د. رشيد لخضر: باحث في الدراسات الإسلامية جامعة القاضي عياض
لمّا كان دين الإسلام موجها للناس جميعا، فقد وافق أن يكون اتباع المنهج الوسطي المعتدل في الدعوة إليه هو الأسلم للتعبير عن عالمية الدين، وأنه غير مقتصر على جنس مُعيّن من البشر، أو مخصوص بمكان محدد، فهو للناس كافة، ونبيه أُرسل للعالمين، قال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ }سبأ: 28}، وقال سبحانه: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ }الأنبياء: 107}.
ولمّا كانت الدعوة إلى دين الله تعالى من أعظم المهمّات وأجلّها بُعث من أجل القيام بها صفوة الخلق وهم الأنبياء والرسل ـ عليه الصلاة والسلام ـ، قال تعالى: (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (النساء: 165}.
والدعاة حينما يقومون بمهمة الدعوة إلى الله تعالى ودينه الحق، فهم سائرون على منهج الأنبياء والرسل على أفضل السلام، ومشاركون لهم فيما بُعثوا من أجله، فكانوا هم بحق أتباعه، وحملة رسالته، وأصحاب دعوته، والسالكين في سبيله كما قال عنهم في كتابه الكريم: (قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) {يوسف: 108{.
ولذلك كان مما أوضحه دين الإسلام ورغّب فيه، هو عدم اقتصار المسلم على صلاح نفسه، بل جعل من الواجب عليه دعوة غيره إلى الخير وإرشاده إليه، كما أعطى له أجرا كبيرا، لا سيَّما إذا هدى الله على يد الداعية أحدًا من الناس، يدل على ذلك ما ورد في الحديث النبوي أن رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – قال لعلي – رضي الله عنه – لما أعطاه الراية يوم خيبر: “أنفذ على رسلك؛ حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فو الله لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا، خير لك من حُمر النعم” .
وممّا أوضحه دين الإسلام ودعا إلى اتباعه المنهج الوسطي في دعوة الناس، ومن معالم وسطية هذا المنهج نذكر ما يلي:
ـ لا إكراه فيه ولا تشديد
وذلك بأن يعرف الداعية إلى الله تعالى أن مهمته هي الدعوة والبلاغ فقط، وأنه هداية الناس بيد الله سبحانه، يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، وهذا هو الذي حدَّه الله – عز وجل – لرسوله – صلى الله عليه وآله وسلم -: (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ) {الشورى: 48}، وقال في آية أخرى: (وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) {العنكبوت : 18} هذا هو حد الداعي، أما الهداية فهي من الله – عز وجل -: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ){القصص: 56}.
وأن يعلم الداعية أيضا أن مسألة الإيمان أو الكفر هو متروك لاختيار الإنسان، قال تعالى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ) {سورة البقرة: 256{، وقال سبحانه: (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) {سورة هود: 118{.
ـ وضوح الطريق
طريق الداعية إلى الله واضحة كل الوضوح، يعرف أن مهمته هي حث العباد والأخذ بأيديهم للوصول بهم إلى ربهم، وهذا يقتضي منه أن يتسلح بسلاح العلم والحكمة، وهو ما سماه الحق سبحانه بالبصيرة، قال تعالى: (قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) {يوسف: 108{.
وبذلك تكون هذه الدعوة مستقلة بتصوراتها ونظرتها نحو التغيير المنشود، ومتميزة بامتلاكها معالم الطريق القويم لتمكين هذا الدين، وعودة شريعة رب العالمين.
ـ الحكمة ولين الخطاب
رسول الإسلام دعا الناس جميعا، منهم من استجاب له، ومنهم من أعرض عنه، ومنهم من تعرض له بالإيذاء والسخرية، لكنه صلى الله عليه وسلم صبر واحتسب لربه فكان الخير والفضل على يديه لأمته والبشرية كافة، وكان سبيله في ذلك كله ومنطلقه أمره عز وجل: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) {سورة النحل: 125{.
فخطاب الداعية يتميز بالحكمة ولين القول، كما وجه الله تعالى موسى وهارون إلى الرفق واللّين عندما بُعثا إلى فرعون، قال تعالى: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) {طه:44{.
ولا شك أن كسب قلوب الناس أولى من كسب مواقفهم، والداعية حينما يستنير بمثل هذه القواعد والمرتكزات سيكون لدعوته أثر طيب، وتأثير نافع ومحبوب، يقول سيد قطب رحمه الله: “على هذه الأسس يرسي القرآن الكريم قواعد الدعوة ومبادئها، ويعين وسائلها وطرائقها، ويرسم المنهج للرسول الكريم – صلى الله عليه وآله وسلم -، وللدعاة من بعده بدينه القويم، فلننظر في دستور الدعوة الذي شرعه الله في هذا القرآن، والدعوة بالحكمة، والنظر في أحوال المخاطبين وظروفهم، فلا تستبد به الحماسة والاندفاع والغيرة؛ فيتجاوز الحكمة في هذا كله، وفي سواه، وبالموعظة الحسنة التي تدخل إلى القلوب برفق، وتتعمق المشاعر بلطف، لا بالزجر والتأنيب في غير موجب، ولا بفضح الأخطاء التي قد تقع عن جهل أو حسن نية، فإن الرفق في الموعظة كثيراً ما يهدي القلوب الشاردة، ويؤلف القلوب النافرة، ويأتي بخير من الزجر والتأنيب والتوبيخ، وبالجدل بالتي هي أحسن بلا تحامل على المخالف، ولا ترذيل له وتقبيح، حتى يطمئن إلى الداعي، ويشعر أن ليس هدفه هو الغلبة في الجدل، ولكن الإقناع والوصول إلى الحق، فالنفس البشرية لها كبرياؤها وعنادها، وهي لا تنزل عن الرأي الذي تدافع عنه إلا بالرفق حتى لا تشعر بالهزيمة، وسرعان ما تختلط على النفس قيمة الرأي وقيمتها هي عند الناس، فتعتبر التنازل عن الرأي تنازلاً عن هيبتها واحترامها وكيانها، والجدل بالحسنى هو الذي يطمئن من هذه الكبرياء الحساسة، ويشعر المجادل أن ذاته مصونة، وقيمته كريمة، وأن الداعي لا يقصد إلا كشف الحقيقة في ذاتها، والاهتداء إليها في سبيل الله، هذا هو منهج الدعوة ودستورها ما دام الأمر في دائرة الدعوة باللسان والجدل بالحجة” .
إن منهج الوسط في الدعوة إلى الله تعالى هو أوسط المناهج وأعدلها وأقومها، فقد حثت شريعة الإسلام على مخاطبة الناس برفق ولين، ودعت إلى دعوتهم بالحكمة والموعظة الحسنة، وأرشدت إلى التدرّج في الدعوة، وعدم استعجال قطف الثمار قبل نُضجها، كما نبّهت على مراعاة أحوال المدعوين وظروفهم، ونهت عن الضجر والسخط في حالة الصدّ عن الدعوة وعدم الاستجابة لها، وفي كل ذلك لابد من إخلاص الدعوة لله تعالى، ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، مع التمسّك بمنهج القصد والاعتدال، وترك الغلو والجفاء، والتطرف في كل جوانبه، إما إفراطا أو تفريطا
اترك رد