في مثل هذا اليوم، الخميس 19 شعبان 1413 هـ موافق 11 فبراير 1993 م، لبى نداء ربه ومولاه، سيدي العلامة المجتهد الصوفي سيدي عبد الله بن الصديق الغماري الإدريسي الحسني،
عاش زاهدا، ومات شامخا مرفوع الرأس.
عاش بالعلم ومع العلم، وبقي مع العلم وأهله حتى شيعه جمع غفير من المحبين، تتقدمهم ثلة من العلماء.
منحه الله هبات ربانية، ومنحا صمدانية، منها أنه رُزق التحقيق في العلم، ولم يكن مقلدا كما هي عادة علماء عصره….
رُزق الموسوعية في العلم، فكان متمكنا من علم الفقه والحديث والأصول والمنطق والنحو والتفسير والعقيدة والتصوف ….
رُزق الجرأة في العلم، فلم يكن يهاب أحدا، لذا أعلن عن آرائه ولو خالفت المذاهب الأربعة كلها، مع ما في هذا الاجتهاد من مغامرة علمية ذاق ويلاتها كثير من المجتهدين عبر التاريخ…
أثنى عليه العلماء المنصفون، من أمثال علامة مكة ومفخرتها، سيدي محمد علوي مالكي، ووصفه بمحدث المغرب بل محدث الدنيا، وناهيك بها شهادة…. كما أثنى عليه محمد عوامة والدكتور عبد الفتاح أبو غدة وغيرهما.
تلقى العلم بالقرويين وبالأزهر، فهو من علماء هذين الصرحين العظيمين…
درّس العلم حسبة لله في الزاوية الصديقية بطنجة، وفي الأزهر الشريف،
ألف المصنفات والرسائل في بيته، وفي زنزانة سجن جمال عبد الناصر بمصر…
ألف وكتب سفرا وحضرا… من ذلك ما فتح الله عليه في قضية نسخ التلاوة، حيث كتب فيها ابتداء بمدينة دبي ونشر مقاله في مجلة منار الإسلام وتوسع في ذلك بعد العودة.
من مؤلفاته رحمه الله :
- ذوق الحلاوة ببيان امتناع نسخ التلاوة، أبدع فيه إبداعا، واختلف مع جمهور الأصوليين الذين يقولون بنسخ الرسم والتلاوة،
- استمداد العون، لإثبات كفر فرعون.،
- التوقي والاستنزاه عن خطأ البناني في معنى الإله،، رد به على علماء المنطق الذين مثلوا للإله بالكلي الذي وجد منه في فرد وامتنع غيره، وبيّن في الرسالة أن الإله علَم خاص بالله تعالى وليس بكلي.
- الإعلام بأن التصوف من شريعة الإسلام، أصّل فيه لمباحث التصوف من القرآن والسنة.
- تمام المنة ببيان الخصال الموجبة للجنة، ذكر فيه أربعين خصلة من الخصال الموجبة للجنة، وضم إليها ما في معناها من الآيات القرآنية، وهو من مؤلفاته في السجن.
- إتقان الصنعة في تحقيق معنى البدعة، أصّل فيه لتقسيم الجمهور.
- الصبح السافر في تحقيق صلاة المسافر، والرأي القويم في وجوب إتمام المسافر خلف المقيم… رسالتان غاية في النفاسة في الفقه المقارن، ناظر فيهما ابن حزم وابن تيمية وابن القيم وغيرهم من القائلين بوجوب قصر صلاة المسافر.
- النفحة الذكية في أن الهجر بدعة شركية، خالف جمهور العلماء من المذاهب الأربعة القائلين بهجر المبتدع، فبيّن خطأهم، وأن الصواب هو عدم جواز الهجر لأكثر من ثلاثة أيام.
- تشييد المباني، لتوضيح ما حوته الآجرومية من الحقائق والمعاني… أول مؤلفاته، ألفه وهو دون سن العشرين.
- جواهر البيان في تناسب سور القرآن.
- بدع التفاسير، هو والذي قبله من مؤلفاته في السجن
وله مؤلفات أخرى رحمه الله.
كان عف اللسان، حسن الأخلاق، لين المعاشرة، برا بوالديه، مكثرا من ذكرهما، برا بأخيه وشيخه الأكبر أبي الفيض، مكثرا من ذكره مثنيا على علمه. رغم اختلافهما في مباحث علمية.
أثرى الخزانة الإسلامية بمصنفاته، وبمصنفات غيره التي عمل على نشرها وإخراجها من عالم المخطوطات إلى عالم المطبوعات، بعد مراجعتها وتصحيحها، وأحيانا بعد التعليق عليها، ومنها ما كان من النوادر كرسالة ابن الصلاح في وصل بلاغات الموطا، قال عنه الأستاذ عبد الرحمن الكتاني وهو ممن يعرف قيمة الشيخ ومكانته : “وأذكر هنا فائدة متعلقة بالبلاغات الأربعة التي ذكر الحافظ ابن الصلاح رحمه الله تعالى أنه وصلها في رسالة خاصة، وهذه الرسالة كانت من قبيل النوادر، وقد عثر عليها أخيرا العلامة المحدث الشيخ عبد الله بن الصديق الغماري الحسني فطبعها وعلق عليها تعليقات مفيدة، ومن أجل ذلك فهي الآن موجودة بين أيدي الناس”
شرفني الله تعالى بأن حضر عقيقتي، كما حضر إلى بيت سيدي الوالد مرات أخر،، تشرفنا به وتبركنا …
كما تشرفت بزيارته في بيته مرتين أو ثلاثا، آخرها كانت سنتين قبل وفاته، وجالسته رفقة سيدي الوالد والحاج محمد عدة رحمه الله ثاني عيد الفطر، وكان يصب لنا الشاي بيده، حال بيني وبين شرب الشاي التأمل في بيته وبساطته، وفي خزانة كتبه خارج الغرفة، وفي شهادتيه المثبتتين على جدار الغرفة، ولا زلت أتذكر إحداهما عليها توقيع الملك فاروق…. إضافة إلى محاولة تتبعي للحوار بينه وبين الوالد ورفيقه… ففاجأني بدعابته قدس الله سره الأنور قائلا : لماذا لا تشرب الشاي ؟ أما زلت صائما….
في ذلك اليوم سأله والدي عن شقيقه سيدي عبد العزيز الذي تم توقيفه عن الخطبة بسبب مواقفه من حرب الخليج، وتعرض والدي باللوم لوزير الأوقاف، فقال لنا الشيخ، إن التوقيف كان بأمر الملك، لأنه قال في الخطبة إن الملك فهد مجرم حرب، وهو السبب في جلب الأساطيل الأمريكية إلى المنطقة …..
كانت له مواقف مشهودة، حيث وقع بيانات منددة بالسياسات الإمبريالية التي تقودها أمريكا والدول العربية، وكان يوقع تلك البيانات رفقة شقيقه السيد عبد الحي والسيد عبد العزيز والدكتور إدريس الكتاني والدكتور أحمد الريسوني وغيرهم.
تتلمذ له العديد من العلماء والباحثين، منهم السيد عبادي الأمين العام لجماعة العدل والإحسان، واستجازه الأستاذ عبد السلام ياسين مرشد الجماعة رحمه الله، وتلقى عنه في بعض الجلسات الدكتور أحمد الريسوني قيادي حركة التوحيد والإصلاح، وكانت تربطه علاقة صداقة بحسن البنا مرشد ومؤسس الإخوان المسلمين، وكان يلقي محاضرات في جمعية الأستاذة زينب الغزالي رحمها الله تعالى …. كانت له علاقات وطيدة مع عموم الإسلاميين،
أكرمني الله تعالى بأن أنجزت بحثا لنيل شهادة الدكتوراه في موضوع: “الاجتهاد الفقهي عند الحافظ عبد الله بن الصديق الغماري”، فأفدت منه ولله الحمد، وأنا أعد تعرفي عليه والبحث في تراثه من نعم الله علي، فلله الحمد في البدء والختام.
رحمه الله تعالى،
أعلى الله مقامه
رفع الله درجته
نور الله ضريحه
أسكنه الله الفردوس الأعلى
اللهم شفع فيه نبيك صلى الله عليه وسلم
اللهم اجعل قبره روضة من رياض الجنة
اللهم اجعل كل معلومة بلغها لعبادك سببا للقرب منك والدنو من حضرتك.
اللهم اجعل كل مؤلفاته وسيلة إلى نيل مرضاتك.
اللهم اجعل ما ابتلي به من سجن وأذى في ميزان حسناته.
الله كما لم يفارق حديث النبي صلى الله عليه وآله في الدنيا فلا تفارق بينهما في الآخرة.
الله انفعنا ببركته، وارزقنا حبه، وارزقنا التأدب معه حيا وميتا،
والحمد لله رب العالمين.
اترك رد