قد لا نختلف إنْ قلنا إن حرية الإعلام متى كانت واقعًا مُكرّسا، ومرعية ومحمية قانونا من أشكال التضييق والضغوط التي قد تُمارسها بعض الجهات والدوائر الرسمية أو غير الرسمية؛ يُمكن أن تكون مئنّة صحية – ولو نسبيا – على وضع الحريات والحقوق.
والسؤال كيف يُمكن الاستدلال على وضع الحقوق والحريات استنادا إلى واقع حرية الإعلام ؟.
الحقيقة أنه بقدر ما يكون الإعلام حرّا في تقصي المعلومة والأخبار، وكشف الحقائق ونقلها إلى الجمهور بكل موضوعية، وبقدر الضمانات التشريعية والمادية والعملية التي تجعل الإعلام قادرا على الإسهام في رعاية حقوق المواطنين وحريّاتهم، والكشف عن كل ما من شأنه أن يحيق بها ويتهدّدها، وفضح مُرتكبي صور الفساد وأشكال التجاوزات؛ بقدر ما يُسهم في رعاية حقوق وحريات المواطن، وتعزيز الثقة بالدولة، ومساعيها في ترشيد الحكم وتكريس مبادئ العدالة والقانون في إطار دولة الحق والحكم والراشد.
إن حرية الإعلام في الجزائر كمفهوم قانوني؛ عرفت سلسلة من التعديلات التي تعكس بوضوح التغيير المفاهيمي الذي طال هذا المفهوم من ناحية تشريعية وقانونية، وتعكس أيضا التغيير في التوجهات الأيديولوجية والسياسية للنظام السياسي القائم في الجزائر منذ صدور أول قانون للإعلام في العام 1982 وانتهاء بالقانون العضوي للإعلام لعام 2012، مرورا بقانون الإعلام عام 1990.
معادلة الحزب الواحد والإعلام الواحد
بحسب قانون الإعلام رقم 82 – 01، المؤرخ في 6 فبراير 1982؛ كان الإعلام في الجزائر مُوجّها من قيادة الحزب الحاكم (حزب جبهة التحرير الوطني)، يُعبّر عن الشرعية الثورية، ويُترجم التوجه السياسي والحزبي والإختيارات والتوجهات الإشتراكية للدولة التي حدّدها الميثاق الوطني، وعزّزها دستور 1976.
وقد وقع التصريح بذلك في المادة الأولى/ فقرتان 1 و 2 من قانون 1982:” “الإعلام قطاع من قطاعات السيادة الوطنية.
يُعبر الإعلام بقيادة حزب جبهة التحرير الوطني، وفي إطار الإختيارات الإشتراكية المحددة في الميثاق الوطني، عن إرادة الثورة”.
إن غياب الإنفتاح السياسي على التعددية الحزبية فترة سيادة حكم نظام الحزب الواحد كان تأثيره واضحا على قطاع الإعلام؛ بدليل الغياب التام لأيّ مؤشر على انفتاح الإعلام على التعددية الإعلامية، وهذا بدوره انعكس سلبا على واقع حرية الإعلام التي صارت عنوانا لتكريس التوجهات والإختيارات الأيديولوجية والسياسية لدولة الحزب الواحد دون غيره، كما يُستشف ذلك من أكثر من مادة نحو:
المادة 3: “يُمارس حق الإعلام بكل حرية، ضمن نطاق الإختيارات الأيديولوجية للبلاد، والقيم الأخلاقية للأمة، وتوجيهات القيادة السياسية المنبثقة عن الميثاق الوطني، مع مراعاة الأحكام التي يتضمنها الدستور وخاصة في مادتيه 55 و 73”.
في ذات السياق جاء في المادة 5 ما نصه: “إن توجيه النشريات الإخبارية العامة ووكالة الأنباء والإذاعة والتلفزة والصحافة المصورة هو من اختصاص القيادة السياسية للبلاد وحدها.
ويُعبّر عن هذا التوجيه من خلال الهيئة المختصة التابعة للجنة المركزية للحزب بواسطة وزير الإعلام والمسؤول المكلف بالإعلام في الحزب، كل في القطاع الملحق به.
مديرو أجهزة الإعلام هم وحدهم المؤهلون لتنفيذ هذه التوجيهات”.
وبطبيعة الحال يُفترض في مديري أجهزة الإعلام المؤهلين لتنفيذ توجيهات الهيئة المختصة للجنة المركزية للحزب الحاكم؛ أن يكونوا من مُناضيلي الحزب طبقا للمادة 6: “تُسند مهمة مُديري أجهزة الإعلام إلى مناضلين في حزب جبهة التحرير الوطني، طبقا للشروط المنصوص عليها في القانون الأساسي للحزب”.
الإعلام يتحرّر، لكن..
مقارنة بقانون 1982؛ عرف الإعلام في الجزائر انفراجا وانفتاحا ولو جزئيا، تكرّس بإقرار التعددية الإعلامية، ورغبة السلطة في استكمال الإصلاح السياسي الذي تُوج بإقرار التعددية الحزبية (الإعتراف بحق إنشاء الجمعيات ذات الطابع السياسي طبقا لنص المادة 40/ فقرة 1 من دستور 1989)، وكذا تحرير قطاع الإعلام من احتكار السلطة السياسية الشمولية ذات التوجه السياسي والحزبي والإعلامي الواحد، بموجب نص المادة 4 من قانون الإعلام رقم 90 – 07، المؤرخ في 3 أبريل 1990 التي جاء فيها ما نصه: “يُمارس الحق في الإعلام خصوصا من خلال ما يأتي:
– عناوين الإعلام وأجهزته في القطاع العام،
– العناوين والأجهزة التي تمتلكها أو تنشئها الجمعيات ذات الطابع السياسي،
– العناوين والأجهزة التي ينشئها الأشخاص الطبيعيون والمعنويون الخاضعون للقانون الجزائري،
– ويُمارس من خلال أيّ سند اتصال كتابي أو إذاعي صوتي أو تلفزي”.
لا شك أن تحرير الإعلام من أيّ احتكار سياسوي غير مُبرّر؛ يُتيح للعمل الإعلامي تقديم رسالته بصورة كاملة وموضوعية على نحو يحقق تطلّعات المجتمع المدني والسياسي، ويخدم الصالح العام، لكن للأسف تمخض الطود (الجبل) عن فأرة، ولم تتجسّد التعددية الإعلامية كاملة بالصورة المأمولة والمطلوبة، واقتصرت على قطاع الإعلام المكتوب (الصحافة المكتوبة).
بل حتى الصحافة المكتوبة التي تحرّرت من احتكار السلطة للإعلام، وتعدّدت وتنوعت عناوينها؛ عرفت آمالها في تحسّن وضعها وتحقيق مكاسب أخرى مشاهد مؤلمة ومُخزية؛ بداية من سوء طالعها بدخول الجزائر دوامة العنف، التي تعرّضت خلالها بعض العناوين الصحفية إلى التضييق بل والإيقاف، وبعضها الآخر لم يقوَ على المواصلة لسبب أو لآخر، فخمد أُوارها في حصول التغيير المنشود، فكان أفولها عن الساحة الإعلامية قدرها المحتوم.
في مقابل ذلك، ظلّ قطاع السمعي والبصري حبيس النص القانوني، محروما من حقه في الانفتاح وتجسيد مكسب التعددية الإعلامية؛ رغم أن القانون كان صريحا في ذلك، وظلت حرية الإعلام بالنسبة له حبرا على ورق إلى إشعار آخر، لم يتحقق إلا بعد سلسلة الإصلاحات السياسية التي تكلّلت بصدور القانون العضوي للإعلام في العام 2012 إلى جانب قوانين أخرى يُحب بعض القانونيين والسياسيين الاصطلاح على تسميتها “بقوانين الإصلاحات السياسية”.
استدراك السلطة على مكسب التعددية الإعلامية المبتورة
في النهاية أيقنت السلطة أنه لا مناص من إقرار التعددية الإعلامية في جميع قطاعات الإعلام دون استثناء أو إقصاء، أدركت أخيرا أن الانفتاح السياسي وإقرار التعددية الحزبية لا يكتمل إلا بتحرير الإعلام وفتح جميع عناوينه وأجهزته على التعددية الإعلامية. وإن أرادت الدولة أن تبلغ مراقي العدل ويسود القانون، يتعيّن عليها أن تُعزّز الحق في ممارسة الإعلام بكل حرية، وكيفما اتفق من وسائل وسبل قانونية يكفلها الدستور والتشريع.
لقد سجل صدور القانون العضوي للإعلام رقم 12 – 05، المؤرخ في 12 يناير عام 2012 نقلة نوعية في مفهوم حرية الإعلام؛ من خلال التكريس الأمثل لحدود الانفتاح الإعلامي والتجسيد الأكمل لمفهوم التعددية الإعلامية التي لا تقتصر على قطاع إعلامي دون آخر.
جاء في مادته الثانية ما نصه: “يمارس نشاط الإعلام بحرية في إطار أحكام هذا القانون العضوي والتشريع والتنظيم المعمول بهما وفي ظل احترام:
– الدستور وقوانين الجمهورية،
– الدين الإسلامي وباقي الأديان،
– الهوية الوطنية والقيم الثقافية للمجتمع،
– السيادة الوطنية والوحدة الوطنية،
– متطلبات أمن الدولة والدفاع الوطني،
– متطلبات النظام العام،
– المصالح الاقتصادية للبلاد،
– مهام والتزامات الخدمة العمومية،
– حق المواطن في إعلام كامل وموضوعي،
– سرية التحقيق القضائي،
– الطابع التعددي للآراء والأفكار،
– كرامة الإنسان والحريات الفردية والجماعية”.
إذن مفهوم حرية الإعلام صار عنوانا حقيقيا للطابع التعددي للرأي المختلف والتنوع الفكري، الذي يتنافى مع سياسة الاحتكار وتكميم الأفواه وإقصاء الرأي الآخر، حتى وإن كان رأيا مسموعا يتطلبه الواقع والمجتمع الذي صار فيه للكلمة عنوانها وتأثيرها.
وفي سياق تعزيز مكسب التعددية وتأكيد ما نص عليه قانون الإعلام لعام 1990؛ نصت المادة الرابعة من القانون العضوي للإعلام لعام 2012 على ما يلي: “تضمن أنشطة الإعلام على وجه الخصوص عن طريق:
– وسائل الإعلام التابعة للقطاع العمومي،
– وسائل الإعلام التي تُنشئها هيئات عمومية،
– وسائل الإعلام التي تملكها أو تُنشئها أحزاب سياسية أو جمعيات معتمدة،
– وسائل الإعلام التي يملكها أو يُنشئها أشخاص معنويون يخضعون للقانون الجزائري ويمتلك رأسمالها أشخاص طبيعيون أو معنويون يتمتعون بالجنسية الجزائرية”.
وفي إطار دعم التعددية الإعلامية وتعزيز حرية العمل الإعلامي؛ تقرّر استحداث سلطة ضبط الصحافة المكتوبة تضطلع بعدّة صلاحيات منها: “تشجيع التعددية الإعلامية” كما صرح بذلك نص المادة 40/ 2. وفي السياق نفسه وحتى تستدرك السلطة تقصيرها في فتح قطاع السمعي البصري وتستكمل ما وعدت به من التعددية الإعلامية التي كرّسها قانون الإعلام لعام 1990؛ تعززت حرية الإعلام المكتوب بتحرير الإعلام المسموع والمرئي وفتحه؛ كما صرحت بذلك المادة 61 من قانون الإعلام لعام 2012 بقولها: “يُمارس النشاط السمعي البصري من قبل:
– هيئات عمومية،
– مؤسسات وأجهزة القطاع العمومي،
– المؤسسات أو الشركات التي تخضع للقانون الجزائري،
ويُمارس هذا النشاط طبقا لأحكام هذا القانون العضوي والتشريع المعمول به”.
وحفاظا على رسالة الإعلام ومكسب انفتاحه، وبالموازاة مع سلطة ضبط الصحافة المكتوبة المستحدثة؛ تقرّر إنشاء سلطة ضبط لنشاط الإعلام السمعي البصري تُشرف على سيره الحسن طبقا لنص المادة 64 من قانون 2012. “وتحدد مهام وصلاحيات سلطة ضبط السمعي البصري وكذا تشكيلتها وسيرها بموجب القانون المتعلق بالنشاط السمعي البصري”. طبقا للمادة 65 من القانون نفسه.
وبتاريخ 24 فبراير 2014 تمّت المصادقة على القانون رقم 04 – 14 المتعلق بالنشاط السمعي البصري، وبموجبه تمّ استحداث الأرضية القانونية لتفعيل مضامين المادة 64؛ حيث حددت المواد 52 – 56 منه مهام وصلاحيات سلطة ضبط السمعي البصري، وحصرتها في عناوين كبرى: مجال الضبط، مجال المراقبة ومجال تسوية النزاعات، أما تشكيلتها وتنظيمها وسيرها حدّدتها المواد 57 – 90 منه.
بموجب نص المادة 54 من قانون 04 – 14؛ صارت حرية العمل الإعلامي في مجال السمعي البصري محمية بسلطة ضبط السمعي البصري كما صرحت فقرتها الثانية بقولها: “السهر على حرّية ممارسة النشاط السمعي البصري ضمن الشروط المحددة في هذا القانون والتشريع والتنظيم ساريي المفعول”.
أيضا جاء في فقرتها الخامسة ما نصه: “السهر على احترام التعبير التعددي لتيارات الفكر والرأي بكل الوسائل الملائمة في برامج خدمات البث الإذاعي والتلفزيوني، سيما خلال حصص الإعلام السياسي والعام”.
مبدئيا، بالنظر إلى مُستجدات نصوص التشريع الإعلامي في الجزائر، خاصة منها ما تعلق باستحداث سلطة ضبط السمعي البصري – فضلا عن سلطة ضبط الصحافة المكتوبة- ؛ يمكننا التأكيد على أن هذه السلطة استحدثت لحماية مكسب التعددية الإعلامية، والإبقاء على حرية العمل الإعلامي بعيدة عن أيّ تصرف من شأنه المساس بأخلاقيات العمل الإعلامي النزيه والحرّ، سواء صدر هذا التصرف من جانب الإعلاميين أو السياسيين أو أيّة جهة أخرى رسمية كانت أو غير رسمية، تستغل هذا المكسب استغلالا غير أخلاقي وغير قانوني.
فقط نأمل ألا تكون تقع سلطة الضبط تحت التأثيرات السياسوية، وتتحول إلى مطيّة لإفراغ مكسب التعددية الإعلامية، والتأثير على حق وسائل الإعلام في ممارسة نشاطها بكل حرية بعيدا عن أيّ تضييق أو مُصادرة أو إقصاء، وأن تظلّ سلطة رقابة وضبط وليس سلطة تضييق ومتابعة سياسوية تقدح في استقلاليتها وتُشكك في حيادها ونزاهتها.
منتهى الكلام أن الإعلام الجزائري يعيش انفتاحا غير مسبوق، اكتمل بتجسيد التعددية الإعلامية في مجال النشاط السمعي البصري؛ فأصبح المواطن الجزائري اليوم يُشاهد ويسمع تنوعا في الطرح الإعلامي لا يقتصر على طرح السلطة السياسية فقط، ويسمح لجميع الفاعلين في المجال السياسي وغيره بالتعبير عن مواقفهم بكل حرية. هذا مع الإقرار بأن هذا الإنفتاح يظلّ انفتاحا مُحتشما بعيدا عن التطلعات المأمولة التي نأمل تجسيدها قريبا.
اترك رد