سوسيولوجيا الثقافة -2-

تقديم كتاب: “سوسيولوجيا الثقافة” للطاهر لبيب 2/2

6- حدود مساهمة سوسيولوجية المعرفة:

طبيعة العلاقة بين المعرفة والأطر الاجتماعية، والتي يرجع فضل التنبه إلى وجودها لأغلب الذين ساهموا بسوسيولوجية المعرفة، ظلت سطحية على مستوى التحليل، أو غامضة على صعيد الاعتبارات الفلسفية التقييمية المرتبطة بموقف دغاعي عن الحضارة الغربية والنظام الرأسمالي.

فماكس فيبر[1] مثلا، ظلت دراساته التاريخية تجمع بين تطور الديانات في شقها الروحي أساساً، وبين المعطيات الاقتصادية الاجتماعية، ذاهباً في هذا الجمع إلى درجة تفسير النظام الاقتصادي بعوامل روحانية أساساً، تفسيرٍ بقي أقرب إلى المثالية، وأفضى علمياًَ إلى أولية الفكر بالنسبة للمادة من جهة، وظل من جهة ثانية حبيس اعتبارات غير ثلبتة علمياً، من قبيل تقرير خصوصية للعالم الغربي تتمثل في “عقلنة” فريدة من نوعها يتميز بها عن العالم الشرقي، وهي نتاج خصائص وراثية بيولوجية جعلتها ممكنة.

أما إميل دوركهايم[2]، وعلى الرغم من تنبهه إلى العلاقة الوثيقة في كل فترة بين الأفكار المجردة لفكرتي الزمان والمكان بالبنية الاجتماعية المناسبة، فإنه لا يلبث أن يسقط في “روحانية مفرطة”، معتبراً التصورات الجماعيةَ جوهراً للحياة الاجتماعية، والدينَ أقدمَ الظواهر الاجتماعية كعوامل توحيد بين الناس، عكساً للاقتصاد الذي يبقى خارج الضمير الجماعي.

وتظل أعمال كارل مانهايم[3] إحدى المحاولات التي ألحت على الترابط الوظيفي بين المعرفة والأطر الاجتماعية. فهي تميز بين نوعين من نمط التفكير يرتبطان بمعطيات الوسط الاجتماعي: الأيديولوجيا أولاً بما هي جملة الأفكار المنسجمة مع الوجود والدافعة نحو المحافظة عليه، سواء كانت “خاصة” بالذاتية الفردية أو “شاملة” لجماعة تاريخية ملموسة. و”الطوباوية” ثانياً باعتبارها جملة الأفكار المعبرة عن تتوقات نحو المستقبل، والتي تحاول تغيير نظام موجود لا تنسجم وإياه. ولكن الأصناف الاجتماعية التي حددها مانهايم لهذه الطوباوية “مائعة” في أكثرها، كما أن الاعتبارات التقييمية حالت دون الربط التحليلي بين المعرفة والمعطيات الموضوعية للبنى الاجتماعية الاقتصادية، حيلولةً “مقصودة” في بعض الأعمال أوجبت على المثقفين “التحرر من الروابط الاجتماعية” لـ”يسبحوا بحرية” متعالية على آراء المجتمع المحدَّدَة مسبقاً.

وتأتي أخيراً تلك المساهمة التي خصصها غيرفيتش[4] لسوسيولوجيا المعرفة، وإن اكتنفها الغموض المنافي للوضوح العلمي، وبقيت طموحاً نظرياً واسعاً ظل مجرد مشروع. غير أن إضافته النوعية تمثلت في إدخال اعتبارات منهجية أساسية على تعريف هذا الحقل. فسوسيولوجية المعرفة عنده هي دراسة الترابطات الوظيفية التي يمكن إيجادها أولاً في تراتب مختلف أنواع المعرفة (سبعة أصناف) وأشكالها (خمس حالات من التقابل) وأنظمتها الداخلية (التوازي بين بعض الأنواع وبعض الأشكال)، وثانياً في العلاقة بين المعرفة والأطر الاجتماعية بما هي عناصر ميكرو اجتماعية.

7- عناصر لتعريف سوسيولوجية الثقافة:

يقدم الكاتب هنا تعريفاً “مقتضَباً لسوسيولوجية الثقافة مصدَّراً بعبارة “إيجازاً”[5]، والتي تُلخص تبريرَه الاضطرارَ إلى تهميش بعض التيارات أو الأعمال ذات الصلة عند اعتماد معايير معينة لتحديد عناصر لتعريف سوسيولوجية الثقافة. يقول التعريف: تحليل طبيعة العلاقة الموجودة بين أنماط الانتاج الفكري ومعطيات البنية الاجتماعية وتحديد وظائف هذا الإنتاج في المجتمعات ذات التركيب التنضيدي أو الطبقي. وهو تعريف يتضمن أربعة اعتبارات:

1- عبارة “أنماط الإنتاج الفكري” واضحة الدلالة على وجود أنماط مختلفة من الثقافة قد تتناقض مضموناً ووظيفةً في المجتمع الواحد أولاً، وعلى الانعدام العملي للتجانس الثقافي بالمعنييْن الفلسفي والأنثروبولوجي ثانياً. فلا توجود موضوعياً في المجتمعات ذات التركيب الطبقي “ثقافةٌ للجميع”. معنى هذا أن سوسيولوجية الثقافة هي في نهاية الأمر سوسيولوجية تَبايُنٍ في الثقافة وعدمِ مساواة في المجال الثقافي.

2- الاكتفاء بالحديث عن المجتمعات المنضدة أو الطبقية هو على سبيل المثال لا الحصر. هو تأكيد من التعريف على تعبير الإنتاج الفكري عن مرحلة تمايز بين الأصناف الاجتماعية والاقتصادية. وعليه، فإن المجتمعات “البدائية” التي قصُرَت فيها أنماط الإنتاج الفكري عن بلوغ درجة كافية من التمايز تسمح بتصنيف ما، هي المجتمعات الوحيدة المستبعَدة من الحقل السوسيولوجي. الأمر الذي يفسر الصعوبة التي واجهت المشتغلين على هذا النوع من المجتمعات إبستمولوجياً ومنهجياً.

3- إثبات العلاقة بين الإنتاج الفكري والواقع الاجتماعي غيرُ ذي بال من وجهة نظر تحليلية. المهم هو تحليل أشكال هذه العلاقة في مرحلة معينة لمجتمع معين، تحليلاً أغنى المناقشات المتعلقة بالروابط الموجودة بين البنيتين التحتية والفوقية، مناقشات رسّخَت فكرةَ التبادل الديالكتيكي القائم بينهما، ومكنَت في آن واحد، بفضل المساهمة المتطورة لسوسيولوجية الأدب والفن في هذا الإطار، من تجاوز التصور الميكانيكي والمثالية و”الاقتصادوية”، فلم يعد مثلاً من معنى للتسليم بمبدأ “الانعكاس” المعتمَد لدى الطريقة الكلاسيكية المعهودة، والباحثة باستمرار عن علاقة مباشرة بين “مضمون” النص والواقع.

4- إبراز الوظيفة الاجتماعية السياسية التي يحوِّل لأجلها إنتاجٌ فكري معطياتِ الواقع، أهمُّ من مجرد تحديد الكيفية التحويلية ذاتها. فالأدوار التي يؤديها مثقفون لصالح أصناف أو طبقات معينة، عن وعي أو عن غير وعي لا فرق، هي من جهةٍ وظيفةٌ أساسية، وبُعدٌ من أبعاد العلاقة يستحيل تفسيرُ ظهور حدث فكري بدونها، وهي من جهة ثانية تحُل سوسيولوجياً مسألة “استقلالية” القيم الفكرية الجمالية، باكتشاف وظيفةٍ لاستمرارية هذه القيم أو لبعثها في ظروف تاريخية محددة.

8- نظرية البنى الفوقية:

التعريف في اعتباراته الأربعة على الأقل، والمتميزُ عرضاً واحترازاً ونقداً، يجعل من سوسيولوجية الثقافة مساهمةً في نظرية البنى الفوقية.

ويجعل –في اهتمامه الأول- من ضرورة الربط بين معطيات البنى الفوقية ومعطيات البنى التحتية، وتحليلِ طبيعة العلاقة بين البنيتين في فترة تاريخية معينة، المبدأَ القارَّ، ولكن في إطار الوحدة الموجودة بين المستويين، والتي تعني استحالةَ تفسيرٍ ذي حد أدنى من الدلالة السوسيولوجية لمعطيات البنى الفوقية في ذلك الإنتاج الثقافي دون إرجاعها إلى معطيات الواقع الاجتماعي.

كما يجعل-في اهتمامه الثاني- من الوظيفة التي تؤديها الفئات المثقفة المنتجة للفكر في علاقتها بالأصناف والطبقات الاجتماعية بما في ذلك السلطة أو الطبقة الحاكمة، موضوعاً لعضوية هذه العلاقة أو الوحدة بين البنيتين.

اهتمامان أساسيان، باعتبارهما منطلقاً نظرياً للتحليل السوسيو ثقافي، اكتفى الكاتبُ بخصوص أوّلِهما بمثالي ماركس وإنجلز اللذيْن فتحا مجالاً للتنظير في هذا الباب، وركز في شأن ثانيهما على المكانة الفريدة التي أكسبها هذا الاهتمامُ للمفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي أولِ منظر ماركسي للبنى الفوقية.

9- الوحدة بين البنية التحتية والبنية الفوقية:

وبخصوص كارل ماركس وإنجلز، يكتفي الكاتب بمقطع من تقديم كتاب كارل ماركس “مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي“، تضَمَّن عبارات نموذجيةً لأقصى تعبير عن توجيه المعطيات المادية للظواهر الفكرية. عبارات كثيراً ما فُهمت مع غيرها على أنها تحديدية اقتصادية، وأساس المادية التاريخية أو/و الديالكتيكية. ودعّم الكاتبُ ملاحظتَه حول الكثرة الكاثرة من التعاليق التي تُرجِع الماركسية إلى نوع من “الاقتصادوية” بنص كروتشي[6] الإيطالي، معروفٍ ونموذجي في تصلبه، أورده غرامشي في “رسائل السجن”، مما استدعى من الكاتب تحرير أربعة توضيحات، جلُّها إنجلْزِية، لرفع بعض الالتباسات التي تثيرها بعض الاعتبارات الشائعة حول المادية التاريخية أو/و الديالكتيكية:

1- كليةُ التصور الماركسي للتاريخ والفاعلِ التاريخي تقيه سيطرةَ العوامل الاقتصادية في تفسير التاريخ، إلى درجة أن “تهمة” “شطر وحدة الواقع” تبدو عمليةً غريبة تصوُّراً ومنهجياً عن التحليل الماركسي.

2- “الوجود الاجتماعي” كمحدد ماركسي للوعي، يتمنَّع عن حصره في الميدان الاقتصادي أو المادي بالمعنى الضيق المتداول، كما أن للاقتصاد مضموناً ووظيفة نفسية اجتماعية تفصح عنها تعاريف مختلفة كتعريف الرأسمال نفسه. بل حتى السلعة، تكشفت في التحليل الماركسي، وبعبارته، أنها «شيء معقد جداً، ومملوء بملابسات ميتافيزيقية وتَمَحَّك ديني»، فإنتاج العمل يكتسي طابع اللغز حامل يتحول إلى سلعة. يضاف إلى ذلك السعةُ غيرُ المتوقَّعة أحياناً للفظة الاقتصاد نفسها، بما يجعل من العنف والظروف الاقتصادية والجنس قوى وعواملَ اقتصاديةً.

3- الاقتصادُ بمعناه الواسع هذا، يحدِّد مختلفَ عناصر البنية الفوقية في آخر تحليل أو في نهاية الأمر عن طريق وسائط يُسْند إليها دورَ السيطرة أو التأثير المباشر. وهنا تَبرُز أهميةُ الاحتراز منهجياً في عملية الربط الميكانيكي الآلي بين معطيات البنيتين. فداخل البنية الفوقية مستوياتٌ مختلفة يتغير ترتيبها حسب “المسافات” التي تصل كلاً منها بالبنية من جهة، وببقية المستويات من جهة ثانية، وتحدِّد درجة الارتباط الذي قد يُكسِب بعضَ المستويات نوعاً من “الاستقلالية” بالنسبة للبنية من جهة ثالثة.

4- لا دليل يدعم فكرة العلاقة ذات الاتجاه الوحيد بين البنيتين. وتأكيداً للتفاعل المتبادَل، ورفضاً لفكرة العامل “الوحيد” المستوهَمَةِ من إبراز سيطرة العامل الاقتصادي “في آخر تحليل”، ألح ماركس وإنجلز على تأثير البنى الفوقية في البنية الاجتماعية الاقتصادية. بل إن إنجلز ذهب إلى أن جعْلَ الاقتصاد «جملةً فارغة مجرَّدة عابثة»، هو النتيجةُ المنتظَرَة من هذا التشويه. وأدلُّ مثال على صحة التفاعل المتبادَل، هو تأثير الأشكال الأيديولوجية على القاعدة الاقتصادية. وقد دَعّمتْ دراساتٌ ماركسية لاحقة مكانةَ الأيديولوجيا في علاقتها الديالكتيكية بالبنية، فجعل غرامشي من الصراع الأيديولوجي بعداً أساسياً في التغيير الاجتماعي حوَّل مركزَ الثقل في التحليل الماركسي إلى البنية الفوقية. ثم إن ماركس نفسه كان يرى أن «الأفكار تتحول إلى قوة مادية عندما تعتنقها الجماهير».

وإثر هذه الجولة الدقيقة مع التوضيحات الأربعة، طرح الكاتب تساؤلاً صميمياً يستفهم عن الغياب التام، عند مؤسسي الماركسية، لتحليل أشكال تأثير الظواهر الفكرية أو الأيديولوجية في مستوى البنية التحتية، تأثيراً بلغ درجةَ تدَخُّلِها في توجيه التاريخ؟ صحيح أن إنجلز صاغ إجابة على شكل تبرير استراتيجي يُنيط الم سؤوليةَ بالمواجهة التي ألزمَتْهم إثباتَ هذا المبدأ الأساسي الذي كان ينفيه خصومُهم، ولكن الاعتراف في حد ذاته بأنه وماركس لم يتمكنا من الاهتمام الكافي بالعوامل الفكرية كمؤثر في مجرى التاريخ، وبأن بهذا الفراغ كان وراء إعطاء الشبابِ الجانبَ الاقتصاديَّ وزناً أكبر مما يستحق، هو أهمُّ ما حملتْه هذه الإجابة.

لذا فإن التطبيقات الخاصة لظواهر البنى الفوقية، والمستنِدة إلى أن الظواهر الأيديولوجية تُفْهَم بما لها من تأصُّل غيرِ مباشر في الأوضاع المادية للوجود الاجتماعي، ستكون فيما بعد اهتمامات أساسية لكثير من المفكرين: غرامشي ولوكاتش وغولدمان وغيرهم.

10- المثقفون في «الكتلة التاريخية»:

إن استحضار الإنتاج الفكري لفئة اجتماعية تلعب أدواراً تاريخية في ارتباطها بأصناف اجتماعية محددة، هو ما يزيد العلاقة بين هذا الإنتاج والبنية الاجتماعية الاقتصادية وضوحاً. ومساهمة غرامشي هنا بارزة، سواء في توضيح العلاقة المعقدة بين البنيتين، أو في الأهمية التي يسندها للإيديولوجية بمعناها الواسع، أو في الدور الخاص الذي ينيطه بالمثقفين الذين يمثلون أهم وسيلة اتصال وتوطيد بين مستويات البنيتين.

مفهوم الكتلة التاريخية، التي يمكن أن يؤدي تفككها في فترات «الأزمة العضوية» إلى خلق كتلة تاريخية جديدة، هو الذي يعبر عند غرامشي عن الوحدة الديالكتيكية بين البنيتين.

والبنى الفوقية عنده تركيب معقد بمستوويه:

1- “المجتمع المدني” بما هو قطاع تعمل فيه الأيديولوجيا كتصور للعالم يغطي فروعاً مختلفة، كالعلم والقانون والأدب والفن، تحاول الطبقة المسيطرة نشره في الأصناف الاجتماعية المختلفة قصد المحافظة على التجانس الأيديولوجي وتدعيمه.

2- “المجتمع السياسي” بما هو سيطرة قيادية مباشرة، بواسطة الإكراه، مجسَّدة بالمضمون الضيق للمفهوم في الدولة أو الحكومة السياسية. والمجتمعان يرتبط أحدُهما بالآخر ارتباطاً عضوياً، بل يتقاطع ميدانهما بدرجات متفاوتة حسب الأوضاع التاريخية. وتتحقق الروابط العضوية بين البنيتين عن طريق فئة “المثقفين” الذين تسند إليهم طبقة أساسية حاكمة أو صاعدة مهمة صياغة الأيديولوجيا ونشرها.

11- المثقفون والطبقات الاجتماعية:

الوظيفة الاجتماعية المباشرة التي يمارسها المثقفون، والتي تُكسبهم بفعل نشاطهم الفكري مكانةً ووظيفة اجتماعية معينة تاريخياً، هي التي تُعَرفهم، سيان في ذلك “كبار المثقفين” والكتاب والفنانون والمعلمون والأطباء والسياسيون والإداريون أو غيرهم من ذوي النشاط الفكري.

غير أن المثقف “المبدع” الذي يصوغ الأيديولوجية “أوزن” من “المنظم” الذي يقنع بإدارة أو نشر هذه الأيديولوجية. وهكذا إلى أن نصل إلى عديمي المبادرة ممن ينحصر عملهم في التنفيد.

المثقفون كفئة لا كأفراد، يتكونون بصورة تدريجية أبطأ بكثير من أي فئة اجتماعية أخرى. وهم لا يشكلون “طبقة” في حد ذاتهم، بل هم “فئات” مرتبطة بإحدى الطبقات الأساسية -أي المستولية على السلطة والقائدة للطبقات الأخرى- في إطار أشكال معقدة متنوعة أبرز غرامشي من بينها شكلان هامان: «المثقف العضوي»، مثقف الكتلة التاريخية الجديدة، و«المثقف التقليدي»، مثقف الكتلة التاريخية السابقة. فكل ميلاد لطبقة اجتماعية على أرضية وظيفة أساسية في عالم الإنتاج الاقتصادي، يحمل معه بالتزامن ميلادَ شرائح من المثقفين يزودونها بتجانسها وبوعيها لوظيفتها الخاصة اقتصدياً وسياسياً واجتماعياً.

ولكن، ليست كل الطبقات الاجتماعية قادرة على خلق مثقفيها العضويين، ولا كل الطبقات التي تخلق مثقفين عضويين تتيح لهم الوظائف نفسها.

فالطبقة السائدة أكثر إنتاجاً واستقطاباً، وأوسع إسناداً للوظائف لمثقفيها العضويين. مثقفين يمكن أن يصبحوا تقليديين في كتلة تاريخية بروليتارية لاحقاً.

والبروليتاريا تنتج مثقفين في مستوى الهيمنة السياسية الأيديولوجية. وهي لا تخلق مثقفين تقليديين بحكم “صعودها”.

أما طبقة الفلاحين، فهي في هذا الإطار من العقم والعجز بحيث لا تنتجهم ولا تستوعبهم، بل تكون هي مجالاً لاستمداد عدد كبير من مثقفيها من طرف طبقات اجتماعية أخرى. وأقصى حالات الإنتاج عند هذه الطبقة، هي إنتاج مثقفين تقليديين بامتياز، ينحصر ارتباطُهم العضوي بالطبقة الحاكمة وكبار مالكي الأراضي، وليس بالفلاحين.

ينتقل الكاتب رأساً في الفقرة الموالية إلى عرض مفهومين، يوضح أولُهما (=الفاعل الجماعي) علاقةَ المثقف بالطبقات الاجتماعية، ويرسم ثانيهما (تاريخ الفكر واستقلاليته النسبية) حدودَ التحليل السوسيولوجي التي كثيراً ما كانت موضوعَ سوء تفاهم ومشاكل خاطئة.

12- الفاعل الجماعي:

ارتباط المنتج للخلق الثقافي بأحد القوى الاجتماعية التي يعبِّر عنها بطريقة أو بأخرى هو ما يجعله في نهاية التحليل “فاعلاً جماعياً”. وهو مفهوم ذو بعد إجرائي يتدخل لتفسير وتحليل ربط معطيات البنية الداخلية للظواهر وظيفياً بسياقها التاريخي الاجتماعي، على اعتبار أن الأحداث الاجتماعية نتاجُ الفاعل الاجتماعي الذي لا يعني مجرد مجموعة من الأفراد، بل الطبقات الاجتماعية التي تكوِّن البنيةَ التحتية لرؤية العالم. والسؤال المحوري هنا هو: لمَ يرتبط الخلق الثقافي بمجموعة اجتماعية معينة عوض ارتباطه بالفرد الذي أنتجه؟

المعطيات الفردية المحيطة بالإنتاج حقيقة لا يمكن نفيها، غير أنها لا تكفي لتفسيره كنمط من التعبير وكظاهرة تاريخية في الوقت نفسه. كما لا نفي لإمكانية بلورة الفاعل الجماعي لرؤية فردية، ولا لدفاعه عن موقف فردي، ولكنها “فردانية” قد تكون نتيجة لتصور جماعي يعبر عنه كاتب أو فنان. من هذه الواجهة يكون الكاتب “الكبير” هو ذلك الشخص المتميز في مجموعته التي ينتمي إليها بقدرته على خلق عالم فني منسجم يتناسب بنيوياً وسيرورةَ تجربة هذه المجموعة. هو يتفاعل مع بنية عقلية ولا يخلقها، لعجز تجربته الشخصية القصيرة جداً والمحدودة جداً عن هذا الخلق.

أما الفعل الاجتماعي فيمكن أن يكون عملاً فردياً، لكن ليس بمقدور هذا الفاعل تغييرُ الواقع الاجتماعي لوحده، وبالتالي عليه أن يوحد جهوده مع باقي الأطراف الاجتماعية.

ذلك أن تجربة شخص واحد قصيرة جداً ومحدودة للغاية، وبالتالي لا تستطيع خلق بنية عقلية من هذا النوع دون أن تكون نتيجةَ نشاطٍ مشترَك لعدد هام من الأفراد يوجَدون في وضع متشابه. فالبنى المقولية ذات الدلالة ليست ظواهر فردية بل جماعية.

13- تاريخ الفكر واستقلاليته النسبية:

ربط الإنتاج الفكري بقاعدته المادية التاريخية ربطاً دياليكتيكياً أفضى إلى تاريخية الظواهر الفكرية، وبالتالي إلى نقد فكرة التاريخ المستقل لهذه الظواهر. فهل ينفي هذا أية استقلالية تسمح لأنماط الإنتاج الفكري بالاستمرارية التاريخية إذا تغيرت بنيتها الاجتماعية؟

للإجابة يَرجع الكاتبُ إلى ميدان الفن بمعناه الواسع، مستهلاً بثلاث إشارات تُبرز عدم التناقض بين جانبي التاريخية والاستمرارية:

1- الترابط العام بين أنماط التعبير الفني ذات الأهمية والمراحل التاريخية الأساسية.

2- وجود استقلالية نسبية كنتيجة لتدخل الوسائط، ولخصوصية البنية الفوقية الداخلية للفن.

3- وذلك ما يضمن لبعض أنماط الفن نوعاً من الاستمرارية غير المستقلة عن التاريخ بعد صياغتها.

فلِلفنِّ تاريخٌ باعتبار حدوده الزمنية، تم فيها الانتقال من مرحلة إلى مرحلة، وهكذا. وهذه التاريخية قائمة على علاقةِ تَناسُبٍ بين تطور أنماط التعبير الفني والمراحل التاريخية الأساسية للمجتمعات المنتجة لهذه الأنماط. فبداية الفن ذاتها كانت تعبيراً عن صلة الإنسان بالقوى الطبيعية وبالجماعة وبالواقع. وعلى هذا الأساس ارتبطت بعض الأنشطة الفنية في بدايتها بالسحر كمحاولة للسيطرة على المجهول، وهو ما يثبت أن الفن كان ضرورة أوجدتها مجتمعات كانت تصارع من أجل البقاء.

والأمر نفسه يقال عن ظهور البلاغة في الغرب، والمرتبط تاريخياً بمحاكمات حول ملكية الأرض عَبَّأت لجاناً شعبية كبيرة كان من الضروري لإقناعها أن يكون المتكلم بليغاً ومتفنناً في الكلام دفاعاً عن ممتلكاته لا حباً في التفنن.

وهكذا أقامت دراسات كثيرة الدليل على هذا الترابط، بالغةً في ذلك حد التدليل على أن نمطاً فنياً معيناً لم يكن ليظهر عملياً قبل ظهور نمط معين من الإنتاج، وأنه يضمحل أو يتطور بنيوياً ووظيفياً بظهور نمط آخر من الإنتاج. وعلى غرار ذلك حاول غولدمان أن يبين انطلاقاً من فكرة لوكاتش حول “البطل الإشكالي” أن الشكل الروائي هو تحويل على المستوى الأدبي للحياة اليومية في المجتمع الفرداني الذي تولد عن الإنتاج من أجل السوق.

ولا يحُد من عموميات التحليل سوسيولوجياً سوى:

أ- تحديد الباحث مختلفَ أنماط الإنتاج المتواجدة وتراتبها وشكل التركيبة التي تربط بينها.

ب-تحديده مختلفَ مستويات البنى الفوقية وتراتبها.

وبناءً على خصوصية التركيبتين وطريقة تمفصلهما، يمكنه تحديدُ خصوصية اللحظة التاريخية المعينة، وبالتالي تحديدُ وظيفة الإنتاج الثقافي الذي يدرسه فيها.

لقد شغلت الاستقلاليةُ النسبية لقطاعات البنى الفوقية، والتي تختلف درجتها حسب وضع كل قطاع في كل لحظة تاريخية، بالَ الماركسيين، إلى الحد الذي دفع بعضَهم إلى “الاعتراف” الضروري بأن الفن لا يكون فناً ولا الأدبَ أدباً إن لم يكن للإنتاج الثقافي الفني تاريخٌ مستقل، أي انفصالٌ تام عن تاريخ علاقات الإنتاج. فمن الصعب إرجاع خصوصية الفن هذه -خاصةً وأن له بنيتُه وقوانينُه الداخلية المتميزة- إلى واقع يوجَد كلُّه خارجاً عنها وكأنها مجرد “انعكاس” له.

ولكن الصعوبة التي أقر بها ماركس نفسه، هي كيف استمر الفنُّ عبر العصور والأنظمةِ الاجتماعية مَصْدراً للمتعة الجمالية رغم ارتباطه تاريخياً بمجال الإنتاج غيرَ منفصل عن مصالح الطبقات؟

الإجابة الماركسية أناطت بالقدرة على صياغة “نموذج” من نماذج الإنسان والمواقف الإنسانية “سِرَّ” استمرار فن من الفنون، وجعلتْ من الإغريق شعباً ينتمي إلى الطفولة التي سبقت عمرها، ونموذجاً للطفولة السوية. إجابة تؤكد أن ارتباط الفن تاريخياً بوضع معين لا يعني أن تأثيره لا يتجاوز هذا الوضع.

والكاتب لم يكتف بهذه الإضاءة الماركسية العامة، بل استدرك عليها بإضافات أساسية، منها:

– الأيديولوجية الطبقية نفسها تنتشر في طبقات غير التي صاغتها ابتداءً، بل قد تصير أيديولوجية جزء كبير من الإنسانية.

– الفن لا يكون بالضرورة “منحطاً” لأن عصره “عصر انحطاط”، فقد يكون عظيماً لتعبيره النموذجي عن العلاقات السائدة في ذلك العصر.

– استمرارية الفن تتم في ظروف تاريخية محددة تحتاج إلى وظيفته طبقةٌ حاكمة أو صاعدة أو حتى في طريق الزوال، ولولا هذا الارتباط بالتاريخ المادي لكان لكل الفنون في كل زمان ومكان نفسُ الحظ في الاستمرار.

– تاريخية الفن لا تتعارض مع التباعد الممكن زمنياً بينه وبين بنية المجتمع الذي أنتجه، ولا مع استمراريته أو تحديثه وظيفياً في ظروف مغايرة لظروفه الأولية.

ثم انبرى الكاتب إلى سؤال ثان ذي صلة، هو: ماذ يستمر من الفن؟ مقدماً ملاحظةً عامة تقول: إن الفن يستمر بقدر ما يعبر تعبيراً نموذجياً عن الوضع الذي أنتجه، لا بسموه “فوق” وضعه الخاص، بل باكتشافه وصياغته ما هو أساسي في خصوصية هذا الوضع من أنماط السلوك أو الرؤى والعلاقات. ثم أعقب الملاحظةَ بمفهوم لوكاتشي يقترب من هذه الفكرة، مفهوم الواقعية باعتبارها بناءً تأليفياً للمشكلات الرئيسية لواقع موضوعي معروف بشكل فني، أي بصياغة تتجاوز ما هو أكثر يوميةً في الحياة اليومية، إلى تصوير حالات نادرة والاقتراب بالتالي من الوضع المتطرف (شخصية دون كيشوت نموذجاً).

هي إذن عوامل تضمن للنموذج حداً من الاستمرار، إذ تجعله متفتحاً على مستقبل يفسره تفسيرات مختلفة، لتجد فيه أصناف من الناس صدى لأوضاعهم ومشاكلهم الأنثولوجية.

خاتمة:

لقد وفق هذا الكتاب إلى حد كبير في إبراز نوعية المساهمة السوسيولوجية في الميدان الثقافي بالنسبة لمراحل أنثروبولوجية وسوسيو معرفية سابقة، وخصوصاً في محورة إشكالية الكتاب حول اعتبار منهجي أساسي هو: لا تفسر الظواهر الثقافية أو الأيديولوجية بصفة عامة إلا في إطار علاقتها بالمعطيات الموضوعية لصيرورة المجتمعات.

ويظل السؤال مشروعاً عن مكانة الأعمال العربية من هذه المساهمة. وقد تعمد العرض عدم الإجابة عن السؤال، لا تقليلاً من هذه الأعمال، ولكن لأن الإجابة تتطلب عملاً تأليفياً مستقلاً متعمقاً يتجاوز الأحكام المتسرعة التي تبخس المجهود الفكري العربي حقه، خاصة مع تزايد الاهتمام العربي بالتحليل السوسيولوجي للظواهر الفكرية، ومع وجود جهد علمي يُبذَل في فهم الواقع العربي.


[1]: (1864 – 1920).

[2]: (1858 – 1917).

[3]: (1893 – 1947).

[4]: (1894 – 1965).

[5] ص 24.

[6]: (1866 – 1952).


نشر منذ

في

,

من طرف

الآراء

اترك رد