بين اندلاع مظاهرات الشبان المصريين الأولى يوم 25 يناير/ كانون ثاني وخطاب الرئيس مبارك الثاني للشعب بخصوص المواجهة بين نظام الحكم والحركة الشعبية فجر 2 فبراير/ شباط عاشت مصر بعضاً من أبرز الأحداث في تاريخها. خلال أيام قليلة من اندلاع المظاهرات، انفجرت ثورة شعبية بكل معنى الكلمة، أطلقها وقادها مجموعة من الشبان المتعلمين، أغلبهم من أبناء الطبقة الوسطى المصرية التي تعرضت في العقود القليلة الماضية لضغوط اجتماعية هائلة، واستشعرت حجم التراجع الذي تعرض له دور مصر وموقعها في محيطها والعالم. ولكن الحركة الشعبية سرعان ما اتسعت لتضم كافة فئات الشعب وتغطي عموم الجغرافيا المصرية، من الإسكندرية إلى إسوان ومن العريش إلى مرسى مطروح. وقد جاء خطاب الرئيس مبارك الثاني عشية يوم احتجاج غير مسبوق في تاريخ مصر.
احتلت الثورة المصرية موقعاً بارزاً في اهتمامات العرب والعالم، ولم يعد ثمة شك في أنها ستترك أثراً بالغاً على مستقبل المشرق العربي – الإسلامي وعلاقات المشرق وشعوبه بالعالم. ولكن السؤال الهام الآن يتعلق بمستقبل مصر القريب، وبما يمكن أن ينجم عن الثورة المصرية من نتائج خلال الأسابيع والشهور القليلة القادمة، سيما أن خطاب مبارك الأخير أكد على إصرار الرئيس على البقاء في موقعه حتى نهاية فترته الرئاسية الحالية في سبتمبر/ أيلول القادم، مرفوق بوعود بالإصلاح السياسي والدستوري.
ثورة شعبية واضطراب قوى المعارضة السياسية
ليس ثمة قوة سياسية واحدة تقف خلف الحركة الشعبية المصرية، بالرغم من وجود قوى معارضة سياسية عديدة في الساحة المصرية، بعضها قانوني ومعترف به والبعض الآخر غير قانوني وغير معترف به. ولكن ما أن اتسع نطاق الحركة الشعبية واتخذت من ميدان التحرير بوسط القاهرة مركزاً لها، حتى التحقت بها جموع من الشبان المنتمين للقوى السياسية، إضافة إلى قادة وكوادر الأحزاب. لم يكن من المتوقع أن تتحول المجموعات الشبابية النشطة، اختلاف مشاربها، في فترة قصيرة إلى حزب سياسي مؤطر، أو أن تنجح في طرح قيادة تمثيلية وبرنامج سياسي محدد. وأصبح على القوى السياسية المعارضة المتواجدة أصلاً أن تفرز هيئة تمثيلية واسعة الطيف للحركة الشعبية وأن تحول مطالب التغيير الشامل التي حملتها الحركة الشعبية إلى برنامج سياسي وتصور لانتقال سريع ومنظم وسلمي للسلطة، يحقق مطالب الإصلاح السياسي والاجتماعي.
بيد أن القوى السياسية لم تستطع خلال الأسبوع الأول من الحركة الشعبية الاتفاق فيما بينها، وربما كان هذا أهم العناصر التي شجعت مبارك على إلقاء خطاب 2 فبراير/ شباط. وقدر برز بين قوى لمعارضة توجهان رئيسان: الأول، وعبر عنه بيان الإخوان المسلمين في 1 فبراير/ شباط، الذي رفض الحوار مع الرئيس ونائبه الجديد، ودعا إلى تنحي الرئيس ومجموعته عن الحكم وحل مجلسي الشعب والشورى، وتولي رئيس المحكمة الدستورية العليا الرئاسة مؤقتاً. أما التوجه الثاني، والذي يمثله حزبا الوفد والتجمع، فالمرجح أنه يقبل بالحوار مع نائب الرئيس، مع دعوته المعلنة لتخلي الرئيس عن الحكم، بمعنى أنه يقبل بانتقال الرئاسة لنائب الرئيس، ومن ثم الاتفاق مع نائب الرئيس على جملة إصلاحات ببرنامج زمني. هذا لا يعني بالطبع أن المواقف ثابتة؛ فالحقيقة أن مواقف الأحزاب السياسية تتغير باستمرار؛ وليس من المستبعد أن يؤدي خطاب إعلان الرئيس عن إصراره على البقاء إلى تبلور مواقف جديدة من الأحزاب السياسية.
نظام حكم متشبث
تمثلت استجابة الرئيس الأولى للحركة الشعبية بتعيين السيد عمر سليمان، رئيس جهاز المخابرات المصرية بالغ النفوذ والمقرب من الرئيس مبارك وأحد الصانعين الرئيسيين لسياسية مصر الخارجية خلال العقد الأخير، نائباً للرئيس. كما أعلن مبارك إقالة حكومة نظيف، التي اتبعت سياسية اقتصادية نيو – ليبرالية وعجت برجال الأعلام، وتعيين أحمد شفيق، قائد القوات الجوية الأسبق والمسؤول عن الطيران المدني وأحد المقربين للرئيس مبارك، رئيساً للوزراء. والواضح أن الخطوتين قصد بهما الإيحاء بأن النظام قد تخلى عن توريث الحكم لابن الرئيس وأن الرئيس لن يترشح ثانية للرئاسة في سبتمبر/ أيلول المقبل، وأن الوزارة الجديدة ستجتجيب للمطالب الاجتماعية للحركة الشعبية. وسرعان ما كلف الرئيس نائبه ببدء حوار مع قوى المعارضة، بدون أن يحدد معنى هذا الحوار، والقوى التي ستدعى للمشاركة فيه.
انسحبت قوات الأمن من شوارع المدن بعد المواجهات الدامية مع المتظاهرين يوم الجمعة 28 يناير/ كانون ثاني، وفتحت أبواب السجون لهروب الآلاف من مساجين الحق العام وبعض المعتقلين السياسيين. وبدا أن مراهنة النظام الثانية تدور حول توليد الخوف في المدن المصرية من انتشار النهب والسلب وإمكانية انفجار العنف، إضافة إلى إرهاق المتظاهرين.
بيد أن هذه الخطوات لم تنجح في احتواء الحركة الشعبية، التي تطورت إلى مظاهرات الأول من فبراير/ شباط المليونية. وكان ملفتاً مساء 31 يناير/ كانون ثاني أن صدور بيان الجيش المصري الذي أعلن عن اعتراف القوات المسلحة بشرعية مطالب الشعب والتوكيد من جديد على أن قوات الجيش المنتشرة في أنحاء المدن المصرية لن تواجه الشعب، بل ستعمل على حمايته وحماية الممتلكات العامة والخاصة. ولكن الجيش كما يبدو ظل ملتزماً موقف الحياد الدستوري بين الحركة الشعبية والنظام، بمعنى الظهور بمظهر المتعاطف مع الشعب والإحجام عن اتخاذ أية خطوة ذات سمة انقلابية، حريصاً على الحفاظ على جسم الدولة. وربما لا يختلف موقف أركان النظام الآخرين، بما في ذلك نائب الرئيس سليمان ورئيس الوزراء شفيق كثيراً في اقتناعهم بأن حكم مبارك قد انتهى بالفعل، بدون أن يتخذوا خطوة تفسر بالانقلاب عليه، إما لأن ثمة رغبة بالحفاظ على المسار الدستوري، أو الخوف من أن تؤدي إطاحة الرئيس بالفعل الشعبي إلى الإطاحة بالنظام ككل.
وقد تمثل التطور الملفت الآخر في تحريك النظام لعدة آلاف من أنصاره صبيحة 2 فبراير/ شباط للتظاهر دعماً للرئيس وتأييد الخطاب الذي أدلى به. ولكن مظاهرات دعم الرئيس لم تقترب ولو قليلاً من حجم المظاهرات الداعية إلى إطاحته؛ ولكنها تؤشر على أية حال إلى تصميم الرئيس على البقاء في موقعه، وإلى أن الاستجابة للحركة الشعبية لن تكون إلا جزئية وبطيئة.
مواقف الخارج
بالنظر إلى علاقات التحالف المصرية – الأميركية الوثيقة، فقد وجهت الأنظار من البداية إلى رد الفعل الأميركي. وقد تطور موقف إدارة أوباما من تصريحات التوكيد على استقرار مصر إلى تصريح وزيرة الخارجية الأميركية يوم الأحد 30 يناير/ كانون ثاني الداعي إلى “انتقال منظم للسلطة.” والواضح أن واشنطن أفادت من تجاربها السابقة، وتحركت سريعاً إلى دعم توجهات التحول الديمقراطي في مصر. الدافع الرئيس خلف التطور السريع في الموقف الأميركي ينبع من خوف واشنطن من تفاقم الأوضاع في مصر إلى انهيار بالغ للدولة المصرية، وولادة نظام حكم راديكالي معاد للولايات المتحدة وللدولة العبرية. وظل الموقف الأميركي على دعوته لانتقال سلمي ومنظم للحكم بعد الاتصال الذي قام به الرئيس أوباما بالرئيس مبارك، بعد إلقاء الأخير خطابه المثير في الساعات الأولى من فبراير/ شباط. ولم يختلف موقف الدول الأوروبية الرئيسية، فرنسا وألمانيا وبريطانيا، كثيراً عن الموقف الأميركي، وإن جاءت لاحقة بالأخير.
الاعتقاد الواسع أن الأميركيين لا يرغبون في أن يسيطر نائب الرئيس سليمان على المرحلة الانتقالية، وأنهم باتوا يؤيدون دوراً رئيساً للمعارض الليبرالي محمد البرادعي، بالرغم من اختلاف الرأي في الأوساط السياسية المصرية المعارضة حول البرادعي ودوره. ولكن طبيعة النظام المصري وعمق جذور الدولة المصرية يجعل الدور الأميركي محدوداً. فالأميركيون لن يستيطيعوا، وإن أرادوا، فرض تنحي مبارك، ولا فرض من يريدون لقيادة المرحلة الانتقالية إن نجحت الحركة الشعبية في إطاحته.
الدعم الأبرز للرئيس مبارك جاء من قادة الدولة العبرية، ومن المملكة العربية السعودية، إلى جانب تعاطف غير مؤثر بالضرورة من زعماء عرب آخرين.
إلى أين
ليس ثمة شك في أن الحركة الشعبية قد حققت أهدافاً هامة حتى الآن؛ فسيناريو التوريث قد انتهى، ولم يعد بإمكان الرئيس مبارك طلب تجديد رئاسته في سبتمبر/ أيلول المقبل. السؤال الآن هو ما إن كانت الحركة الشعبية ستستطيع إطاحة الرئيس خلال الأيام القليلة القادمة، وما إن كان خلع الرئيس سيؤدي إلى نهاية نظام الحكم، بدون أن يؤدي إلى تقويض جسم الدولة ذاتها.
الواضح أن مستقبل الرئيس بات محكوماً بإرادة الحركة الشعبية المناهضة له، وما إن كانت الحركة ستستمر إلى أن تفرض على المؤسسة العسكرية ومجموعة رجال الحكم اللصيقة بالرئيس، اتخاذ موقف حاسم يؤدي إلى تنحي الرئيس. وفي حال تنحي الرئيس، فمن الواضح أن توافق قوى المعارضة السياسية، الشرعية منها وغير المصرح بها، سيكون بالغ الأهمية في تحديد ملامح المرحلة الانتقالية، وما إن كان نائب الرئيس عمر سليمان سيحتل موقع الرئاسة لبعض الوقت، ومن ثم لفترة زمنية أطول، أو أن نظام الحكم كله سيطاح به، رئاسة وبرلماناً وحزباً حاكماً، وولادة جمهورية مصرية جديدة.
الموقف الدولي، وموقف واشنطن على وجه الخصوص، سيكون هاماً بلا شك، سيما على المستوى المعنوي وفي مجال التأثير غير المباشر. ولكن دور واشنطن الفعلي ثانوي، ليس فقط لصلابة الوطنية المصرية، ولكن أيضاً لحجم الدولة المصرية وعمق جذورها. وقوف واشنطن خلف هذه الشخصية أو تلك لا يعني أن الإدارة الأميركية ستستطيع فرض من تريد. أما تدخل الدولة الإسرائيلية، ولو تلميحاً، لصالح الرئيس مبارك أو أية شخصية أخرى، فستصب مباشرة ضده.
مستقبل مصر القريب، باختصار، محكوم الآن بنتائج الصراع بين إرادتين: إرادة الحركة الشعبية، وإرادة نظام الحكم والطبقة الحاكمة.
المصدر: مركز الجزيرة للدراسات
اترك رد