرانكفورتية بمثابة وسيلة جديدة لإعادة ترتيب أوراق الدول الإمبريالية والاستعمارية للسيطرة على دول الجنوب؟

– إلى أي حد سنظل نتعاطى مع النزعات القومية بشعارات انفعالية تعمل على توتير النزاع أكثر مما تعمل على تجد تجد طريقاً إلى الحل وإحلال السلام.

– صحيح أننا نرغب في قيم الديمقراطية والمساواة والحرية ونميل إليها ونحبها، لأننا ما زلنا في حاجة إلى هذه القيم ما دامت لم تتحقق لدينا بالقدر الكافي، تماماً كما أن الحرية بالنسبة للسجين لم تتحقق لديه كما تحققت لدينا نحن الآن، وبالتالي فهو يرغب في حريتنا نحن، ونحن إن تحدثنا عن حرية السجين فسوف نرى أنه من الأفضل أن يكون حراً طليقاً، لكن إن كان سيشكل خطراً علينا فإننا ضرورةً سنرى سجنه أفضل من وجوده بيننا. هذا هو حال الدول التي تقدمت فيها تلك القيم، لذلك فهي لا ترغب فيها، بل تخشى المنافسة ممن سيلحق بركبها ويتساوى معها ويتدمقرط مثلها. وعليه، فليست درجة القرب من هذه القيم هو ما يجلب السلم، بل إن هذه القيم عندما تغادر دائرة المجال الفلسفي إلى دائرة المجال السياسي فإنها هي التي تخلق الحروب، فكم حرباً دمرت الإنسان باسم الديمقراطية؟

– الغلبة دائماً للسياسة وليس للفلسفة أو للدين أو للفكر أو للعلم.

– هل يمكن اعتبار السلام الابنَ العاق للحرب؟

– أليست فكرة السلام الدائم فكرةً لاهوتية في عمقها، باعتبار أن الأديان هي التي علمت الإنسان كيف يكون مسالماً مع جل الأشياء، وأن جل فلاسفة الأنوار كانوا مؤمنين؟

– السلام الدائم أفق فلسفي، والهواية المفضلة للفلسفة هي ما ينبغي أن يكون. فهل من الممكن وجودُ مجتمعات مسالمة تفوق في مسالمتها المجتمعات السابقةَ؟

– أليس العقل الغربي الذي أدى إلى كوارث طبيعية، وأنتج وحشاُ كهتلر ووحوشاً أخرى ضارية في أروبا قادت حروباً بربرية، في مسيس الحاجة إلى الروح الشرقية عامة، والخطاب الصوفي خاصة، باعتباره سلاماً دائماً مع جميع الأشياء؟

– كل ما يجري في العالم من حروب هي مؤشرات ميدانية على فشل مشروع السلم الدائم. ونحن يحق لنا أن نحاكم فلسفة الأنوار والمشروع التنويري بالعقل ذاته الذي جعله كانط محكمة لمحاكمة كل الممارسات المنحرفة عن المسار العقلاني، محكمة لا تعطي المشروعية إلا لما يصمد أمام النقد.

– هل ما جرى ويجري في العالم من حروب دليل على أن الفعل العقلاني فعل قائم بذاته؟ هل مفهوم الحرية هو المفهوم المتحقق؟ ألم يرفعوا شعار الحرية واستعمروا شعوباً أخرى؟ وما الذي يقنعنا بخصوص مفهوم التقدم أن ما عاشته البشرية وتعيشه في القرنين العشرين والواحد والعشرين أفضل مما عاشته في سابق عهدها؟ هل التاريخ يسير فعلاً نحو التقدم؟

– إذا أردنا أن نؤسس للسلم فعلينا أن نؤسس للحرب. فالدخول في السلم يعني الاستعداد للحرب. لا يمكن تحقق السلم إلا في إطار توزيع السلطة والقوة بشكل متكافئ.

– هل يكفي الأخذُ بقيم العقل وتبيئتُها وجعلُها عالماً معيشاً حتى يمكننا القول إننا حققنا سلماً دائماً؟ ألا يحتاج العقل هو ذاته إلى عقال آخر أخلاقي أو غيره؟

– ألا يمكن اعتبار كونية هذه القيم سبباً في ما آل إليه العالم من حروب؟

– هل استطعنا في العالم العربي الانتقال من مستوى الشعار إلى مستوى المفهوم؟

– كيف يمكن تحقيق مشروع السلام الدائم في ظل وجود قياديين ساديين نكوصيين بلغة التحليل النفسي الفرويدي همهم الوحيد في الوجود هو إشباع النزوات والرغبات الذاتية وليس تحقيق السلام كما كان يطمح كانط وهابرماس بمفهوم العقل التواصلي؟

– ألا يمكن القول بأن حقوق الإنسان باعتبارها حقوقاً كونية ليست سوى حقوق لطبقة معينة، أي أنها ليست سوى حقوق أعادت صياغة الطبقية؟

– إلى أي حد تَحترم حقوقُ الإنسان باعتبارها حقوقاً كونية مسألةَ الخصوصيات؟ ألم تعمل هذه الحقوق باسم الإجماع على القضاء على حق الاختلاف؟ أليس لكل شعب الحق في تدبير أحواله الشخصية انطلاقاً من ثقافته الخاصة به؟ فإذا تصورنا شعباً يرفض ثقافة حقوق الإنسان، فهل نفرضها عليه باسم الديمقراطية؟ هل نشن عليه حرباً باسم حقوق الإنسان؟

– ألا يمكن اعتبار العقل التعارفي الذي يستند إلى الكونية والحق في الاختلاف والتعارف وينهل من الهوية الإنسانية ويستند إلى مرجعية (يا أيها الناس أنا خلقناكم شعوباً وقبائل لتعارفو) أوسع وأرحب من العقل التواصلي الذي يستند إلى الإجماع؟

ملخص مضامين الإجابات السبعة

وقد تولى الإجابةَ عن أهم الإشكالات المطروحة في المداخلات بشكل مركَّز مفيد على التوالي الأساتذة الكرام أصحاب العروض الثلاثة الخاصة بالجلسة الثالثة: الدكتور جمال أشقرا، والدكتر عبد الصمد تمورو، الدكتور عبد الجليل بادو، نوجز هنا خطوطها العريضة مرتبةً كما تمت في الندوة:

أولاً: الدكتور جمال أشقرا:


– لم يكن حديثي قطعياً في تقرير واقعة فشل مشروع التنوير وبالتالي فشل مشروع السلم الدائم. والقضية ليست مسألة نجاح أو فشل، بل هي مسألة سيرورة تحتوي وقائع وتناقضات وصراعات. ولتدقيق قولة هابرماس الشهيرة نقول: “الحداثة مشروع تنويري لم يكتمل”، وبالتالي فإن هذا المشروع هو في خضم الصراع.

– مشروع التنوير الذي عبر عنه مثلاً أبلغَ تعبير التعبيرُ الكانطي لم يكن خالياً من مجموعة من التناقضات فعلت فعلها الداخلي فيه. وهذا هو جوهر النقد النيتشوي والنقد الهايدجري. سأكون بليداً وغبياً إذا دعوت إلى نوع من الرجوع إلى اتنوير السابق. ستكون سلفيةً جديدة.

– النقد النيتشي والهايجري نقد مهم جداً. وما ينبغي أن يقع الآن وما هو واقع الآن مع هابرماس ومع التنويريين الجدد في فرنسا وفي أمريكا هو نوع من إعادة بناء التنوير. ما أدعو إليه هو نوع من إعادة بناء التنوير، آخذين بعين الاعتبار كل المسار الذي قطعه المشروع منذ النقد النيتشوي والنقد الهايدجري حتى نقد ما يسمى بما بعد الحداثة.

– السؤال الذي أطرحه هو: ما موقعنا نحن العرب والمسلمين داخل هذه العملية التي هي الآن قيد الإنجاز في العالم؟ هل سنبقى على الهامش باسم الخصوصية والخصوصانية والأصالة والأصالة والمعاصرة ودار الحرب ودار الإسلام… وبالتالي سيفوتنا القطار مرة أخرى؟ أم أننا سننخرط من موقعنا في إعادة بناء هذا التنوير؟

– وهنا ضرورة الاستفادة من التراث الإسلامي. والاستفادة الوحيدة من هذا التراث ستكون عن طريق قتله بحثاً وتنقيباً لنعيد ربط الاتصال مع المسار الكوني الإنساني. فنحن الآن إزاء ما نسميه بالمشترك الإنساني هو قيد التحقق والإنجاز.

وأعتقد أن على المستوى العربي ما زلنا قاصرين في هذا الإطار. فأبرز رموز التنوير عندنا، من الثلاثة الذين انتقلوا إلى جوار الله مؤخراً وهم حامد نصر أبو زيد ومحمد عابد الجابري ومحمد أركون، ما زالوا حبيسي إشكالية بعينها: قراءة النص القرآني، نقد العقل العربي، نقد العقل الإسلامي. هذا يعطينا أن الاجتهاد الأكبر لا يجري على مستوى العالم العربي، ولكن يجري على المستوى الإسلامي. وأستحضر هنا المدرسة الإيرانية بالدرجة الأولى.

– يجب الآن الحديث عن شيء اسمه: “روحانية التنوير”، بمعنى تخليص التنوير من القيد المادي الوضعي محاولين فتح آفاق جديدة أمام مصير الإنسانية، مع التحفظ اللازم في استعمال الكلمة.

ثانياً: الدكتور عبد الصمد تمورو:

– أنا فعلاً ضد الحرب، لأنني لا أريد أن ألتقي لا مع هتلر، ولا مع الصناعة الأمريكية للأسلحة، ولا مع الأطباء الذين يخونون أمانة الطب. ولكن أنا واقعي، فهناك حروب ضرورية دفاعية فعلاً، مثل حروب الدفاع عن النفس، والدفاع عن الوطن، عن الانتماءات، عن السلم. وهذه الحروب لستُ معها، بل أنا مضطر. فالأصل الذي يجب أن يكون تفكيري هو السلم والسلام.

– وأنا كذلك ضد زحلقة المعاني. فمثلا: يجب قلب اللغة من الشر إلى الخير، من الجانب السلبي الدال على الحرب إلى الجانب الإيجابي الدال على السلم. فكما انتشرت ثقافة الحرب والقومية وغيرها، يجب أن نعمل على انتشار خطاب السلام وكلماته ومفاهيمه وتحليلاته دعماً للأخلاقية الواقعية.

– الديمقراطية هي أيضاً حلم وطوباوية، ما دامت أنها لم تتحقق. فالديمقراطية الأثينية كانت حكراً على ستة آلاف من البشر دون سواهم. والديمقراطية في أرلندا لم تمنع الحرب. ولكن ما هو جميل في الديمقراطية أو السلم هو الإيمان بها، هو الدفاع عنها، هو الحلم بها، هو هذا الأمل فيها، والذي يجعلنا نفعل، ويجعلنا نسير نحوها. فإرادة الديمقراطية هذه هو أجمل شيء في الديمقراطية. فما دامت لم تتحق فنحن نريدها. والسلم لم يتحقق فلذلك نطالب به. ولكن هذا لا يعني أبداً التوقف عن العمل. ودور المثقف باختصار هو أن يقوم بهذا الفعل أولاً، وثانياً أن ينقل المعرفة إلى الشارع وإلى اليومي خارج الجامعة، أي من المعرفة إلى العمل.

– لا يمكننا أن نطلب من الفلسفة أن تصير شعبية. فبإمكان الكثير أن يتفلسفوا، لكن أقل القيل هم من سيكونون حكماء. الحكمة أمل. حب الحكمة هو الفلسفة.

ثالثاً: الدكتور عبد الجليل بادو:

– يمكن أن يحتضن الفضاء الجامعي حواراً مفتوحاً لتنمية العقلانية التواصلية مع مجموعة من الاتجاهات الفكرية المختلفة شريطة أن لا يوظَّف سياسياً.

– ما أضيفه، بخصوص الدور الذي بدأت تلعبه الدولة وما آل إليه وضع حقوق الإنسان، هو ضرورة المبادرة إلى دور إيجابي يخرجنا من دائرة السلبية في هذا الصدد، وخاصة دور المجتمع المدني ودور المثقف ودور الأحزاب السياسية، على أن تتفاعل جميع هذه العناصر ذلك التفاعل الجدلي مع الدولة في إحداث النقلة التي نتطلع إليها عبر تراكمات، كيفما كان الدور الذي تلعبه الدولة.

– صحيح أن في هذه الندوة مقارباتنا حداثية، ولكن هذا لا يعني أن المقاربة التفكيكية غير مقبولة. واتجاه ما بعد الحداثة عموماً ليس اتجاهاً ضد العقل ولا اتجاهاً ضد العلوم. ولو كان كذلك لما كانت له أية قيمة. إنما هو اتجاه ضد المسارات التي سار فيها العقل أو سار فيها العلم.

– الآلية الفكرية المتحدثة عن الغرب حال كونه موضوع صدام معنا طاغية في خطابنا على شكل مثل عبارات: “ما يخصنا”، “ما يخص الغرب”، “هذا دخيل”، “هذا أصيل”. والحقيقة أن أول ما ينبغي أن تحلى به كأساتذة فلسفة وكطلبة فلسفة هو التخلص من التوجيه الأيديولوجي لصالح الجانب العقلاني النقدي.

الجلسة الختامية

1- كلمة الدكتور مصطفى حنفي

2- كلمة الدكتور عبد الحق منصف:

1- كلمة الدكتور مصطفى حنفي

(المنسق المسؤول عن بنية البحث ورئيس سلك الماستر)

استلم الكلمةَ الأستاذ المقتدر الدكتور مصطفى حنفي الذي ترأس الجلسة الختامية التي استغرقت حوالي عشرين دقيقة (20 د)، فـ:

– شكر رئيسَ الجلسة والحاضرين من أساتذة وطلبة على صبرهم ومتابعتهم طيلة الجلسات الثلاث التي استغرقت يومين، وعلى تدخلاتهم الوجيهة المنصبة على صلب الموضوع أو على هامشه.

– ولفت الانتباهَ في هذه الجلسة الختامية لهذا الملتقى المخصَّص لطلبة الماستر والدكتوراة، والذي تشرَّف بحضور الطلبة الأساتذة للمدرسة العليا للأساتذة بمارتيل، إلى ضرورة تجميع حصيلة العروض المقدَّمة، وحصيلةِ النقاشات المثارة. تجميع في إطار حضور صديق عزيز هو الدكتور منصف عبد الحق الذي هو أستاذ الفلسفة وكاتب بامتياز، وإطار من أطر المجلس الأعلى للتعليم، ويشتغل كذلك على ورشات وعلى جوانب من الإصلاح الجامعي.

– وقدم خلاصة شاملة مركَّزةً لما انتهت إليه أشغال الملتقى، على امتداد جلساته الثلاث، لما تحصَّل لدى المساهمين والمشاركين والحاضرين من العروض والمناقشات حول موضوع “الفلسفة والسلم العالمي”. وأولُها: ضرورة مراجعة العلاقة بين الفلسفة والسياسة، مراجعة حدود العلاقة بين الفلسفي والسياسي. هل يجب –على حد قوله- أن نظل ننظر إليها بنفس المنظور الذي ألفناه الذي ألِفناه في التفكير الفلسفي، أي بالطريقة الفلسفية النقدية الكانطية أو النقدية ما بعد الكانطية؟ أم أننا مدعوون الآن إلى إيجاد (Paramétrage) أخرى، وإلى ترسانة مفهومية أخرى مجدَّدة لعلاقة الفلسفة بالسياسة؟ مدعوون نحن إلى مراجعة هذه العلاقة وهذه الأسس، ومراجعة كذلك ما أشار إليه كانط في بنده السري، وهو البند الخاص بالعلاقة بين الفلسفة والسياسة، بين الفلاسفة والحكام، بين أهل الحل والعقد وبين من يسيرون البلد.

– وحدد أهم درس مستفاد، وهو هذه التجربة الفكرية الفلسفية، وهي التي تجعلنا دائماً مرتبطين بالفلسفة وبأسئلة الفلسفة من جهة، وبتحيين فهمنا لدرس الفلسفة من جهة ثانية.

– أحال الكلمة إلى الدكتور منصف عبد الحق للحديث عن بعض الأوراش الممكنة للتفكير بصفته أحد أطر المجلس الأعلى للتعليم، والتي يمكن استثمارها اليوم وبعد هذا النقاش، والتي يمكن أن تكُون برنامجَ عمل في المستقبل المنظور، منوهاً بالاستفادة الكبيرة من حضوره الملتقى.

2- كلمة الدكتور عبد الحق منصف:

(عضو المجلس الأعلى للتعليم)

استلم الكلمةَ الأستاذ الدكتور عبد الحق منصف، فـ:

– شكر الأستاذ الدكتور مصطفى حنفي على إتاحته هذه الفرصة.

– بدأ بفكرة جامعة فحواها أن هذا مسؤولية السادة الأساتذة والطلبة في هذا الفضاء الجامعي، بالمفهوم الحديث للجامعة، باعتباره مؤسٍّسةً عمومية للتكوين وإنتاج المعرفة وإعادة إنتاج المعرفة الكونية، هي مسؤوليةُ فعلٍ أكثر مما هي مسؤولية خطاب. وعلينا جميعاً أن نحمل هذا الهم خارج هذه القاعة، في إطار أن الجامعة، إدارةً وبنياتٍ للبحث وطلبةً أيضاً، مطالَبةٌ الآن بالعمل أكثر في مجال التعليم والتكوين. فدور الجامعة للأسف اقتصر بشكل على التأهيل والتعليم. نعم، الأساتذة –وهذا حقُّهم- يبحثون وينشرون بحوثهم، ومن غير المعقول أن نحاسبهم على أنشطة خارج هذا الفضاء. ولكن الأستاذ الباحث ينشر أبحاثه التي ينجزها يومي السبت والأحد. والمطلوب الآن من هذا الأستاذ هو العطاء أكثر، ولكن من المطلوب هو أن يكون البنياتُ الجامعيةُ المكتملةُ بنياتٍ للبحث والعمل. مكتملة من الناحية الهيكيلة ومن حيث المؤسسات ومن حيث التمويل ومن حيث الأطر البشرية. وتجربة الماستر الآن، والتي نتمنى لها النجاح بشكل كبير، سائرةٌ في هذا الاتجاه، لأن من ضمن المخاطر التي تهدد الجامعة المغربية الآن هو أن هذا الفضاء ذا التاريخ العريق في المغرب أعطى أطراً كبيرة بدأت الآن تموت أو تنقرض متأسفين عليها. والعائق الكبير أمام هذه الجامعة الآن، والذي هو من ضمن المشاكل الكبرى التي تعاني منها، هو مسألة كيفية إعادة إنتاج ذاتها. أطر الجامعة اقتربوا من التقاعد، لذا فالجامعة تطلب توظيف دماء جديدة، ولكن بدون هياكل وبنيات تعيد إنتاج هذه الأطر في إطار مدرسة الدكتوراة. وأظن أن في أفق مدة لا تتجاوز أربع سنوات لن نجد من يتقدم لمنصب جامعي معلن عنه. لذا فإن الجامعة كبنيات مطالَبةٌ بتأهيل ذاتها في هذا المجال بتحولها من مجرد فضاء للتأهيل والتعليم فقط، إلى فضاء أيضاً للبحث وتعميق البحث. وهذا الملتقى داخل في هذا الإطار.

– ونبه على أن الأسئلة المطروحة في هذا الملتقى هي أسئلة مطروحة على الجميع وليس على الأساتذة المحاضرين. فنحن طلبةَ الماستر من الآن ينبغي تحمل أعباء مشروع ما نعرضه على أساتذتنا مستمرين في التخصص في إطاره حتى الدكتوراه لنحمل مستقبلا مشعل هذه الجامعة في هذا المجال.

– وأبدى أسفه لكون الجامعة الفضاءَ الثالثَ من حيث النقص الشديد الذي ربما يرجع إلى إلى عوامل بنيوية تاريخية، أي باعتبار الفضاء الجامعي فضاءً للتبادل الثقافي. فما زلنا جميعاً طلبةً وأساتذةً وأطراً إدارية لم نطور هذا الفضاء حتى لا يظل فضاءً للتكوين والبحث، ولكن أيضاً مجالاً للتبادل الثقافي الذي هو آلية أساسية لتعميق السلم. إذن ينبغي تنظيم الأوراش الكبرى التي يعوَّل علينا جميعاً للاشتغال فيها من أجل إعادة تأهيل هذا الفضاء في اتجاه هذه الوظائف. كانت هناك فكرة جميلة تمثلت في فتح الجامعات الشعبية التي نتمنى أن تتطور أكثر، لأن الجانب التنويري هو أن تفتح الجامعة أبوابها أمام طلب الاجتماع في هذا المجال وليس فقط لطلبة الإجازة والماستر. فبروز مجتمع المعرفة أصبح قوياً في المغرب. فاستطلاع الرأي يؤكد أن مجتمع المعرفة طلبٌ اجتماعي ملح، وأن الأسر المغربية حريصة على ولوج أبنائها عالم المعرفة بشتى الطرق، المشروعة منها وغير المشروعة، وعلى الجامعة تلبيةُ ولو جزء من هذا الطلب في إطارتجاربها وبالتفكير في تجارب مستقبلية في هذا الاتجاه.

– اقترح ورشاً كبيراً ومهماً جداً، يهم السياسة العمومية، ونحن أطراف في هذه السياسة العمومية. فالجامعة في إطار استقلالها، ومما لا تراجع فيه، ومما ينبغي تطويرُه مستقبلاً، في إطار العملية التعاقدية والتي ولجتها الجامعة الآن، من المفروض إعادةُ النظر في النظم المعرفية للجامعة. وفي هذه النقطة أشاد بفتح المجال أمام قاض –الدكتور محمد المنصوري- لإلقاء محاضرة في موضوع السلم من زاوية خاصة، الأمر الذي أغنى الملتقى بوجهة نظر أخرى لم نكن ندركها. فلو تم استدعاء فقيه مثلا ليحاضر في قضية الحرب والسلم فإنه سوف يضع لمسات إضافية. لذلك فإن إعادة النظر في المسالك وتعديد الأصوات في التكوين سوف يعطي بالتأكيد دفعة قوية للفلسفة وللعلوم الإنسانية الأخرى. إعادة النظر لا ينبغي أن تقتصر على الناحية الهيكلية والمؤسساتية وهي مهمة كبيرة جداً، وإنما أيضاً من ناحية إبستمولوجيا المعرفة، فنحن ما زلنا نشتغل بإبستمولوجيا القرن التاسع عشر: توزيع للفضاء الجامعي بين ما ينتمي للعلوم الحقة، وما ينتمي للعلوم الإنسانية، وما ينتمي لمجال الثيولوجيا وعلوم الدين. هذا التقسيم لخطاب المعرف كلاسيكي ولا يلبي حاجة الأوراش المفتوحة، الحاجة إلى مواطنين يحملون هم البلد ومشاكله وينخرطون في المجال العمومي. وقد ظهرت الحاجة إلى هذا الورش في النبرة الأخلاقية التي طغت على المداخلات خلال المناقشة في تغييب تام للثقافة الجمالية وعلاقتها بالسلم. الثقافة الجمالية رافد قوي ورهان قوي منذ القرن الثامن عشر. القيم الجمالية ينبغي أن تدخل الفضاء العمومي وتؤثثه باعتبارها خادمةَ عقلية السلم والتوازن في الفضاء الاجتماعي بشكل قوي. ما هو نصيب الثقافة الجمالية في فضاءات التكوين من الابتدائي إلى العالي؟ نصيب نادر جدا. هذا ورش مهم كذلك. ثم هناك ورش آخر لا بد أن يدخل كلَّ المسالك وهو ورش ترجمة النصوص حتى نتجاوز لغة الخصوصية، لغة نحن والآخر. الترجمة هذه مهمتها. هي جسر قوي يعمل على تقوية هذا الجانب التواصلي. هي حوار الآخر.

الآراء

اترك رد