د. محمد علواش – باحث في الفكر الإسلامي (المغرب)
معلوم أن البحث في موضوع التدافع الحضاري هو بحث في قضية جوهرية ومركزية، لها ثقلها وقيمتها الكبيرة في واقعنا الفكري والثقافي، لأن الحضارة الأخرى تجمعها صلة وثيقة بماضي الأمة وحاضرها واختياراتها المستقبلية، ومن هنا كان الحديث عن التدافع الحضاري بين العالمين الإسلامي والغربي محفوفا بالأشواك والعقبات، خاصة عندما ننظر على مستوى امتداد الغرب وعلاقته بواقع ومستقبل الأمة الذي ترنو الوصول إليه.
ولذلك كان هذا الموضوع حول أهمية الحوار في تحقيق التدافع بهدف تقديم مقاربة حضارية للفظ دخل المجال التداولي المعرفي في السنوات الأخيرة ، وهو مفهوم “الحوار” بعد أن كان محصورا في أدبيات خاصة، كما ألمح إلى ذلك عبد العزيز التويجري، وبالمناسبة ستكون دراستنا حول المفهوم صادرة عن نظام معرفي وفق رؤية قرآنية ، إذ بواسطتها سنقرأ ونحلل الموضوع المدروس، كما أننا سنعالج مفهوم الحوار من منظور سنة التدافع القرآنية، وما جعلنا نلجأ إلى هذا المفهوم إلا لكونه المصطلح المتداول بين أغلب المفكرين المشتغلين داخل هذا الإطار، ولقد اتبعنا مسلكا في البسط والتحليل على الشكل الآتي:
أولا: الضبط المنهجي:
1-المفهوم والمصطلح: لقد أصبح من المعتاد القول في الأوساط الثقافية المعاصرة التي تهتم بمسالة التغيير الحضاري أن مشكلة المنهج تعد إحدى أهم المعضلات المركزية التي لها أثر كبير في استفحال الأزمة الحضارية ، وفي توجيه كل إنتاج أو إبداع، وتقرير انعكاساته على أرض الواقع الاجتماعي لدرجة جعلت بعض الباحثين يربط تقدم المجتمع العربي الإسلامي بتقدم المنهج، يقول أحدهم “أن يتقدم العرب هو أن يتمنهجوا، إن التقدم تقدم في المنهجية (..) إن المنهج هو العقل، والعقل هو المنهج، والتقدم في صورته الفضلى هو تقدم العقل”[1]، فالملاحظ أنها علاقة وثيقة بين تقدم العقل العربي وإعادة النظر في المنهج الذي يعتبر من المفاهيم التي عرفت التباسا في أوساط النخبة الفكرية، والمنهج مهما كانت نوعتيه هو أسلوب في النظر، ولا تبرز فعاليته إلا عند استعماله وبيان قدرته على التكيف مع المشاكل التي يعالجها، وهكذا فالمنهج نتاج “لنمط حضاري تاريخي معين، وإذا كان بدوره قد أنتج مقولات محددة، فإنه يتشكل من خلال تداخل وتواصل بينه وبين مقولات سابقة، لأن المنهج لا يبدأ في تكوين مبادئه من فراغ فكري كما يصبح بهذا القدر أو ذاك أسير المقولات التي كان قد أنتجها فيما بعد”[2].
ولقد قام عدد من الباحثين على مستوى المعهد العالمي للفكر الإسلامي بدراسة أساسية، قدم لها طه جابر العلواني بمقدمة منهجية، بدأها بالحديث عن ماهية المفهوم، فقال:” هو خلاصة الأفكار والنظريات والفلسفات المعرفية، وأحيانا نتائج الخبرات وتجارب العمل فيه، في النسق المعرفي الذي يعود إليه وينتمي إلى بنائه الفكري”[3]، وبهذا فالمفاهيم ليست مجرد ألفاظ أو أسماء يمكن أن نجد لها مرادفات أو بما يقرب في المعنى إليها، بل هي كما يضيف طه جابر قائلا: “هي مستودعات كبرى للمعاني والدلالات، كثيرا ما تتجاوز البناء اللفظي وتتخطى الجذر اللغوي لتعكس كوامن فلسفة الأمة، ودفائن تراكمات فكرها ومعرفتها، وما استنبطته ذاكرتها المعرفية”[4].
من هنا، إن المفاهيم والمصطلحات تعتبر جزءا أصيلا في البنية المعرفية لأي أمة، بمعنى أن المفاهيم وليدة البيئة المعرفية، وباختلاف هذه البيئات تختلف المفاهيم ودلالاتها الذاتية والاجتماعية[5]، وقد أشار بعض الباحثين إلى أن المفهوم مغاير للمصطلح، وإن كان التداول في كتابات جل الباحثين المعاصرين للقضايا العلمية والفكرية يجعلون أحدهما مرادفا للآخر، ولا يميزون بينهما، غير أنه لا يمكن أن نجهل أن كل مفهوم هو مصطلح، وليس كل مصطلح هو مفهوم.
أما المصطلح فقد جاء عند مجموعة بحث بناء المفاهيم أنه هو ما “يصطلح جماعة من الناس تجمعهم حرفة أو مصلحة أو سواها على إطلاق لفظ بإزاء معنى أو ذات، لا ينازعون فيما اصطلحوا عليه”[6]، حيث لا مشاحة في الاصطلاح، ولكن لا يمكن بحال أن يقال لا مشاحة في المفاهيم، بل إن المفهوم شيء والمصطلح شيء آخر، فإذا كان الناس لا ينازعون فيما اصطلحوا عليه، فإن الأمر مغاير بالنسبة للمفاهيم، ومنها على الخصوص المصطلحات التي دخلت حيز التداول المعرفي والثقافي ثم الحضاري في العقدين الأخيرين، ومنها مصطلح “الحوار” فهو مصطلح عالمي، ولكن مفهوم هذا المصطلح في النظام المعرفي الإسلامي مغاير لما سواه من المنظومات الأخرى.
أما المقصود بالنظام المعرفي فهو ما عرفه أحد المفكرين بقوله: ” هو اتجاه يتجاوز وعيه نطاق المادة المحسوس إلى المعنى الروحي الكامن فيها، وإلى انفتاح على كل أبعاد ومراحل ودلالات الدورة الوجودية للإنسان، فيعيش في تواصل حميم مع مفردات الكون ذات العلاقة التسخيرية”[7]، وبهذا يكون النظام المعرفي الإسلامي-في مقابل الرؤى الأخرى- كبديل حقيقي شامل وكلي، يضم كل المستويات والمفردات والمعرفية والمنهجية والسلوكية والعمرانية، ضابط للعلاقات بين الله والإنسان، حيث تكون العلاقة علاقة عبادة، وبين الله والكون تكون علاقة تسبيح، وبين الإنسان تكون علاقة تسخير وتمتع واستفادة من خيرات الله، وبين الإنسان والإنسان تكون علاقة محبة وتعاون وتضامن.
اترك رد