هي ذات الاستفهامات التي نلقيها دائما حول مدى مساهمة البحث العلمي في إنتاج معرفة حقيقية تطبيقية، وعن حجم الموازنات التي يتم رصدها في الغرب لبرامج البحث العلمي مقابل ما يتم رصده في جامعاتنا المحلية، كما تتكرر الشكوى من البحوث التي توضع على رفوف المكتبات الجامعية، ويستخدمها طلاب الدراسات العليا للاطلاع على الأدبيات ذات العلاقة بما يقومون به من بحوث وسردها سردا تقريرا يقنع المشرف ولجنة المناقشة أنه اطلع بدرجة كافية على ما كتب من قبل حول موضوع بحثه.
لكن يبقى السؤال: لماذا لا يكون البحث العلمي أحد أهم الطرق الأكاديمية للوصول إلى المعرفة في جامعاتنا أسوة بجامعات العالم؟
أولا: لنبدأ من الأساسيات: من الذي يشتغل بالبحوث عادة؟ إنهم أساتذة الجامعات وطلابها والباحثون في بعض مراكز البحوث التابعة للجامعات أو بعض المؤسسات العلمية؟
لماذا يقومون بذلك؟ لأن أحد أهم وظائف الجامعات وأساتذتها الاشتغال بالبحث العلمي.
لماذا؟ للوصول إلى تجديد المعرفة الإنسانية بما يخدم أغراض المحيط الذي توجد فيه هذه الجامعات سواء كانت احتياجات مناخية أو زراعية أو طبية أو مادية أو جغرافية.. إلخ.
ما الذي يحدث إذن في مؤسساتنا الأكاديمية؟ طغت الوسيلة على الهدف، فلم تعد مهمة البحث العلمي هي تطوير وتجديد المعرفة بل أصبحت وسيلة وظيفية او أكاديمية تحقيقا لأهداف بيروقراطية وإدارية لهذه المؤسسات ونسينا الهدف الأصيل من البحث.
لنأخذ أمثلة: الأستاذ الجامعي مثله مثل غيره لا بد أن يترقى في وظيفته حتى يزيد من رصيده، أو ما يسميه عالم الاجتماع الفرنسي بوردو رأس ماله الثقافي والاكاديمي عبر الترقية من أستاذ مساعد إلى مشارك ثم أستاذ، وأحد أهم الشروط لتلك الترقيات هي نشر البحوث، وهنا ظهرت المشكلة إذ أصبح هدف نشر الكثير من البحوث في عديد من التخصصات وعلى الأخص التخصصات الإنسانية أهم من نوعية ما تفضي إليه هذه البحوث من معرفة، بل في أوقات كثيرة قد يتم تزوير المعرفة عبر بحوث قص ولصق، وعبر الدفع لبعض المجلات العلمية بهدف النشر، وعبر الكثير من الممارسات التي بالطبع لا تحقق الوصول إلى أية معرفة فعلية في حقل التخصص قدر ما تعني الوصول للترقية التي هي مهمة للبقاء في الوظيفة ولراتب التقاعد وللوصول لبعض المناصب الإدارية والأكاديمية.
طلاب الجامعات والدراسات العليا أيضا لا يختلفون كثيراً عن أساتذتهم في بيئتنا المحلية، فالهدف من الالتحاق ببرامج الدراسات العليا لدى الكثير منهم ليس البحث العلمي بل الحصول علي الدرجة العلمية: ماجستير أو دكتوراة ولذا فهم لا يشغلون أنفسهم بالبحث في معضلات أو قضايا حقيقة تخدم محيطهم بل يتم اختيار مواضيع البحث تبعا للفترة الزمنية التي يمكنهم ان يمضوها في البحث، وكلما قصرت كان ذلك أحسن كما يرون، وكذلك تبعا للمشرف الذي يشرف على رسائلهم ودرجة تفضيله لموضوع معين أو أدوات بحثية محددة إذ يفضل الكثير من المشرفين من أساتذة الجامعات الأدوات البحثية الخفيفة التي لا تزعجهم في التحليل والقراءة لنصوص طلابهم ثم من سيقوم باختبار حقيقية ما توصل إليه الباحث وما مدى التزام الباحث بأخلاقيات البحث العلمي ؟؟ ولأنه لا وسيلة فعلية للتحقق من ذلك؛ لذا يمكن أن يتم التزوير والاستعانة بجهود محللين احصائيين ومكاتب تملأ السوق وتعطي نسخات لبحوث جاهزة ومفصلة حسب مقاييس كل قسم وكل كلية، بل وكل أستاذ وتتم المناقشات للرسائل في أجواء احتفالية سريعة مع بعض المناقشات العلمية التي توجد تبريرا للطقوس الأكاديمية لمناقشات الرسائل العلمية.
الأمر نفسه ينطبق على الكثير من الندوات والمؤتمرات العلمية التي تقوم بها معظم المؤسسات العلمية والجامعات المحلية والتي نادرا ما تفضي إلى نتائج علمية حقيقية ويمكن استمرارها كبرامج او اكتشافات أو إضافات حقيقية في الحقل العلمي نفسه، وقد وجدت إحدي الدراسات التي تمت في الجزائرو هي دراسة (سبتي، 2014م) بأن من المعوقات في إدارة المعرفة في الجامعات الجزائرية كان إعطاءها الأهمية لظاهر النشاط المعرفي وليس لجوهره، إذ غالباً ما يتم تنظيم الملتقيات العلمية من أجل ظاهرها فقط، وينتهي النشاط العلمي الذي له علاقة بالملتقى بعد الجلسة الختامية مباشرة، ونادرا ما تطبع أعمالها، وهو ما يجعلها عقيمة المردود، وعديمة الفائدة، مما يستدعي كما يقترح الباحث إيجاد حلول للمعوقات التي تقف أمام المؤسسات الاكاديمية للاستفادة من النشاطات المعرفية ومن مخرجات الدراسات العليا وتطبيقها على المجتمعات.
هل تذكركم هذه النتائج بما يتم في مؤسساتكم العلمية والأكاديمية؟
الممارسات العلمية الجادة تتطلب بني متكاملة من عوامل مادية وبنى مؤسسية تحاول جامعتنا المحلية توفيرها قدر الإمكان لكن تبقي البواعث والاهتمامات الشخصية للباحث إضافة إلى عوامل ثقافية واجتماعية هي ما يحدد مكانة البحث العلمي او جديتة في أية مؤسسة أكاديمية.
بل إن عالم الاجتماع الألماني الشهير هوركيمر (1972) رائد مدرسة فرانكفورت النقدية يرى بأن المؤسسة الاكاديمية بنشاطاتها ما هي إلا جزء من الاطار الاجتماعي العام و تتغير بتغيره، وهو أكد أنه لا يمكن فهم المؤسسات العلمية بتنظيماتها وما يدور فيها من ممارسات للباحثين والعلماء والعلاقات بينهم وما يقومون به من اسهامات الا من خلال فهم السياق الاجتماعي الذي يوجدون فيه واستيعاب وتحليل العمليات المتضمنة فيه» وهو ما يؤكد أهمية العوامل الاجتماعية والثقافية والقيمية في درجة ادارك قيمة المنتج العلمي وأهميته مقارنة بعوامل أخري يقيم لها المجتمع أهمية ويقدر افراده علي أساسها مثل الثروة والنسب او القرب من صانع القرار. نعم البحث العلمي في مؤسساتنا الاكاديمة يحتاج إلى وقفة طويلة.
المصدر: الجزيرة كوم
اترك رد