افتتح المشرع الجزائري سلسلة إصداراته للقوانين الجزائرية للسنة الجارية (2016) بالقانون رقم 16 – 01، مؤرخ في 06 مارس 2016، الذي يتضمن التعديل الدستوري، هذا الأخير الذي يزال يصنع الجدل بين الموالاة والمعارضة، ويُثير مزيدا من النقاش بين طبقة السياسيين والقانونيين والحقوقيين…وغيرهم، وإن كان الأمر قد حسم وانتهى. وما طرحه مؤخرا بعض المتحاملين على قانون الأسرة الجزائري من إشكال بشأن مخالفته لأحكام الدستور، يبعث على الاهتمام ويُثير كثيرا من الكلام.
بحسب طرح هؤلاء نتساءل: هل فعلا قانون الأسرة الجزائري الحالي (قانون 84 – 11 المعدّل والمتمّم بالأمر 05 – 02) يتعارض مع أحكام الدستور الجزائري المعدّل مؤخرّا ؟، وأين موضع التعارض ؟
قبل الإجابة على هذا التساؤل، نُشير إلى ما يلي:
1- الهيئة المختصة بمراقبة مطابقة القوانين لأحكام الدستور:
يُباشر المجلس الدستوري رقابة سياسية (دستورية) قبلية على القوانين قبل بدء سريانها طبقا لنص المادة 182/ فقرة 1: “المجلس الدستوري هيئة مستقلة تكلّف بالسّهر على احترام الدّستور”.
أيضا يُباشر رقابة بعدية إذا تمّ إخطاره بمخالفة القانون من الجهات المختصة بإخطاره دستورا طبقا للمادة 187 من الدستور أو عن طريق إخطاره بالدفع بعدم الدستورية طبقا لنص المادة 188/ فقرة 1.
2- الهدف من رقابة المجلس الدستوري على القوانين:
إن غاية رقابة المجلس الدستوري التحقق من مطابقة قوانين الجمهورية لأحكام الدستور عملا بمبدأ دستورية القوانين، طبقا للمادة 186/ فقرتان 1 و 2: “بالإضافة إلى الاختصاصات الأخرى التي خوّلتها إيّاه صراحة أحكام أخرى في الدستور، يفصل المجلس الدستوري برأي في دستورية المعاهدات والقوانين والتنظيمات.
يُبدي المجلس الدستوري، بعد أن يُخطره رئيس الجمهورية، رأيه وجوبا في دستورية القوانين العضوية بعد أن يُصادق عليها البرلمان”.
3- الأثر القانوني المترتب عن تعارض القوانين مع أحكام الدستور:
من حيث أن المجلس الدستوري هو الهيئة المكلفة بضمان احترام القوانين لأحكام الدستور؛ فإنّ أيّا من قوانين الجمهورية يتعارض مع أحكام الدستور؛ يشملها الحكم بعدم الدستورية الذي يُصدره المجلس الدستوري في صورة رأيٍ أو قرار ٍطبقا لنص المادة 186/ فقرتان 1 و 2 والمادة 189/ فقرتان 1 و 2.
تفقد النصوص القانونية أثرها إذا ارتأى المجلس الدستوري عدم دستوريتها، ابتداء من يوم صدور قرار المجلس طبقا لنص الفقرتين الأولى والثانية من المادة 191: “إذا ارتأى اﻟﻤﺠلس الدّستوريّ أنّ نصّا تشريعيّا أو تنظيميّا غير دستوريّ، يفقد هذا النّصّ أثره، ابتداء من يوم قرار اﻟﻤﺠلس .
إذا اعتبر نص تشريعي ما غير دستوري على أساس المادة 188 أعلاه، فإن هذا النص يفقد أثره ابتداء من اليوم الذي يحدّده قرار اﻟﻤﺠلس الدستوري”.
4- طبيعة آراء وقرارات المجلس الدستوري:
طبقا لنص المادة 191/ فقرة 1؛ فإن المجلس الدستوري في خصوص القوانين والنصوص التي يُخطَر بمخالفتها لأحكام الدستور؛ يُصدر آراءه وقراراته مشمولة بخاصيتين:
الخاصية الأولى: النهائية: أي لا تقبل آراءه وقراراته المراجعة والتعقيب بأيّ شكل من أشكالها.
الخاصية الثانية: الإلزام: يتعيّن على جميع السلطات العمومبة والسلطات الإدارية والقضائية الإلتزام بهذه الآراء والقرارات.
وقد جاء النص على ذلك بالقول: “تكون آراء اﻟﻤﺠلس الدستوري وقراراته نهائية وملزمة لجميع السلطات العمومية والسلطات الإدارية والقضائية”.
على ضوء ما تقدم، لو صحّ القول بمعارضة قانون الأسرة لأحكام الدستور الجزائري الحالي؛ فإنّ الأمر يتطلب إخطار المجلس الدستوري حتى يبتّ فيه. وقد حدّدت المادة 187/ فقرتان 1 و 2 من الدستور الجديد الجهات المكلفة بالإخطار وهي:
رئيس الجمهورية أو رئيس مجلس الأمة أو رئيس المجلس الشعبي الوطني أو الوزير الأول أو خمسون (50) نائبا أو ثلاثون (30) عضوا من مجلس الأمة، حتى لو كان هؤلاء النواب والأعضاء من المعارضة طبقا للمادة 99 مكرّر/ فقرة 6.
كما يمكن أن يحصل إخطار المجلس بالدفع بعدم الدستورية بناء على إحالة من المحكمة العليا أو مجلس الدولة، عندما يدّعي أحد الأطراف في المحاكمة أمام جهة قضائية أن الحكم التشريعي الذي يتوقف عليه مآل النزاع ينتهك الحقوق والحريات التي يضمنها الدستور. طبقا لنص المادة 188/ فقرة 1.
ويُحدّد شروط وكيفيات هذا النوع من الإخطار بموجب قانون عضوي طبقا للفقرة الثانية من ذات المادة، في انتظار إعداد مشروعه والمصادقة عليه.
ومع تسليمنا بأن قانون الأسرة يُثير عديد الإشكالات الشرعية والقانونية؛ لكن السؤال: هل ما ادّعاه هؤلاء المعارضون لنصوصه والمتحاملون على مضامينه مُؤسَّسٌ على هذه المعطيات الدستورية المذكورة أو على معطيات واقعية أم أنه مجرّد تهريف من غير تعريف ؟
مع احترامي وتقديري لرأيهم، إلا أنني أجد أن قولهم بمعارضة قانون الأسرة لأحكام الدستور الجديد مئنّة على أنهم يهرفون بما لا يعرفون، ويُلقون الكلام على عواهنه من غير دليل وبينة. نحن مع تعديل وتصويب وترقية قانون الأسرة الجزائري في إطار مناقشة مُوسّعة، لكن شريطة أن لا يخرج به النقاش عن أحكام الشريعة الإسلامية التي تستوعب مُشكلاتنا الحياتية الشخصية والمجتمعية، ودون التسبّب في علمنة الأسرة الجزائرية وإبعادها عن تعاليم دينها الذي يضمن لها السلامة والرعاية، مع ضرورة الإفادة من الجانب القانوني والإجتماعي وكل ما له صلة بشؤون الأسرة.
بعد هذه التنبيهات، نأتي على جواب السؤال الذي طرحناه آنفا. يرى المتحاملون على قانون الأسرة الجزائري أنه يُكرّس للتمييز والفروقات بين الرجل والمرأة !!، وهذه – في رأيهم – مخالفة صريحة لأحكام الدستور ونصوصه الداعية للمساواة والعدالة بين الرجل والمرأة بلا تمييز أو تفريق نحو ما جاء في ديباجته – وهي جزء لا يتجزّأ من الدستور -: “يظلّ الشعب الجزائري متمسكا بخياراته من أجل الحدّ من الفوارق الاجتماعية”.
أيضا تمّت دسترة العدالة الإجتماعية من خلال نص المادة التاسعة/ فقرة 4 من دستور 2016: “ترقية العدالة الإجتماعية”.
أيضا مبدأ المساواة أمام القانون المنصوص عليها في المادة 29: “كل المواطنين سواسية أمام القانون. ولا يمكن أن يُتذرّع بأي تمييز يعود سببه إلى المولد، أو العرق، أو الجنس، أو الرأي، أو أي شرط أو ظرف آخر، شخصي أو اجتماعي”.
وعند التدقيق، نجد أن هؤلاء المتحاملين على قانون الأسرة، القائلين بمعارضته لأحكام الدستور الجزائري المعدّل مؤخرا؛ إنما يقصدون تحديدا معارضته لنص المادة 31 مكرّر 2 المستحدثة، والتي جاءت تعزيزا لمبدأ المساواة بين الرجل والمرأة بالمناصفة بينهما في سوق الشغل، وترقية حقها في تولي المناصب المؤسساتية والإدارية.
وقد جاء النص على ذلك بالقول: “تعمل الدولة على ترقية التناصف بين الرجال والنساء في سوق التشغيل. تشجع الدولة ترقية المرأة في مناصب المسؤولية في الهيئات والإدارات العمومية وعلى مستوى المؤسسات”.
والسؤال: أين وجه الربط بين نص المادة 31/ مكرّر 2 وبين دعوى مخالفة قانون الأسرة لأحكام الدستور الجزائري ؟!، وهل أن قانون الأسرة مثلا يحظر شغل المرأة ويُقصيها من ولوج سوق العمل فضلا على أنْ يحظر حقها في ذلك مناصفة مع أخيها الرجل ؟!
من الغرابة بما كان أن نتقوّل على المشرع القانوني وندعي مخالفته للمؤسس الدستوري من غير تدليل. عجيب أمر هؤلاء النوكى الذين يتحاملون على قانون الأسرة بإثارة مطاعن لا دليل عليها سوى محاولاتهم اليائسة والبائسة نسف كل ما يتصل بالشريعة الإسلامية، حربا للشريعة نفسها، ودعواتهم المستمرة إلى تغريب (وتمدين) المجتمع الأُسَرِي الجزائري من خلال تحكيم القوانين المدنية بدلا من القانون الإسلامي (يقصدون قانون الأحوال الشخصية).
في الحقيقة لست أجد في قانون الأسرة الجزائري نصا صريحا يُخالف أحكام الدستور الجزائري الحالي أو الدساتير التي سبقته؛ على العكس أقرّ للزوجة بعض الإمتيازات والحقوق نحو: حقها في ذمة مالية مستقلة شأنها شأن الزوج (المادة 37/ فقرة 1) إضافة إلى ذمتها المشتركة معه (المادة 37/ فقرة 2)، مع التزام هذا الأخير بواجب النفقة كحق متعيّن في ذمة الزوج يبذله وجوبا لزوجته (المادة 74)، ولا تسقط النفقة عن الزوج بأيّ حال من الأحوال، إلا إنْ حال دون ذلك مانع شرعي أو قام مُسقط من مُسقطاتها المعتبرة شرعا وقانونا.
ثم إن المرأة تحظى اليوم بامتيازات حمائية خاصة ما يتعلق بحقها في إنهاء العلاقة الزوجية من طرف واحد عن طريق الخلع، ودون اشتراط موافقة الزوج كما نصت على ذلك المادة 54/ فقرة 1، مع أن لنا رؤية أخرى مغايرة، بالنظر إلى عدّة اعتبارات شرعية كنت قد نبّهت إلى جانبٍ منها في مقالي: “قانون الأسرة وإشكالية المرجعية الدينية في الجزائر”، المنشور على جريدة الخبر اليومي، العدد 8088، الصادر بتاريخ الجمعة 11 مارس 2015.
من جهتي أرى جازما أن المتقوّلين على قانون الأسرة، القائلين بمعارضته لأحكام الدستور الجديد فعلا هم يهرفون بما لا يعرفون، وأن غايتهم التشكيك في أحكام الشريعة الإسلامية وامتهانها والتقليل من قيمتها التشريعية، وإثارة شبهات أسلافهم بأن الشريعة الإسلامية لا يصلُحُ تطبيقها في كلّ زمان ومكان، وإنِ ادّعوا غير ذلك.
إن قانون الأسرة بالنسبة لهم لا يُقيم العدل والمساواة بين الرجل والمرأة في المسائل المالية المرتبطة بالميراث، وهم يعلمون علم اليقين أنها مُقدّرات شرعية قطعية لا مجال للاجتهاد فيها؛ لهذا نجدهم يرفعون شعار إلغاء أحكام الميراث التي يعتبرونها تمييزا للرجل عن المرأة، من حيث أنها تجعل للذكر مثل حظّ الأنثيين، مع أن هناك حالاتٍ ترث فيها المرأة دون الرجل أو أكثر منه.
أيضا مطالبهم بإلغاء الوليّ كركن من أركان عقد الزواج؛ فيحق للمرأة تزويج نفسها وإبرام عقدها بمفردها شأن بقية العقود الأخرى كعقد البيع مثلا، وهو مذهب ضعيف ومرجوح قال به الإمام أبو حنيفة النعمان رحمه الله تعالى، خلافَ مذهبِ جمهور المسلمين المفتى به في بلادنا وعموم البلاد الإسلامية الأخرى…وغيرها من المسائل الشرعية التي تضمّنها قانون الأسرة، والتي صار كلّ رويبضة يُفتي بإلغائها هكذا !!، باسم حماية حقوق الإنسان ورعاية حقوق المرأة تحديدا، اتْباعا لدعاويهم لتحرير المرأة الجزائرية من ربقة تعاليم الإسلام الذي حرّرها يوم كانت تعتبرها أقوامٌ مجرّد سقط متاع.
نعم نحن نُقرّ أن قانون الأسرة الجزائري – على غرار قوانين الأحوال الشخصية المعتمدة في أكثر البلاد العربية والإسلامية – يُعبّر عن فهوم وفتاوى الفقهاء، لكن مع الأخذ بعين الاعتبار أن فتاويهم وفهومهم لا تنطلق عن هوى ولا تستند إليه أبدا، بل تستند إلى الأدلة الشرعية الصحيحة؛ إذْ عليها مدار العمل بالفتوى والإخبار الشرعي المقنّن في صورة قانون الأسرة وغيره، مع أن قانون الأسرة الجزائري في بعض أحكامه قد شذّ عن هذا المنهج الصحيح، ونحن ندعو إلى ضرورة مراجعته وإعادة النظر فيه.
لو أن هؤلاء القوم انتقدوا طرفا من مضامين قانون الأسرة لسلّمنا لهم الأمر بأن هذا القانون – كما أشرت آنفا – يحتاج إلى مزيدٍ من المراجعة، لكن دون المساس ببعده وإطاره الشرعي، ودون إفراغه من مضامينه المستمدة من الشريعة الإسلامية والمستندة إلى أحكامها، لكن أن يُسوّقوا لفكرة عدم دستوريته لمخالفته أحكام الدستور؛ فهذا تقوّل لا يستند إلى دليل صحيح وصريح، ويبقى تجنّيًا غايته ومنتهاه التشنيع على قانون الأسرة وتشويه مضامينه والتقليل من أهميتها، معلومةٌ مآربُ ومرامي وخلفيات ومُنطلقات وقناعات قائليه.
كتبه في الجزائر العاصمة المحروسة ليلة الثلاثاء 6 جمادى الثانية 1437 هجرية، الموافق لــ 15 مارس 2016 ميلادية.
اترك رد