د. محمد الهادي الطاهري، جامعة جندوبة، تونس.
مقدّمة:
عندما تندمج السلطة والسيادة في نظام ولاية تبدأ الدولة بالتكوّن، (P. Claval, p: 81) وهذا يعني من منظور انتروبولوجي أنّ الدولة هي الحلقة الأخيرة من حلقات سلسلة طويلة من أشكال التنظيم الاجتماعي، وهي عند كلافال تنظيم الجماعة البدائيّة، والتنظيم القبليّ، ونظام الرئاسة ذي البنية القطاعيّة الهرميّة وهو بعينه نظام الولاية، والدولة. وللدولة في تقديره تاريخ طويل بدأ مع الحضارات التاريخيّة الكبرى، كما يعني أنّ نظام الولاية مقدّمة ضروريّة لظهور الدولة في تاريخ البشريّة السياسيّ. والمقصود بنظام الولاية أن يسلّم الناس أمور حياتهم لفرد منهم فيخضعون له ويسمعون ما يأمر به وينهى عنه ويبدون له الطاعة بعد أن يكونوا قد اعترفوا له بالقدرة على ضمان أمنهم الروحي والمادّي ونزع مخاوفهم وشكوكهم وتبديد حيرتهم تجاه المصير بفضل ما لذلك الفرد من صلة بعالم الغيب حيث تقيم الآلهة.
إنّ هذا الفرد الذي تؤمن الجماعة بقدرته على ضمان أمنها هو في اعتقادها نبيّ مرسل من السماء إلى الأرض يلعب دور الشفيع أو الوسيط بين الجماعة والآلهة، وهو من المنظور الانتروبولوجيّ دائما رئيس يفوق أفراد جماعته منزلة لأنّه على صلة مباشرة بالآلهة وبالتالي فهو يختلف عن رئيس الجماعة البدائيّة الذي لا يعدو أن يكون مجرّد قائد موجّه وليس له أن يحكم بين الناس إذا تنازعوا لأنّهم يحتكمون في العادة إلى أسلحتهم. كما يختلف النبي أو رئيس الجماعة الدينيّة عن زعيم القبيلة، ذلك أنّ هذا الزعيم وإن منحته القبيلة سلطة واسعة وسمحت له أن يكون حَكَما بين المتنازعين فقد منعته من حيازة قوّة قهر أو ردع مادّي وبالتالي فقد منعته من أن يكون حاكما. أمّا النبيّ فقد اعترفت له الجماعة بحدّ أدنى من أدوات القهر المادّي والمعنويّ كما اعترفت به وسيطا بينها وبين الآلهة أي معلّما يطلعها على ما بين الخير والشر والحلال والحرام والحق والباطل من حدود.
في ضوء هذه القراءة الانتروبولوجية واهتداء بما تيسّره لنا الأبحاث التي أنجزها علماء متخصّصون في دراسة الظواهر السياسيّة في المجتمعات القديمة من أدوات فهم وتحليل سنتولّى النظر في أوجه العلاقة بين الدين والدولة في فجر الإسلام مميّزين بين لحظتين تاريخيّتين حاسمتين وهما لحظة البعثة المحمّديّة ولحظة الردّة. وقبل الخوض في تفاصيل العلاقة بين الدين والدولة في تينك اللحظتين المتعاقبتين رأينا من الواجب أن نبدي ثلاث ملاحظات، وهي في الجملة ملاحظات تتعلّق بالمفردات التي يتكوّن منها عنوان هذه المقالة.
فجر الإسلام: لا نقصد بهذه العبارة أيّ معنى أدبيّ، وليس الفجر فيها تعبيرا عن معاني النور والإشراق بل هو إلى معاني الغموض والإبهام أقرب، فما يعنينا من الفجر امتزاج الظلمات بالأنوار فيه. وبالتالي ففي عبارة فجر الإسلام الواردة في العنوان إشارة إلى تلك المرحلة المبكّرة من تاريخ الإسلام وما تميّزت به من غموض في المفاهيم وتردّد بين اختيارات نظريّة مختلفة. هذا من جهة المعنى المراد من صورة الفجر. أمّا من جهة مفهوم الفجر باعتباره لحظة زمنيّة (نهاية الليل وبداية النهار) أو لحظة تاريخيّة (نهاية العصر المسمّى بالعصر الجاهلي وبداية العصر أو العصور الإسلاميّة) ففي العبارة إشارة خفيّة إلى نهاية آتية لا محالة إن لم تكن قد حلّت ومضت، وهي نهاية المضاف إليه أي الإسلام. وهذا يعني ضمنيّا أنّ للإسلام مغربا كما كان له فجر وضحى وظهر وفق التحقيب الذي ابتدعه أحمد أمين في موسوعته الإسلاميّة المعروفة. وبعيدا عن كلّ هذه المعاني الماكرة سنكتفي ببعض ما عناه أحمد أمين من عبارة فجر الإسلام التي جعلها عنوانا لكتابه الأوّل من موسوعته الإسلاميّة إذ توقّف الفجر حسب رأيه مع استقرار الدولة العربيّة الإسلاميّة الفتيّة بعد أن تمكّنت من القضاء على حركتي الردّة والفتنة، ليبدأ بعد ذلك زمن جديد هو ضحى الإسلام بما في الضحى من بيان ووضوح في الرؤى والاتجاهات.
اترك رد