يتسم الوجود التاريخي للمدينة بأنه لا يمكن رده إلى سبب واحد، فالمدينة توجد-بوصفها ظاهرة تاريخية- في نقطة التقاء وتفاعل عناصر وأنساق وأحداث…متنوعة، وبالتالي لا يمكن تفسيرها على أساس من هذا السبب أو ذاك، فهي ظاهرة مركبة تمتد أصولها إلى عدد من الأسباب المتداخلة أو المترابطة أو المتناقضة أحيانا.
إن اختيار المدينة ميدانا للدراسة جاء للدوافع التالية:
– لكونها شكلت مند القديم مركز استقطاب للسلطة والمجتمع والأفكار والسلع…وصناعة المبادئ والمؤسسات والأجهزة…
– ولمحاولة المشاركة في النقاش الدائر حول مسألة التخطيط في المدينة العربية الإسلامية عموما، والمدينة المغربية خصوصا.
– وللتأكيد على أن المدينة المغربية-وخصوصا في الفترة المدروسة- ليست مجرد بناء مادي يحتضن تجمعا سكانيا وحسب، بل موضوعا علميا يحمل دلالات معرفية ورمزية…
– ثم توجه عدد من وحدات الدراسات العليا إلى الإهتمام بالمدن الإسلامية والمغربية منها على وجه الخصوص… كل ذلك ساهم في ترسيخ هذا المسار.
إن المدينة بما هي كيان حضاري حي، ذات أبعاد عمرانية وسياسية وإقتصادية وإجتماعية… تتفاعل ضمنها ومن خلالها مجموعة من المبادئ والنظم والممارسات… عبر مستويات وصور تشكل هويتها، وتساهم إلى حد كبير في صيرورتها… ولعل جهاز السلطة أحد العوامل القوية في بلورة طبيعة المدينة، سواء منها المادية أو الفكرية، بل يصعب فصل مجال المدينة عن مجال السلطة .ولهذا لا يمكن الحديث عن تاريخ المغرب دون التطرق إلى العمران الحضري، وإبراز دور السلطة-باعتبارها مؤسسة لابد منها لانتظام أمره- في تحديد طبيعته المورفلوجية والتنظيمية والمعنوية، دون إغفال دور باقي مكونات هذا العمران في تحديد شكل السلطة ومرتكزاتها وتأثيرها.
إن لكل مجال ولكل مدينة -حسب واقعها وظروف نشأتها وشكل تكوينها- سلطتها المعبرة عن حقيقتها وكذلك عن خصائص مجتمعها، ولا يمكن فهم المدينة إلا بالرجوع إلى فهم السلطة، والعكس صحيح.
إن المغرب المعني في دراستنا هو المغرب الأقصى في حدوده الجيوسياسية الحالية تقريبا إذا استثنينا تلمسان وبعض المناطق الشرقية. وتم اختياره مجالا للدراسة في إطار تركيز وتدقيق البحث في نموذج حضاري، خضع لوحدة حضارية وسياسية وثقافية … معينة. فقد كان لموقعه في أقصى العالم القديم أثره في الأحداث السياسية، إذ أن الغزوات القادمة من المشرق لا تصل إليه إلا بعد أن تكون قد فقدت جزءا كبيرا من قوتها، ولذلك ظل محافظا على شخصيته التي بدأت تتبلور أكثر بعد الفتح الإسلامي.
يرتبط اختيار الحدود الزمنية (ق. 1–5ﻫ/7–11م) بالوعي بأهمية وخصوصية هذه الحقبة التاريخية، حيث مرت المدينة المغربية خلالها بمجموعة من الانعطافات، ابتداء من الفتح الإسلامي، وانتقال المدينة المغربية من وضع وانتماء حضاري إلى آخر مغاير تماما… حيث تكونت أهم معالمها الجديدة، ثم جاء حكم مجموعة من الكيانات السياسية ذات المذاهب المتعددة، ثم مرحلة التوحيد في يد سلطة واحدة ألا وهي السلطة المرابطية، حيث حدثت انقلابات وتغيرات تحددت من خلالها هوية المدينة المغربية من الناحية العمرانية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية… وإذا كنا قد تحدثنا عن حادثة إحراق إحياء علوم الدين، والتي وقعت في مستهل ق.6هـ (503هـ) فلأنها شكلت امتدادا وأنموذجا بارزا للتطورات المذهبية بالمغرب.
يأتي اختيار موضوع “المدينة والسلطة” باعتبار الأولى مشروعا ومجالا حيويا لتجسيد نفوذ الثانية، وباعتبار دور السلطة في إنشاء المدينة وتأسيسها أولا، ثم بعد ذلك في رسم سماتها العامة وتدبيرها، وصياغة نظمها ومؤسساتها، وتوجيه الثقافة السائدة بها، والتحكم في اقتصادها وبنيتها الاجتماعية نخبة وعامة..إلخ. وعلى العموم البحث في العلاقة الجدلية التي تربط السلطة بباقي عناصر ومكونات المدينة سواء المادية أو المعنوية.
انطلاقا مما سبق تأتي هذه المحاولة التي ارتأيناها مشروعا وموضوعا للبحث في المدينة والسلطة بالمغرب خلال ق. 1-5ﻫ/7–11م، في إطار دراسة تسعى لتجميع ما أمكن من معلومات تاريخية أولية، بغية معالجة جدلية المدينة والسلطة بكل مستوياتها وتعقيداتها وتجاذباتها، ودراسة العلاقة التي قامت بينهما كمؤسستين: السلطة كنظام سياسي مستند إلى بنية قبلية وإلى أرضية فكرية وسياسية محددة، والمدينة ككيان متعدد الأبعاد، والخروج بإستخلاصات تساعد على تكوين رؤية متكاملة ومنهجية، تستفيد من مختلف المناهج والمعارف والعلوم، وتدفع إلى استيعاب الظاهرة التاريخية وتفكيكها، ثم تركيبها بما يساعد على اكتشاف السنن والقوانين الصانعة والموجهة لحركة التاريخ.
لخدمة أهداف هذا المشروع حاول البحث تنويع التنقيب في المصادر خاصة كتب الجغرافيا والرحلات المشرقية (إبن خرداذبة، الإصطخري، إبن حوقل، المقدسي…)، وغيرها من الأدبيات التي تمكن من تحقيق أهداف البحث، مع الاستفادة من الدراسات المعاصرة، وما راكمت من قراءات ووجهات نظر جديرة بالتقدير…
في ضوء ما أسفرت عنه الدراسة (مادة وصياغة) تكون المحتوى العام لمحاولتنا التي خرجت إلى النور-بعد المدخل والختام- في ثلاثة فصول أساس:
ضم الفصل الأول مبحثين: عملنا من خلال المبحث الأول على تصنيف المدينة المغربية عمرانيا وتاريخيا وسياسيا. عمرانيا، سجلنا بعض الاختلافات المفهومية والعمرانية لأشكال العمران، مع التركيز أكثر على المدينة المغربية باعتبارها محور البحث. تاريخيا، تأثر العمران بالمغرب فيما بين ق.1-5هـ/7-11م بالأحداث والظواهر الإقتصادية والسياسية والإجتماعية…وتفاعل معها، ومن ثم عرف تحولات وخصوصيات سواء في توزيعه داخل المجال المغربي، أو في نوعه وكمه، أو في بنيته وتكوينه، وذلك حسب طبيعة المراحل التي مر منها، والتي قسمناها إلى ثلاث مراحل: مرحلة الفتح- مرحلة الدول المستقلة- المرحلة المرابطية. ثم سياسيا تم تصنيف المدينة المغربية إلى مدينة حاكمة ومدينة خاضعة فأخرى متمردة.
في المبحث الثاني، اجتهدنا قدر الإمكان في إبراز مختلف عوامل نشأة المدينة المغربية وتطورها، وأكدنا على أهمية العوامل السياسية والاقتصادية دون إغفال مساهمة العوامل الدينية والحضارية. كما وضحنا أن المدينة في علاقتها بالموضع والموقع ارتكزت على ثلاثة أسس: طبيعية واقتصادية وأمنية، والتي تباين مستوى الإعتماد عليها حسب خصوصية الظروف التاريخية والجغرافية… ثم حاولنا -بما أسعفتنا به المادة المصدرية- بيان أن تأسيس المدينة بالمغرب خلال الفترة المدروسة جاء وليد رؤية عمرانية إستراتيجية، استندت على عدة مبادئ، وتفاعلت عبرها مؤثرات محلية وخارجية، ساهمت في تبلورها وأدائها لوظائفها.
وبحث الفصل الثاني في طبيعة ومرتكزات السلطة ووسائل تدبيرها السياسي للمدينة عبر مبحثين اثنين: وضح الأول منهما بعض ما تميزت به السلطة المغربية خلال الفترة المدروسة من تراوحها بين الإستقلال والتبعية الخارجية، وضيق مجال تداولها، وتأثرها بنظام القبيلة التقليدي… أما أهم ما انبنت عليه السلطة فهو القوة لتحقيق وجودها وضمان استمرارها، سواء تعلق الأمر بالقوة البشرية والإجتماعية أو تلك المستمدة من الشرعية الدينية، أو المعتمدة على الموارد الاقتصادية والمادية، وهو ما عمل هذا المبحث على إبرازه…كما بين بنية ووسائل السلطة المادية والمعنوية التي تراها مناسبة وجديرة بتحقيق غايتها في بسط النفوذ على المجال والتحكم فيه وتدبيره.
في حين ركز المبحث الثاني على تحليل ظاهرة الصراع السياسي، سواء بين عصبية وأخرى، أو بين أطراف العصبية الحاكمة نفسها. والكشف عن العوامل المساهمة في تأجيج الصراعات واستمرارها، والتي تنعكس على المدينة المغربية بالسلب بصفة عامة.
أما الفصل الثالث والأخير فناقش ماهية العلاقات الإقتصاية والإجتماعية والدينية.
أكد المبحث الأول منه على أن العلاقة الإقتصادية بين السلطة والمدينة المغربية اتخذت وجهين: فحينما تظهر سلطة جديدة قوية وقادرة، تفرض الأمن وتحقق الإستقرار وتشيد المرافق والتجهيزات… وبفعل رفعها لشعار الإصلاح وقلة احتياجاتها المالية تقتصر في جباياتها على ما أوجبه الشرع، مما يسمح للناس بالعمل والإنتاج، وبالتالي تنشط الحركة التجارية وتزدهر معها الأنشطة الحرفية والفلاحية المرتبطة بها، فيسعد المجتمع بالرخاء وتغنم السلطة بالأموال. لكن بالمقابل فكلما تجذرت أجهزة النظام الحاكم وتوسعت مجالات هيمنته وتحركاته العسكرية وتنوعت اهتماماته وتزايدت حاجياته، كلما ارتفعت الضرائب وتنوعت لتحقيق المراد، فتثقل كاهل رجال الإقتصاد، مما يؤدي إلى عجزهم عن الكد والعمل فتبور الأسواق وتكسد التجارات وغيرها، وهو ما ينذر باختلال أوضاع السلطة، ويكون له نتائجه الخطيرة على الأوضاع الإجتماعية، مما قد يزكي إمكانية قيام مسألة ثورات وإنتفاضات حضرية…
كما شخص هذا المبحث حقيقة تحولات الخريطة البشرية بالمدينة والمجال بصفة أعم الذي تهيمن عليه السلطة الحاكمة بالمغرب، وأبرز أن تبلور هذه الأخيرة ونموها وتجذرها قد ساهم في تطور المدينة في أبعادها المختلفة، مما شجع الهجرة البدوية إليها، وساعد على تمدن السكان وانفتاحهم على المؤثرات الحضارية الخارجية خاصة في العصر المرابطي. ثم حلل علاقة السلطة بالفئات الإجتماعية، والتي تباينت حسب نوعية الجهاز الحاكم نفسه وطبيعة الفئة الإجتماعية،وحسب الظروف التاريخية والوضعية العامة للبلاد.
ثم تناول المبحث الثاني التحولات الدينية ، مبرزا تبني المدن المغربية مذاهب دينية مختلفة تبعا للسلطة الغالبة، ومناقشا حدوده وحقيقته، فمع الفتح الإسلامي انتشرت بالمغرب مذاهب فقهية دعوية، ثم مذاهب فكرية سياسية مناوئة للخلافة بالمشرق، والتي من أبرزها فرقة الخوارج التي أشعلت نار الثورات ضد سلوك ولاة بني أمية، وانتقلت من الطابع الإجتماعي إلى طابعها السياسي بنجاحها في تأسيس إمارة سجلماسة وتامسنا. ثم تمكنت الدعوة الشيعية من إيجاد موقع لها ضمن الخريطة المذهبية للمغرب مع الأدارسة والبجليين والفاطميين، قبل أن يتمكن المرابطون من فرض وتعميم المذهب المالكي السني بالقوة، بعدما كان محصورا في مناطق ورباطات… بالرغم من بعض الإشكالات التي استمرت في الواقع كالإستقلال المذهبي لبورغواطة ثم مسألة حرق “الإحياء” ومحاربة العقيدة الأشعرية وما أثاره ذلك من نتائج وردود فعل…
تأسيسا على مقاربتنا لموضوع “المدينة والسلطة بالمغرب (ق.1-5ﻫ/7-1م)”،قمنا بتحليل تلك العلاقة الشاملة التي ربطت المدينة بالسلطة في المغرب الأقصى خلال المرحلة المدروسة، وانطلقنا من إشكالية كبرى وهي أن المدينة بوثقة تتفاعل فيها الأحداث والأفكار والنظم…وأن السلطة عامل قوي ذو وظيفة معتبرة وحاسمة في تحديد هوية المدينة عمرانيا وسياسيا واجتماعيا ودينيا… ومن ثم حاولنا قدر الإمكان إبراز وتحليل وتفسير الروابط المتعددة الأبعاد التي جمعت بينهما إبتداء من الفتح الإسلامي إلى إرهاصات بداية ضعف حكم المرابطين. وفي الأخير خرجنا بمجموعة من الإستخلاصات:
– إذا كنا قد سجلنا الاختلاف اللغوي والاصطلاحي لبعض المفاهيم العمرانية، فإننا نلحظ كذلك تنوع وتعدد أشكال العمران بالمغرب، بالإضافة إلى تأثره بالظروف التاريخية. وهكذا يبدو أن مرحلة الفتح، وإن كانت لم تغير من الثقل المجالي للظاهرة الحضرية، أو يتم خلالها تأسيس مدن جديدة، إلا أنها ساعدت بالتأكيد على خلق ظروف ملائمة للإمارات التي ستأتي فيما بعد لتشيد وتعمر…خاصة بالنسبة للأدارسة. وما ميز مرحلة الدول المستقلة هو تغير مواقع المدن الكبرى من الساحل إلى الداخل، وبروز الجنوب”قوة عمرانية”ساهمت فيها تجارة القوافل والإستقلال السياسي النسبي، وستصبح فاس تدريجيا المدينة الرئيسة بفعل موقعها المتميز… لكن إذا كان داخل البلاد قد تقوى على حساب السواحل، فإن ذلك لم يمنع من أن الشمال ما فتئ يحظى بأسبقيته وتقدمه على جنوب البلاد.
– تشكل المرحلة المرابطية طورا جديدا من البناء والتعمير بالمغرب، حيث تزايدت حيوية الحركة العمرانية، رغم أن المرابطين لم تكن لهم إستراتيجية عمرانية في الشمال، بل ركزوا اهتمامهم أكثر على الجنوب، وتم ميلاد شبكة طرقية أكثر توسعا نتيجة الازدهار التجاري المتزايد مما أدى إلى ارتفاع وتيرة التمدين، وظهور المدن المحورية كقوة جذابة. وهكذا تأسست مراكش، وعرفت سجلماسة وفاس وغيرهما قفزة كبرى، كما استمر غنى الظاهرة الحضرية بعدة مجالات، وتبلورت مدن مهمة تمتد على خط محوري من الشمال إلى الجنوب كسبتة وفاس والداي وأغمات وسجلماسة ونول لمطة… وقد اكتملت الشبكة الحضرية بإنشاء مراكش التي أصبحت قاعدة الجنوب.
– وحد الملثمون المغرب سياسيا وكرسوا الأمن، فنمت التجارة وازدهرت الفلاحة والحرف، وبالتالي تطور العمران الحضري، وبرزت إلى الوجود مدن محورية كبرى قامت بوظائف وأدوار مهمة. ولم يقتصر اهتمامهم على مراكش وفاس، بل قاموا ببناء وترميم مجموعة من المدن وإضافة مجموعة من المعالم العمرانية، فقد شيدوا مدينة بني زياد والقصر وتاقررت وشيشاوة وتجيت وتدنست وتاكولت وأم الربيع ومقول… وعموما فإن الفترة ما بين ق.1-5هـ / 7-11م عرفت محافظة شمال المغرب على تقدمه التمديني، لكن بالمقابل عرف الجنوب انتعاشا حضريا ساهمت فيه بشكل أساس تجارة القوافل الصحراوية.كما تحولت تدريجيا القواعد الكبرى من الساحل نحو الداخل، ومن الشمال نحو الوسط والجنوب.
– يمكن تصنيف المدينة المغربية سياسيا إلى مدينة حاكمة ومدينة خاضعة ثم أخرى متمردة: فالمدينة الحاكمة تمثل قاعدة السلطة التي ترتكز عليها، وجذورها التي تتفرع عن طريق ضم مدن جديدة في جميع الاتجاهات الممكنة باستمرار، والمدينة الخاضعة تقبل التبعية وتؤدي فروض الطاعة والولاء ولو نسبيا، وخاصة في أوج قوة السلطة الحاكمة، وقد تكون المصالح متبادلة،فـ”الخدمات” المرتبطة بالأمن والحماية…مقابل الخضوع المطلق وأداء الضرائب … لكن يحدث أن تتمرد المدينة سواء في المبتدأ، أو عندما يصبح لكل وجهة هو موليها، نتيجة اختلاف مذهبي، قبلي، سياسي، اقتصادي…
– تظافرت عدة عوامل في نشأة وتطور المدينة المغربية، وخاصة منها العوامل السياسية التي كانت سببا مباشرا في بروز المدن القواعد، ثم باقي المدن بما حققته من أمن وأمان واستقرار،كما لعبت العوامل الاقتصادية دورا لافتا، حيث ظهرت عدة مدن ارتبطت بالتطور الاقتصادي العام الذي عرفه المغرب في الفترة المدروسة، سواء في جانبه الفلاحي والحرفي أو في جانبه التجاري خصوصا ما يرتبط بالتجارة مع السودان، إضافة إلى الإستغلال المنجمي، دون أن ننسى الدور الديني والجهادي عموما .
– يتضح أن المدينة في علاقتها بالموضع والموقع ارتكزت على ثلاثة أسس: طبيعية وإقتصادية وأمنية، والتي تباين مستوى الإعتماد عليها حسب خصوصية ظروف المرحلة التاريخية، وحسب طبيعة المدينة في حد ذاتها وطبيعة وظائفها وأدوارها. والملاحظ أن العديد من المدن المغربية بعد الفتح الإسلامي ظهرت على أنقاض مدن قديمة، وكأنها طرحت نفسها بديلا عنها في إطار دورة العمران مقابل دورة الخراب، ولهذا كانت مواقعها قريبة منها. وعموما فإن نشأة المدينة المغربية خلال الفترة المدروسة جاء وليد لرؤية عمرانية إستراتيجية، ارتكزت على عدة مبادئ، وتفاعلت عبرها مؤثرات محلية وخارجية، ساهمت في تبلورها وأدائها لوظائفها.
– تميزت السلطة المغربية خلال الفترة المدروسة بتراوحها بين الإستقلال والتبعية الخارجية، وبضيق مجال تداولها، وبتأثرها بنظام القبيلة التقليدي، إذ أنها في حد ذاتها “ظاهرة بدوية قبلية”، فمن المعلوم أنها انبثقت في وسط قبلي تملكه الإحساس بالانتماء العرقي المشترك (العصبية)،كما تتميز هذه السلطة بانتقالها عبر نظام وراثي يكاد لا يأخذ بعين الاعتبار القدرات القيادية والتدبيرية والشخصية التي يجب توفرها في رجالات الحكم، وتستمد أيضا قوتها من الصفات المقدسة التي يتحلى بها الأمير أو الإمام..، والتي تسعفه في الإنفراد والإستبداد بالأمور الدنيوية والأخروية.
– انبنت السلطة على القوة لتحقيق وجودها وضمان استمرارها، سواء تعلق الأمر بالقوة البشرية والإجتماعية أو تلك المستمدة من الشرعية الدينية، أو المرتكزة على الموارد الاقتصادية والمالية والمادية… لهذا فكلما استطاعت السلطة الحاكمة أن تحافظ على لحمة عصبيتها ومكوناتها الإجتماعية والقبلية، مع انفتاحها على قوى جديدة من القبائل والموالي و”المصطنعين”، إلا ومكنها ذلك من اكتساب مناعة من التفكك والاضطراب وأهلها للإستمرار في الوجود.
– يلاحظ أن كل الدعوات الإصلاحية كان محورها الأكبر هو إقامة الحكم على أسس دينية تتمثل في نشر مبادئ الإسلام الصحيح ومواجهة كل أشكال الانحرافات والبدع… ومن جهة أخرى، فبما أن كل سلطة هي قوة وعنف وغلبة..، فإنها كانت محتاجة دوما إلى “شرعنة” سلوكها ونهجها القهري، ولهذا كان الدين حاضرا دوما أيضا باعتباره ركنا متينا لكل كيان سياسي. فنشر الإسلام وتغيير المنكرات وإقامة العدل ومحاربة الزيغ…كلها مثلت قاعدة للمشروعية الدينية لزعماء الفترة المدروسة. وعموما فالإصلاح الديني والعقدي خلال العصر الوسيط أجمع كان الوسيلة الفعالة لبناء السلطة السياسية.
– المال عصب حياة السلطة، ولهذا اعتمدت مختلف السلطات المغربية منذ تكونها على موارد متنوعة،كغنائم الحرب والغزو والضرائب المفروضة على التجارة سواء الداخلية أو الخارجية… وتميزت الموارد الإقتصادية للسلطة بعدم الانتظام، وذلك حسب مدى قوتها أو ضعفها، ومدى امتدادها ونفوذها، والظروف المحيطة بها والمرحلة التي تمر منها..، فالجباية مثلا، تطورت بتطور الدولة وتزايد نفقاتها العسكرية وحاجاتها المتعددة التي تتضخم باستمرار، ولهذا فهي تنتقل من الإكتفاء بالواجبات المالية الشرعية إلى فرض الضرائب غير الشرعية، خاصة على أهل المدن أو من تستطيع السلطة الوصول إليه والتحكم فيه من المناطق القريبة، عكس الأطراف التي تحاول جاهدة التملص من المكوس، وبصفة أخص في دور هرم الدولة وعجزها.
– اعتمدت السلطة كل الوسائل والأساليب المادية والمعنوية التي تراها مناسبة وجديرة بتحقيق غايتها في التحكم وبسط النفوذ على المجال وتدبيره، لكن أي خلل أو ضعف تسرب إلى هذه الوسائل ينعكس تأثيره سلبا على قوة السلطة، وقد يفقدها تماسكها وانسجامها، فتظهر مراكز جذب من الداخل، أو تبرز قوى سياسية أخرى جديدة وناشئة تحاول استغلال هذا الضعف وتكريسه بتوجيه سهمها إلى السلطة الحاكمة التي تكون قد بدأت تتجه بلا رجعة نحو الهرم والشيخوخة، ولهذا تبدأ مرحلة جديدة تطبعها كثرة الصراعات وتفاقمها.
– شكلت مسألة الصراع السياسي ظاهرة أساسية خلال المرحلة المدروسة، ذلك لأن هذا الصراع لا يلبث أن يحسم بتغلب عصبية على أخرى، حتى يتحول إلى تنافس بين أطراف العصبية المنتصرة الحاكمة نفسها. وتساهم العوامل المذهبية والقبلية والطموحات السياسية والإقتصادية في تأجيج الصراعات واستمرارها، والتي تنعكس على المدينة بالسلب.
– إن السلطة الحاكمة بالمغرب – خلال المدة الزمنية التي يعالجها البحث- قد ساهمت في إحداث تحولات في الخريطة البشرية بالمدينة المغربية والمجال الذي هيمنت عليه بصفة أعم، كما أن تبلورها ونموها وتجذرها ساهم في تطور المدينة في أبعادها المختلفة، مما شجع الهجرة البدوية إليها، وساعد على تمدن السكان وانفتاحهم على المؤثرات الحضارية الخارجية خاصة في العصر المرابطي. أما علاقة السلطة بالفئات الإجتماعية، فتباينت حسب نوعية الجهاز الحاكم نفسه وطبيعة الفئة الإجتماعية، وكذلك حسب المرحلة التاريخية والوضعية العامة للبلاد.
– نؤكد أن العلاقة الإقتصادية بين السلطة والمدينة المغربية اتخذت وجهين: فحينما تظهر سلطة جديدة قوية وقادرة، تفرض الأمن وتحقق الإستقرار وتشيد المرافق والتجهيزات… وبفعل رفعها لشعار الإصلاح وقلة احتياجاتها المالية تقتصر في جباياتها على ما أوجبه الشرع، مما يسمح للناس بالعمل والإنتاج، وبالتالي تنشط الحركة التجارية وتزدهر معها الأنشطة الحرفية والفلاحية المرتبطة بها، فيسعد المجتمع بالرخاء و تغنم السلطة بالأموال. لكن بالمقابل فكلما تجذرت أجهزة النظام الحاكم وتوسعت مجالات هيمنته وتحركاته العسكرية وتنوعت اهتماماته وتزايدت حاجياته، كلما ارتفعت الضرائب وتنوعت لتحقيق المراد، فتثقل كاهل رجال الإقتصاد، مما يؤدي إلى عجزهم عن الكد والعمل فتبور الأسواق وتكسد التجارات وغيرها، و هو ما ينذر باختلال أوضاع السلطة والمدينة.
– ساهمت عوامل وأحداث في بلورة مذاهب عقدية وفقهية وسياسية…بالعالم الإسلامي، والتي انتقل صداها إلى المغرب. فمع الفتح الإسلامي انتشرت بهذا الأخير مذاهب فقهية دعوية، ثم مذاهب فكرية سياسية مناوئة للخلافة بالمشرق، والتي من أبرزها فرقة الخوارج التي أشعلت نار الثورات ضد سلوك ولاة بني أمية، وانتقلت من الطابع الإجتماعي إلى طابعها السياسي بنجاحها في تأسيس إمارة سجلماسة وتامسنا. ثم تمكنت الدعوة الشيعية من إيجاد موقع لها ضمن الخريطة المذهبية للمغرب مع الأدارسة والبجليين والفاطميين، قبل أن يتمكن المرابطون من فرض وتعميم المذهب المالكي السني بالقوة، بعدما كان محصورا في مناطق ورباطات… وحاربوا التصوف والعقيدة الأشعرية والمذاهب المنحرفة… وبقيت أصداء هذه الحرب مسطرة في سجل التاريخ، والتي من أبرزها ما عرف بمسألة “إحراق الإحياء” ثم الصراع بين التيار المالكي السلفي ونظيره الأشعري داخل علماء المرابطين، مما أحدث شرخا عميقا في بنيانهم وسرع بالإطاحة بسلطتهم وهي في قمة نضجها.
إن العقلية المحافظة التي كان يفكر بها المرابطون حجبت عنهم القدرة على استيعاب وفهم التحولات الفكرية بالساحة الإسلامية مشرقا ومغربا، فوقفوا ضد فكر الغزالي ومذهب الأشعرية. وبالرغم من أن موقفهم هذا كان نابعا من حرصهم على الحفاظ على الوحدة الدينية والمذهبية، فإن منهجهم في التعامل مع هذه المستجدات والمتغيرات كان تقليديا مباشرا، ولم يكن منهجا استيعابيا يتجاوز خلق صراع وعداء مجاني عام، فكانت النتيجة أن نسف صرحهم الديني والسياسي من أركانه.
* ملخص أطروحة دكتوراه في التاريخ
اترك رد