النزعة التشاؤمية في الفكر الغربي الحديث .. د. قاسم المحبشي

د. قاسم المحبشي: جامعة عدن، اليمن

واجه القرن التاسع عشر صدعاً فكرياً بين عقيدتين عقيدة التقدم وعقيدة التدهور، فاذا كانت فلسفة التقدم قد صورت التقدم، وكأنه قانون طبيعي ومسار تلقائي وحتمي للتاريخ فإننا نرى أن الصدع الفكري سوف يتسع منذ منتصف القرن التاسع عشر، إذ تبرز نزعتان قوتيان من التشاؤم التاريخي والتشاؤم الثقافي وتشيع فكرة الاضمحلال والتدهور وتنتقد بشدة فكرة التقدم الحتمي، في الثقافة الأوروبية والأمريكية على حد سواء.ويعبر عن التشاؤمية التاريخية بعض فلاسفة التاريخ نذكر منهم جاكوب بوركهات ورانكة, وارنولد توينبي.أما التشاؤمية الثقافية فقد وجدت هوى في قلوب عدد واسع من الفلاسفة أمثال (شوبنهاور ونيتشه وشبنجلر)، والمتشائم التاريخي يرى أن الحاضر يقوم بعملية تفكيك منظمة لمنجزات الماضي الخلاق المنظم. المؤسسات التي كانت دائما في توازن متوائم، تصبح ألان فاقدة للتزامن، والتطور الاجتماعي يصبح فوضى ودماراً، وفي الوقت نفسه، يصبح الأفراد عاجزين عن فعل أي شي لتجنب الكارثة الوشيكة وإذا لم يصلح النظام نفسه على نحو ما، فسوف يكون الاضمحلال حادثاً لا محالة، إذ يرفض رانكة فكرة التقدم الخطي أو القوانين التاريخية وكان يرى أن واجب المؤرخ هو كشف الماضي كما حدث بالفعل وان القضية الوحيدة المهمة في دراسة التاريخ ليست هي تقدم الحضارة تلك القضية الملتبسة دائما بل فهم حقيقة التاريخ الواقعية.ويرى بوركهات، “أن التقدم المادي سبب خراب الثقافة الرفيعة، وكان يقارن بين الحياة الحديثة والحياة في القرون الوسطى “حياتنا… بيزنس… حياتهم كانت حياة”, والثقافة الرفيعة والإبداع أصبح في منزلة منحطة في عالم يصبح فيه المال ويظل هو المقياس الأساس للأشياء”.بيد إن النقد الكاسح للحضارة الحديثة هو الذي جاء من اتجاه التشاؤمية الثقافية إذ يعلن شوبنهاور (1788-1860م) “ما كان يجب إن تكون الحياة هكذا” وان الهدف النهائي للإنسان العاقل في الحياة هو ما سماه “بوذا” بـ “النرفانا” أو “الخلاء” وهو انعتاق نهائي من الإرادة والرغبة التي تؤدي في النهاية إلى الانطفاء والموت. وان الفن والموسيقى تحديداً هو المنفذ الوحيد للخلاص.
ويذهب نيتشه بالتشاؤمية الثقافية إلى نتائجها القصوى إذ يعلن أن كل ماضٍ جدير بالإدانة، لان تلك هي طبيعة كل ما هو إنساني، وكان يرى إن الحياة الحديثة بقيمها الزائفة تستحق الموت لتحل محلها حضارة الإنسان الأعلى (رجال الإفتداء) “أفراد مختارون… مؤهلون للمهام الكبرى الخالدة أولئك الذين يملكون إرادة القوة، فان الحضارة كلها هي من صنع أصحاب القوة والسطوة الذين ما زالوا يمتلكون إرادة قوة لا تقهر وشهوة للسلطة، أولئك الذين انقضوا على الأجناس الأضعف”.على هذا النحو يبشر نيتشه بأخلاق البطولة والقوة والسلطة والسطوة ضد أخلاق العبيد، والتهذيب والمؤانسة والمسالمة والشفقة واليد الحنون الكريمة، والقلب الدافئ، والصبر، والمثابرة والتواضع… الأخلاق تنفي الحياة، لقد كان نيتشه يراهن على تفسخ الحضارة الحديثة حتى الإنسان الأخير حينها يبدأ عهد الحضارة النيتشوية.
إن التشاؤمية الثقافية هي الصورة النقيض للتشاؤمية التاريخية، مثلما فكرة الاضمحلال هي نقيض فكرة التقدم, المتشائم التاريخي يرى مزايا ومناقب الحضارة الحديثة واقعة تحت هجوم قوى شريرة ومدمرة، ولا نستطيع إن تتغلب عليها، التشاؤمية الثقافية تزعم أن تلك القوى هي التي تشكل عملية التحضير من البداية لدى المتشائم التاريخي القلق، لان مجتمعه على وشك إن يدمر نفسه، المتشائم الثقافي يقول إنه يستحق التدمير.المتشائم التاريخي يرى أن الكارثة بادية في الأفق والمتشائم الثقافي يتطلع إلى الكارثة اذ يعتقد بأن شيئاً ما سوف يبزغ من بين رمادها.
إن هذه المشاعر المضطربة بالخوف والقلق من التفسخ والانحلال لم تكن أضغاث أحلام بل كانت نابعة من حقيقة ما كان يعتمل في السياق التاريخي الأوروبي الحديث، وما شهده من تفكك اجتماعي وزيادة حالة الفقر وسط الجموع الواسعة من الطبقات الاجتماعية، وبنهاية القرن كانت نظرية الانحلال قد هزت كثيراً من ثقة الليبرالية الأوروبية في التقدم والمستقبل، وتركتها مكشوفة لاعدائها، وبحلول تسعينات القرن التاسع عشر، كان هناك إجماع متزايد على أن مدى من الانحلال والتدهور كان يجتاح المشهد في أوروبا الصناعية، مخلفا حالة واسعة من والاضطرابات والظواهر السلبية من بينها زيادة نسبة الفقر والجريمة والمسكرات والانحرافات الأخلاقية والعنف السياسي… الخ. هذه الارتباكات التي تنمو وتشيع في مختلف البلدان بإنحاء متشابهة، هذه المظاهر المغلقة كانت قد وجدت من يعبر عنها من المثقفين التقدميين الإنسانيين الذين كانوا يخفون نزعة تشاؤمية ويتوجسون من مخاطر الانحلال والتفسخ.وقد ظهرت الحافة السوداء القاطعة لتلك النظرة التشاؤمية أول ما ظهرت في بريطانيا عام 1869م، عندما نشر الأديب الإنجليزي “ماثيو ارنولد” (1822-1888م) كتابه “الثقافة والفوضى”، ويكتب المفكر الإيطالي “لومبروز” “الإنسان المجرم” عام 1876 وفي عام 1888 ظهر كتاب تشارلز فيري “الانحلال والجريمة”، ويرى آثر هيرمان إن وصمة الانحلال التي أخذت تشيع في أوروبا يمكن متابعتها عبر أجيال متلاحقة لتبلغ ذورتها في رواية “أميل زولا” “الانهيار الكامل” عام 1871، وينشر الأمريكي “بروكس ادمز” كتابه “الحضارة والاضمحلال” عام وبعد أربعة أعوام نشر عالم الاجتماع الفرنسي دوركايم كتابه المهم “الانتحار” عام 1897، وفي العام نفسه ظهر كتاب الفيلسوف الألماني “ماكس نوردو” (1849-1923) “الانحلال” وتتوالى الكتابات الناقدة والمنذرة بالإخطار أمثال كتاب “فرويد” عام 1929 “عسر الحضارة”، وكتاب “كارل كروس” “الأيام الأخيرة للنوع البشري” وكتاب “جرانت” “زوال الجنس العظيم” عام 1916 إلى “تدهور الحضارة الغربية” لشبنجلر، و”سقوط الحضارة” لـ “كولن ويلسون”.وربما يكون ابرز ملمح للقرن العشرين هو تلك الزيادة الهائلة في موجة التشاؤمية الثقافية في عالم الفكر والأدب والسياسة.


نشر منذ

في

من طرف

الكلمات المفاتيح:

الآراء

اترك رد