دائما في إطار التعريف بأهمية تكريس المؤسسة المرجعية الدينية في الجزائر التي نأمل أن ترى النور قريبا، فتكون مفخرة لجميع الجزائريين، ومأمنًا للأجيال القادمة من أن تحيق بهم مخاطر ومضارّ الأفكار والمذاهب والأيديولوجيات الوافدة، وسعيا منا لترقية أداء المرجعية الدينية واستثمار مؤسساتها في قابل الأيام أو الأعوام؛ إرتأيت من خلال هذا المقال التنبيه إلى أهميتها في تمكين الدولة شعبا وحكومة من مواجهة أزماتها السياسية والإقتصادية والأمنية، وإدارتها بكل اقتدار بمعية مؤسسات الدول الأخرى.
إن المرجعية الدينية ليست شعارا تتباهى به أمم الإسلام وتفتخر به فحسب، وإنما هي هيئة علمية مؤسساتية متخصصة، على قدرٍ عالٍ من الكفاءة في رعاية شؤون المجتمع وحمايته من صروف الواقع وغِيَرِهِ وتقلّباته وأزماته، من المهم توظيفها في مواجهة ما ينزل بالدول والأمم من نوازل ويعتريها من مشاكل تتطلّب الحلّ المناسب والعاجل.
الأزمة الأمنية..والمرجعية الدينية المؤسساتية الغائبة
لقد كان لبعض علمائنا ونخبنا وقفات باهرة وإسهمات معتبرة في تصحيح المفاهيم الخاطئة في عزّ الأزمة الأمنية، التي أدخلت الجزائر في دوامة الإرهاب طيلة عشرية كاملة تقريبا، والتي حادت بمفهوم التغيير السياسي والإجتماعي عن مسلكه الصحيح المعتبر شرعا، وعندما أقول التغيير فإني أقصد به مفهومه العام وهو: “العمل على تبديل ما فسُد من الأحوالِ والأوضاعِ، واستبدالها بأحوالٍ وأوضاعٍ أخرى أنفعَ للعباد وأصلحَ للبلاد، وفق مقتضيات أحكام الشريعة الإسلامية، بتعريف ما عرّفته وأمرت به، وإنكار ما أنكرته ونهت عنه”.
لقد كان لمجهودات هؤلاء الغيارى الأخيار أثرٌ إيجابي في تراجع العديد من أتباع الجماعات الإسلامية المتطرّفة عن منهج التغيير بحمل السلاح، حتى على فرض أن لهم تصورات ومُنطلقات ومُبرّرات سياسية وربما شرعية، لكن منهج التكفير والتكسير جلب مفاسد ودرأ مصالح، وهنا أعتقد جازما أن الأزمة الأمنية وموجة الإرهاب التي روّعتنا طيلة عشرية تسعينيات القرن الماضي، مع جميع إرهاصاتها وسياقاتها لها أسبابها السياسية المعروفة.
لكنّ غياب مرجعية دينية مؤسساتية رصينة خبيرة بما حصل وجرى على أرض الواقع، كان يمكنه أن يُسهم في وأد التطرّف الديني مع ظهور أولى بوادره، أو على الأقلّ حسره وحصره مع أقلّ الأضرار، حتى يُعرف الخيط الأبيض من الخيط الأسود، ولا يختلط الحابل بالنابل فيضيع الحق مع الباطل، ويُفقد صحيح الأثر ويقع الخطر والضرر، ودون انتظار ورود فتاوى علماء آخرين من خارج البلد (الجزائر)، لا ننكر أن فتاويهم كان لها أثرٌ نافعٌ في حصولِ مراجعاتٍ وتراجعاتٍ من حاملي السّلاح على إخوانهم.
الأزمة الاقتصادية..سياسة التقشف..وغياب المرجعية الدينية المؤسساتية يستمرّ
إن الأزمة الاقتصادية لسنة 2008، ثم أزمة تدني أسعار النفط التي شهدتها الدول المنتجة لهذه الطاقة الحيوبة والإستراتيجية منذ 2014، كان تأثيرها جليّا على الاقتصاد الوطني، وأهل الخبرة الاقتصادية يُدركون ذلك، خاصة الأزمة النفطية الأخيرة التي عرّت الاقتصاد الوطني، وكشفت مرّة أخرى عن خطورة اعتماد الاقتصاد على النفط دون البحث عن مصادر أخرى والعمل على التنويع فيها، واستشراف مرحلة ما بعد النفط.
أذكر أن كريستينا كولونتاي في محاضراتها الأربعة عشرة عن تحرير المرأة – ونحن نخالفها في مفهوم التحرّر الذي طرحته -، أذكر أنها ذكرت أن الزراعة من أقدم النشاطات التي عرفتها الإنسانية – قبل الصناعة -، وهذا تُصدّقه شواهد التاريخ، وشخصيا أرى أن الرجوع إلى هذا النشاط بات أمرا ضروريا لا مناص منه ولا عدول عنه، مع الإعتماد على مصادر أخرى كالطاقة البديلة التي تزخر بها بلادنا.
إن سياسة التقشّف التي نخشى أن تطالَ جيوب الجزائريين وهذا ما نراه يحصل تدريجيا، من خلال خفض الإنفاق الذي غالبًا ما يكون بتقليص الخدمات العمومية، في مقابل الزيادة في الضرائب، يُراجع فيها خبراء الإقتصاد – ولست منهم – الذين يُدركون جيدا مخاطر التقشف على المستوى المعيشي للمواطن، لكن يُمكن أيضا مراجعة الهيئة العلمية المؤسساتية للمرجعية الدينية، والإفادة من الموقف الشرعي في مثل هذه السياسات التي قد تعود بالخطر والضرر على المواطنين، خاصة على ذوي الدخل المتوسّط والضعيف.
أعتقد أن المواطن عندما يُدرك أن بعض السياسات التي تُقرّها الدولة لمواجهة أزماتها، ظاهرها العذاب والمضرّة، ربما يُنسيه ذلك أن باطنها فيه الرحمة والمنفعة، فيكون في مثل هذه الحالات من المهم مراجعة العلماء والفقهاء، ومُطالعة الموقف الشرعي الذي يكون أثره بردا وسلاما على المواطن.
لا أريد أن يُفهم من كلامنا أننا نُقحم الدين في السياسة بالمفهوم السياسوي الذي يعزف على وتره بعض السياسيين، وهي الشبهة التي كثيرا ما يرمون بها كلّ من يُثير مسائل السياسة برؤية شرعية، حتى لم يسلم منها من يُثيرها في إطار البحث العلمي الشرعي المتاح أكاديميا، والمرعيِّ رسميا. وعلى أيّة حالٍ لا مانع شرعًا وسياسةً وعقلا ونقلا من ذلك؛ ففي رأينا ومذهبنا وموقفنا وقناعتنا: الدين نفسه شريعةٌ وسياسةٌ.
ذكر أبو الوفاء، عليّ بن عقيل الحنبلي: أن السياسة ما كان فعلا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإنْ لم يضعه الرسول صلى الله عليه و سلم ولا نزل به وحي، وردّ على أبي عبد الله، محمد بن إدريس الشافعي قوله: بأنه لا سياسة إلا ما وافق الشرع؛ حيث قال: “فإنْ أردت بقولك إلا ما وافق الشرع أيْ لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيح، وإنْ أردت لا سياسة إلا ما نطق به الشرع فغلط وتغليط…”.
فوجب أن ننتبه لهذا الفرق البيّن؛ فطالما أن سياسة الدولة لا تخالف الشريعة الإسلامية، فلا تنقض أصلا من أصولها فتُحلّ حراما وتُحرّم حلالا، أو تُخالف روح الشريعة الإسلامية فتهدم مقصدا من مقاصدها أو تُلغي مصلحة مُعتبرة شرعا مثلا؛ فهي سياسة شرعية رشيدة وعادلة نُثمّنها ونشدّ عليها ونعضّ عليها بالنواجذ حتى نبلغ مأمننا أو نهلك دونها.
وعلى ذكر السياسة الشرعية وما يتصّل بها من قضاءٍ شرعيّ، ألّف علماؤنا النَّحَارِيرُ الأَقْحَاحُ الأَفْنَانُ من السّادة المالكية وغيرهم تواليفَ وتصانيفَ سارت بها الرُّكْبَانِ وصار يُشار إليها بالبَنَانِ نحو: تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام للعلامة المالكي لابن فرحون اليعمري (ت 799 هـ)، معين الحكام على القضايا والأحكام لابن عبد الرفيع التونسي المالكي (ت 733 هـ)، معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام، للعلامة الحنفي علاء الدين علي بن خليل الطرابلسي (ت 844 هـ)، السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، لشيخ الإسلام ابن تيمية الحرّاني (ت 261 هـ)، الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، لابن قيم الجوزية (ت 751 هـ)، غياث الأمم في التياث الظلم أو الغيّاثي للعلامة الشافعي، إمام الحرمين، أبو المعالي، عبد الملك الجويني (ت 478 هـ)…وغيرها كثير.
لا أريد أن أكون مع أو ضدّ سياسة التقشّف فقد مضت فيها الدولة وانتهى الأمر، لكن بخصوصها وبغيرها أريد التنبيه إلى أهمية الإفادة من التراث الفقهي بتنظيراته وتطبيقاته، وإسقاطها على واقعنا والحرص على إصلاحه، وتخطّي أزماته بكل نجاح، وبطبيعة الحال مع مراجعة خبراء الاقتصاد المقتدرين. وهنا تجدر الإشارة إلى أن نيل ثقة الشعب يُعدّ عاملا مهما حتى تبلغ الدولة بسياساتها مُبتغاها ومُناها.
عندما يرى المواطن مسؤوليه وأولياء أموره قد نالوا حظا من الأزمة، واستشعروا شيئا من حرمانها وما تجلبه من ضيقٍ وحرجٍ، فيستفرغَ الواحد منهم جيبه طواعيةً يُشارك المواطنين آلامهم وفق مُقتضيات العدل السياسي والاجتماعي الراشد، وأن هذا صار سياسةً مُنتهجةً من مسؤولي الدولة، ولا غَرْوَ هو تدبيرٌ رشيدٌ في إدارة الحكم؛ فإن هذا المواطن قطعا سيتفاعل إيجابيا مع سياسة التقشف، ويتقبّلها بقبول حسنٍ، فالناس على دين ملوكهم إنْ أحسنوا أحسنوا، وإن أساؤوا أساؤوا. وكما قال الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه “لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لأَخَذْتُ فُضُولَ الأَغْنِيَاءِ، فَقَسَمْتُهَا فِي فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ”.
ولكن..هل يُمكن أن يتنازل ذوي الهيئة من مسؤولينا – مع مراعاة الفارق بينهم وبين أيٍّ من المواطنين العاديين – عن شطر معتبر ٍ أو كافٍ أو مُحترمٍ من رواتبهم وعِلاواتهم..، أو يستغنوا عن بعض الامتيازات المادية والمعيشية الممنوحة لهم باعتبار مناصبهم ووظائفهم السامية…، لقاء إنجاح سياسة التقشّف دون حصول مخاطر ومضارّ على المواطن البائس ؟!..أتساءل !!
قالوا..
عن حسن تدبير سياسة مواجهة الأزمات، وتوظيف أموال المؤسرين والأعنياء توظيفا صحيحا: “لو استفزّت بالمسلمين داهية ووقع – والعياذ بالله – حرم في ناحية لاضطررنا في دفع البأس إلى نفض أكياس الناس”. من كلام إمام الحرمين الجويني في غيّاثه (غيّاث الأمم في التياث الظُلَم)؛ أيْ إن منطق العدل وهو أساس الملك والحكم، يقتضي مواجهة الأزمات من خلال توظيف الدولة لأموال الموسرين (أصحاب المال) قبل أموال غيرهم، بما تراه مناسبا لمواجهة الأزمة وتجاوز مخاطرها أو كلّ بحسب قدره، وهي مسألة غاية في الأهمية إذْ لا يُمكن أن يُعامل الناس في ذلك معاملة واحدة، فأصحاب المال أولى الناس بتوظيف أموالهم، يستوي في ذلك أن يكون مجال توظيف هذه الأموال لإخراج الاقتصاد من دحض أزمته، أو دعما للأمن القومي (الوطني)، من خلال تحصين الثغور وحماية الحدود، أو تقوية الجند، أو استثمارها في مشاريع تنموية واقتصادية…
في سياق متصّل، لا مانع شرعا من أن يتدخل ولي الأمر (رئيس الدولة) بسياسته الرشيدة التي تبعث على ارتياح رعيته والتفافهم حوله، من أن يُلزم الأغنياء منهم على الإسهام في الإنفاق العام من أجل تعزيزٍ أمثل لمشاريع الدولة التنموية والاقتصادية والاجتماعية، كما هو الشأن بالنسبة للوضع الراهن في بلدنا، وهو المفتى به عند العلماء قاطبة فيما أحفظ وأعلم، وهو المخرّج على قول أئمتنا من السادة المالكية وغيرهم…والله تعالى أعلى وأعلم؛ لأن المالكية أجازوا أن تُصرف الأموال في نوازل المسلمين كفداء الأسرى والدفاع عن البلاد ضد العدو الداهم لها…وغيرها وإن استغرق الأمر أموالهم، وإن تطلّب ذلك أيضا صرف الزكاة إليها التي حلّ أجل وجوب إخراجها كما نقل ذلك القرطبي في تفسيره (الجامع لأحكام القرآن)، ونقله غيره أيضا.
وعلى أيّة حال، يستمرّ حديثنا عن المرجعية الدينية المؤسساتية في انتظار تجسيدها.
د/ عبد المنعم نعيمي.
كلية الحقوق- جامعة الجزائر 1.
كتبه في الجزائر العاصمة المحروسة، يوم الأحد 10 جمادى الثانية 1437 هجرية، الموافق لــ 20 مارس 2016 ميلادية.
راجعه يوم السبت 6 رمضان 1437 هجرية، الموافق لــ 11 يونيو 2016 ميلادية.
اترك رد