إن المتتبع لكثير مما ينشر من أبحاث ومقالات حول الحوار السني الشيعي، سيشد نظره ويثير انتباهه اللغة الصِدامية التي تصاغ بها المواقف ،وتثار بها المسائل، فتتداول بين المُختَلِفين عبارات الاتهام بالغرور والتدليس أحيانا، وعبارات السب والشتم أحيانا، وعبارات التكفير والتبديع والتفسيق أحيانا، وعبارات تنعت فكر المخالف بالفاسد ووعيه بالشقي،بينما كان الأمر يقتضي بسط صفحة من التسامح بعرض الأفكار حسب قناعات صاحبها بحياد وتجرد علمي.
ارتضى كاتب هذه السطور الرجوع إلى موضوع الحوار السني الشيعي بنفَس آخر،وتصور آخر،لا لإلهاء الناس بمواضيع- قد يُخَيل للبعض- أنها بعيدة عن واقعنا ،والحقيقة أن أكثر مشاكل واقعنا العربي والإسلامي ما هي إلا انعكاسات وظلال لمشاكل عويصة برزت في وقت مبكر من تاريخنا الإسلامي،بحيث يستحيل إقرار حلول بنائية جديدة وناجعة إذا نحن لم نَفقَه أسباب انتقاض البناء الأول.
إن أمتنا الإسلامية تعرف اليوم حشدا مذهبيا وطائفيا لم يسبق لها أن عرفته في سالف القرون والأزمان ،في وقت أصبحت فيه سمة العصر ولغته هي سياسة التكتلات والتحالفات بعد حدوث مستجدات مهمة وخطيرة وضعت العالم الإسلامي موضع المراقبة المستمرة والمتابعة الدقيقة لما يجري ويعتمل في دوله ومجتمعاته،إما تحت عناوين سياسية واضحة في إطار”الحرب على الإرهاب”، وإما تحت عناوين أكاديمية تشتغل بها مراكز دراسات وبحوث استراتيجية تتخفى وراء ادعاءات الحياد والموضوعية، كما لن تقنع دوائر الاستكبار العالمي أحدا بالزعم أنها لا تحارب الإسلام،لأن الإسلام ليس معنى ذهنيا قائما في الفراغ ولكنه يتجسد في أتباعه ومعتنقيه على الاختلاف بينهم في تمثل حقائقه وأخلاقه،فالعراقيون المحتل بلدهم مسلمون،والأفغانيون كذلك،والفلسطينيون كذلك،في ضوء ما سبق يتأكد لدينا بما لا يدع مجالا للشك أن إشعال فتيل النزاعات المذهبية والطائفية جريمة بكل المقاييس.
نعم لنا أن نعتقد نحن الذين سماهم الاصطلاح التاريخي”سنة وجماعة” أن رؤيتنا لتطورات التاريخ وتقلباته،وحقائق الشرع وتأويلاته،هي الصحيحة والصائبة برغم الأقلية المنحرفة عندنا التي لم تُقِم وزنا للوصية النبوية بالقرابة،دون أن نصادر حق الآخرين في أن يعتقدوا أن رؤيتهم هي الصواب،برغم الفئة المنحرفة عندهم التي لم تقم وزنا للوصية النبوية بالصحابة،وإن الحوار الهادف والبناء الذي يرجى منه رجوع المخطيء عن خطئه هو الحوار الذي يحكم على الأفكار بمقاييس الخطأ والصواب لا بمقاييس الكفر والإيمان،وفي غياب الحوار بالحجة والبرهان تنشأ الاعتقادات الخاطئة في سراديب السرية والتخفي من التشهير والمطاردة والقمع والملاحقة،فلا يتاح تصحيحها وتقويمها ،وتضفي عليها الجماهير صفات العصمة والقداسة.
إن أمتنا مرشحة في ما يأتي من السنين لتضطلع بمسؤولية “البلاغ المبين للعالمين” أو ما أصبح يعرف اصطلاحا ب”الشهود الحضاري”، والفعل المؤثر في ساحة العلاقات الدولية، وإن نجاحها في أداء تلك المسؤولية على الوجه الصحيح يتوقف على وحدة صفها، فقد أفادتنا دروس التاريخ أن لا خطر يخشى على المسلمين من العدو الخارجي، وإنما الخطر يخشى عليهم أن يؤتوا من قبل أنفسهم وتفرق كلمتهم (قل هو من عند أنفسكم)، وبناء عليه فإن التحقيق في الخلاف السني الشيعي يحتاج إلى الوضوح والصراحة في إبراز مواطن وموارد الخلاف الجوهرية والرئيسية،وإلى المعالجة المتأنية دون الانفعالات الآنية بسبب ما يجري في العراق من استقواء مذهب بالمحتل،وتعرض آخر لتطهير “مذهبي”،أو بسبب ما يصدر عن شخص عاق وسفيه ومعتوه من سب لأمهات المومنين وانتقاص لقدرهن، ويحتاج أيضا إلى التدقيق العلمي الأكاديمي الممحص.وفي غياب إنجاز هاته الخطوات يظل الحديث عن الوحدة والتقدم محلقا في أجواء العواطف والمجاملات والخيال، ويحتاج إلى مواجهة الانحرافات والتحريفات التي استفحلت نتيجة النزاع المذهبي الذي تكاد نيرانه تلفح من وراء قراطيس التراث السياسي والكلامي والفقهي للشيعة وأهل السنة.
سيحاول الكاتب – معتمدا على الله- أن يجيب عبر مقالات متتابعة عن جملة من الأسئلة والإشكالات التي لها صلة:
- بتشكلات المذاهب وتطورها واستقرارها على مبانيها الكلامية والفقهية والسياسية
- بالخلاف السياسي الذي استحكم قرونا مديدة حول مناط انعقاد الإمامة أو الخلافة:النص أو الاختيار
- بعدد الخلفاء أو الأئمة الذين استجمعوا شرائط الخلافة الكاملة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم،وبحقيقة تسميتي:مدرسة أهل البيت ومدرسة الخلفاء
- بتصحيح الانحرافات والتحريفات التي وقعت ،ومناقشتها في سياقات النقل والعقل والعواطف
ولا أنفع في طرق الإشكالات المذكورة من اتباع مقاربة وثائقية تنبني على النصوص المستلة من أمهات المصادر والمراجع المعتمدة عند كل من السنة والشيعة،واجتناب التعميم الذي يُؤاخِذ الكثرة بجرائر القلة،والتبسيط المخل بمقتضيات التحقيق والدقة والعمق،كل ذلك بتبين تاريخي وشرعي وعقلاني ومنهاجي.
- كاتب وباحث أكاديمي- المغرب
اترك رد