محمد عبدالرحمن عريف: : باحث وعضو بسمنار شعبة التاريخ الحديث والمعاصر–كلية الآداب-جامعة عين شمس
معركة عين جالوت 25رمضان 658 هـ 3سبتمبر 1260 هي إحدى أبرز المعارك الفاصلة في التاريخ الإسلامي، فيها استطاع جيش المماليك بقيادة سيف الدين قطز إلحاق أول هزيمة قاسية بجيش المغول بقيادة كتبغا. وقعت المعركة بعد انتكاسات مريرة لدول ومدن العالم الإسلامي، كانت مصر في تلك الفترة تئِنُّ من الصراعات الداخلية والتي انتهت باعتلاء سيف الدين قطز عرش مصر سنة 657 هـ / 1259 سلطانا لمماليك مصر. فبدأ بالتحضير لمواجهة التتار، فقام بترتيب البيت الداخلي لمصر وقمع ثورات الطامعين بالحكم، ثم أصدر عفوًا عامًا عن المماليك الهاربين من مصر بعد مقتل فارس الدين أقطاي بمن فيهم بيبرس، ثم طلب من العز بن عبد السلام إصدار فتوى تُشرع له جمع الضرائب على سكان مصر بعد أن واجهته أزمة اقتصادية عجز من خلالها عن تجهيز الجيش، وكان له ما أراد وأصدر العز بن عبد السلام فتوى تجيز جمع الضرائب بشروطٍ خاصة ومحددة، ما إن انتهى قطز من تجهيز الجيش حتى سار به من منطقة الصالحية شرق مصر حتى وصل إلى سهل عين جالوت الذي يقع تقريباً بين مدينة بيسان شمالاً ومدينة نابلس جنوباً في فلسطين، وفيها تواجه الجيشان الإسلامي والمغولي، وكانت الغلبة للمسلمين، واستطاع الآلاف من المغول الهرب من المعركة واتجهوا قرب بيسان، وعندها وقعت المعركة الحاسمة وانتصر المسلمون انتصارًا عظيمًا، وأُبيد جيش المغول بأكمله.
ظهر هنا صراع السلطتين الدينية والسياسية، وظهرت هنا شخصية العز بن عبد السلام، ولعل من أبرز الجوانب التي نحتاج إلى أن نقف عندها في حياة العز بن عبد السلام، وهو شخصية بارزة على مر التاريخ الإسلامي، نال شهرته لأنه رجل لا تأخذه في الله لومة لائم، ينكر المنكر علانية وسرًا على الملوك والأمراء، أحبه العامة وهابه الخاصة، ترأس عدة مناصب فكان أكبر منها، لا يداهن ولا يحابي أحدًا، أخلص عمله لله فأعانه الله ووقاه.
عاش العز بن عبد السلام في الشام ثم في مصر، وعايش دولة بني أيوب التي أنشأها صلاح الدين، وكانت دولةً قوية، ولكن في آخر عصرها تنافسوا على الملك وأصبح بعضهم يقاتل بعضًا، حتى اضطر بعضهم إلى أن يتحالف مع الصليبين النصارى من أجل أن يتفرغ لقتال إخوانه، وبني عمه، أو يستعين بهؤلاء النصارى الصليبيين في قتالهم وفتح بلادهم.
لقد كان العز بن عبد السلام حلقة وصل بين العامة والخاصة، بين الحاكم والمحكوم. لأن الحاكم يحتاج إليه، لتأييد مواقفه وكسب الناس، ولذلك عندما يتولى الحاكم المملوكي أو غيره مقاليد الحكم، كان أول من يبايعه هو العز بن عبد السلام، ثم بعد ذلك تبايعه الوزراء، ثم تبايعه الناس، فكان الحاكم يدري أنه يحكم أمة مسلمة تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله، وأنه لا يستطيع أن يستقر ويضمن هذه الأمة. فكان العالم يحتاجه الحاكم وفي نفس الوقت تحتاجه الرعية، لأن الرعية لها حاجات ومطالب وآراء واجتهادات، وكانوا لا يوصلونها بأنفسهم، لذلك يحتاجون إلى العالم، حتى يوصل هذه الأمور إلى الحاكم، فهو حلقة وصل بين الأمة وبين حكامها ومسئوليها.
إن العالم في هذا الوقت -خاصة العز بن عبد السلام- كان في موقف عظيم، فمن جهة كان مدافعًا عن مصالح الأمة سواءً في أمورها الخاصة أو العامة، ولعل من أبرز الصور التي تتجلى فيها مدافعته عن مصالح الأمة دفاعه عن مصالحها الاقتصادية، ومعلوم أن الاقتصاد من الأمور التي يشترك الناس كلهم في الغضب لها أو الرضا بها، فإذا مَسَّت الجوانب الاقتصادية حياة الناس سخطوا، وإذا أرضوا بالمال رضوا. ولذلك كان العز وغيره من العلماء يحرصون على حماية مصالح الناس عامة والاقتصادية خاصة.
إن الأمة إذا ندر الرجال في واقعها دائمًا تلتفت إلى الماضي، لتبحث عن هؤلاء الرجال. وهذه الأمة ما عقمت ولن تعقم أرحام النساء أن تخرج لنا رجالاً من أمثال العز بن عبد السلام وغيره. ولكن على الأمة أن تعي دورها، وأن تبدأ بإعداد نفسها لمثل هذه المواقف الرجولية الصلبة التي هي أحوج ما تكون إليها، فإن الأمة مقبلة على تاريخ طويل والله أعلم بما يلقاها فيه من الفتن، والمحن، والشدائد، وهي أحوج ما تكون إلى الرجال الذين يكونون نجومًا في الليالي المظلمة والفتن المدلهمة.
في تاريخنا الإسلامي الزاهر نماذج رائعة من العلماء العاملين الذين أدوا رسالتهم على أكمل وجه، فكانوا نبراسًا يستضاء بهم في كل زمان، ونماذج يقتدى بها في وقت تُفتقد فيه القدوة الصالحة، والكلمة الجريئة، والمجابهة الصريحة في سبيل إعلاء كلمة الله، ومن هؤلاء العلماء العاملين سلطان العلماء العز بن عبد السلام.
لا أملك في ذكرى انتصار عين جالوت إلا أن أقول.. يا علماء السلطان تعلموا من سلطان العلماء ما ينفعكم وينفع الأمة.. يرحمكم الله.
اترك رد