مقدمة:
في هذه المقالة نحاول أن نبين أهم الأفكار المرتبطة بالعاطفة عند دافيد هيوم، كما وردت في مجملها في كتابه رسالة في الطبيعة الإنسانية، كما نحاول تبسيط نظريته في الأخلاق والمعرفة وأهم المواقف التي تميز التصور الفلسفي لهيوم. من قبيل أن العقل يولد فارغا من المعرفة، وأن العاطفة أسبق من العقل وهي التي تزوده بالأحكام الأخلاقية.والمعرفة تصدر عن الحواس في اتصالها بالعالم لخارجي (الواقع)، ولا وجود لاعتقادات دينية قابلة للبرهان العقلي، فهي مجرد تخيلات….
العاطفة قبل المنطق:
وتعني عند هيوم أن الأحكام الأخلاقية لا تأتي من المنطق وإنما من العاطفة التي هي مصدر الأخلاق والمعرفة. فالعاطفة هي التي تقرر أن هذا الشيء جميل أو حسن، ثم يأتي العقل فيما بعد ليبرهن…أما هو وحده (العقل)فلا يقيّم الأشياء أخلاقيا بوصفها جيدة أو سيئة. وإنما يرتب الحقائق ليقرر كيف يحقق ما تكشف العاطفة أنه جيد.
المنطق (العقل) تابع للعاطفة:
عندما يدعي بعض الفلاسفة (ديكارت وأتباعه) أن العقل يتحكم في العاطفة يزور الحقيقة الواقعية. فلا يتحكم المنطق بالعاطفة، يقول هيوم”المنطق هو عبدُ العواطف”! في أعماله، هيوم طوّر هذه الفكرة معتبرا أن العاطفة جزء من الطبيعة البشرية تأتي كاملة بقدرة موجودة بداخلنا للارتباط العاطفي وذلك بالاهتمام الغيري*(الغيرية ضد الأنانية) والتعاطف مع الآخرين. فمثلا، لدينا قدرة طبيعية على الإحساسبالسعادة من نجاحات أقربائنا أو أبنائنا أو أصدقائنا. وهذه هي الغيرية بمعنى محبة الغير والتعاطف معه، وليست أنانية.
ينسجم تصوره الأخلاقي مع نظريته في المعرفة. فلا شيء يسبق العاطفة ولا شيء يسبق التجربة الحسية. وليس للعقل تأثير في السلوك الأخلاقي أو دور في بناء الأحكام الأخلاقية خاصة أن العقل ميدانه أمور الواقع، وعلاقات الأفكار والأخلاق تتجاوز نطاقهما، فالسلوك مصدره فطرة العقل وميول الفرد وتجارب ماضيه للشخصية لما هو سارّ ومؤلم، فطلب اللذة والابتعاد عن الألم قوام الحكم الأخلاقي الذي يبنيه هيوم على العاطفة دون العقل؛ لأن القرارات الأخلاقية تؤثر في السلوك وهذا ما تستطيعه المشاعر والعواطف وحدها، وما تحمله تلك القرارات من إقرار أو إنكار لا ينجم عن الأنانية، إلا التعاطف أو ما يسميه اهتماماً «إنسانياً» يحمل على محبة الخير للناس جميعاً ويجعل هذا التعاطف معياراً للاستحسان الأخلاقي الصادق. وإذا كان معيار اللذة والألم يتعارض وبعض المعاني الأخلاقية كالعدالة واحترام الملكية والولاء فلأن تلك المعاني التزامات تقوم على المواضعة الجماعية والاتفاق، من دونها لا يتماسك المجتمع ولا يؤدي وظائفه.
“الصداقة بهجة الحياة الإنسانية الكبرى”
أراد هيوم في كتابه «الرسالة» أن ينشئ علماً تجريبياً للطبيعة الإنسانية يعتمد فيه المنهج التجريبي للعلوم الوضعية على طريقة نيوتن، فيطبق طريقة التحليل للكشف عن العناصر الأولية للظواهر النفسية وقوانين تفاعلها منطلقاً من أن كل ما يحصل عليه الذهن من معانٍ وأفكار إنما مصدره التجربة، ولا شيء سابق عليها، ويقول إن الفكر يتألف من إدراكات حسية تقسم إلى فئتين تتمايزان بدرجة الحيوية والقوة:
فئة الانطباعات impressions : أو ما يسمى الإحساسات والمشاعر والانفعالات كانطباعات الإحساس والبصر والسمع وسائر الحواس، أي المعرفة التي تأتينا من الحواس مباشرة.وتقسم الانطباعات إلى انطباعات الحس الأولية وهي مجهولة الأصل، وانطباعات ثانوية مصدرها الأفكار، فالكراهية مصدرها فكرة الألم التي هي بدورها نسخة لانطباع الألم الأول.
– وفئة الأفكارideas: أو الخواطر والصور الذهنية التي تنشأ عندما يفكر المرء في إحساساته، وهي أدنى حيوية وأقل قوة من الانطباعات التي تتميز منها بدرجة أعلى من النشاط والقوة.
والأفكار نوعان:
– أفكار بسيطة وهي نسخ عن الانطباعات وتماثلها، أي هي الأفكار التي تأتينا من الحواس (الأذواق والألوان وباقي الإحساسات…)
– الأفكار المركبة من الأفكار البسيطة المشتقة من الانطباعات وجميعها مستمدة من التجربة، مثل قولنا: قياس المثلث 180 درجة…فليس هناك من مفاهيم أولية قبلية سابقة على التجربة ويمتنع القول بفطرية الأفكار innateideas.
قوانين التفكير عند هيوم
ويؤكد هيوم ما ذهب إليه جون لوك من أن العقل خالٍ من أي معانٍ سابقة على التجربة، فالمعرفة الإنسانية بعدية ومكتسبة. ويحدد هيوم القوانين التي يتم بوساطتها الربط بين الأفكار أو المعاني، ويرجعها إلى مبادئ ثلاثة وهي التشابهوالتجاور الزماني والمكاني ومبدأ السببية [causality]، فالشبيه يذكرنا بشبيهه، بمعنى أن التفكير في الشيء قد يؤدي إلى التفكير في الآخر. والتجاور يفيد أن الشيئيرتبط ذهنيا بما يجاوره بمعنى أنهفي حالة إذا ما تلازمت وتجاورت وحدتان الواحدة مع الأخرى، فإن التفكير في واحدة قد يثير التفكير عن الأخرى، ومبدأ السببية أو ارتباط السبب بنتيجته، فإذا ما سبقت وحدة واحدة باستمرار وحدة أخرى، فإن فكرة الوحدة الأولى ستظهر في فكرة الوحدة الثانية. وبالخيال يتم الربط بين الأفكار التي تشابهت انطباعاتها أو تجاورت في المكان والزمان أو اقترنت سببياً، وهذه الأفكار تتداعى بحسب قوانينها الخاصة تلك من دون أي تدخل خارجي كقانون الجاذبية بالنسبة للعمليات الفيزيائية.
كيف نتأكد من صحة الأفكار؟ (هذا السؤال شبيه بسؤال: كيف نتحقق من صحة النظرية العلمية؟)
الاستدلال يكون إما بالتجربة أو بالعقل. بالتجربة للاستدلال على العلاقات بين أمور الواقع (مثلا بالتجربة نعرف أن نزول المطر الكثير يسبب الفيضانات…).والصدقهنا لا يستدل عليه إلا في التجربة كما هي الحال في العلوم الطبيعية التي تتبع قيمتها لعلاقة السبب بالنتيجة. وبالعقل للاستدلال على العلاقات بين الأفكار (مثلا البرهان على أن جذر 9 هو 3). وهذا الاستدلال العقلي برهاني وهو وسيلة الرياضيات، والصدق فيه تام دون الحاجة إلى التجربة.
وبالتحليل يجد هيوم أن مبدأ السببية ليس نظرياً إذ لا شيء فطري في العقل، وليس مكتسباً لا بالحس الظاهر أو الباطن فهو ليس معرفة مباشرة بقوة خفية وليس بالاستدلال لأن معنى العلة والمعلول متغايران. وكل ما هنالك أن التجربة تبين تعاقب الحوادث واطراد وقوعها على منوال محدد يخلق في الذهن استعداداً لربط السبب بالمسبب والانطباع بالفكرة، كارتباط الحرارة بالنار، وتوقع حدوثهما دائماً على نحو متلازم، والتوقع حالة نفسية تقوم على الميل والعادة التي قويت بالتكرار، وعندما تحدث أحوال متشابهة في المستقبل يميل العقل بحكم العادة وتبعاً لقوانين التداعي association إلى الاعتقاد بوقوع النتائج عينها، والاعتقاد بأمور الواقع ليس عقلياً برهانياً وإنما مردّه إلى يقين ذاتي وطابع احتمالي.
الاختلاف بين العقلانيين والتجريبيين:
كلاهما يعتقد في السببية لكن خطر الاعتقاد بضرورة السببية عند العقلانيين قد يؤدي إلى الوثوقية والتعصب بحكم أنهم يعتقدون أنه إذا وجد “أ”فلا بد أن يحدث “ب”. علاقة”لا بد” هذه تعني “ضروري”حين تستخدم خصوصا في العلوم الإنسانية وفي تفسير الأحداث الإنسانية تصبح سببا في التعصب للرأي والتطرف له. من جهة أخرى قد يؤدي إنكار السببية إلى الشكية المطلقة وإبطال العلوم والدراسات بحجة أن كل شيء ممكن. لكن شكيّة هيوم هي شكيّة منتجة، فالشك فيها كما في اللفظ اليوناني الأصلي يعني ببساطة البحث بعناية ودقة. فالشكاك بهذا المفهوم يبقى دائما يفتح مجالا للمراجعة وتغيير الرأي. وهذا ما يؤدي إلى استمرار البحث والتحري.
الأنا ليس “جوهر” والعقل ليس “جوهر”:
بآلية التداعييفسر هيوم طبيعة «الأنا» التي يرفضها بوصفها جوهراً، وموقفه هذا تدعيم لموقف بركليBerkeley، فبحسب هيوم لا يوجد انطباع من قبيل الجوهر بالذات وما يمكن معرفته أو إدراكه يقتصر على الانطباعات والأفكار المرتبطة بعضها ببعض بعلاقات التماثل والتتالي والعلية فالنفس عنده “حزمة أو سيّال من الإدراكات الحسية المتعاقبة وعلاماتها.”على خلاف ديكارت دائما الذي يعتبر أن الأنا جوهر مفكر.
قال عن العقل في كتابه”دراسة في طبيعة الإنسان”، أن “العقل هو عبدٌ للأهواء والعواطف، ولا يمكن أن يكون غير ذلك. ولكن لا بد من العقل، فهو مازال ضرورياً، إذ لا خيار لنا فإما أن نختار هذا العقل رغم قصوره، أو لا عقل على الإطلاق”.
الاعتقادات تأتي من المُخيلة
ويرد هيوم الاعتقاد بالعالم الخارجي إلى ميل أو نزوعtendencyطبيعي للمخيلة لتركيب صورة منتظمة وموحدة عن العالم يربط فيها بين المدركات الحسية التي لا وجود لها إلا في العقل وبالتالي فإن تصورات من قبيل الأشياء والنفس (الأنا) والهوية والاتصال ما هي إلا أوهام للمخيلة تسقطها على المدركات، وأي فروض فلسفية لتدعيم حقائق إيمانية كالخلود والسقوط والإثم والحساب هي محض خرافة. بهذا أنكر هيم الدين والمعجزات والإيمان كما يرفض القول بوجود إله بالاعتماد على المنطق البرهاني ويصف رفضه أو إلحاده بأنه إلحاد فلسفي فهو يشك في وجود إله، ولكنه لا يمتنع عن القول باحتمال وجوده.
وقد كان لنظرية هيوم في الأخلاق أثر واضح عند بعض الفلاسفة الإنكليز حتى عدّه بعضهم مؤسساً لمذهب المنفعة الأخلاقية.
في خصائص فلسفة دافيد هيوم
قامت فلسفة هيوم التجريبية على عدم الثقة بالتأمل الفلسفي. ولكنه آمن أن كل معرفة جديدة تأتي نتيجة للخبرة، وأن كل الخبرات لا توجد إلا في العقل على شكل وحدات فردية من الخبرة، وكان يعتقد أنّ كل ما مَرّ به الفرد مباشرةً من خبرة لم يكن أكثر من محتويات شعوره الخاص، أو ما يتضمنه عقله الخاص. كما كان هيوم يعتقد بوجود عالم ما خارج منطقة الشعور الإنساني، ولكن لم يطرأ على ذهنه أنّ هذا الاعتقاد كان من الممكن إثباته.
أطلق هيوم على وحدات الخبرة الحيوية الفعّالة اسم المدركات الحسِّية، أما وحدات الخبرة الأقل حيوية وفعالية فقد أطلق عليها اسم المعتقدات أو الأفكار. فالكلمات والمدركات لها معانيها عند الشخص إذا كانت لها علاقة مباشرة بوحدات الخبرة هذه. وكانت كل وحدة من الخبرة منفصلة متميزة عن بقية الوحدات الأخرى جميعها، على الرغم من أن الوحدات عادة ما تُمارس وتُجرب على أنها مرتبطة بعضها ببعض.
وقد اشتهر هيوم بهجومه على مبدأ السببية. ويقرر هذا المبدأ أنه لا يمكن أن يحدث أو يظهر إلى عالم الوجود شيء من غير سبب. وكان هيوم يعتقد أنه بالرغم من أن حدثًا واحدًا (مجموعة من الانطباعات) يسبق دائمًا حدثًا آخر، إلا أن هذا لا يثبت أن الحدث الأول سبّب الحدث الثاني. وقال هيوم كذلك: إن التزامن المتواصل بين حدثين، ينشئ توقعًا بأن الحدث الثاني سوف يتم حدوثه بعد الأول. ولكن لم يكن هذا شيئًا أكثر من اعتقاد راسخ، أو عادة عقلية علمتنا إياها الخبرة، ولم يستطع أحد أن يبرهن أن هناك ارتباطات سببية بين الانطباعات
وقد بنى هيوم نظريته عن الأخلاقيات على الخبرة، رافضًا الرأي القائل بأن العقل في استطاعته التمييز بين الفضيلة والرذيلة. وقد فحص الظروف التي كان فيها الناس يتحدثون عن الأخلاقيات. وختم أقواله بأن الميزات الفاضلة عند الناس هي تلك التي كانت سائغة أو نافعة لهم. وكان هيوم يزعم أن الناس جميعًا يملكون عاطفة الخيرية؛ ومعناها الرغبة الطيبة، وأن هذه العاطفة كانت أساس الأحكام الأخلاقية.
اترك رد