الأساذ الدكتور منصف بكاي: مدير مخبر الدراسات الإفريقية ، جامعة الجزائر 2
مقدمة:
أفرزت الدراسات الأكاديمية التي أعدها المؤرخون وعلماء الاجتماع حول القارة السمراء ، حقائق تاريخية تؤكد أن المجتمعات الإفريقية قبل التواجد الإمبريالي الأوربي في إفريقيا قد تمكنت من التوصل إلى بناء كيانات وطنية قائمة بحد ذاتها ، ومن الأمثلة عن ذلك كثيرة نذكر منها ما قام به تشاكا (1) بجنوب إفريقيا عندما تعدى التأثير القبلي ليوحدها ويؤسس دعائم دولة وجيش قويان ، أو مملكة بوغندا في شرق إفريقيا التي كانت لها نظمها السياسية والإدارية ، فإلى جانب الملك الملقب عادة ‘بكاباكا’ ، نجد المجلس (لوكيكو) المتكون من كبار أعيان البلد. وكان يساعد الملك في مهامه وزيرا أولا يعرف بكاتيكورو ووزراء آخرين لكل واحد منهم مهاما دقيقة . كما ضمت مملكة بوغندا مقاطعات تعرف بباتنغولي تحت إشراف زعماء القبائل، إلى جانب مساعدين لهم يعرفون بباكونغو أي ما يعادل في هرم السلطة ولاة ورؤساء دوائر. (2)
وتشاء الأقدار أن تتوقف مسيرة المجتمعات الإفريقية في بناء كيانات وطنية شبيهة بتلك التي تبنتها أوروبا بعد الثورة الفرنسية سنة 1789( التي جاءت بأفكار جديدة دخلت القاموس السياسي نذكر منها مبدأ الأمة ، الحرية، المساواة، الأخوة والعدالة) بسبب رواج تجارة الرقيق والتوغل الأوروبي في إفريقيا بحيث ساهم هذان العاملان في اختفاء هذه الإمبراطوريات والممالك ، إضافة إلى الحروب الطاحنة بينها التي كان يغذيها أعوان الامبريالية من جهة ، والغزو الأوروبي من جهة أخرى. وعليه، يذكر الرئيس الكيني الأسبق جومو كينياتا في مؤلفاته ” أن الأنظمة السياسية الإفريقية كانت أكثر ديموقراطية من النظم السياسية الأوروبية قبل التواجد الأوروبي في إفريقيا”. (3)
وفي هذا السياق ، سنتطرق من خلال هذا الموضوع إلى نموذج إفريقي في الحكم تبنته شخصية فذة استطاعت أن توحد قبائل غير متجانسة تحت راية نظام سياسي وسوسيو-اقتصادي أكثر تماسكا و نجاعة . إنها الدولة التي أسسها ساموري توري شمال ساحل العاج في نهاية القرن 19 والتي اتخذت من النظم الحديثة نموذجا في الحكم والديمقراطية ؛ ولكن تواجد الامبريالية الفرنسية في جنوب البلاد حال دون تحقيق الهدف الذي رسمه ألا وهو توحيد كل غرب إفريقيا تحت رايته.
ومن هذا المنطلق ، سنحلل تحليلا دقيقا وعلميا الأوضاع التي سادت ساحل العاج منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلى غاية يومنا هذا الذي يشهد حربا أهلية تمزق البلاد وتدمر مقوماتها الاقتصادية . فما هي أوضاع ساحل العاج قبل التواجد الامبريالي الفرنسي في البلاد ؟ ماهي الأسباب البعيدة والقريبة وراء إلحاح الفرنسيين على توقيف مسيرة ساموري توري في توحيد ساحل العاج وبناء دولة قوية ؟ هل حملت هذه المعطيات التاريخية في طياتها بذور الأزمة التي تعاني منها ساحل العاج اليوم؟
ويمكن للدارس أن يتسآل عن أسباب التناقض التي وقعت فيه القوى الاستعمارية من خلال تساؤل هام يحمل في طياته تسليط الضوء عن حقيقة تاريخية ما فتئ الكثير يجهلها إذ يتعلق الأمر بحقيقة تبني مبادئ حقوق الإنسان ، الحرية والعدالة من جهة ، والسيطرة والاستغلال وتزييف الحقائق التاريخية بمشاريع قوانين تظلل الرأي العام بإبراز محاسن الإستعمار والتنكر للمساهمة الفعالة في تجهيل وتدمير مقومات المجتمعات الإفريقية السوسيو-اقتصادية والثقافية التي مازالت آثارها قائمة إلى يومنا هذا من جهة أخرى.
1- الأطماع الفرنكو- بريطانية بكوت ديفوار :
قبل الشروع في التطرق إلى موضوع الأطماع الأوربيـة بغرب إفريقيا بشكل عام وساحل العاج بشكل خاص يتبادر إلـى الذهن سؤال مهم يفرض نفسه. ما هي أهمية ساحل العاج بالنسبة للأوربيين من الناحية الإستراتيجية ؟ وماذا يمكن أن يقدمه هذا الجزء من غرب إفريقيا للأوروبيين من الناحية الاقتصادية ؟
إن المتصفح والمتتبع لتاريخ ساحل العــــاج الحديث والمعاصر يلاحظ منذ الوهلة الأولى أن هذا البلد كان يزخر بثروات كبيرة ، نذكر منها على سبيل المثال لا للحصر : العـاج ، الذهب ، المطاط والكاكاو، إضافة إلى تجارة الرقيق التي كانت تلقى رواجا في الفترة الممتدة من القرن 17م إلى النصف الثاني من القرن 19م .
والجدير بالذكر أن البرتغاليين كانوا السباقين في اكتشاف السواحل الإفريقية في القرن
بوانيــي مـن أكبر مزارعي البن سنة 1939. (7)
ويلاحظ في هذه الفترة ظهور قوى أوروبية أخرى بدأت تنفذ بقوة في تلك المنطقة ، فالإنجليز على سبيل المثال قد وضعوا قدما بليبيريا في القرن 16م عندما فتحوا مراكزتجارية لهم في تلك المنطقة ، ومن ثمة بدأ التنافس بين الإنجليز والفرنسيين على تجارة الرقيق بسواحل ساحل العاج في القرنين 17م و 18م .
وتذكر المصادر أن اهتمام الفرنسيين بأمر ساحل العاج يعود إلى فترة حكم الملك الفرنسي لويس الرابع عشر بحيث رست باخرة حربية فرنسية بقيادة النقيب دوكاس بالقرب من منطقة أسيني الواقعة في أقصى جنوب ساحل العاج والمطلة على خليج غينيا سنة 1687. وبالرغم مــن أن هـــذه المنـــــطقة كانت تحت حــكم أميــر ينتمي إلى مملكة إيسوما إلا أن الفرنسيين ، أقدموا على فتح مركز تجاري ومركز تابع لبعثة تبشيرية مسيحية ، لكنهم سرعان ما غادروا المنطقة في سنة 1704 بعدما تمكن ملك قبيلة أنيي من ضمها إلى ممتلكاته . (8)
بيد أن ما ينبغي أن نشير إليه هنا ، هو أن قبائل أنيي تنتمي إلى مجموعات أكان الوافدة من غانا ابتداء من القرن 17 م والفارة من الحروب المتواصلة هناك بسبب مسألة تجارة الرقيق . وفي القرن 18م ، أسسوا مجموعة من الممالك الصغيرة التي كان من أهمها سانوي الواقعة أقصى جنوب ساحل العاج . (9)
وبناء على ما تقدم ، يلاحظ أن هذه الفترة قد تميزت بتواجد أوروبي محتشم كفتح المراكز التجارية بالمناطق الساحلية كما هو الشأن بالنسبة للإنجليز بأقصى جنوب ساحــل العاج وفي المنطقة المعروفة بجاك فيل أين مارس الإنجليز تجــارة الرقيق بمساعدة بعض زعماء القبائل الذين كانوا يحصلون على بعض الأسلحة الخفيفة والألبســـة ، ولذلك أطلق عليهم الإنجليز مصطلح جاك جاك ، ومنه اشتق اسم جاك فيل واسم قرية غران جاك (10) . إن هذا النشاط التجاري المكثف قد حمس الفرنسيين على الدخول في حلبة التنافس على مناطق النفوذ في إفريقيا ، فعزموا على غزوها واستعمارها خصوصا بعــــد احتلال الجزائر سنة 1830 وبعض المناطق في السنغال لاحقا . وفي القرن التاسع عشر 19 م ، وكنتيجة لانتشار الثورة الصناعية من بريطانيا إلى الأقطار الأوربية الأخرى اتصل الأميرال الفرنسي بويي ببعض زعماء القبائل الوثنية وأمضى معهم معاهدات صداقة تضمن لفرنسا احتكــــار التجارة بمناطق عديدة نذكر منها : غران لاهو سنة 1832 ، غران بسام سنة 1842 و أسيني سنة 1843 ، الأمر الذي أغضب الإنجليز المتمركزين بجاك فيل والذين تربطهم علاقات متميزة بزعماء قبائل كرو المتمركزين في المنطقة الممتدة من طابو إلى ساسندرا.(11) وقبائل كرو مجموعة من القبائل المنتشرة جنوب غرب ساحل العاج إلى غاية نهر مان ( أنظر الخريطة ) ، وهاجرت من ليبيريا إلى ساحل العاج منذ العصر النيوليتي . ففي الشريط الساحلي ، استوطنت مجموعة من الكرو تعرف ب غودي ونيوس بساسندرا ، وإلى الشمال ، نجد مجموعة تعرف ب باكوي . أما بيتي ، فيتمركزون بين سوبري ودالوا بالضفة الغربية لواد ساسندرا . أما بالضفة الشرقية ، فيتمركز شعب وي الذي ينقسم إلى غيري ووبي.(12) ونتيجة لتعرض سفينة إنجليزية إلى اعتداء أسفر عن مقتل طاقمها في ظروف غامضة ، انسحب الإنجليز من تلك المنطقة فاسحين المجال للفرنسيين بالتمركز في كل الشريط الساحلي لساحل العاج إلى غاية اندلاع الحرب البروسية – الفرنسية سنـــة 1970 ( هذه الحرب أدت إلى انهزام فرنسا في موقعة سيدان في جوان سنة 1870 أمام ضربات الجيش البروسي بقيادة فون مولتكه إبان سعي البروسيين تحقيق ما كان يعرف آنذاك (بالإتحاد الألماني ) عندما رحل جل الفرنسيين عن المنطقة باستثناء مغامر يدعى آرثر فرديي الذي كان له نشاط تجاري بأسيني منذ سنة 1867 .
اترك رد