د محمد غاني، باحث في الأكسيولوجيا والديونطولوجيا
يعيش المجتمع الاسلامي في تفرقة و تشرذم كيبر، يتفاقم بمرور الزمن لأسباب غرست منذ زمن دون وعي من مكوناته، و مع قلة البحث و التفكير لتشخيص الأزمة الصحية التي يعاني منها الجسد الاسلامي صعب، بل و يصعب ايجاد سبل العلاج المناسب للحالات المرضية التي يعاني منها هذا الجسد، حيث أنه بتوالي الأيام و مع عدم الوعي بالفيروسات الهادمة التي تنخر فيه بثبات و بطئ لا تشعر مكوناته بالخطر المهدد، فلا تتحرك مضادات الفيروسات للمقاومة. و الحال هاته يتبادر الى الذهن التساؤل الكبير كيف الخروج من المأزق؟ و ما النهج الذي ينبغي أن يتخذه المفكر للتنبيه الى مكامن الداء ؟ و ما السبيل الذي على الطبيب أن يسلكه ليس فقط لتشخيص أنواع الأمراض التي ولد بعضها بعضا الى أن أصبح حال الأمة على هاته الحال المخزية، بل و أيضا استشراف سبل علاج ذكية تحارب الفيروسات المتطورة التي تنخر المشترك من أطراف الجسد العربي.
لا شك أن تشخيص الداء هو أول الطريق للعلاج، يرى د عبد الحفيظ يحيى خوجة أنه ” لبدء العلاج لا بد من التشخيص الصحيح، خاصة في الأمراض المزمنة …، حيث يتطور، وتتدهور حالة المريض بمرور الوقت. وأول طرق العلاج هو التشخيص المبكر”،1، لكن قبل ذلك لا بد من تصور الجسد الاسلامي، و معرفة أطرافه و حواسه، بل و كيفية اشتغالها حتى يتمكن الطبيب من تصور المرض، و بالتالي الاجتهاد في الحد منه بل و علاجه بصفة نهائية.
وجه الأمة
لا غرو أن وجه كل أمة علماؤها و مثقفوها، فهم الذين يعطون الانطباع عن حال الجسد النفسي، هل هو بمزاج سيء أم جيد، يصور مثقفوا كل شعب حالة عصرهم على شكل كتب و مقالات تصف كل جليل أو دقيق، و نقصد بالطبع العلماء و المفكرين النزهاء الذين ينقلون الواقع كما هو من أجل النقد البناء لا مجرد النقد من أجل النقد.
و لذلك شارك الفيزيائي الكبير في سمفونية رائعة عن جسيم هوكز بوزون مصادم الهدرونات تحت عنوان “العلم وجه الخليقة” نظرا لوعي الغرب بدور العلم في الرقي بالأمم.2.
و قد نشرت مجلة الفرات في عددها 845 مقالا تحت عنوان “العروبة وجه الأمة” دون ذكر اسم الكاتب، لكننا لا نتفق مع هذا الرأي، ذلك أن اللغة في نظرنا لسان و ليس وجه، فكان بالأحرى عنونة المقال “العروبة لسان الأمة.
لسان الأمة: لغتها العربية.
نزل القرآن بلسان عربي مبين بتعبير القرآن نفسه، و لغة كل أمة لسانها، لذلك اعتنت كل أمة بلغتها، بل و نشرت القوية منها لغاتها في الدول الضعيفة، من أجل ابهار شعوبها بثقافتها، فلا تتنفس الشعوب بعد ذلك الا ما وصل إليها على يدها من أوكسيجين الثقافة، قال الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر في مقدمة صدر بها كتاب فرانز فانون: “معذبو الأرض”: “كنا نحضر رؤساء القبائل وأولاد الأشراف والأثرياء والسادة من افريقيا وآسيا ونطوف بهم بضعة أيام في امستردام ولندن والنرويج وبلجيكا وباريس، فتتغير ملابسهم، ويلتقطون بعض أنماط العلاقات الاجتماعية الجديدة. ويتعلمون منا طريقة جديدة في الرواح والغدو، ويتعلمون لغاتنا وأساليب رقصنا وركوب عرباتنا، وكنا ندبر لبعضهم أحيانا زيجات أوربية ثم نلقنهم أسلوب الحياة الغربية… كنا نضع في أعماق قلوبهم الرغبة في أوربا ثم نرسلهم إلى بلادهم وأي بلاد!؟ بلاد كانت أبوابها مغلقة دائما في وجوهنا، ولم نكن نجد منفذا إليها،ـ كنا بالنسبة إليها رجسا ونجسا، ولكن منذ أن أرسلنا المفكرين الذين صنعناهم إلى بلادهم. كنا نصيح من امستردام أو برلين أو باريس “الإخاء البشري” فيرتد رجع صوتنا من أقاصي افريقيا أو الشرق الأوسط أو شمالي افريقيا… كنا نقول: ليحل المذهب الإنساني أو دين الإنسانية محل الأديان المختلفة، وكانوا يرددون أصواتنا هذه من أفواههم، وحين نصمت يصمتون، إلا أننا كنا واثقين من أن هؤلاء المفكرين لا يملكون كلمة واحدة يقولونها غير ما وضعنا في أفواههم.3.”
رئتا الجسد الاسلامي.
يتنفس كل جسد برئتين، و رئة كل أمة نساؤها و رجالها، و ينبغي أن يتناغما في تنفس كل هواء ثقافي نقي حتى لا يمرض جسد الأمة بأمراض بزكام الجهل الذي قد يصيب الجسد بسعال التطرف و سل الانقتال،4.
إن الاهتمام بالموارد البشرية كان دوما هو ديدن الحضارات المتقدمة، ذلك أن بناء الانسان في بعديه الذكوري و الأنثوي هو حتما من بناء المجتمع ككل، حيث أن الموارد البشرية تشكل رأس مال فائق الأهمية و هو الثروة الحقيقية لكل أمة إن هي أحسنت استغلاله.
يُبين آدم سميث مؤسس علم الاقتصاد الاجتماعي بأن :” قدرات الأفراد تتوقف على مدى اكتسابهم للتعليم“،5، و “تنمية الموارد البشرية بمدلول مكثف هي الاستخدام المتكامل للتدريب و المنظمة و جهود التطوير الوظيفي لتحسين أداء الفرد و المجموعة و الفعالية التنظيمية. تطوِّر عملية تنمية الموارد البشرية الكفاءات الأساسية التي تمكّن الأفراد في المنظمات لأداء الوظائف الحالية و المستقبلية من خلال التخطيط لأنشطة التعلم. و تستخدم عملية تنمية الموارد البشرية في الهيئات و المؤسسات من أجل بدء و إدارة التغيير. كما تضمن تنمية الموارد البشرية أيضاً التطابق بين الاحتياجات الفردية و التنظيمية و الإستراتيجية للمؤسسة أو الشركة التي يعمل بها الموظف المستهدف بفعل التنمية البشرية.”،6، و لا يستقيم تكوين الموارد البشرية دون أخلاق لذلك كانت التربية غذاء لهذا الجسد.
التربية غذاء الجسد
لم أتى الدين بتعبيره نفسه هو ليتمم مكارم الأخلاق؟ لا شك أن الجواب واضح لكل ذي لب: الأخلاق ثمرة تنتج من قلوب موارد الأمة البشرية التي أنبتها الله من الأرض نباتا ثم يعيدهم فيها و يخرجهم إخراجا.
إن رأس المال البشري للأمة بمثابة نبات يسقى بماء التوحيد من قرآن و سنة فيثمر أخلاقا زكية تعطر جنة الأرض كما عطر ورود الصحابة الكرام كزرع أخرج شطأه فآزره بعجب الزراع من أمثال رسولنا الأكرم صلوات الله و سلامه عليه ليغيظ بهم كفار النعم الغافلين عن ذكره.
لا تربية بدون مرجعية غيبية تسقي القلوب بمطر التوحيد عبر سحب العناية و الفضل التي تظلل واحات التوحيد من رياض الجنة، و لذلك كان الانسان من مكونات جنة السماء فلما نزل الى أرض الغفلة أمر بالتوحيد ليحافظ على نبتته من الذبول فمن حافظ عليها أزهرت وردته في الآخرة، و من غفل عن التوحيد صار الى الذبول و جاور أشجار الزقوم من نبات أهل النار و العياذ بالله.
أوكسيجين الثقافة.
كلما اختار الجسد مكانا نقيا للتنفس، إلا و حافظ على رئتيه من أجل أن يطول استعمالها بالشكل الجيد دون أن تفسد بمرض أو علة، و أكسجين كل أمة ثقافتها حديقتها مكتباتها و شجر الحديقة كتبها. و لا عجب ان اعتنى الغرب بمكتباته و بالعاملين و فيها و خصص أوقات الأسبوع كلها للدرس و التحصيل، كما لا غرابة إن أهملت الأمم المتخلفة حدائقها الفكرية و أوكسيجينهم الثقافي لغفلتهم عنها و لذلك كان الذكر روح كل فكر، يرى نيلسون مانديلا ” لا يوجد بلد يمكن أن تتطور حقا ما لم يتم تثقيف مواطنيها”،7، فثقافتهم بمثابة الأكسجين الذي ينبغي أن يختار بعناية شديدة حتى ينمو الجسد العربي بالشكل السليم كما نمت الأمم المتحضرة بالاعتناء بحدائقها الفكرية و تشجيعهم على دورات تنفسية واعية يذهب توماس جيفرسون الى أن “من لا يقرأ شيئاً على الإطلاق أكثر ثقافة ممن لا يقرأ سوى الجرائد”.8.
يذهب الاستاذ تركي محمد الثبيتي الى أننا “نحن بحاجة كبيرة لنشر ثقافة الاعتذار في مجتمعنا، فحين نُربي أبناءنا ونُعودهم على كلمات ومفردات التواضع والاعتذار ومن ثم نعلمهم كيفية الاعتذار فهذا بلا شك يستوجب منا الإشادة بتصرف الطفل أمام الآخرين وتعزيز تلك الفضيلة فيه”،9، و نقيس على ذلك فنقول أننا بنشر الثقافة فإننا نغدي أجساد أطفالنا بهوائ ثقافي نقي يسهم في صحة رئتيه (نساء و رجال)، فيحيا المجتمع حياة طيبة و يتنفس جسده كل ما يحيي خلاياه الفكرية فيبدع كل ما هو جميل، فقط إن هو أضاف الى ذلك أن حرص على أن يمشي بقدمي العلم و العمل فكل أمة لم تتقدم الا بعمليتي النظرية و التطبيق حتى تتبث من نظرياتها بتطبيقها.
أطراف الجسد الاسلامي.
إذا كان قدما الجسد هما العلم و العمل، فإن يداه هي جيشه الذي به يبطش و يتحسس الآخر، و نقصد بالجيش هنا كل الأجهزة الدفاعية من أجهزة أمن و مخابرات و عسكر ينبغي أن تتناغم فيما بينها كأصابع اليد و تعمل من أجل خدمة الجسد دون أن يخدع بعضها بعضا و أن تتلاحم براحتي اليد كمنسقتين بين الأصابع.
تبقى بصمات كل أمة مختلفة عن غيرها من الأمم كما يختلف لون شعر جسدها عن الأخرى أو قد يتشابه، المهم أن هذا الاختلاف سبب في معرفة خصوصة الهوية الفردية، و في جمالية الهوية الجمعية.
و بموازاة مع ذلك كل خلية من هذا الجسد (أي كل فرد فرد)، عليه أن يعي بالمشترك بين جسده الخلوى أجساد الخلايا الأخرى، فيكون على هذا المستوى وجهه هو فكره الذي به يعرف، و قدماه علمه و عمله، كما أن بصماته الفكرية و العقدية و الروحية و ان اختلفت فلا تنافي في ذلك في اشتراك جسد الفرد مع باقي الخلايا في الهوية الجمعية و في المقابل كل له هويته الفردية.
قلب المجتمع
قلب كل مجتمع مراكز التفكير فيه، فهي التي تعطي الأوامر لباقي أطراف الجسد حتى دون شعور منه، و تعرف عند ذوي الاختصاص من علماء السياسة بصناديق التفكير أو بنوك الفكر و هناك من عبر عنها ب”صناديق المخ” في الاشارة الى أمثال مؤسسة راند أو مؤسسة بروكينز للثينك ثانك و التي ساهمت بشكل كبير خلال الحروب العالمية الفائتة، بل و لا تزال تفكر في التخطيطات الاستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية.
يذهب الباحث السياسي هزار صابر أمين إلى أنه “لا يوجد اختلاف أو تباين كبير بين كل هذه التعريفات حول ثينك تانكس، وإنما كلها تشترك على أنه الثينك تانكس عبارة عن منظمة أو مؤسسة أو معهد أو جماعة أو مركز مخصص للقيام بالأبحاث والدراسات في مجالات معينة أو حول العديد من القضايا المتنوعة سواء بهدف نشر الثقافة والمعرفة العامة أو خدمة احد الأطراف الرسمية (حكومية) أو غير الرسمية (المجتمع بصورة عامة)، وتقديم المقترحات والحلول لمشاكل معينة، بحيث أصبحت تلك المراكز واحداً من المرتكزات الأساسية لإنتاج المعرفة والتفكير العام في الدولة من خلال النشاطات العلمية التي تقوم بها من الأبحاث والمؤتمرات والإصدارات الدورية والكتب والمنشورات التي تنشرها إلى درجة أصبحت مهمة مراكز التفكير ليست فقط تقديم دراسات أكاديمية تحليلية نقدية لكنه يتناول مشكلة معينة بصورة مباشرة ويقدم للمختصين وصانعي القرار في الدولة أو في القطاع الخاص بدائل يمكن أن يختار أفضلها أو قد يقدم بديلاً واحداً لابد من الاعتماد عليه من قبل الجهة المعنية وهنا يبرز دور وأهمية هذه المراكز”10.
و ما جعلنا نشبه مراكز التفكير بالنسبة لكل أمة بقلب الأمة هو أنها تقوم في العادة بالمشاركة في صنع السياسة العامة للدولة من خلال (إرساء الأسس الفكرية والفلسفية والاجتماعية والاقتصادية للبرامج والسياسات الرئيسية) ، قد لا تمثل مراكز التفكير رأي الأغلبية، ولكنها تعمل بكل جهدها وتحاول باستمرار (إعادة تشكيل رأي الأغلبية بما يتفق مع وجهة نظرها وفهمها الذاتي لمصالح أمريكا الوطنية، أو ما يعد (مصالح وطنية)11. و بهذا فهي بمثابة قلب الأمة و إن كان لا يشكل أغلبية الجسد، الا أنه يسري بقراراته في سائر مكوناته
من حيوانية الجسد الى حضارته
درسنا جميعا في فصول دراسة مادة الفلسفة بالمرحلة الثانوية عن “الطبيعة و الثقافة” و عرفنا أن الطبيعة هي ما جبل عليه الانسان من غرائز، و الثقافة في المقابل هي تحضر الانسان، و خروجه من حيوانيته الى حضارته و رقيه و بريستجه. تقتضي طبيعة الجسد أن يتغذى و تأتي الحضارة و الثقافة لتعلمه طريقة الأكل بثلاث أصابع عند أمة معينة و بالشوكة و السكين عند أخرى و بقطعتي خشب دقيقتين عن شعوب الصين مثلا.
نفس الأمر يسقط أيضا على جسد كل أمة حيث تتصرف بسجيتها دون تخطيط في أول أمرها، و مع احتكاكها بالأمم الأخرى تخرج من حالة الحيوانية الغريزية الى حالة الحضارة، يبدع علي عزت بيجوفيتش حكمة بليغة في هذا السياق قائلا “الثقافة معناها الفن الذي يكون به الإنسان إنسانا أما الحضارة فتعني فن العمل والسيطرة و صناعة الأشياء صناعة دقيقة الثقافة هي الخلق المستمر للذات أما الحضارة فهي التغيير المستمر للعالم وهذا هو تضاد : الإنسان والشيء الإنسانية والشيئية”،12.
و ختاما يبقى هذا المقال مجرد نقطة من بحر البحث عن المشترك داخل الجسد الاسلامي و توسيع البحث فيه، و الانتقال في مرحلة لاحقة عن المشترك الانساني، من أجل تعايش المسلمين فيما بينهم كوعي و حقيقة ثابتة لا تتزعزع بفعل التآمر و الحيل المدبرة من طرف الآخر الحسود، و بهدف عيش الأمة الاسلامية في تناغم مع سائر الحضارات الأخرى و لذلك خلقهم.
إن ناشئة الليل هي أشد وطئا و أقوم قيلا، لا شك أن تأسيس دعائم قوية لكل أمة ينبغي أن تكون في الخفاء، و الاستعانة بالكتمان باب مفتوح دوما لقضاء الأغراض، فما على شباب هاته الأمة الا التنافس على قراءة كل ما وصل بين أيديهم في ليلهم الحضاري الى أن تبزغ شمس النصر.
الهوامش
1، أنظر موسوعة العلوم على موقع تويتر.
2، انظر د عبد الحفيظ يحيى خوجة، التشخيص المبكر أول طرق علاج داء كرون، جريدة الشرق الأوسط، الاحـد 17 ذو القعـدة 1429 هـ 16 نوفمبر 2008 العدد 10946.
3،فرانز فانون، معذبو الأرض F. Fanon، ص 17.
4، نقلنا مصطلح الانقتال من د طه عبد الرحمان في محاضراته و كتبه و يعني به العمليات الانتحارية التي يقوم بها المتطرفون الدينيون.
5، انظر موقع الأكاديمية العربية البريطانية للتعليم العالي
6،نفس المرجع.
7، موقع حكم دوت نيت.
8، نفس المرجع.
9، نفس المرجع.
10، هزار ناصر أمين، مراكز التفكير ودورها في التأثير على صنع السياسة، مركز الفرات للتنمية و الدراسات الاستراتيجية.
11، نفس المرجع
12، موقع حكم دوت نيت.
اترك رد