2- الحوار السني الشيعي

2- مقدمات وشروط ومآلات الحوار السني الشيعي

الحد الفاصل بين الرفض والتشيع

سيظل التواصل معدوما بين أي كاتب وقرائه إذا هو لم يُبين بدقة ما الذي تعنيه الكلمات،لذلك جرت عادة الكثير من العلماء على توضيح مفردات المعجم الذي يستعملونه في بسط دقائق العلوم، وخلجات النفوس، وخواطر القلوب،وومضات الفكر، وبراهين المُناظرة والحِجاج،ولذلك أيضا سيكون الأمر أوجب وآكد في الموضوع الذي نحن بصدده، فمن هم “الشيعة” الذين يراد التحدث عنهم،وهم فرق عديدة تتراوح بين الاعتدال والتطرف،وبين الأصيل والدخيل،وبين الرفض والتشيع بلا رفض،ومن تلك الفرق البائدة التي لولا ذكر كتب الفِرق لها لما أحاط الناس بها خُبرا،ومنها الباقية التي تسعى بكل ما أوتيت من قوة أن يكون لها موطيء قدم في ساحة الاقتصاد والسياسة والفكر وزعامة الجماهير وجغرافية المذاهب؟ ومن هم” أهل السنة والجماعة” ؟ إذ سيتبين أن تحديد مشمولات هذا الاصطلاح يكتسي صعوبة وتعقيدا شديدين،ربما يرجع السبب إلى كونه يطلق على السواد الأعظم والجماهير الواسعة من الأمة، فضلا عن أن مكوناته كان بعضها يخرج الآخر من”أهل السنة” عندما يعجِز عن التدبير السليم والسلمي للاختلاف،مما يُحتم ضبط المصطلح ،حتى لا يبقى عائما في حديث قديم غير منضبط عن أشاعرة وماتريدية وظاهرية ومتصوفة وفقهاء وأصحاب حديث وأصحاب رأي،ولا في حديث جديد عن أحباش وسلفية وأنصار سنة وغير ذلك.

وهذا أوان الشروع في تبيان اسم الشيعة ومشمولاته،لنُتبعه في المقالة القادمة بتبيان اسم “أهل السنة والجماعة” ومشمولاته.

الشيعة:العودة المستمرة لإشكال المصطلح

قال الجوهري في (الصحاح): “شايعه كما يقال والاه من الولي، وتشيع الرجل إذا ادعى دعوى الشيعة”.[1]

قال ابن فارس: “الشين والياء والعين أصلان يدل أحدهما على معاضدة ومساعفة، والآخر على بث وإشادة”.[2]

وقال الراغب الأصفهاني: “والشياع الانتشار والتقوية (…) والشيعة على من يتولى عليا وأهل بيته رضوان الله عليهم أجمعين”.[3]

وقال ابن منظور: “الشيعة أتباع الرجل وأنصاره، وقد غلب هذا الاسم على من يتولى عليا وأهل بيته رضوان الله عليهم أجمعين”.[4]

فيرشد الاستعمال اللغوي للفظ الشيعة إلى معاني الاتباع والنصرة والتعاضد والولاية بضميمة معاني الانتشار بالدعوة والإذاعة والترويج.

وللفظ في الاستعمال الاصطلاحي معنيان: عام وخاص.

1- المعنى العام: فاللفظ بهذا المعنى ينتظِم فِرَق الشيعة كلها، وقد أرَّخ لها الحسن بن موسى النوبختي في كتاب (فِرق الشيعة)، وجاوز بها السبعين فرقة ما بين مُغالِية تدعي الإلهية في البشر، وتناسخ الأرواح، وتعطيل الشريعة، ومعتدلة اختلفت مع الإمامية الاثني عشرية في سَوق الإمامة في أبناء علي كرم الله وجهه،[5] وإلى هذا المعنى العام أشار الشيخ المفيد بقوله: “فإذا أُدخل لفظ التعريف (أي الشيعة) فهو على التخصيص لا محالة لأتباع أمير المؤمنين على سبيل الولاء والاعتقاد لإمامته بعد الرسول – صلى الله عليه وسلم – بلا فصل، ونفي الإمامة عمن تقدمه في مقام الخلافة وجعله في الاعتقاد متبوعا لهم غير تابع لأحد منهم على وجه الإقتداء”،[6] ونفس هذا المعنى العام هو مضمون تعريف الإمام الشهرستاني للشيعة: فهم الذين شايعوا عليا على الخصوص ودانوا بإمامته ” بموجب النص والوصية، إما جليا وإما خفيا، واعتقدوا أن الإمامة لا تَخرج من أولاده، وإن خرجت فبظلم يكون من غيره أو بتقية من عنده (…) ويجمعُهم القول بوجوب التعيين والتنصيص وثبوت العصمة للأئمة وجوبا عن الكبائر والصغائر، والقول بالتبري قولا وفعلا وعَقدا لا في حال التقية، وهم خمس فرق: كيسانية وزيدية وإمامية وغلاة وإسماعيلية”.[7]

ونص ابن حزم الظاهري على ضابط يعرف به المنتسِب لمذهب الشيعة من غير المنتسِب: فالشيعي – عنده- من عَد الإمام عليا أفضل الناس على الإطلاق بعد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأولاهم بالإمامة وولده من بعده، ولو حصلت منه المخالفة للشيعة في غير ذلك، أما إذا خالفهم في مسألة الإمامة فلا يُعد شيعيا.[8]

2- المعنى الخاص: ينزل الشيخ المفيد من عموم تعريفه السابق إلى معنى خاص يَسِم المذهب بالإمامة بوصف قسم من الشيعة بالإمامية، ويوجب هذا الوصف لمن استجمع أربعة شروط:

الأولى: القول بوجوب الإمامة ووجودها في كل زمان.

الثانية: القول بورود النص الجلي في حق الإمام.

الثالثة: إثبات العصمة والكمال لكل إمام.

الرابعة: قصر الإمامة على أولاد الحسين بن علي وسوقها إلى علي بن موسى الرضا[9].

وقد نص على سَوق الإمامة إلى علي بن موسى تحديدا دون غيره، لأنه حدثت تطورات خطيرة داخل المذهب بعد وفاة الإمام السابع موسى بن جعفر الكاظم[10] إذ تفرقت الشيعة بعد موته إلى فرق:

– ففرقة قالت: إن موسى بن جعفر لم يمت وأنه حي ولا يموت حتى يملك الأرض شرقا وغربا وإنه المهدي المنتظر.

– وفرقة قالت: إنه المهدي القائم وقد مات، ولا تكون الإمامة لغيره حتى يرجع فيقوم ويظهر.

– وقالت فرقة إنه قد مات ورفعه الله إليه.

فسمي هؤلاء جميعا الواقفة لوقوفهم على موسى بن جعفر وعدم تعديتهم الإمامة إلى غيره بعده، ومن عداها انخرط في المعنى الخاص الشيعة الإمامية.

– وفرقة قطعت بموته وساقت الإمامة إلى علي بن موسى الرضا فسُميت لأجل ذلك بالقَطعِية، وأتباعها هم أسلاف الإمامية الاثنا عشرية.[11]

ثم سيُفضي تطور الخلاف بين الشيعة بعد موت الإمام الحادي عشر الحسن بن علي العسكري (232 هـ- 260 هـ) إلى أن يعتقد أكثرهم انتقال الإمامة إلى ابنه محمد بن الحسن، وهو المهدي الذي غاب وسيرجع في اعتقادهم، وقد عُرفوا في التاريخ باسم الشيعة الاثنا عشرية لتسالُمهم على أن الأئمة بعد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – اثنا عشر إماما منصوص عليهم بالنص الجلي، وعلى خصوص هذا المعنى يتنزل كلامي عن الشيعة كلما ذكرتُهم في ثنايا هذه المقالات.

وحصل في تاريخ تطور التشيع حادث خطير، عَمَّق الخلاف بين مكوناته (أي التشيع)، وأدى إلى التباس مفهوم الشيعة والتشيع في أذهان الكثيرين؛فقد انتهى إلى سمع الملك الأموي هشام بن عبد الملك (ت 125 هـ) ما لزيد بن علي (80هـ – 122 هـ) من حُظوة ومكانة في قلوب الناس كأحد أهل البيت الذين تهوي إليهم أفئدة المسلمين أيام الشدة، فخشِي- بناء على وشايات بلغته- أن تتوق نفسه إلى الخلافة، فدبر له المكائد، وأرسل في طلبه، فلما رأى أصحابُ الإمام زيد أن عامل هشام قد جَد في البحث عنه “اجتمعوا إلى زيد في جماعة من رؤوسهم وقالوا: رحمك الله ما قولك في أبي بكر وعمر؟ قال زيد: رحمهما الله وغفر لهما: ما سمعت أحدا من أهل بيتي يقول فيهما إلا خيرا، ففارقوه ونكثوا بيعته وقالوا: سبق الإمام – يعنون محمدا الباقر- فسماهم زيد رافضة“،[12] ومن ثم برهن ابن تيمية رحمه الله على عدم صحة الأحاديث المرفوعة المشتملة على لفظ (الرافضة) لتَأخُّر ظهور هذا اللفظ إلى زمن زيد بن علي عليه رحمة الله،[13] كما أرَّخ بزمن خروج زيد لافتراق الشيعة إلى رافضة وزيدية[14] ،ومن يومِها حصل التمييز بين الرفض (وهو اعتقاد أفضلية علي مع سب الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما). والتشيع الخالص والبعيد عن مقالات الرفض.

قال الذهبي في ترجمة أبان بن تغلب (ت 155 هـ): “شيعي جلد لكنه صدوق، فلنا صدقه وعليه بدعته، وقد وثقه أحمد بن حنبل، وابن معين وابن حاتم، وأورده ابن عدي وقال: كان غاليا في التشيع”.[15]

ويورد الذهبي على نفسه هذا السؤال: “كيف ساغ توثيق مبتدع وحد الثقة العدالة والإتقان؟ فكيف يكون عدلا من هو صاحب بدعة؟ وجوابه: إن البدعة على ضربين: فبدعة صغرى كغلو التشيع، أو كالتشيع بلا غلو ولا تحرق، فهذا كثير في التابعين مع الدين والورع والصدق، فلو رُد حديث هؤلاء لذهب جملة من الآثار النبوية، ثم بدعة كبرى كالرفض الكامل والغلو فيه، والحط على أبي بكر وعمر – رضي الله عنهما- فهذا لا يُحتج بهم ولا كرامة”.[16]

وقال ابن حجر في ترجمة ذات الرجل: “زاد أبو حاتم: وقال الجوزجاني[17] (عن أبان بن تغلب): زائغ مذموم المذهب مجاهر (…) وقال ابن عدي: له نسخ عامتها مستقيمة إذا روى عنه ثقة وهو من أهل الصدق في الروايات وإن كان مذهبه الشيعة، وهو في الرواية صالح لا بأس به، قلت: هذا قول منصف، وأما الجوزجاني فلا عبرة بحطه على الكوفيين، فالتشيع في عرف المتقدمين هو اعتقاد تفضيل علي على عثمان، وأن عليا كان مصيبا في حروبه، وإن مخالِفه مخطئ، مع تقديم الشيخين (أبي بكر وعمر) وتفضيلهما، وربما اعتقد بعضهم أن عليا أفضل الخلق بعد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وإذا كان معتقد ذلك ورِعا دينا، مجتهدا، فلا تُرد روايته لهذا لاسيما إن كان غير داعية، وأما التشيع في عرف المتأخرين فلا تُقبل رواية الرافضي الغالي ولا كرامة”،[18] فجِماع العدالة لمعتقِد التشيع – في مقالة ابن حجر- :الورع والدين والصدق والاجتهاد والكف عن الأصحاب – رضي الله عنهم- وعدم الدعوة، والرفض المحض على الوصف الذي تقدم ذكره عند الذهبي.

ومن اتبع الإمام زيدا في مقالاته سُمي زيديا،والفرقة زيدية،وهذه مع فرقة أخرى تسمى”الإسماعيلية” تقتسمان مع الإمامية الاثني عشرية جمهور الشيعة اليوم.

فالزيدية تُنسب – كما أسلفنا- إلى الإمام زيد بن علي عليه رحمة الله، والنص الذي سبق إيراده ويحكي قصة زيد مع هشام بن عبد الملك الأموي يبرز ملابسات وظروف ظهور الزيدية: فهم الذين ثبتوا على إمامة زيد وصحبته، وخرجوا معه على هشام بن عبد الملك، ورأوا رأيه في الشيخين أبي بكر وعمر – رضي الله عنهما- واعتقدوا أن الإمامة حق لعلي دون سائر الناس لأنه أفضل الصحابة “إلا أن الخلافة فُوضت إلى أبي بكر لمصلحة رأوها، وقاعدة دينية راعوها: من تسكين نائرة الفتنة، وتطييب قلوب العامة”،[19] وكان زيد يأخذ البيعة من أصحابه قائلا: “أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه وجهاد الظالمين، والدفع عن المستضعفين، وإعطاء المحرومين، وقسم هذا الفيء على أهله، ورد المظالم ونصرنا أهل البيت على من نصب لنا الحرب، أتبايعون على هذا؟ فيبايعونه ويضع يده على يد الرجل ثم يقول: عليك عهد الله وميثاقه لتنبئن ظننا، ولتنصحنا في السر والعلانية، والرخاء والشدة، والعسرة والميسرة، فيبايع على ذلك”.[20]

وكان الإمام أبو حنيفة (80 هـ-150 هـ) على بيعة زيد ومن جملة أنصاره وأتباعه، وحُبس حبس الأبد إلى أن مات[21] لما رُفع أمره على أبي جعفر المنصور (95 هـ-160 هـ)، ولم يخالِف الإمامُ ابن شهاب الزهري الإمامَ زيدا في مبدأ الخروج وإنما خالفه في ميقاته، إذ قال لما دعاه زيد للخروج معه: “مادام هشام حيا فلا، فإن أخَّرت الخروج إلى ولاية الوليد خرجت معك”،[22] ولم يَحُل بين سليمان بن مهران الأعمش (ت 148 هـ) وبين الخروج إلا عدم ثقته في أصحاب زيد، فقال لما دُعي إلى الخروج :”إني لا أثق لك بالقوم، ولو وَثِقت لك بثلاثمائة رجل منهم لغيَّرنا لك جوانبها”،[23] ونُقل عن الإمام زيد فقه كثير، بثه الأنصار في الأقاليم والبلدان وفرعوا عليه،[24] وتفرعت الزيدية – بعد زيد- إلى عدة فرق قسمها النوبختي إلى قسمين: ضعفاء وأقوياء، أو معتدلين ومتشددين بلسان العصر، فالضعفاء منهم سُمُّوا: العَجلية، منهم فرقة تسمى (البترية) دانوا بولاية وإمامة علي ولم يَطعنوا في خلافة أبي بكر وعمر –رضي الله عنهما-، وأثبتوا الإمامة لكل من خرج من أولاد علي من أي بطن كانوا، أما الأقوياء فيُدعون (الجارودية) وقد قضوا بكفر كل من نازع الإمام عليا الإمامةَ أو تَخلَّف عنه،إلا أن التقاء هؤلاء وأولئك(الضعفاء والأقوياء) في الإقرار بفضل علي على سائر الناس وخروجهم مع زيد بالكوفة قد أثبت لهم جميعا وصف الزيدية[25] مع غلبة تيار الاعتدال، وقد جمع الإمام صالح المقبلي الزيدي[26] مذهبهم في الإمامة والأصول والفروع فقال: “ومن مذهبهم وجوب الخروج على الظلمة والجورة، وأن يكون القائم عدلا مقسطا، وهو على الإيمان ورضاء الرحمان، ومن مذهبهم تقديم علي – رضي الله عنه- في الإمامة، بل هو أول الأئمة بعد النبي – صلى الله عليه وسلم – قام أو قعد، وينحصر بعده في الحسنين وولدهما إلى آخر الدهر مع كمال الشرائط عندهم، ويخصون الثلاثة المشايخ – رضي الله عنهم- بالتأويل، ولا يتأولون لمعاوية ونحوه من المخالفين، وليس لهم كبير خلاف بعد ذلك، بل يوافقون المعتزلة في العقائد، وأما الفروع فأئمتهم يختلفون: منهم من يغلب عليه مذهب الحنفية، ومنهم من يغلب عليه مذهب الشافعي موافقة لا تقليدا”.[27]

واستوطن الزيدية اليمن منذ القدم، وجُلُّهم بها إلى اليوم لا يختلفون في ظاهر الأمر عن جمهور أهل السنة.

وثمة فرقة أخرى لا يزال لها بقايا إلى يومنا هذا وهي الإسماعيلية،ولنشأتها صلة بما بعد وفاة

جعفر بن محمد الصادق رحمه الله،إذ افترقت الشيعة بعده إلى ستة فرق:[28]

الأولى: أنكرت موت جعفر واعتقدت أنه المهدي وانتظرت رجوعه، وتدعى هذه الفرقة (الناووسية).

الثانية: اعتقدت أن الإمام بعد جعفر هو محمد بن إسماعيل بن جعفر وتدعي (المباركية).

الثالثة: ساقت الإمامة إلى محمد بن جعفر وتدعى (السمطية).

الرابعة: أثبتت الإمامة بعد جعفر لابنه عبد الله الأفطح، وتدعى (الفطحية).

الخامسة: اعتقدت الإمامة بعد جعفر لابنه إسماعيل، وأنكرت موت هذا الأخير في حياة أبيه، واعتبرته القائم الذي سيظهر في آخر الزمان، وهؤلاء هم الإسماعيلية،وقد استمر لهم وجود في التاريخ إلى يومنا هذا، وقامت باسمهم ممالك ودول أشهرها الدولة الفاطمية، ويستوطن جلهم – الآن- الهند وباكستان.[29]

وبوفاة إسماعيل في حياة أبيه ونقل الإمامة إلى ابنه موسى الكاظم بدأت تظهر بوادر التشكيك في أن ثمة قائمة محددة قد عُدَّت سلفا منذ الأزل لاثني عشر إماما،وظهرت “عقيدة” تبريرية لذلك النقل هي “البداء”.

 

أطروحات النشأة والتطور:جدلية الأصيل الداخلي

والدخيل الخارجي

هناك عدة أطروحات فَسَّر بها أصحابها نشأة مذهب الشيعة وتطوُّرَه، يمكن تصنيفها إلى قسمين:

القسم الأول: عوامل خارجية حرَّكتها – في نظر أصحابها- نية الدس والتآمر فأنتجت التشيع، وقد اختص كثير من خصوم الشيعة بنَبزهم بهذه العوامل، وحاصل ذلك التآمر نوعان:

الأول: المؤامرة الفارسية المجوسية.

الثاني: المؤامرة اليهودية في شخص عبد الله بن سبأ.

القسم الثاني: عوامل داخلية ارتبطت بنصوص شرعية، وبِتقلُّب الأحداث في البيئة الإسلامية بعد وفاة رسول الله – صلى الله عليه وسلم- إلى منتصف القرن الرابع الهجري، وتفاوتت درجة كل عامل من تلك العوامل في الأهمية.

القسم الأول:الـعـوامـل الـخـارجـيـة

1– أطروحة المؤامرة الفارسية:

نسوق هنا ثلاثة نصوص توضح خلفيات وأبعاد هذه المؤامرة، فالنصان الأولان لعالمين سنيين هما: الإمام أبو محمد بن حزم الظاهري (ت 456 هـ)، والإمام عبد الرحمن بن الجوزي (ت597 هـ)، والنص الثالث لباحث إيراني متأخر هو الدكتور قاسم غني.

أ- قال ابن حزم: ” والأصل في أكثر خروج هذه الطوائف عن ديانة الإسلام أن الفرس كانوا من سعة الملك وعلو اليد على جميع الأمم وجلالة الخطر في أنفسهم حتى أنهم يسمون أنفسهم الأحرار والأبناء، وكانوا يعدون سائر الناس عبيدا لهم، فلما امتُحنوا بزوال الدولة عنهم على أيدي العرب، وكانت العرب أقل الأمم عند الفرس خطرا، تعاظمهم الأمر وتضاعفت لديهم المصيبة، وراموا كيد الإسلام بالمحاربة في أوقات شتى، ففي كل ذلك يُظهر الله سبحانه وتعالى الحق (…) فرأوا أن كيده على الحيلة أنجع، فأظهر قوم منهم الإسلام واستمالوا أهل التشيع بإظهار محبة آل بيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – واستشناعهم ظلم علي – رضي الله عنه- ثم سلكوا بهم مسالك شتى حتى أخرجوهم عن الإسلام”.[30]

ب- قال ابن الجوزي: “ولما جاء النبي – صلى الله عليه وسلم – وقهر الأملاك وقمع الإلحاد، اجتمع جماعة من الثنوية والملحدين ومن دان بدين الفلاسفة المتقدمين، لاشك أن جميع فرق المسلمين تبرأ منهم، فأعملوا رأيهم وقالوا: ثبت عندنا أن جميع الأنبياء كذبوا ومخرقوا على أممهم ،وأعظم الكل علينا بلية محمد- صلى الله عليه وسلم– فإنه نبغ بين العرب العظام وخدعهم بناموسه، فنصروه وبذلوا أموالهم وأنفسهم وأخذوا ممالكنا، وقد طالت مدتهم، والآن فقد تشاغل أتباعه وقد ضعفت أبصارهم، ونحن نطمع في إبطال دينهم إلا أننا لا يمكننا محاربتهم لكثرتهم، فليس إلا إنشاء الدعوة إلى فرقة منهم لنستعين بهؤلاء على إبطال دينهم”.[31]

وعلى ما بين النصين من تشابه في وسيلة التآمر (ابتداع ونصرة فكرة التشيع)، والنتيجة (إبطال الدين والدولة)، فتظهر بينهما بعض الفروق:

1- يصدر المتآمرون في نص ابن حزم عن رؤية سياسية محضة لما فجعوا بزوال الدولة، وعن رؤية عنصرية إذ يجعلون أنفسهم فوق مستوى الأمم غير الفارسية، وهم مدبرو المؤامرة ابتداء ثم عملوا على استمالة أهل التشيع.

2- يصدر المتآمرون في مقالة ابن الجوزي عن رؤية فلسفية ثقافية تنكر الرسالات جملة، فغاضهم أن يقضي الدين الجديد على إرثهم الثقافي أكثر مما غاضهم زوال الدولة، وهذا لا يعني غياب البعد السياسي عن مؤامرتهم قطعا، فعملوا على إنشاء دعوة بينهم إلى فرقة من المسلمين.

3- سلكت المؤامرة في نص ابن حزم مرحلتين اثنتين:

الأولى: اعتمدت الحول والقوة.

والثانية: اعتمدت الحيلة والمكر.

والفشل في الأولى أدى إلى الانتقال إلى الثانية، ولم يُشِر ابن الجوزي إلا إلى المرحلة الثانية ابتداء وانتهاء.

ج- قال قاسم غني: “إن الإيرانيين بعد خضوعهم ليسف العرب إثر حروب القادسية وجلولاء وحلوان ونهاوند بذلوا استقلالهم وشوكتهم عن يد وهم صاغرون، وسواء أشاؤوا أم أبوا دخلوا الإسلام بحكم غريزة المحافظة، غير أن العرب الذين نظر إليهم الإيرانيون بعين الاحتقار من قديم لم يستطيعوا مع غلبتهم أن يحملوا الإيرانيين على مشاركتهم طراز التفكير والعقيدة والسليقة والمنطق والآمال والمطالب الروحية، لأن التباين شكلا ومعنى كان عظيما في العنصر وطريقة المعيشة والأوضاع الاجتماعية، وعلى ذلك فإن انتهاء الصراع بهزيمة إيران أوجد انفعالات روحية وتأثرات معنوية في الإيرانيين على شكل صراع فكري ظهر في التاريخ الأدبي والمذهبي والاجتماعي والسياسي، وأثر في العرب والإسلام، وكان التشيع وكذلك التصوف من أهم ردود الفعل التي أورثها الصراع الفكري، ويجب أن نبين هنا أن رد الفعل هذا لم يأت عن عمد واختيار وإرادة على خطة مرسومة يراد بها الانتقام، بل كان تحت تأثير العواطف والأحاسيس الخفية التي يعرفها علم النفس، أي أن ذلك قد حدث غالبا دون أن يجد له الناس علة واقعية، ودون أن يحللوه، ولكن ذهنهم كان مسوقا إلى هذا العمل بهذه الطريقة”.[32]

يُفيدنا نص قاسم غني بالمعطيات التالية:

1- يُقر صاحبه بوجود نظرة عنصرية تجاه العرب لدى أهل فارس ولا ينفيها، وهي نظرة تأبوا معها على الاندماج في الوسط العربي المسلم، فضلا عن عقبات ما بين الجنسين من اختلافات في العادات والتقاليد والأعراف الاجتماعية.

2- نشأ التشيع ظلا لانفعالات أهل فارس الروحية والنفسية بعد هزيمتهم، وأخذت تلك الانفعالات شكل صراع فكري.

3- لم تتحكم نية المؤامرة والانتقام في تلك الانفعالات، ولا هي ظهرت عن محض القصد والعمد بل نتيجة ضغوط نفسية قاهرة وأحاسيس خفية، ولم يُفصح صاحب النص عن طبيعة هذه الأحاسيس، مما يبعث على التساؤل: هل كان أهل فارس مَسُوقين إلى ردود الفعل تلك (اعتقاد التشيع) مُضطرين نتيجة مطابقة بعض معتقدات الإيرانيين القديمة لبعض المعتقدات في التشيع أو العكس؟ ولا نَعدِم من يجيب عن السؤال بالإثبات،[33] ولم يَبعُد الدكتور كامل الشيبي عن أطروحة المؤامرة الفارسية عندما قال: “إن دور الفرس في التشيع في الإسلام كان مجرد وسيلة لاستعادة المجد القديم وإلغاء التسلط العربي عن كواهلهم”.[34]

ويدلي أنصار أطروحة المؤامرة الفارسية بحجج وبراهين منها:

1- دعوى إجماع الفرس على التشيع.[35]

2- دعوى انقطاع سلمان الفارسي إلى علي بن أبي طالب وإيمانه بأحقيته في الخلافة.[36]

3- دعوى ملاءمة بعض اعتقادات الشيعة لبعض الاعتقادات في الديانة الساسانية القديمة.[37]

وانبرى كثيرون للرد على هذه الحجج:

فقد عارض الأمير شكيب أرسلان دعوى إجماع الفرس على التشيع بإجماع المؤرخين على أن غلبة التشيع على إيران لم تقع إلا في عهد الدولة الصفوية (1501 م -1722م)،[38] وعد من الحقائق التي لا خلاف فيها أن التشيع في جبل عامل بلبنان أقدم منه في العجم، أوالتشيع أحدث في بلاد العجم منه في سائر بلاد الإسلام،[39] ففي سنة (907 هـ -1501 م) استطاع الشاه إسماعيل الصفوي (ت 1524 م) بسط سيطرته على القطر الإيراني بأكمله، فأعلن أن المذهب الإمامي الاثنا عشري هو المذهب الرسمي للدولة، واستقدم العلماء من جبل عامل ليُجيزوا له الجلوس على العرش باسم النيابة عن الإمام الغائب، فانتشر التشيع في البلاد وغلب عليها بوازعي الفكر والسلطان،والترغيب والترهيب.

إلا أن استبعاد الأمير شكيب أرسلان لأطروحة المؤامرة الفارسية لا يشكِّكه في أمر واحد هو “أن القومية الفارسية لم تندثر بالديانة الإسلامية التي جاءت من العرب (…) فلذلك رأيتَهم انتصروا لبني العباس والعلوية يوم كانوا يدا واحدة في حرب بني أمية الذين كان مركزهم الشام”،[40] ويخلُص أمير البيان إلى أن التشيع عربي صميم، ووافقه الرأي كثير من الباحثين، وإن اختلفوا في تعيين الموطن الأول لظهوره: فهو الكوفة في رأي، وهو مصر في رأي ثان،[41] وهو الحجاز في رأي شكيب أرسلان نفسه وليس فارس،[42] وهؤلاء حملة العلوم الإسلامية من أهل السنة عامتهم من العجم ومن فارس،[43] فلم يقل أحد إن التسنن ظهر نتيجة مؤامرة أعجمية أو فارسية.

وبعد اندلاع الحرب العراقية الإيرانية كم مرة عُيِّرت إيران بماضيها الفارسي المجوسي ،واستُغلت حتى الكتب المدرسية في إذكاء النزاعات والخلافات المذهبية ، عندما كان الحاكمون في العراق لا يرون في الثورة الإيرانية إلا عنوانا لانبعاث قومية فارسية تسعى للسيطرة على الأرض العربية، لولا أن أمانيها وطموحاتها تكسرت على صخرة “قادسية صدام المجيدة”(!)، فقد تضمن كتاب (التاريخ الحديث والمعاصر للوطن العربي) المخصص للتلاميذ العراقيين في الصف الثالث المتوسط درسا جاء فيه: “هي (أي قادسية صدام) الملحمة البطولية الخالدة التي خاضها الشعب العراقي دفاعا عن العراق والأمة العربية، وحقق فيها النصر على العدو الفارسي الخميني العنصري، وقد سميت بقادسية صدام نسبة على القائد المنصور بالله صدام حسين الذي قاد المعارك البطولية الرائعة، مثلما فعل القائد سعد بن أبي وقاص في القادسية الأولى”.[44]

كما لم تسلم خطابات الثورة الإيرانية إبان قيامها من النزعات الطائفية التي كانت تأتي ملفوفة في خطابات “تصدير الثورة”.وكان الأجدر بإيران أن تبث خطابات الطمأنة للجوار العربي”السني”.

 

2– أطروحة المؤامرة اليهودية (عبد الله بن سبأ)

احتدم في السنين الأخيرة جدال قوي بين دارسي الحقبة المتقدمة من تاريخ الإسلام من جهة، وبين علماء الشيعة وأهل السنة من جهة ثانية حول شخصية عبد الله بن سبأ ودوره في أحداث الفتنة الكبرى، وطبيعة هذا الدور قوة وضعفا، وجودا وعدما.[45]

ويذكر اسم هذا الشخص مرتبطا بحدثين بارزين:

– الحدث الأول: مقتل عثمان بن عفان – رضي الله عنه-

– الحدث الثاني: تأليه علي بن أبي طالب- كرم الله وجهه- والزعم أنه القائم الذي سيرجع.

والقائلون بأطروحة المؤامرة اليهودية إنما يَعنون إسهام عبد الله بن سبأ في بلبلة الأفكار الإسلامية وإشعال نيران الفتنة، وابتداع فكرة التشيع، وقبل إيراد صورة من ذلك الجدال المحموم حول الشخصية المذكورة، أسوق ثلاثة نصوص تبرز مضامين الأطروحة: فالنص الأول لعالم الفرق الإمامي الحسن بن موسى النوبختي، يوضح أبعاد المؤامرة ولا يتبناها وإن كان يسوقها مساق المُسَلَّمات، والثاني لأبي جعفر بن شاهين كما أورده في كتاب (اللطف والسنة) ونقله عنه ابن تيمية في (منهاج السنة)، والأول منهما يتبنى الأطروحة، والنص الثالث للدكتور أحمد أمين لأنه أحدث وأشهر من ردد مضمون الأطروحة من المعاصرين.

أ- يقول النوبختي: “أول فرقة قالت في الإسلام بالوقف بعد النبي – صلى الله عليه وسلم – من هذه الأمة، وأول من قال منها بالغلو، وهذه الفرقة تسمى (السبئية) أصحاب عبد الله بن سبأ وكان ممن أظهر الطعن على أبي بكر وعمر وعثمان والصحابة وتبرأ منهم، وقال: إن عليا أمره بذلك، فأخذه علي فسأله عن قوله فأقر به فأمر بقتله فصاح إليه: يا أمير المؤمنين أتقتل رجلا يدعو إلى حبكم أهل البيت وإلى ولايتك والبراءة من أعدائك، فسيره إلى المدائن، وحكى جماعة من أهل العلم من أصحاب علي أن عبد الله بن سبأ كان يهوديا فأسلم ووالى عليا، وكان يقول وهو على يهوديته في يوشع بن نون بعد موسى عليه السلام بهذه المقالة، فقال في إسلامه بعد وفاة النبي – صلى الله عليه وسلم – في علي عليه السلام بمثل ذلك (…) فمن هناك قال من خالف الشيعة إن أصل الرفض مأخوذ من اليهودية”.[46]

والمستخلص من النص:

1- إن عبد الله بن سبأ شخصية حقيقية، كان يهوديا فأسلم واعتقد ولاية علي – كرم الله وجهه- وحكى النوبختي اتفاق “جماعة من أهل العلم من أصحاب علي” على ذلك.

2- إنه أول من قال بالوقف بعد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وانه سيرجع كما رجع موسى.

3- إنه أول من غلا في علي، ليس من الشيعة فقط بل من الأمة بأسرها.

4- إنه أول من أظهر الطعن على أبي بكر وعمر وعثمان والصحابة – رضي الله عنهم-.

5- إن عليا زجره عن مقالته وهم بقتله لولا خوفه افتتان أصحابه.

ب- قال أبو حفص جعفر بن شاهين في كتاب (اللطف والسنة): “حدثنا محمد بن أبي القاسم بن هارون، حدثنا أحمد بن الوليد الواسطي، حدثني جعفر بن نصير الطوسي الواسطي عن عبد الرحمن بن مالك بن مغول عن أبيه قال: قال الشعبي[47]:”أحذركم أهل هذه الأهواء المضلة وشرها الرافضة، لم يدخلوا في الإسلام رغبة ولا رهبة، ولكن مقتا لأهل الإسلام وبغيا عليهم، قد حرقهم علي – رضي الله عنه- ونفاهم إلى البلدان، منهم عبد الله بن سبأ يهودي من يهود آل داود، وقالت الرافضة: لا تصلح الإمامة إلا في ولد علي (…) واليهود يؤخرون الصلاة إلى اشتباك النجوم،وكذلك الشيعة يؤخرون المغرب إلى اشتباك النجوم،واليهود لا يرون على النساء عِدة وكذلك الرافضة (…) واليهود لا يرون المسح على الخفين وكذلك الرافضة”.[48]

هذا النص يقيم التآمر على أساس انتساب عبد الله بن سبأ إلى (الرافضة)، وعلى مجرد المشابهة في الاعتقادات بين منتحلي الرفض ومنتحلي اليهودية، وإن كان ابن تيمية لا يَرُد مضمون هذا الخبر لأن “ما ذُكر موجود في الرافضة، وفيهم أضعاف ما ذُكر”[49] على حد عبارته، فإنه لا يرى تعميم القول على كل الرافضة، ويضيف أن ذم الشعبي لهم ثابت من طرق أخرى غير هذه، فالشعبي “توفي في أوائل خلافة هشام أو آخر خلافة يزيد بن عبد الملك أخيه سنة خمس ومائة أو قريبا من ذلك، فلم يكن لفظ الرافضة معروفا إذ ذاك”.[50]

ج- قال أحمد أمين :”الحق أن التشيع مأوى يلجأ إليه كل من أراد هدم الإسلام لعداوة أو حقد، ومن يُرِد إدخال تعاليم آبائه من يهودية ونصرانية وزراديشتية (…) فاليهودية ظهرت في التشيع بالقول بالرجعة، فقال الشيعة: إن النار محرمة على الشيعي إلا قليلا، وقال اليهود: لن تمسنا النار إلا أياما معدودة”.[51]

ويظهر التماثل جليا بين هذا النص والذي قبله.

وممن وقف طويلا عند شخصية عبد الله بن سبأ مُحَققا ومُنتقدا ومحللا الدكتور طه حسين، إذ أخذ يَعرِض الروايات المتصلة بذلك الشخص ويقارن بينها، فإذا كان في الجزء الأول من كتاب الفتنة الكبرى (عثمان) قد غلب على ظنه أن عبد الله بن سبأ لم يوجِد الخلاف ولم يُثِر الفتنة على عثمان – رضي الله عنه- وإنما استغلهما (الخلاف والفتنة) بعد أن عظما[52]، فإنه في الجزء الثاني استبدل بالظن اليقين، فأفاد أن عبد الله بن سبأ “قد اختُرع بآخرة عندما كان الجدال بين الشيعة وغيرهم من الفرق الإسلامية، أراد خصوم الشيعة أن يُدخلوا في أصول هذا المذهب عنصرا يهوديا إمعانا في الكيد لهم والنيل منهم”،[53] ثم يحسم المسألة قائلا: “إن ابن السوداء لم يكن إلا وهما (…) وإنما هو شخص ادَّخره خصوم الشيعة للشيعة وحدهم ولم يدَّخروه للخوارج”.[54]

ويعتقد باحث آخر هو الدكتور كامل الشيبي أن ابن السوداء (عبد الله بن سبأ) هو عمار بن ياسر نفسه، وأن الذي أطلق عليه ذلك اللقب هي قريش وبنو أمية “أضافت إلى آرائه في علي مبالغات وأضاليل لتضيف إلى أفكار عمار ما يخرج بها عن المعقول ويَسلِبها قوة الإقناع، ويُقَنِّعها بقناع الشك والبطلان، فينصرف عنه وعن آرائه وعن مبدئه في أحقية علي وفضله على سائر المسلمين من معاصريه زمن عثمان”.[55]

وتوقف الدكتور علي سامي النشار في مسألة وجود ابن سبأ أو عدم وجوده، ولم يَخرج بها عن دائرة الاحتمال، واهتم بعرض آراء السبئية معتبرا إياها من نِتاج نفوذ المجامع اليهودية مستغلة انقسام المسلمين.[56]

إن مسلك بعض علماء الفرق الذين أثبتوا وجود عبد الله بن سبأ ولكنهم لم يُدخلوا فرقة (السبئية) ضمن فرق الأمة[57] يبدو أقرب إلى الصواب من مسلك أولئك الذين نفوا وجوده،[58] وإن جريان علماء الرجال الشيعة على الترجمة له يوقِع النفاة منهم – في تناقض وحرج أكيدين، وأجِدني أكثر ميلا إلى الرأي المؤكد على أن عبد الله بن سبأ شخصية حقيقية نشِطت أواخرَ خلافة عثمان – رضي الله عنه- وفي أثناء خلافة علي – كرم الله وجهه- “إلا أنه أضيف إليه من الآراء والأفعال ما جعل دوره مبالغا فيه إلى حد كبير”،[59] زيادة على أن نفي وجود تلك الشخصية يفتح علينا باب عدم الوثوق بأية شخصية في التاريخ لا تروق لنا.

القسم الثاني:الـعـوامـل الـداخـلـيـة

ترتبط هذه العوامل:

أولا: بنصوص شرعية توجِب على كل مسلم أن يُجل أهل بيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم- ويحبهم،ولا يكتمل إيمانه إلا بذلك الحب والإجلال،ومن تلك النصوص ما روي عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- “إني تارك فيكم الثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور ومن استمسك به وأخذ به كان على الهدى ومن أخطأه تركه كان على الضلالة وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي ،أذكركم الله في أهل بيتي،أذكركم الله في أهل بيتي”[60]

ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن والحسين وعليا وفاطمة فمدَّ عليهم ثوبا فقال” اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا”[61]

عن عبد الله بن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم” أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه وأحبوني لحب الله وأحبوا أهل بيتي بحبي” .

لذلك لم يكن عيبا أن يوجد من الصحابة – رضي الله عنهم- من كان يُحب عليا أكثر من عمر،أو أكثر من أبي بكر،ومن يحب أبا بكر أو عمار بن ياسر أكثر من علي،فلم يكن رسول الله يَضرب على العواطف سياجا من التقنين والتنميط ،من ثم فالتشيع كعاطفة قلبية وموالاة لأهل البيت كان موجودا ومعترفا به حتى في زمن النبوة ولكن ليس تحت عنوان “التشيع” بل تحت عنوان “القيام بالواجب” الذي يقتضيه التوجيه النبوي والنصوص الآنفة الذكر.

ثانيا:بأحداث وقعت في التاريخ الإسلامي تفاوتت في درجة أهميتها، واختلفت الآراء بسبب ذلك التفاوت في زمن نشأة التشيع وتطوره: ففي زعم: التشيع هو بذرة النبوة زرعها صاحب الرسالة – صلى الله عليه وسلم – جنبا إلى جنب مع بذرة الإسلام،[62] وهو نتاج لما حدث في السقيفة في زعم ثان[63] واستقل واستوى على سوقه آخر عهد علي – كرم الله وجهه-،[64] أو بعد استشهاده بزمن يسير،[65] أو بعد مقتل الحسين عليه رضوان الله.[66]

وجمع متتبعو منهج “التحقيب” هذه الأحداث والعوامل مجتمعة في أدوار، فحصرها الشيخ الغريفي في ثلاثة:

الأول: عهد التأصيل والتجذير.

الثاني: عهد التجسيد والتطبيق بعد وفاة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى وفاة زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام (ت 64 هـ).

الثالث: عهد الوضوح والامتداد، بدأ في عصر الإمام محمد بن علي الباقر وتنامى في عهد ابنه جعفر الصادق.[67]

ومهما حدث من اختلاف في الأحداث السياسية التي أسهمت في نشأة التشيع وتطوره فلست أشك بأن الآثار النفسية العميقة للمحنة التي أصابت آل البيت الكرام[68] في مراحل مختلفة من حكم بني أمية وبني العباس هي التي أسهمت بقسط وافر في تقوية فكرة التشيع والنزوع بها إما جهة الوسطية والاعتدال، وإما جهة التطرف والغلو.


المؤثر النفسي: المحنة

يقول الشيخ محمد بن خليل المقدسي: “وأما ما جرى بعدهم (أي بعد الصحابة) من الظلم على أهل بيت النبي – صلى الله عليه وسلم – بحيث لا مجال للإخفاء، ومن الشناعة بحيث لا اشتباه على الآراء، إذ تكاد تشهد به الجماء والعجماء، وتبكي له الأرض والسماء، وتنهد منه الجبال وتنشق الصخور، ويبقى سوء عمله على كر الشهور ومر الدهور”،[69] ،وأحرج توالي تلك المحن على آل البيت أبا الفرج الأصفهاني فأحوجه إلى إفرادها بكتاب سماه (مقاتل الطالبيين).

وكان استهلال المحنة بمقتل الحسين بن علي – رضي الله عنهما- في صحراء كربلاء في العاشر من شهر محرم الحرام سنة إحدى وستين للهجرة (61 هـ) ومن يومها “بدأ عصر التوحد النفسي عند الشيعة الاثنا عشرية”.[70]

وجعلت هذه الحادثة المُفجعة القلوبَ تَعطِف على أهل البيت وقد طَوح السيفُ برؤوسِ أكثر من ستين رجلا منهم في يوم واحد، وسيقت النساء سبايا، وكاد ينقطع نسل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لولا عناية الله تعالى التي نجت عليا بن الحسين زين العابدين الذي كان مريضا يوم الفاجعة .

وانطوت قلوب كثير من أهل الكوفة على ألم مُمِض استشعارا لمسؤولية ما جرى للحسين عندما خذلوه وأسلموه، واندلعت على إثر ذلك ثورة التوابين بقيادة سليمان بن صرد الخراعي للثأر من قتلة الحسين.[71]

وخلد علامتنا محمد بن سعيد البوصيري – رحمه الله- ألمه لذلك المصاب شعرا فقال.[72]

 

آل بــيــت الــنــبــي إن فــــــؤادي 

غـيـر أنـي فوضت أمري إلى اللــ رب يــوم بـكــربـــلاء مـســــــيء

الأعــــادي كــأن كــل طـريــــــح

آل بـيـت الـنـبـي طبتم فطــــــــاب

أنــا حـسـان مدحكم فـإذا نــــــــحـ

 

ليس يسليه عـنكم الـتـأســــــــــــــاء 

ه وتـفـويــضــي الأمـــور بــــــراء

خففـت بـعـض رزئه الــــــــزوراء

منهـم الـزق حل عـنـه الــــــــوكـاء

الـمـدح لــي فـيكم وطـاب الرثـــــاء

ت عـلـيـكم فـإنـنـي الـخـنســــــــــاء

 

ويذكر اليعقوبي في تاريخه لما قتل زيد بن علي بالكوفة نَشِطت الشيعة بخراسان وكثر المائلون إليهم، وأخذوا يصفون للناس ما أصاب آل البيت من بني أمية وانتشر الخبر في كل البلاد “وظهرت الدعاة، ورئيت المنامات، وتدورست كتب الملاحم”،[73] ولما بلغ أبا جعفر المنصور خروج محمد بن عبد الله بن الحسن بالمدينة وأعياه تطلبه، قبض على أبيه بن حسن بن حسن وأهل بيته “فلم يزالوا في الحبس حتى ماتوا، وقد قيل: إنهم وجدوا مسمرين في الحيطان”.[74]

ويذكر اليعقوبي – أيضا- أن موسى بن المهدي (ت 170 هـ) قد “ألح في طلب الطالبين وأخافهم خوفا شديدا”،[75] فقصدت الشيعة عليا بن الحسين بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب وقالوا له: “أنت رجل أهل بيتك وقد ترى ما أنت وأهلك وشيعتك فيه من الخوف والمكروه، فقال: وإني وأهل بيتي لا نجد ناصرين فننتصر”،[76] فعزم على الخروج – حينئذ- مع من بايعه ليقتل هو وأكثر من كان معه في معركة فخ “وأقاموا ثلاثة أيام لم يواروا حتى أكلتهم السباع والطير”[77] ليتبين أن التشيع نشأ أوقات المحنة في ظل التخفي والتكتم حيث تنمو الكثير من الأفكار المنحرفة فلا تجد رقيبا ولا حسيبا.

ويروي السيوطي في حوادث سنة ست وثلاثين ومائتين (236 هـ) أن المتوكل أمر بهدم قبر الحسين وحرثه وما حوله من الدور “فتألم المسلمون من ذلك وكتب أهل بغداد شتمه على الحيطان والمساجد وهجاه الشعراء”،[78] وكتب التاريخ حافلة بمثل هذه الأخبار، والقدر الذي أوردته منها يفي بغرض التنبيه على إسهام المحنة في تطور التشيع ، فكان علماء الأمة وأهل بيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ملاذا للمسلمين من الظلم والقهر بوصفهم أكثر التزاما بمبادئ الدين من غيرهم لا باعتبار اعتقاد اختصاصهم بأحقية الحكم والولاية بموجب نص أو وصية.

تطور البنية الفقهية

عامل”المحنة” بالإضافة إلى عاملين آخرين أسهموا جميعا في تطور البنية الفقهية للشيعة،والعاملان الآخران هما:

أولا: ما دأب عليه علماء المذهب من اشتراط الاعتقاد الإمامي الاثنا عشري غالبا في ناقلي الأخبار.[79]

الثاني: تَعمُّد المخالفة للمشهور من العمل عند أهل السنة والجماعة، وحُجَّتهم في ذلك أخبار يروونها منها:”يروي محمد بن بابويه القمي قول من سأل أحد الائمة “فإن كان الخبران منكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟ قال الإمام: ينظر فما وافق حكمه الكتاب والسنة وخالف العامة أخذ به، قلت: جعلت فدالك وجدنا أحد الخبرين موافقا للعامة والآخر مخالفا لهما بأي الخبرين يؤخذ؟ قال: بما يخالف العامة فإن فيه الرشاد”.[80]،

و لبيان هذا التطور أسوق نصا يفصح عن رأي أحد علماء المذهب الشيعي ثم أتبعه برأي آخرين في الموضوع.

ينقل الكاظمي[81] “عن أمين الاسترابادي[82] في رسالة الجمع بين الأخبار ما لفظه أو محصله: “إن مدار الشيعة بعد قضية السقيفة صار على الأحكام الظاهرية الثانوية غالبا إلا ما شذ، لأن بعد تلك الداهية العظمى صار حجة الله مقهورا ونوره مستورا، وظهرت البدع والأهواء، وحدثت المقاييس والآراء، ففشت الجهالة وعمت الضلالة حتى أن عامة الشيعة كانوا على طريقة أهل الجهل في الأحكام إلا ما شذ، وما تمكن حجج الله من أن يبلغوا إليهم الحق إلا ما قل، وكان الأمر على ذلك إلى زمان الباقر، فأبلغهم قدرا من الأحكام على حسب ما قدر على إظهاره ووجد المصلحة في إبرازه، ومع ذلك كان كثير من شيعتهم يعملون بقول أبي حنيفة وابن أبي ليلى معتقدين أنه شرع الله على الطريقة التي كانوا عليها حتى زجراهم ومنعاهم من التحاكم إليهم (…) على أن الأحكام التي أبلغوها لم تكن بأجمعها أحكام الله الواقعية (…) فظهر أن الشيعة في ذلك الزمان كانت تعمل بقول العامة، وبقول الإمام الصادق على وجه التقية أو المصلحة غير بيان الحق المحض، وكذا أصل البراءة والاستصحاب والتوقف والاحتياط والخطأ والكذب والرجحان وأمثالها، وجميع ذلك أحكام ظاهرية (…) إلى أن يظهر من يُمكِّنه الله في أرضه، ويُظهر به دينه وسنن نبيه – صلى الله عليه وسلم – ولا يستخفي بشيء من الحق مخافة أحد من الخلق”.[83]

نقل الكاظمي مقالة الاسترابادي ليُعضِّد بها رأيه في أسباب الاختلاف بين الشيعة أنفسِهم، ويوضح الأول المراد بالأحكام الواقعية الأولية قائلا: “قد ثبت عندنا بالأدلة العقلية والنقلية أنه بعد ثبوت التكليف واستقرار الشيعة لم توجد واقعة وحادثة إلا ولله سبحانه فيها حكم واحد أولي لا اختلاف فيه (…) وهذا هو الذي أنزله الله على نبيه، وبينه النبي لوصيه، وتوارثه الأوصياء واحدا بعد واحد إلى أن ينتهي إلى قائمهم”،[84] وما طرأ على هذه الأحكام بعد السقيفة من تبديل وتغيير – في زعمه – وكان بمحض الهوى والتشهي والاستحسان المخلوط ببعض الحق من ظاهر الشريعة “غير المتعلق بالإمامة”[85] هو المراد بالأحكام الظاهرية الثانوية.

فيُفيد النص تطور الشخصية الفقهية للشيعة عبر مرحلتين:

الأولى: جرى العمل فيها وفق الأحكام المعروفة لدى جمهور المسلمين (العامة) إلا ما شذ، لعدم تمكن الأئمة – في رأي الكاظمي والاسترابادي- من تبليغ الأحكام الأولية.

الثانية: انتشر فيها العلم بالأحكام الواقعية الأولية زمن الباقر والصادق، فكانت الشيعة تعمل بقول “العامة” (أي جمهور المسلمين) وبقولهما على وجه التقية، ومرجع انتشار العلم بالأحكام الأولية إلى استفادة الباقر والصادق من صراع الأمويين والعباسيين أواخر عهد بني أمية بالحكم،[86] فضلا عن اعتقاد البعض أنه إذا كان علي أحق بالخلافة من غيره فحفيداه الباقر والصادق أحق بأن ينقطع إليهما في أحكام الفقه من غيرهما.[87]

وقد استغرب الدكتور البوطي هذا الجنوح المُتَعمد نحو الاستقلال من الشيعة على الرغم مما كان بين الإمامين الباقر والصادق والكثير من أئمة السنة من صلات المودة والاحترام والتلمذة، وتساءل: ما الذي حال دون استمرار هذه الوحدة المذهبية إلى اليوم؟ فيُجيب: “أغلب الظن أن الشخصية الفقهية للشيعة نشأت فيما بعد مع الزمن، وإنما نشأت ظلا لشخصية التشيع وآثاره وذيوله، ولعل بروز هذه الشخصية الفقهية فيما بعد لم يكن إلا نتيجة عامل واحد هو الغلو في معنى الانتصار والتشيع لآل البيت”،[88] إلا أنه لو أمعن النظر في أسباب هذا الغلو في الانتصار لآل البيت لأدرك ولوقف على السبب المتعلق بالمؤثر النفسي الآنف الذكر: المظلومية والمحنة.

إن سب الإمام علي كرم الله وجهه على المنابر حينا من الدهر قد جرَّأ الروافض- كردود فعل- على سب الصحابة والنيل منهم، مما جعل التشيع ينحو شيئا فشيئا نحو الانغلاق والتقوقع والرفض لكل شيء،ولقد أدرك الذين نازعوا- من الأمويين- الإمام عليا خلافته الشرعية أن التشيع كعاطفة بريئة من السب هو الأصل في الأمة كلها،وأن بقاءه متلفعا بتلك البراءة من شأنه أن يُقَوض سلطانهم،لذلك فكروا في لُعبة خبيثة يضربون بها عصفورين بحجر واحد،فمن جهة القضاء على الإرث العُمَري في العدل وعدم توريث السلطة،ومن جهة افتعال الخصومة بين الخلفاء الثلاثة السابقين وبين علي رضي الله عن الجميع،كيف تم ذلك،تم ذلك بِتعمُّد الإفراط في ذكر فضائل أبي بكر وعمر وعثمان- وهم أهل الفضل حقا وصدقا- مقابل التنقيص من قدر سيدنا علي كرم الله وجهه، فعادى الذين انطلت عليهم اللعبة كل من يذكرهم بنو أمية بخير، فلكم أن تتصوروا لو أن أمريكا أو الأنظمة المستبدة أفرطت في كيل المديح لفاضل من فضلاء الأمة حقا لتسربت الشكوك إلى ذلك الشخص، هكذا صنع بعض بني أمية بأبي بكر وعمر وعثمان فأقحموا هذه الأسماء الكريمة في منازعتهم الخليفة الشرعي حقه في الخلافة بعد عثمان،وستكتمل صورة نشوء مقالات الرفض بإدراك مدى الأثر الذي تركته القِتلة المأساوية للحسين عليه رضوان الله،فَقَلَّت مواقف التثبت،وهذا شأن الفتن التي قال عنها الإمام علي كرم الله وجهه:”يُنكرن مقبلات ويُعرفن مدبرات” أو”إذا أقبلن شَبهَّن وإذا أدبرن نَبَّهن”.

إلى هنا وقع الكلام موقع التنبيه على مفهوم لفظ (الشيعة) ومصاديقه،وعلى أطروحات نشأة المذهب وتطوره.

فمن حيث اللفظ والماصدق آل معنى التشيع إلى قسمين كبيرين:قسم هو التشيع المطلق الذي فيه معاني المحبة الكاملة لعلي كرم الله وجهه بتقديمه أو بعدم تقديمه على الشيخين رضي الله عنهما بلا سب،وقسم هو الرفض الذي يتنزل على معاني المحبة الكاملة لعلي[89] بتقديمه على الشيخين وسب كبراء الصحابة وهو الغالب- مع الأسف -على شيعة اليوم(الاثناعشرية)،ثم لِنُمسك بهذا الاستنتاج الذي نخرج به من عرضنا للزيدية: الذي سمَّى من يَسُبون كبراء الصحابة رافضة وجيه من وجهاء أهل البيت هو زيد بن علي – عليه رحمة الله- وليسو أهل السنة.

ومن حيث النشأة والتطور نقول دون وَجَل من أن نُتهم بالسقوط في نظرية المؤامرة:نعم إن دولة كبيرة كفارس ما كانت لتستسلم بسهولة لسلطان المسلمين،لذلك فالتآمر مُتوقع منها،إما خارجيا وذلك بتحريض”دول الطوق” على الدولة الإسلامية الوليدة،وإما داخليا عبر انتهاج سياسة فرق تسد،وعبر سياسة دس العناصر المُخَرِّبة،وعبر سياسة اغتيالات نجحت في قطف رأس رئيس الدولة الخليفة الراشد الشهيد عمر بن الخطاب رضي الله عنه،وبالتوازي لا تحتاج إلى براهين المؤامرات اليهودية ذات الطابع العنصري “شعب الله المختار”(أولم تقل اليهود نحن أبناء الله وأحباؤه) ، وكامتداد لتلك المؤامرات شكَّلت بعض التفاسير- بقصد أو بغير قصد- البوابة “العلمية” التي وَلَج منها “التطبيع” مع الموروث اليهودي الخرافي إلى عقول المسلمين، لكن تضخيم دور المؤامرات الفارسية واليهودية فيه نظر، لأن المُعول عليه دائما في حركة التاريخ العوامل الأصيلة الداخلية أكثر من العوامل الدخيلة الخارجية – ولهذه وزنها لا ريب- ، وما أشبه صنيع من يُضخِّمون دور المؤامرات الخارجية بصنيع من يرى – من أهل زماننا- أن كل نأمة وحركة في العالم من ورائها مؤامرة يهودية في غفلة – واستغفال- عن عوامل العدوان الداخلي من استبداد سياسي وظلم اجتماعي وتفسخ أخلاقي.


[1] – إسماعيل الجوهري، تاج اللغة وصحاح العربية، 3/ 1240.

[2] – أحمد بن فارس معجم مقاييس اللغة، 3/ 235.

[3] – الراغب الأصفهاني، معجم مفردات القرآن، ص: 279.

[4] – ابن منظور، لسان العرب، 8/188/ 189.

[5] – انظر: النوبختي فرق الشيعة، ص: 17

[6] – الشيخ مفيد، أوائل المقالات في المذاهب المختارات، ص: 34- 35/ 38

[7] – الشهرستاني، الملل والنحل، 1/ 144- 145.

[8] – انظر: ابن حزم، الفصل في الملل والأهواء والنحل، 2/113

[9] – انظر أوائل المقالات، ص: 38.

[10]– ولد سنة 128 هـ وتوفي سنة 183 هـ، كان يدعى العبد الصالح، انظر: النوبختي، فرق الشيعة، ص: 84- 85، وشذرات الذهب 1/ 304، ووفيات الأعيان15/308- 309.

[11]– انظر: النوبختي، فرق الشيعة، ص: 79 وما بعدها.

[12] – ابن الأثير، الكامل في التاريخ، 4/246، انظر أنساب الأشراف للبلاذري، 3/240، تح: محمد باقر المحمودي

[13] – من تلك الأحاديث ما يرويه الإمام أحمد في المسند عن إبراهيم بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب عن أبيه عن جده، قال: قال علي بن ابي طالب: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- “يظهر في آخر الزمان قوم يسمون الرافضة”، المسند 1/221.

[14] – ابن تيمية، منهاج السنة النبوية، 1/8.

[15] – الذهبي، ميزان الاعتدال في نقد الرجال 1/5- 6، تح: علي محمد البجاوي

[16] – المصدر نفسه، 1/5- 6.

[17] – قال عنه الذهبي في تذكرة الحفاظ 2/ 549: “أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب، قال ابن عدي: كان بتحامل على علي-رضي الله عنه- وقال الدارقطني: كان من الحفاظ الثقات المصنفين؟، وفيه انحراف عن علي، مات في سنة 256 هـ”.

[18] – ابن حجر، تهذيب التهذيب، 1/81- 82

[19] – الشهرستاني، الملل والنحل، 1/ 154- 155.

[20] – البلاذري، أنساب الأشراف، 3/250.

[21] – الشهرستاني، الملل والنحل، 1/157.

[22] – البلاذري، أنساب الأشراف، 3/239.

[23] – المصدر نفسه، وظلت حركات الزيدية السياسية وفية لخط الخروج بعد استشهاد زيد: فخرج يحيى بن زيد بخرسان وقتل بها، وخرج عيسى بن زيد وقتل، وخرج بالمدينة محمد بن عبد الله بن الحسن (الملقب بالنفس الزكية)وقتل بها، وخرج ابراهيم بالبصرة وقتل بها، وخرج بالمغرب إدريس بن عبدالله بن الحسن وقتل به مسموما، انظر: طبقات ابن سعد 5/387 وما بعدها، ابن العماد الحنبلي، شذرات الذهب، 1/ 167.

[24] – انظر: محمد أبو زهرة، الإمام زيد، ص: 225 وما بعدها.

[25] – انظر: النوبختي، فرق الشيعة، ص: 54 وما بعدها.

[26] – صالح بن مهدي بن علي بن عبد الله المقبلي ثم الصنعاتي الزيدي، ولد سنة 1047 هـ وتوفي سنة 1110 هـ، هدية العارفين 1/ 424.

[27] – صالح المقبلي، العلم الشامخ في تفضيل الحق على الآباء والمشايخ، ص: 318- 319، مصر ط.1. 1328 هـ.

[28] – انظر النوبختي، فرق الشيعة، ص: 67 وما بعدها.

[29] – انظر: د.مصطفى غالب، تاريخ الدعوة الإسماعيلية، ص: 158، وما بعدها

[30] – ابن حزم، الفصل في الملل والأهواء والنحل، 2/115.

[31] – عبد الرحمن بن الجوزي، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، 5/ 110

[32] – د.قاسم غني، تاريخ تصوف در إسلام (فارسي)، ص: 31

[33] – انظر: علي الشابي، الشيعة في إيران، ص: 116و 123

[34] – انظر: الشيبي، الصلة بين التصوف والتشيع، ص: 101.

[35] – انظر: د. مصطفى الشكعة، إسلام بلا مذاهب، ص: 173- 174

[36] – انظر: د.علي الشابي، الشيعة في إيران، ص: 23.

[37] – يقول الدكتور احمد أمين: “ومما يتصل بعقائد الفرس الدينية أنه كانوا ينظرون إلى ملوكهم كأنهم كائنات إلهية اصطفاهم الله بالحكم وخصصهم بالسيادة وأيدهم بروح منه، فهم ظل الله في أرضه (…)، فنظرة الشيعة في علي وأبنائه هي نظرة آبائهم الأولين من الملوك الساسانيين”، فجر الإسلام، ص: 137

[38] من هنا سيبدو الرأي القائل إن التشيع في المغرب هو الأصل والتسنن هو الاستثناء تبسيطيا،إذ لو طبقنا نفس المقياس الذي استعمله صاحب هذا الرأي وله صلة بالجغرافيا القديمة للمذاهب لقلنا إن التسنن هو الأصل في إيران والتشيع هو الاستثناء،باعتبارأن إيران كانت سنية .

[39] – انظر: شكيب أرسلان، حاضر العالم الإسلامي، 1/ 196

[40] – المصدر نفسه، 1/ 163.

[41] – انظر: محمد أبو زهرة، الإمام زيد، ص: 107.

[42] – انظر: شكيب أرسلان، حاضر العالم الإسلامي، 1/ 187.

[43] – فمنهم البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجة وأبو داود وأبو القاسم البل

خي وأبو بكر الرازي والإمام الغزالي وأبو علي الفارسي والزمخشري أبو زيد البسطامي وغيرهم.

[44] – د.طلال عتريسي، صورة الإيرانيين في الكتب المدرسية العربية، ندوة العلاقات العربية الإيرانية، مركز الدراسات الوحدة العربية، ص: 311.

[45] – يوجد مصداق لذلك الجدال فيما دأب عليه علماء الشيعة المتأخرون من التشكيك في وجود عبد الله بن سبأ أصلا، واشتهر من بينهم مرتضى العسكري الذي اعتبر ابن سبأ شخصية مختلقة، وأفرد كتابا خاصا لإثبات هذه المقولة (عبد الله بن سبأ واساطير أخرى)، ويحسن في هذا الباب مراجعة الدراسة الشاملة للدكتور إبراهيم بيضون عن عبد الله بن سبأ في مجلة المنهاج “عبد الله بن سبأ في الدراسات الحديثية والمتأخرة” “المنهاج، عدد 2، السنة 1، صيف 1996 م، وانظر من باحثي أهل السنة: د. علي سامي النشار، نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، 2/36 وما بعدها، ود. محمود صبحي، نظرية الإمامة، ص: 35 وما بعدها.

[46] – النوبختي، فرق الشيعة، ص: 22، وانظر: ابن كثير، البداية والنهاية، 7/ 174.

[47] – عامر بن شراحيل الهمداني، قال عنه الذهبي في تذكرة الحفاظ، 1/ 79: “كان إماما حافظا، فقيها متقنا، ولد سنة جلولاء (17 هـ)، أقام بالمدينة هاربا من المختار أشهر (…) نجا من سيف الحجاج وعفا عنه وولي قضاء الكوفة كان يقول: أنا مبغض لمن أبغض عثمان وعليا”.

[48] – ابن تيمية، منهاج السنة النبوية، 1/ 6.

[49] – المصدر نفسه، 1/ 8.

[50] – ابن تيمية، منهاج السنة، 1/ 8.

[51] – أحمد أمين، فجر الإسلام، ص: 276- 277.

[52] – طه حسين، الفتنة الكبرى (1- عثمان)، ص: 134

[53] – طه حسين، الفتنة الكبرى (2- علي وبنوه)، ص: 24

[54] – المصدر نفسه، ص: 91.

[55] – د. كامل الشيبي، الصلة بين التصوف والتشيع، ص: 88- 89.

[56] – انظر: علي سامي النشار، نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، 2/ 39

[57] – انظر: عبد القاهر البغدادي، الفرق بين الفرق، ص: 21.

[58] – انظر: هاشم معروف الحسني، الشيعة بين المعتزلة والأشاعرة، ص: 2، هادي خسروشاهي، “عبد الله بن سبأ بين الواقع والخيال (6) “مجلة الهادي، عدد 1، السنة 4، 1395 م، ص: 115.

[59] – د. محمد سليم العوا، في النظام السياسي للدولة الإسلامية، ص: 93

[60] السنن الكبرى للنسائي – (5 / 51)

[61] السنن الكبرى للنسائي – (5 / 113)

 

[62] – انظر محمد حسين آل كاشف الغطاء، أصل الشيعة، ص: 52، محمد باقر الصدر، بحث حول الولاية، ص: 70، النجاشي، كتاب الرجال، ص:3.

[63] – انظر: د.حسن عباس حسن، الصياغة المنطقية للفكر السياسي الإسلامي، ص: 25.

[64] – انظر: محمد أبو زهرة، الوحدة الإسلامية، ص: 163- 164.

[65] – انظر: مرتضى المطهري، الملحمة الحسينية، 1/206.

[66] – انظر: علي سامي النشار، نشأة الفكر الفسلفي في الإسلام، 2/ 34.

[67] – انظر: عبد الله الغريفي، التشيع (نشوؤه- مراحله- مقوماته)، ص: 451

[68] الذين لا يجوز للشيعة ادعاء التفرد بمحبتهم .

[69] – ابن خليل المقدسي، الرد على الرافضة، ص: 143، تح: أحمد حجازي، بيروت، دار الجيل، ط.2. 1990.

[70] – د.فهمي هويدي، إيران من الداخل، ص: 224، انظر تفاصيل استشهاد الإمام الحسين عند الطبري في تاريخه 6/ 260 وما بعدها، وابن الأثير في الكامل، 3/ 283 وما بعدها.

[71] – انظر: قصة الثورة في تاريخ اليعقوبي، 2/ 228، دار بيروت، 1980.

[72] – الإمام البوصيري، القصيدة الهمزية في مدح خير البرية، ص: 33- 34

[73] – تاريخ اليعقوبي، 2/326.

[74] – المصدر نفسه، 2/ 370، انظر ابن الأثير، الكامل 4/374- 375، البلاذري، أنساب الأشراف 3/109.

[75] – تاريخ اليعقوبي، 2/ 404.

[76] – المصدر نسفه.

[77] – المسعودي، مروج الذهب، 3/336، بيروت، دار الأندلس، ط.1.

[78] – جلال الدين السيوطي، تاريخ الخلفاء، ص: 321، وبلغ التشيع أعلى درجات التنظيم والتعبئة إبان الدعوة العباسية للثورة على بني أمية، انظر قصة الدعوة في البداية والنهاية لابن كثير، 9/197 وما بعدها.

[79] – قلت غالبا لأنه قد يوجد بين رواة أخبار الشيعة، عدول من أهل السنة أو من المخالفين للشيعة من غير أهل السنة، يقول النجاشي في ترجمة أصرم بن حوشب البجلي: عامى ثقة روى عن أبي عبد الله نسخة، (كتاب الرجال، ص: 83).

[80] – محمد بن بابويه القمي، فقيه من لا يحضره الفقيه، 3/9- 10

[81] – أسد الله بن الحاج إسماعيل الكاظمي من علماء الإمامية توفي سنة 1220 هـ، وانظر هدية العارفين، 1/203 ومعجم المؤلفين لرضا كحالة، 2/241.

[82] – محمد أمين بن محمد شريف الاسترابادي من علماء الإمامية توفي سنة 1033 هـ، انظر رضا كحالة، معجم المؤلفين 9/79.

[83] – الكاظمي، كشف القناع عن وجوه حجية الإجماع، ص: 88- 89، إيران، مؤسسة آل البيت، 1317 هـ.

[84] – المصدر نفسه، ص: 60.

[85] – المصدر نفسه، ص: 62.

[86] – انظر: الكاظمي، كشف القناع، ص: 67، محمد حسين آل كاشف الغطاء، أصل الشيعة، ص: 61.

[87] – انظر: د.موسى الموسوي، الشيعة والتصحيح، ص: 13.

[88] – د.رمضان البوطي، أهمية المذاهب الفقهية”، كتاب ندوة التقريب، ايسيسكو (1991 م)، ص: 70.

[89] المحبة الكاملة تقتضي الاتباع الكامل،فسب كبراء الصحابة يخرم دعوى المحبة الكاملة لعلي الذي لم يعرف عنه إلا الاحترام الكامل لأبي بكر وعمر وعثمان،والاختلاف في وجهات النظر وتقدير الأمور لا يناقض بتاتا ذلك الاحترام،فلا يعقل أبدا أن يسمي علي ثلاثة من أولاده بأسماء أعدائه:فقد سمى :أبا بكر وعمر وعثمان،لينظر:الإرشاد للمفيد ص218،بحار الأنوار 42/120،تواريخ النبي والآل للتستري ص 115.

* كاتب وباحث أكاديمي- المغرب

[email protected]


نشر منذ

في

من طرف

الآراء

اترك رد