تمهيد
إن منظومة التكافل الاجتماعي التي دعا إليها ديننا الحنيف لم تعنى بالمسلمين المنتمين لديار الإسلام فحسب وإنما جاءت شاملة لبني الإنسان قاطبة دون تمييز بين لونه وشكله وعرقه أو ديانته ومعتقده، فهي قبل أن تكون منظومة إسلامية كانت منظومة إنسانية شاملة تتسع دائرتها لتشمل سائر البشر صغيرهم وكبيرهم،قويهم وضعيفهم، مؤمنهم وكافرهم،فعلاقة المسلم بغيره ليست علاقة قتال وتنافر وحرب كما يحلو للبعض أن يصفها دائما، وإنما تربط بين المسلم وغير المسلم علاقة إنسانية بشرية تجعلهم مشتركين في أمورشتى تستوجب عليهم التعامل معها وفق ضوابط إنسانية مشتركة، والمسلم مطالب أن يتعامل مع غيره كإنسان أولا وقبل كل شيء ويتعايش معه بعيدا عن التعصب الديني أو العرقي أو الجنسي ليجسد عالمية وتسامح الرسالة السماوية، وقد بينت الشريعة الإسلامية السمحة طريقة معاملة الناس ودعت في العديد من المناسبات إلى التعامل مع الإنسان وفق إنسانيته وآدميته بغض النظر عن انتمائه ومعتقده، قال الله تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾(الممتحنة: 8) لقد أسست هذه الآية الكريمة ركائز تكافل إنساني مشترك يهدف إلى تحقيق مصالح الناس ودفع المفاسد عنهم لإقامة مجتمع يتعاون أفراده فيما اتفقوا عليه ويعذر بعظهم بعضا فيما اختلفوا فيه. قال الإمام القرافي وهو يذكر صور البر التي أمر الله تعالى المسلم تجاه غيره من أهل الديانات الأخرى قال: ” ولين القول على سبيل اللطف لهم والرحمة، لا على سبيل الخوف والذلة، واحتمال إذايتهم في الجوار مع القدرة على إزالته، لطفاً منا بهم، لا خوفاً وتعظيماً، والدعاء لهم بالهداية، وأن يجعلوا من أهل السعادة، نصيحتهم في جميع أمور دينهم، وحفظ غيبتهم إذا تعرض أحد لأذيتهم … “.[i]
هذا وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ظلم أهل الذمة والمعاهدين والمستأمنين من غير المسلمين بل سيكون النبي صلى الله عليه وسلم حجيج من ظلمهم يوم القيامة، قال صلى الله عليه وسلم: «ألا من ظلم معاهدا أو انتقصه حقه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة»[ii]، وحرم النبي صلى الله عليه وسلم دماءهم وشدد الوعيد لمن فعل ذلك حين قال: «من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها يوجد من مسيرة أربعين عاما» [iii]
التكافل مع الآخر في عهد عمر بن عبد العزيز
لم تتميز حضارة من الحضارات ولا شريعة من الشرائع بما تميز به الإسلام بمبادئه وتشريعاته التي جسدت أرقى صور السمو الحضاري والرقي الاجتماعي ويتجلى ذلك من خلال الكفالةَ الاجتماعية التي ضمنها ديننا الحنيف لغير المسلمين في حالات عَجزهم وضعفهم، ويشهد لنا التاريخ بذلك ففي خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه كتب خالد بن الوليد في عقد الذمة لأهل الحيرة بالعراق وكانوا من النصارى: “وجعلت لهم أيما شيخ ضعف عن العمل، أو أصابته آفة من الآفات أو كان غنيا فافتقر وصار أهل دينه يتصدقون عليه طرحت جزيته وعيل من بيت مال المسلمين هو وعياله “[iv]
فقد اهتم الخلفاء بعد النبي صلى الله عليه وسلم اهتماما بالغا بالتكافل الاجتماعي خاصة مع أهل الذمة من أجل بناء مجتمع مشترك يتعاون فيه الجميع، مجتمع يتصف بصفات الإخاء والإحسان، مجتمع يُغاث فيه المكروب والملهوف والمحتاج، سواء كان ذلك المحتاج مسلمًا أم غير مسلم، عملاً بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيرًا على منهج الإسلام في التكافل والإغاثةوإذا ما عدنا قليلا إلى الوراء وتصفحنا كتب التاريخ التي أرّخت لتراثنا وحضارتنا الإسلامية نجد العديد من الشواهد والأدلة التي رسخت ثقافة التعايش والتسامح مع الآخر، بل نجد بعض المواقف التي تجاوزت حد التسامح والتعايش إلى ما هو أرقى منه وأجل، ويتجلى ذلك في تعامل الخليفة الخامس حفيد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه في سيرته مع أهل الكتاب ومواقفه التي تجسد أرقى أنواع التعايش والتسامح مع الآخر، وسيرا على سنة النبي الكريم وعلى سنة أسلافه الميامين التزم الخليفة عمر بن عبد العزيز مع أهل الكتاب بالوفاء بالعهود والمواثيق التي كانت تجمع بينه وبينهم، فبالرغم من أنهم يختلفون معه في الدين والمعتقد وتفرقهم الأخوة الدينية إلا أنهم يشتركون في الوطن وتجمعه الأخوة الإنسانية.
اترك رد