د. عبد الله الجباري: باحث في الدراسات الإسلامية (المغرب)
وقعت في يدي نسخة من كتاب “الإفادات والإنشادات، وبعض ما تحملته من لطائف المحاضرات” لمسنِد المغرب الشيخ عبد الحي الكتاني، فأعجبتني حلته القشيبة، واستبشرت به خيرا لسببين اثنين، أولهما : أنه من تحقيق باحثين اثنين، هما الأستاذ عبد الهادي جمعون والأستاذ عبد الإله الصالح، وتحقيق باحثين أولى من تحقيق باحث واحد. ثانيهما : أنه من منشورات المجلس العلمي المحلي بمدينة العرائش، الذي يرأسه الدكتور الفاضل سيدي إدريس بن الضاوية، خصوصا أنه صدّره بمقدمة مفيدة، فتصفحت الكتاب لأول وهلة، وكلي لهفة وشوق للتعرف على درره الماتعة، وفوائده الرائعة، ولم أتجاوز صفحاته الأولى، حتى استوقفتني عبارة الباحثين المحققين : [ولما كان هذا المخطوط مقَدّمٌ (كذا) في إطار أكاديمي وعلمي بحت، رأينا من الأفضل أن ننتهج في تحقيقه ودراسته المنهج الأمثل] ص : 6. وقد استفزتني هذه العبارة كثيرا، فعكفت على قراءة الكتاب، متنا وحاشية، وكلي أمل في نيل فوائد من الكتاب ومن تحقيقات وتعليقات صاحبي “المنهج الأمثل”، فتجمعت لي بعد قراءته مجموعة من الطرر عملت على جمعها وتصنيفها، وهي تنقسم إلى قسمين.
القسم الأول : الدراسة المناقبية :
جرت العادة أن يفتتح المحققون أعمالهم بدراسة شاملة عن المخطوط المحقق، تتضمن مجموعة من القضايا تعد إضاءات ضرورية على المتن موضوع الدراسة، وبدونها قد لا تتحقق الفائدة من المخطوط، وبقراءة متأنية لدراسة محققي الإنشادات، نلاحظ الآتي :
الملاحظة الأولى : أثناء الترجمة للشيخ الكتاني، وقع الباحثان في المبالغة في الثناء عليه وإطرائه، فوصفوه بـ”إمام المحدثين، وقدوة الفقهاء والمتكلمين، سيد الحفاظ والمسندين، أبو الإسعاد وأبو الإقبال” ص : 11. وهذا الغلو في الشخص يجعل الباحثين أسرى للمؤلف، والتعامل معه بالتسليم المطلق، مع اغتيال الحس النقدي الذي يجوّد البحث ويسهم في التقدم العلمي للمجتمع، ونحن لا نصادر الباحثين حقهما في حب الرجل، فلهما ذلك، لكن يجب ألا يغتال الحبُّ العلمَ، وهذا ما وقع مما سيتجلى في اللاحق من الملاحظات.
الملاحظة الثانية : المبالغة والغلو في عبد الحي الكتاني، تبعه بالضرورة المبالغة في الثناء على كل من له ارتباط به ونسبة، مثل نجله عبد الأحد، الذي وصفاه بالعبقري الشهيد (ص : 30 – 37)، والمغاربة لا يكادون يعرفون عبد الأحد هذا، ففي أي مجال ظهرت عبقريته ؟ نعم، كان قاضيا في أحواز الدار البيضاء، وكان معاديا للحركة الوطنية كأبيه، وأطلق عليه الفدائيون الرصاص ولم يمت، وبقي يعاني من جراء الإصابة إلى أن مات[1]، ومن كان هذا حاله لا يوصف بالشهيد، لأن إطلاق هذا الوصف يستبطن تدليسا على القراء، وكأنه مات دفاعا عن وطنه أو عرضه أو غير ذلك، وهو غير متحقق.
الملاحظة الثالثة : لو قرأ الباحثان المخطوط بتجرد عن الحب، لما وصفا الكاتب بإمام المحدثين وسيد الحفاظ، لأن من هذا وصفه يجب أن يكون واسع الاطلاع، والمخطوط ينقض هذا، ففي الإفادة 120 يذكر الكتاني أن وافدا من المدينة المنورة أخبره أن أحد الحفاظ أوصل بلاغات الموطأ الأربعة، فراسل على إثرها أحد العلماء بالحرم، ولم يعرف الواصل لهذه البلاغات حتى ورد عليه الجواب من هناك، مع العلم أن هذه المعلومة معروفة متداولة حتى عند من لم يشتهر بعلم الحديث، مثل الشيخ المربي سيدي محمد بن الصديق الغماري الذي أخبر نجله الشيخ عبد الله أيام الطلب أن ابن الصلاح وصل تلك البلاغات[2]، فالمعلومة متداولة بين أهل العلم، ورغم ذلك لا يعلمها “سيد الحفاظ”!.
الملاحظة الرابعة : بما أن الكاتب “إمام المحدثين، وسيد الحفاظ”، فحري به أن يكون على علم بأصول التخريج، وأن إحالة الحديث لا تكون إلا للكتب المسندة، ومع ذلك نراه يعزو حديثا إلى كتاب “المعزى، في مناقب أبي يعزى”ص : 183. كما أنه لم يذكر شيئا عن أثر “كان للمصطفى صلى الله عليه وسلم مجمر يتدفأ به”، وكذلك عائشة ص : 279. فلم يعز الأثر إلى مصدره، ولم يبين رتبته، نعم، قال عن حديث ص : 192 : “لا أعرفه الآن”، وهذا من الاستثناءات النادرة في الكتاب، مما يبين خطأ المحققين في قولهما : “لا تخفى الصناعة الحديثية في هذا السفر المبارك، فنجد المؤلف يذكر الإفادات والإنشادات بسنده إلى أصحابها” ص : 35. وهو ما وضحاه في الصفحة الموالية، حين أشادا بحفاظه على خصيصة الإسناد، لأن الإسناد من الدين، وأوردا كلام ابن المبارك والثوري في ذلك، ولنا تعليقان :
الأول : الصناعة الحديثية غير حاضرة إطلاقا في الكتاب، وما قلته أعلاه ناقض لما قاله المحققان.
الثاني : “الإسناد من الدين”، مقولة تصدق في عصر الرواية، لأن الإسناد كان مرتبطا بما يتعلق بالحلال والحرام وفضائل الأعمال، أما الكتاني فيسند الأشعار والألغاز والنكت إلى أصحابها، وهي ليست من الدين، مثل الإنشادة 202 الخاصة بالشكلاط…. والإنشادة 67 الخاصة ببابور البر،والإنشادة 184 الخاصة بالشاي، والإنشادة 222 الخاصة بمصيدة الفئران، وغيرها.
الملاحظة الخامسة : أغفل الباحثان في ترجمة الكتاني الجانب السياسي من حياته، حيث مر بمراحل :
المرحلة الأولى : كان على وئام مع السلطان العلوي و وذويه وحاشيته، وفي هذا السياق أجاز عبدَ الحفيظ العلوي لما كان خليفة أخيه على مراكش، وحلاه بسني الأوصاف وسامي النعوت، منها “تاج الكبراء، وعظيم أبناء الأمراء، العالِم العلَم، العبقري الأوحد، الأنجد الأسعد، ميمون الطلعة … إلخ”[3].ولما تولى الملك بعد أخيه، نفذ للشخ عبد الحي ريالا ونصفا مياومة من أحباس القرويين، ودارا يسكنها، وأربعة وعشرين جلاسيا خليعا[4].
المرحلة الثانية : حين اختلف تبعا لشقيقه سيدي محمد بن عبد الكبير الكتاني مع السلطان عبد العزيز، وكذا تعرضهما للاعتقال في عهد السلطان عبد الحفيظ، وبعد استشهاد شقيقه، أوعز السلطان إلى العلماء ليشفعوا للعائلة، فأطلق سراح الجميع، وقبل إطلاق سراح عبد الحي ندّد به السلطان وبأفعاله، “ثم أمره ألا يتخلف عن باب دار المخزن، … ثم قال له : والله إن سمعت أنك تحوم بعد اليوم حول ورد لترين مني ما يسوءك”[5].
المرحلة الثالثة : الارتماء في أحضان المستعمر الفرنسي سخطا على العلويين، وبيعته للسلطان غير الشرعي، وكان مقربا جدا من الحكام العسكريين الفرنسيين، وكان يصف المقيم العام المارشال ليوطي بحبيب الأمة المغربية[6]، ولم يشارك قط في أي تظاهرة احتجاجية على الفرنسيين، ولم يصدر عنه أي موقف مناوئ لمجازرهم في حق المغاربة الأبرياء، وكان ينزل ضيفا على القواد الذين كانوا على وئام مع الاحتلال، إلخ ما هو مسطور من سيرته، وكان تلميذه الملازم له الفقيه ابن أبي بكر التطواني يتألو لما آل إليه شيخه،ويبحث له عن مسوغات، من قبيل قوله : “إنه دُفع إلى ذلك دفعا حتى زاغت به الطريق”[7].
المرحلة الرابعة : هروبه إلى فرنسا بعد الاستقلال، ومصادرة مكتبته الضخمة من قبل السلطات[8].
إن افتقار ترجمة عبد الحي الكتاني إلى هذا الجانب السياسي ليس بسبب عدم الاطلاع عليها، فالأمر مشهور عند المغاربة شهرة قفا نبك، ولعل عدم ذكر هذا الجانب من حياته راجع إلى سببين اثنين أو أحدهما :
السبب الأول : تم التغاضي عن هذا الجانب لكي يحظى الكتاب بالدعم من قبل المجلس العلمي (جهة رسمية).
السبب الثاني : تم إغفال هذا الجانب التزاما بدفتر تحملات غير معلن بين المحققين وبين المشرفَين الحقيقييْن[9]على التحقيق، وهما من المذكورين في ص : 8 – 10.
وبما أن المحققين تعمدا الإعراض عن الجانب السياسي اعتمادا على المصادر التاريخية التي ترجمت للكتاني لسبب من الأسباب، فإنه كان حريا بهما أن يعتمدا فقط على كتاب “الإنشادات والإفادات” ليستخرجا منه نزرا من هذا الجانب، مثل مقامه بتادلا في دار القائد المهدي الكريمي (ص : 120)، ومثل وصفه للسلطان عبد الحفيظ بـ”الوضيع” من خلال تمثله بأبيات شعرية ص : 178. ووصفه بـ”المخلوع”، مع العلم أن المحققين يقولان في الهامش بأنه تنازل عن الملك، فهل يعد المتنازل عن الملك مخلوعا ؟ أضف إلى ذلك نعته باب القصر الملكي بـ”باب التدمير والتخريب” ص : 178 – 240.
الملاحظة السادسة : قال الباحثان : [وبهذا تتحقق من خطأ الشيخ عبد العزيز بن محمد الغماري في كتابه “تعريف المؤتسي” حيث زعم أن المؤلِّف (أي : الكتاني) انقطع عن الإنتاج العلمي بعد طبعه لكتابيه “فهرس الفهارس” و”التراتيب الإدارية”، وهذا الكتاب (أي : الإفادات والإنشادات) شاهد صدق على بطلان ما ادعاه]، ولنا تعليقات :
الأول : تحدث الشيخ عبد العزيز الغماري عن توقف الإنتاج العلمي للشيخ الكتاني، و”الإفادات والإنشادات” ليست إنتاجا علميا، بقدر ما هي تجميع لأقوال وأبيات شعرية لعلماء وأدباء، بل إن بعض الإنشادات جمعها الكتاني من عامة الناس كما أقر بذلك الباحثان (ص : 37)، وبعضها سمعه من الآخر وطلب من ثالث تدوينه (الإفادة 305) وبعضها حافظ عليه بخط أصحابه (ص : 40)،ولو ضمّن الكتاب مع تلك الإفادات تحقيقاتٍ وترجيحات وتدقيقات ومناقشات علمية، لعددناه من الإنتاج العلمي، ولصح نقض كلام الغماري به.
الثاني : إذا كان سفر “الإفادات والإنشادات” كتابا علميا حقا، فلا يصح نقض كلام الشيخ الغماري به إلا إن كان متأخرا زمنا عن “فهرس الفهارس” و”التراتيب الإدارية”، والواقع أنه قبلهما، بدليل أنه مذكور في الكتاب الأول كما ذكر الباحثان (ص : 28)، والكتاب الثاني طبع أولا بفاس سنة 1346 هـ، والجزء الأول من “الإفادات” جمعه في أربعة أيام من شوال 1334 هـ، مما يدل على أن الجزء الأهم من الكتاب جمعه قبل الكتابين المذكورين، فتأكد صدق الغماري، وتسرُّع الباحثيْن.
الثالث : سبب انقطاع الإنتاج العلمي للكتاني أنه انغمس في العمل السياسي، وأعرض عن الجانب العلمي، قال ابن سودة : “كان يعد من أساطين العلم المبرزين بالمغرب، لكنه انحرف سياسيا، فقضى على علمه وجاهه ونفسه”[10]. وقد أشار تلميذه المقرب ابن أبي بكر التطواني إلى انقطاعه عن الإنتاج العلمي، فقال : “لو أنه تمادى في حياته بمثل ما ابتدأها به، لتحدثت عنه أقلام الثقات بما يذكر بعهد حفاظ الإسلام وأقطاب الأنام”[11]، ومفهوم [لو تمادى]، أنه توقف عن الانتاج العلمي وانقطع عنه.
الملاحظة السابعة : ذكر الكتاني في مقدمة الكتاب عناوين الكتب المؤلفة في “الإفادات والإنشادات”، ولم يذكر كتاب “محاضرات الأبرار” للشيخ الأكبر محيي الدين بن العربي، رغم أنه ذكره في المتن، هنا، وقع الباحثان في مشكلة، فهل سيدرجانه ضمن كتب الإفادات أم لا ؟
لنتأمل قولهما : “ومما يصح أن يُذكر ضمن كتب “الإفادات والإنشادات” كتاب “محاضرة الأبرار” للشيخ الأكبر … فقد روى فيه الأشعار والأخبار بأسانيدها، وإن لم نجزم بإدراجه ضمن كتب “الإفادات” لكون الإمام الحافظ المؤلف قد ذكر هذا الكتاب ضمن كتابنا “الإفادات والإنشادات” إلا أنه في صدر كتابه ومقدمته التعريفية لكتب “الإفادات” لم يعده منها”. هذا كلامهما مع تصرف لا يخل، ولنا تعليقان :
الأول : حاول الباحثان إثبات رأيهما فترددا، فصدّرا الفقرة بقولهما : “يصح”، وما لبثا أن تراجعا بقولهما : “لم نجزم”.
الثاني : اقتنع الباحثان بأن كتاب ابن العربي من كتب الإفادات، لأنه يروي الأشعار والأخبار بأسانيدها، ومع ذلك لم يقدرا على إدراجه ضمن كتب هذا النوع. لأن الكتاني لم يذكره، وهنا نقف أمام كارثة علمية، حيث يخضع الباحثان للشخص المحبوب ولا يخضعان للمعايير العلمية، وهنا تأثير الحب على البحث العلمي الذي نبهنا إلى خطورته. لأن المبالغة في الإطراء رفعت الكتاني وكتابه إلى مقام الحجية.
الملاحظة الثامنة : أطلق الباحثان أحكاما دون أن يسنداها بما يعضدها من الحجج والقرائن، من ذلك قول الباحثين : “إذ يلاحظ الناظر في الكتاب أن المؤلِّف كلما تكلم عن مكتبته الكتانية وذخائرها السنية إلا ويكون حديثه بضمير الغائب، وفي بعض تلك المواطن يدعو الله ويتمنى عليه أن يجمع شمله بخزانته” هذه المقدمة بنى عليها الباحثان نتيجة مفادها “أنه كان يقيد ذلك في وقت هجرته وخروجه من المغرب مهاجرا” (ص : 23).
وقال الكتاني في ص : 73 “وهو من المفردات في المكتبة الكتانية، جمع الله به الشمل، أمين”، فعلق المحققان بقولهما : “هذا الكلام دليل على أن المؤلف ظل يشتغل في تحرير الكتاب حتى بعد هجرته واستقراره بفرنسا”.
وهذه الاستنتاجات غير مسلّمة، لأن الكتاني ألف الجزء الأول كله في تادلا، ولما كان هناك حصل له تشوفوشوق إلى مكتبته، لذا دعا الله جمع شمله بها، فمن أين فهم المحققان وجوده في فرنسا ؟ لا بد من قرائن، وإلا فهو ترجيح من دون مرجح. خصوصا أن المكتبة صودرت بأكملها، ومن العبث أن يدعو الله جمع شمله بها بعد أن تشتت بين الخزانة الوطنية والخزانة الحسنية وخزانة القصر بمراكش.
الملاحظة التاسعة : جزم الباحثان – بعد الرصد والتتبع – أنه لا توجد بعد الكتاني في مجال “الإفادات والإنشادات” إلا محاولة وحيدة محتشمة للوزير محمد الفاسي (ص : 52)، وعلقا عليها بأن إفاداته أشبه بالمختارات الأدبية، لأنها ليست مروية أو متلقاة عن الشيوخ.
والصواب أنها ليست وحيدة محتشمة، بل هناك محاولات أخرى، مثل “الوجادات” للأستاذ عبد القادر زمامة التي نشرها تباعا في مجلة دعوة الحق، ثم نشرت مجتمعة، وقد أوردت هذا الاستدراك على سبيل الإلزام، وإلا فإن عمل الوزير الفاسي والأستاذ زمامة كلاهما لا يندرجان ضمن “الإفادات والإنشادات” حسب رأيي، لأنهما مختارات من مصنفات وكتب شتى، ولم يعتمدا فيهما على السماع أو المكاتبة، والله أعلم.
الملاحظة العاشرة : أورد الباحثان الشيخَ محمد بخيت المطيعي والشيخ محمد زاهد الكوثري ضمن تلاميذ الشيخ الكتاني (ص : 15)، ولم يحيلا على مصدر ينص على أن العالِمين المذكورين تلقيا العلم ودرسا مصنفا ما على الكتاني، أو مصدرا يصف فيه العالمان الكتاني بـ”شيخنا”، أو مصدرا يحكي فيه أحد العلماء أنه قرأ مصنف كذا على الكتاني وكان معهما الكوثري وبخيت[12]، أو غير ذلك…. نعم، قد يجيزهما إجازة، وقد يجيزانه، فيتدبجا، أو قد يجيزهما دون استجازة كما فعل مع الشيخ أحمد الغماري، لذا وجب التدقيق في الكلام دون إطلاقه وتعميمه.
الملاحظة الحادية عشرة : تضمن الكتاب فوائد – على قلتها – لم يتنبه إليها الباحثان، ولم يسطراها في المبحث الخاص بذلك (ص : 36 وما بعدها)، ولو تأملا وأمعنا النظر لأشارا إليها، ومنها :
الفائدة الأولى : يمكن الاعتماد على كتاب الكتاني في نسبة أبيات شعرية إلى أصحابها، مثل القصة التي تروى عن الشاعر بديوي الوقداني (من شعراء الطائف، توفي 1296 هـ) أنه كان في مجلس الشريف ابن عون أمير مكة، فسقط خاتم الشريف وانصدع فصه، فانزعج لذلك، فارتجل الشاعر :
لا تخش يا ابن رسول الله من حجر//رأى المكارم في كفيك فانفجرا
وافاك سعدك إذ وافى السعود وقد//أعطاك ربك سعدا يفلق الحجرا.
والأبيات ذاتها أوردها الكتاني منسوبة إلى الشهاب أحمد بن عبد اللطيف البريبر (تــ 1226 هـ)، الذي كان في مجلس بدمشق فيه الشريف غالب أمير مكة، حيث سقط منه الخاتم وتكسر فصه (ص : 129)، ومن المستبعد جدا أن تتكرر القصة مع شريفَيْ مكة بهذا التطابق، فإن صح السند الذي أورده الكتاني، فسنكون أمام فائدة مهمة، وهي نسبة هذين البيتين إلى صاحبهما الحقيقي، وهو المتقدم زمنا.
الفائدة الثانية : رد الكتاني على المتنطعين الذين يبالغون في طلب الدليل من الكتاب والسنة لأجل بناء كل شيء، حتى العادات، لأن الأمر واسع على كل حال. (ص : 297).
الفائدة الثالثة : مسألة الترتيب في قوله تعالى “الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم”، حيث بدأ الله بالقيام، فعلّق الشيخ الكتاني بأن الترتيب من أهم مقاصد مطلق الكتاب المنشئين، فكيف بكلام رب العالمين (ص : 303)، ويمكن أن نطبق الفهم ذاته على آيات أخر، مثل : “لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا …”.
الفائدة الرابعة : توضيح سيادة روح التقليد في المجتمع، لدرجة أن أحدهم قد يحتج بحديث، فيعارضه الآخر بنص فقيه ( ص : 338).
الفائدة الخامسة : تأريخ ظهور قلم الحبر في فاس (ص : 362).
الفائدة السادسة : كذب الشيخ رشيد رضا (ص : 437).
الفائدة السابعة : ذكر الكتاني مدينة مغربية، اسمها “مدينة الزاوية الشرادية” (ص : 464)، ولا وجود لهذا الاسم الآن، ولعله الاسم السابق لمدينة سيدي قاسم حاضرة منطقة الشراردة.
الفائدة الثامنة : تأفف العائلات الفاسية الماجدة عن الاحتراف ببعض الحرف المزرية، واتخاذهم الوراقة صنعةً (ص : 411).
الفائدة التاسعة : شراء ليوطي لمصحف مكتوب بالذهب بـ 1000 ريال (ص : 412)،
هذه الفوائد على قلتها، يمكن استثمارها والاهتمام بها، من أجل بلورة تصور حول المجتمع والبيئة التي عاش فيها الكتاني.
الملاحظة الأخيرة : تركت الدراسة التي صدّر بها الباحثان الكتاب فراغات كان حريا بهما أن ينبشا فيها، وهي أن الكتاني روى هذه الإنشادات والإفادات عمن في طبقة شيوخه ومن في طبقته ومن دونه، كنجله (ص : 37)، وروى أيضا عن علماء وأدباء من المغرب بشتى مدنه، ومن الجزائر وتونس ومصر والآستانة والحجاز وغيرها (ص : 41)، لكن السؤال الذي لم يتبادر إلى ذهن الباحثين، هو لماذا لم يرو قط عن علماء الحركة الوطنية ؟ روى عن أبي شعيب الدكالي الذي كان مواليا للاستعمار[13]، وروى عن مفتي قسنطينة المولود بن الموهوب الذي سعى لمنع ابن باديس من التدريس بالجامع الكبير[14]، ولم يرو عن شيخ الإسلام بلعربي العلوي أو علال الفاسي أو غيرهما، هل كان لا يلتقي بهم ابتداء ؟ أم كانوا ينبذونه ويرفضون مجالسته ؟ تساؤل جدير بالبحث والتنقيب.
القسم الثاني : التحقيق والتعليق، توضيح وبيان :
يقتضي “المنهج الأمثل” ضبط النص ليصدر في أحسن حلة، وتخريج النصوص وإحالتها إلى مظانها، مع تعليقات لشرح الغريب أو توضيح وجهة النظر، إضافة إلى ترجمة الأعلام والتعريف بالأماكن والبلدان غير المشهورة، وغير ذلك مما درج عليه المتخصصون في تحقيق التراث.
بنظرة في تحقيق الباحثين لكتاب “الإفادات والإنشادات” للكتاني ، يتبين لنا الآتي :
أولا :على مستوى ضبط النص :
** أورد الكتاني (كما في الكتاب المطبوع) البيتين الآتيين لأبي زيد الثعالبي (ص : 226) :
يطوف السحاب بمَرغَمة// بماء زلال وعذب فرات.
يريد النزول فلم يستطع//لظلم الولاة وزيغ القضاة
و”مرغمة” تصحيف، والصواب مزغنة، وهي مدينة الجزائر العاصمة، كان يطلق عليها : جزائر مزغنة، ومن نسب إليها يطلق عليه : المزغنائي.
** ذكر الكتاني (ص : 325) أنه سمع من مفتي معسكر أبي محمد عبد القادر بن الصديق [الدحيدي] المعسكري …، لم يعرف به المحققان، توفي سنة 1936، ذكر له مفتى معسكر الشيخ بلهاشمي بن بكار لقاءه مع الشيخ شعيب الدكالي[15]، ينتمي إلى أسرة سيدي دحو الشريفة، وأهلها يطلق عليهم [الدحاوي]، وليس الدحيدي كم ورد في المتن، ولعله تصحيف، والله أعلم.
** ورد في (ص : 158 – 159) أن السلطان الحسن الأول تلقى تعليمه في قبيلة [حمير]، عند معدن الملح المعروف بزيما، والصواب : قبيلة [احمر]، وبها كانت المدرسة المولوية التي درس فيها الأمراء، والخطأ ذاته مكرر في فهرس الأماكن (ص : 514)، وعلق المحققان على حوض [زيما] بقولهما : “تشغل مساحة كبيرة، وفيها الملح الجيد الذي يفضل غيره، يجلب لكثير من البلاد، وهي قديمة الاكتشاف”، ولم يبينوا مكان الحوض بالضبط، وهو قريب من مدينة الشماعية.
** أراد الشيخ سليم البشري أن يشم النشوق أمام سيدي محمد بن جعفر الكتاني رضي الله عنه فمنعه، فاستدل له البشري بسعوط النبي صلى الله عليه وسلم، فأجابه ابن جعفر : “السعوط مستنشق مخصوص، يُسعط لداء مخصوص، في وقت مخصوص، و[التَّفّة] هذه ليست منه في شيء”. (ص : 330)، ولم يشرح المحققان معنى [التفة]، ولعلها مصحفة من [السُّفّة]، ومعناها : القبضة من الشيء، وهي هنا قبضة من النشوق، قال ابن دريد : “قفح الشيء، إذا استفّه كما يُستَفُّ الدواء”، وقد جعل الباحثان عنوان الإفادة هكذا : [في التفة]، والله أعلم.
** قال الكتاني (ص : 431) : “أخبرني في [تكنابة] من قبيلة حاحا ….. الجَشْتَمي ….
دواؤكم عندي دوام تضرع//وحبُّ النبي أو بلوغِ الأباطح”.
وفي هذا الاقتباس تصحيف وخطآن في ضبط النص، أما التصحيف فهو [نكنافة] بدل [تكنافة]، ويطلق عليها انكنافن، تبعد عن مدينة الصويرة بأكثر من أربعين كيلومترا، ولعل الكتاني ذهب إليها لزيارة إحدى مدارس التعليم العتيق هناك، وبها ولد الشيخ محمد زحل من علماء الدار البيضاء.
أما [الجشتمي]، فقد أثبتها الباحثان بفتح التاء في مواضع من الكتاب (ص : 99 – 224 – 308 – 431 – 518)، والصواب ما أثبتاه في (ص : 137) “الجشتيمي”، وهو اسم متداول بسوس، ومذكور في مواضع عديدة من كتب العلامة المختار السوسي رحمه الله.
والأولى في البيت الشعري [بلوغُ] بالرفع، نظرا للعطف على [حب].
** تعمد الباحثان شكل كلمات مخصوصة، فوقعا في أخطاء، منها :
- ص 206 : [وليراجُع] بضم الجيم.
- ص 209 : [وظَنَّ الشيخ فالح أن نسبة وصل ابن الصلاح لها في شرح أبي العباس السدراتي السلوي ليس بواقع]، والصواب [وظَنُّ] بالرفع لا النصب، لأن [ليس بواقع] ليس من كلام الشيخ فالح، بل هو حكم عبد الحي الكتاني على ظنِّه.
- ص 229 : ولو أني استقبلتُ من عمري الذي//لعمري قد استدبرتُ ما كنتَ قاضيا.
الصواب [ما كنتُ] برفع التاء.
- ص 275 : وفي مشاركة الأستاه آنِفُهُم//وذوقهم ما يدلهم على قدره.
الأستاه جمع إست، وآنفهم جمع أنف، وقد ضبطها الأستاذان خطأ، والصواب [آنُف] بضم النون، وتجمع أيضا على أنوف وآناف، أما [آنِف] فتقال عن الشخص الذي يأنف أن يضام، كذا في تاج العروس وغيره.
ثانيا : على مستوى تراجم الأعلام:
** التزم المحققان بعدم الترجمة للأعلام المشاهير (ص : 54)، ولم يفيا بذلك، فترجما للإمام مالك والإمام البخاري والإمام مسلم وابن حزم وابن حجر (ص : 400 – 401 – 407 – 71 – 74)، وهؤلاء أشهر المشاهير.
** لم يوفق الباحثان في تراجم الأعلام المثبتة في الهوامش، إذ اكتفيا بذكر تاريخي الولادة والوفاة لأغلب المترجمين إن لم أقل كلهم، مع الإحالة إلى بعض مراجع الترجمة، وأحيانا يكتفيان بتاريخ الوفاة فقط، مع الإحالة إلى مرجع واحد (ص : 235)، وهذا لا يكفي، إذ “المنهج الأمثل” يقضي بذكر نبذة موجزة تعرف بالعلَم، على الأقل على مستوى التخصص (أصولي / مفسر / محدث …)، وعلى مستوى الانتماء الجغرافي (مصري / تونسي …) إضافة إلى التاريخين مع مؤلف أو أكثر من إنتاجه العلمي، مما يمكن اعتباره إضاءة للقارئ.
** يقتضي المنهج الأمثل في تعليقات الهوامش، إذا تكرر العلَم في أكثر من موضع، فإن المحققين يترجماه في الموضع الأول، ثم يشيرا إلى تقدم ترجمته في المواضع الأخرى، وهذا غير موجود في عمل الباحثين (مثلا : سالم بوحاجب المذكور في 11 موضعا) هناك استثناء، حيث ذكر الكتاني أبا جيدة الفاسي في مواضع عديدة، وترجماه في الموضع الأول، وذكّرا بذلك في موضع واحد دون سواه (ص : 262).
** أحيانا يكتفي المحققان في تراجم الأعلام بالإحالة على الكتب المخطوطة، خصوصا كتب عبد الحي الكتاني، وهذا غير مقبول إلا إن تعين ذلك، حيث نعدم التعريف بهم في المصادر المعروفة، مثال ذلك، ترجمة عبد الجليل برادة المدني، حيث أحالا على أربعة مخطوطات للكتاني، مع العلم أن ترجمته موجودة في المطبوعات، مثل الأعلام للزركلي 3/275، وله ترجمة موسعة في “أعلام من أرض النبوة” 1/292 وغيرهما من المراجع.
** لم يعرف المحققان ببعض العبارات الواردة في أسماء وكنى مجموعة من الأعلام، مثل أبي جيدة بن عبد الكبير الفاسي، حيث سماه الكتاني في موضعين (ص : 166 – 264) بالجدّي، ولم يوضح المحققان هذه النسبة، والمقصود بها النسبة إلى آل الجد، وهو الاسم الأسبق لآل الفاسي الفهري، وفيهم ألّف السلطان العلوي “عناية أولي المجد، بذكر آل الفاسي ابن الجد”، والمنسوب إلى بيتهم يسمى الفاسي وهو الأشهر، ويسمى أيضا الجدي، وهو ما استعمله الكتاني في موضعين.
** أغفل المحققان التعريف بمجموعة من الأعلام، منهم :
1 – سنان باشا، ذكره الكتاني (ص : 314)، ولم يترجماه، وسقط من فهرس الأعلام آخر الكتاب، وهو قائد عسكري عثماني، قاد الحملة العسكرية على تونس.
2 – ذكر في المتن عالم دكالة المعمر الضرير السيد سليمان [المعروف] (ص : 343)، ولم يترجماه، وسقط من فهرس الأعلام، هو سليمان بن علي بن الطاهر المسعودي، نسبة إلى الولي الصالح سيدي مسعود دفين مركز أولاد فرج، يبعد عن الجديدة بأكثر من 40 كيلومترا، توفي 1350 هـ، ولعل كلمة [المعروف] تصحفت عن [المسعودي] والله أعلم.
3 – سالم الأكودي [السنوسي] (ص : 325)، مترجم في نثر الجواهر والدرر (ص : 460)، الأكودي، نسبة إلى قرية أكودة، على مقربة من مدينة سوسة، ولعل [السنوسي] تصحيف، والصواب : [السوسي] نسبة إلى مدينة سوسة، أو [التونسي] نسبة إلى تونس، والله أعلم.
4 – قاضي تلمسان، الشيخ أبو مدين شعيب بن علي بن محمد فضل الله، مترجم في الأعلام للزركلي 3/167. ومعجم المؤلفين 4/302.
5 – عبد الحفيظ بن الهاشمي الطولقي (ص : 363)، أصدر سنة 1919 جريدة “النجاح” رفقة عبد الحميد بن باديس، ثم انفصلا بعد أن انحرفت وارتبطت بالحكومة الفرنسية. (آثار ابن باديس : 1/57.
6 – المصطفى بن عبد القادر العلوي المدغري (ص : 439)، صهر السلطان الحسن الأول. مترجم في إتحاف المطالع، ص : 3021 ضمن موسوعة أعلام المغرب.
وهناك أعلام آخرون أغفلوا عن الترجمة والتعريف، وبعضهم سقط من فهرس الأعلام.
ثالثا : على مستوى التعريف بالأماكن :
وردت في المتن أماكن وبقاع وقبائلليست معروفة عند جميع القراء المنتشرين في بقاع العالم، مثل :
** يني شكدال من بني عمير (ص : 70)، وبني عمير قبيلة عربية مغربية، قاعدتها مدينة الفقيه بن صالح، وبني شكدال بطن من بطونها.
** أولاد سيدي الشيخ فوق مراكش (ص : 307)، وهي من قبائل الحوز جنوب مراكش، تقع بين الأوداية والمرابطين.
** وردت “حاحة” مرتين، مرة كتبت كما هنا، ومرة كتبت “حاحا” بالألف الممدودة، ولم يعرفا بها في الموضعين (ص : 310 – 431)، والأخطر من هذا، أنهما ميزا بينهما في فهرس الأماكن، ظنا منهما أنهما مختلفتان.
** ندرومة القريبة من قبر يوشع، ذكرت في موضعين (124 – 223)، ولم يعرفا بها.
** ورد في المتن أن أحدهم ذهب لزيارة أحمد الجشتيمي بـ[گبش] .. (ص : 137)، مما يدل على أنه مكان، لم أعرفه، وقد يكون مصَحفا.
رابعا : على مستوى الغريب من الألفاظ :
ذكر في المتن [بابور البر] و[المجانة] (ص : 152 – 159)، ولم يبينا المراد منهما، والأول هو القطار، والثاني هو الساعة اليدوية أو المثبتة على الجدار …
خامسا : على مستوى نسبة الأشعار والكتب والإفادات إلى اصحابها :
يقتضي المنهج الأمثل في التحقيق عزو الأبيات الشعرية إلى قائليها، وإذا عجز الإنسان عن الوصول إلى ذلك، فإنه يلزمه عزوها إلى المصادر التي أوردتها، وهو ما قام به الباحثان أحيانا، إلا أن قصورا اعترى عملهما من هذا الجانب، مثل :
** أنشد أحدُهم الكتانيَ بيتين نسبهما إلى ابن العربي الحاتمي في الفتوحات، وعلق عليهما بقوله : “ولم أستحضر محلهما” (ص : 339)، وعلق المحققان بقولهما : “لم نقف عليها في الفتوحات”، والصواب أنهما لصفي الدين الحلي، (ديوان الحلي : 666)، والبيتان مطلعهما :
في فساد الأمور لله سر//مستبين في غاية الإيضاح
وفي الديوان [والتباس] بدل [مستبين]، وهو أقوم.
** أُنشِد الكتاني بيتان في حق الإمام الغزالي دون ذكر صاحبهما (ص : 350) ولم ينسبهما المحققان، مطلعهما :
حرر المذهب شيخ//أحسن الله خلاصه.
وهما من نظم أبي حفص عمر بن عبد العزيز بن عبيد الطرابلسي[16].
** البيتان في ص : 463 لم ينسبهما المحققان لناظمهما، وهو الشيخ أحمد بن محمد علي الجوهري المكي[17]، ومطلعهما :
إن رمت علما فاتخذ حرفة//تصون وجه الحر لا يبذل.
** أورد الكتاني (ص : 141) البيت الآتي :
وإنما رجل الدنيا وواحدها//من لا يعول في الدنيا على أحد.
ولم ينسبه المحققان لأي شاعر رغم شهرتهما، وهما من أبيات لامية العجم، ختمه صاحبه بكلمة [رجل] بدل [أحد].
** ورد في المتن بيت شعري لم يحيلاه إلى مصدر متقدم، وهو :
عجبت لمن يبكي على موت غيره//دموعا ولم يبك على موته دما.
وهو مذكور في الفروع لابن مفلح بعبارة [فَقْدِ] بدل [موت].
** ورد في المتن (ص : 301) بيتان نسبهما ابن خال المؤلف للتركزي الشنجيطي، وهما:
غنينا بنا عن كل من لا يريدنا//وإن كثرت أوصافه ونعوته.
فمن جاءنا يا مرحبا بمجيئه//ومن فاتنا يكفيه أنا نفوته.
ونسبهما أيضا للشيخ عبد القادر الجيلاني بلفظ :
ومن جاءنا يا مرحبا بقدومه//يجد عندنا ردا صحيحا ثبوته
ومن صدّ عنا حسبه الصّد والقلا//ومن فاتنا يكفيه أنا نفوته.
وهذه في الأصل ثلاثة أبيات، تم تفكيكها وروايتها بتلك الطريقة، وجدتها منسوبة لجعفر الصادق[18] بألفاظ أدق وأقوم :
قنعنا بنا عن كل من لا يريدنا//وإن حسنت أوصافه ونعوته
فمن جاءنا يا مرحبا بمجيئه//يجد عندنا ودا قديما ثبوته.
ومن صدّ عنا حسبه الصد والقلى//ومن فاتنا يكفيه أنا نفوته.
** أنشد في المتن (ص : 135) ثلاثة أبيات مطلعها :
ألم تعلم بأني صيرفي//أحك الأصفياء على محكي
علق عليها المؤلف بأنها أبيات قديمة، ولم ينسباها إلى مصدر متقدم زمنا، وهي موجودة في الدرر الكامنة لابن حجر 6/235.
** ورد في المتن (ص : 166) بيت شعري نصه :
كلِ التراب ولا تعمل لهم عملا//فالشر أجمعه في ذلك العمل.
وبدل أن ينسبه المحققان إلى مصدر قديم، أحالا على رسالة أخرى لعبد الحي الكتاني، والبيت موجود في العقد الفريد 3/151.
والإنصاف يقتضي منا أن ننوه بعمل المحققين في نسبة الأبيات الشعرية إلى أصحابها أو إلى مصادر قديمة، مثل ص : 385 – 390 – 234 …
وبالنسبة للكتب :
** قال الكتاني : “وطبع في الهند قديما تفسيرٌ لأحد وزراء الهند في مجلد ضخم جدا، ليس في جميع هذا التفسير حرفٌ منقوط، بل توخى مؤلفه كتبَه بالحروف المهملة فقط” (ص : 361)، ولم يعلقا للتوضيح والبيان بشيء، والكتاب هو “سواطع الإلهام، في تفسير كلام الملك العلام” للشيخ فيض الله المشهور بفيضي (تـ 1004 هـ) وطبع تفسيره لأول مرة بالهند سنة 1306[19].
** ذكر الكتاني في المتن (ص : 392) “شارح الإحياء” و”القاموس”، فأثبت المحققان في الهامش عنواني الكتابين كاملين، مع العلم أنهما من الشهرة بمكان، وفي المقابل، أغفلا التوضيح والبيان بالنسبة لكتب غير مشهورة، مع أن ذكر عناوينها والتعريف بها أولى، ومن نماذج ذلك :
** ذكر الشيخ الكتاني (ص : 329) كتاب “المنية”، ولم يوضحا بشيء، والمقصود هو “منية المريد” وهي منظومة شرحها العربي بن السائح الرباطي في “بغية المستفيد”.
** للإنصاف، أورد المحققان عناوين كتب أخرى كاملة، (ص : 79 – 88 – 332 – 333) إلا أنهما في (ص : 333) أثناء الحديث عن كتاب أبي سالم العياشي “الحكم بالعدل والإنصاف” قالا : “مخطوط بالمكتبة الكتانية تحت رقم كذا” والأولى الإحالة إلى المطبوع، وقد صدر الكتاب محققا بدراسة علمية للدكتور عبد العظيم صغيري، وهو من مطبوعات وزارة الأوقاف المغربية.
** لما ذكر الكتاني “نور النبراس” للبرهان الحلبي، علق الباحثان بقولهما : “طبع بدار النوادر في تسع مجلدات، (سنة 2014 هـ)”، وهذا سبق قلم، لأن التأريخ ميلادي، ومما يحسب لهما أنهما بينا أن الكتاب مطبوع، وتاريخ طبعه، ونسجا على نفس المنوال في مواضع أخرى (ص : 71 – 77 – 79 …) وحبذا لو اتبعا هذا المنهج في كل الكتاب، ليبينوا المطبوع والمخطوط، حتى تعم الفائدة، ففي ص 384، وأثناء الحديث عن الشيخ الملوي، ذكر له المؤلف كتاب “التبصير، في مسائل التحرير”، و”تحفة القضاة، في مسائل الرعاة”، ولو بحثا في كشاف الكتب المخطوطة بالخزانة الحسنية، لوجدا أن الثاني من مخطوطاتها (الكشاف : 75)، والأول كذلك، لكن اسمه المثبت في الكشاف مخالف للمثبت عند الكتاني، ففي الكشاف ص : 70 “التحرير، لمسائل التصيير”. وكان حريا بهما أن يحققا الاسم الصحيح للكتاب.
وبالنسبة للإفادات :
أشار الباحثان إلى مظان كثير من الإفادات، سواء من كتب عبد الحي الكتاني، أو من كتب ابن خاله ولي الله تعالى سيدي محمد بن جعفر الكتاني (ص : 318)، أو من “دربلة الفقير” لعبد الحفيظ الفاسي، رغم أن بعض هذه المصادر من المخطوط عزيز التداول، لكنهما لم ينسبا الإفادة 223 للتحرير والتنوير للطاهر ابن عاشور 6/68.
سادسا : على مستوى صياغة العناوين الفرعية :
وضع المحققان عناوين فرعية خاصة بالإفادات والإنشادات، فحالفهم التوفيق في كثير منها، إلا أن بعض العناوين غير دقيقة ولا تطابق المضمون، مثل :
** عنوان الفائدة 231 : [طلوع الفقر من المغرب إلى المشرق]. وأول ما يتبادر إلى ذهن القارئ أن الإفادة تتحدث عن الفقر والمسكنة، وهي في الواقع تتحدث عن الصوفية العارفين، حيث قال صوفي تونسي : “تتبعنا الفقر فوجدناه يطلع للمشرق من المغرب” وعزز ذلك بأمثلة كالشيخ الأكبر والشاذلي وغيرهما، ولو قالا : “طلوع شمس الولاية من المغرب” لكان أوضح.
** تضمنت الإنشادة 215 أربع مقطوعات شعرية، بعضها من بيت واحد، وبعضها من أربعة أبيات، ولكل مقطوعة موضوع، لكن العنوان اقتبس من بيت شعري واحد، فكانت الترجمة غير مناسبة.
إضافة إلى أن بعض الإفادات والإنشادات بقيت بدون عناوين، مثل : الإنشادة 149- 160- 171- 258.
سابعا : التعليق بكلام مرسل :
يطلق الباحثان أحيانا كلاما مرسلا غير دقيق، ويصدرون من خلاله أحكاما تفتقر إلى ما يعضدها من الأدلة والقرائن، بخلاف ما جرى عليه العمل في المنهج الأمثل للتحقيق، ويمكن إيراد النموذج الآتي :
قال الباحثان تعليقا على كتاب “اليواقيت الثمينة” للشيخ عبد الحي الكتاني : “وعليه عوّل من جاء بعده ممن كتب في موضوعه، كالشيخ أحمد بن الصديق الغماري في كتابه “مطابقة الاختراعات العصرية”، وأخيه الشيخ عبد العزيز بن الصديق في كتابه “الأربعين العزيزية” دون عزو للإمام المؤلف” (ص : 448). وهذا الكلام قيل وكرر من قبل السيدين حمزة الكتاني وخالد السباعي، ولم يسنداه بما يعضده، فحسبناه كلام جرائد كما يقال، لكن أن نقرأه بحروفه في بحث أكاديمي بحت ينتهج المنهج الأمثل في التحقيق والتدقيق، فهذا مما لا يقبله عاقل، فضلا عن باحث، فضلا عن باحثَيْن اثنين، وما دام أنهما لم يوردا القرائن والشواهد الدالة على صدق دعواهما، فإن كلامهما في هذه المسألة شبه الريح كما يقال.
ثامنا : على مستوى السلامة اللغوية :
حاول الباحثان إخراج الكتاب سليما نقيا من الشوائب التي تنقص من قدره، لكنهما وقعا في أخطاء لم يتنبها إليها، ولم يتنبه لها المشرفان الحقيقيان، بل أثبتا جملة من الأخطاء في المتن، وبحكم معرفتي بلغة السيد عبد الحي الكتاني، فإنني أكاد أجزم بعدم نسبتها إليه، وعلى فرض صدورها منه، كان الأليق بالباحثين أن ينبها إليها في الهامش، حتى يكون التحقيق على المنهج الأمثل.، وهذه نماذج وأمثلة :
** ص 6 : ولما كان هذا المخطوط مقدَّمٌ … والصواب : مقدماً.
** ص 88 : فإن نصَّ هذه المسألة في غير مضنته … الصواب : مظِنّته.
ص 89 هامش (4) : أنشد المؤلف هذان البيتان … الصواب : هذين البيتين.
ص 119 : ولعل أكلَه من الطعام الغير المشكوك في حرمته … الصواب : غير المشكوك، (تنكير [غير] وعدم تعريفها وفاقا للقرآن الكريم : “غير المغضوب عليهم” وليس الغير المغضوب …).
** ص 167 : يموت على الحالة الباطنية التي كان منطوٍ عليها .. الصواب : منطوياً.
** ص 171 : فتَلَى أحد أعلام فقهاء فاس إذ ذاك قوله تعالى … الصواب : فتَلا.
** ص 235 : ويعتبروا الثقاة ممن قام … الصواب : الثقات. (ثقة ثقات، مثل علة علات، عظة عظات …).
ص 243 : ثم تتبعنا مصنفات من عَزَى الحديث لمسلم … الصواب : عزا بالألف الممدودة.
ص 329 : الشيخ فلان أَخُ صاحب “المنية” … الصواب : أخو، لأنهمن الأسماء الخمسة، وجرت عادة السيد الكتاني كتابته بهذه الطريقة، نعم، يجوز حذف الواو على رأي شاذ في اللغة، مذكور في مظانه، كشروح الألفية وغيرها، ولو اعتمده المؤلف هكذا، وجب على المحققين التعليق للتنبيه في الهامش، لأنه من الشاذ، وقال المحققان في (ص 155. هامش 3) سبب أخذ أخ المؤلف … والصواب : أخي. ومثلها في (ص 197. هامش 1).
ص 331، هامش (1) : السلم المنورق … الصواب : المرونق…. ولعله سبق قلم.
ص 334 : لم يُعْلِي فيه بصره … الصواب : لم يعلِ.
تاسعا : استدراكات وتنبيهات
** لما ذكر الشيخ الكتاني رسالة وصل البلاغات الأربع لابن الصلاح، علق عليها الباحثان بقولهما : “وقد طبع بعناية صديقنا الأستاذ خالد البداوي السباعي بدار الحديث الكتانية” (ص : 206)، والمنهج الأمثل يقتضي من الباحثين الإنصاف، وعدم الالتزام بدفتر التحملات المضمر، والالتزام بالمنهج الأمثل الذي ادعياه، ولو أنصفا لبدآ أولا بالعلامة المحدث المحقق سيدي عبد الله بن الصديق الغماري، باعتباره أول من اكتشف مخطوط ابن الصلاح، وأول من طبعه، والباحثان على علم بذلك، وقد أثنى عليه المنصفون من العلماء، ممن لم يتأطروا بدفاتر التحملات، مثل العلامة الشهم سيدي عبد الرحمن الكتاني رحمه الله الذي قال عن رسالة ابن الصلاح : “كانت من قبيل النوادر، وقد عثر عليها أخيرا، العلامة المحدث الشيخ عبد الله بن الصديق الغماري الحسني، فطبعها وعلق عليها تعليقات مفيدة”[20].
** قال الباحثان ص 117 : “وللإمام السيوطي ثلاث رسائل في نجاة أبوي النبي صلى الله عليه وسلم ودخولهما الجنة”، والصواب أنها ستة : 1) الدرج المنيفة، في الآباء الشريفة. 2) التعظيم والمنة، في أن أبوي رسول الله في الجنة. 3) مسالك الحنفا، في نجاة والدي المصطفى. 4) نشر العلمين المنيفين، في إحياء الأبوين الشريفين. 5) المقامة السندسية، في النسبة المصطفوية. 6) السبل الجلية، في الآباء العلية. وكلها مطبوعة في سفر واحد، بعناية حسين محمد علي شكري، دار الكتب العلمية.
** ذكر الشيخ الكتاني إفادة عن الشيخ محمد بخيت المطيعي، وفيها حديث “مواقف يوم القيامة”، وعددها خمسون موقفا، والحديث إن لم يعلق عليه الشيخ بخيت، فهذا أمر مستساغ، لأنه لم يكن من أهل الحديث رحمه الله، أما أن يسكت عنه عبد الحي الكتاني، فهذا أمر مستغرب، خصوصا أنه “إمام المحدثين وسيد الحفاظ”، وأنه يمارس الصناعة الحديثية بين دفتي الكتاب كما قال المحققان، والأغرب من هذا، أن الباحثين ذكرا الحديث وقالا : “لم نقف على الحديث في مظانه التي بين أيدينا” ص : 176. والحديث موضوع، ذكره ابن الجوزي في الموضوعات (3/247) والسيوطي في اللآلئ (2/273)وغيرهما.
** ذكر الشيخ الكتاني تخميس بعضهم لبيتين مطلعهما :
فانظر إلى السحر يجري في لواحظه//مغض على دعج من طرفه الساج.
ولم ينسبهما الباحثان، وهما من نظم محمد بن داود الأصبهاني، قالهما تعليقا على حديث “من عشق فكتم فعف”، وهما مذكوران في مصارع العشاق : 1/14. وذكرهما الحافظ أحمد بن الصديق في رسالته “درء الضعف” ص : 28.
وتحدثا في الهامش عن ديوان الشاعر قابادو التونسي، وذكرا له طبعتين، ووقفت على طبعة ثالثة، بعناية عمر بن سالم، سنة 1984.
عاشرا : لائحة المراجع :
ضمت لائحة المراجع المعتمدة في البحث عددا وافرا من العناوين، المخطوط منها والمطبوع، وهو أمر مفيد جدا، وعليها ملاحظات بسيطة :
** وقع خلل في الترتيب، فقدم الباحثان كتاب “مطالع الأفراح”، وجعلاه بين “المباحث الحسان” و”متن السلم”، وكان عليهما تأخيره خمس صفحات ليثبتاه قبل “المطرب” تبعا لترتيب حروف الهجاء.
** المرجع رقم 357 فارغ، كتبت مكانه عبارة “المصادر والمراجع”، ولعله سبق قلم.
** بعض المراجع أثبتت مكررة على التوالي، دون وجود فرق في الطبعة أو التاريخ، مثل (227 و 228) (248 و 249) (303 و 304)، وهذا سبق قلم أيضا.
القسم الثالث : مؤاخذات على الشيخ عبد الحي الكتاني :
كان بإمكان السيد عبد الحي الكتاني أن يجَوّد كتابه أكثر، لو تدخل بالتعليق والتوجيه في كثير من المواضع، ولما أغفل هذه المسألة، قلّت فائدة الكتاب ونقصت، ويمكن الإشارة إلى أربعة مسائل يمكن أن يقاس عليها :
أولا : حكى في الإفادة 40 الاختلاف بين العلماء في مذهب سعد الدين التفتازاني، هل هو حنفي أو شافعي، وبعد حكاية الأقوال، علق بقوله : “والواجب كما هو صريح أنه ليس بحنفي”، ولست أدري على أي قرينة اعتمد ؟ وعلى أي حجة بنى ؟ وهذا منه رحمه الله ترجيح بدون مرجح، لا يقدم ولا يؤخر.
ثانيا : سئل الشيخ سليم البشري بحضور الشيخ الكتاني عن توجيه عبارة “إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك” الواردة في حديث الحوض، فأجاب بأن “أعمال هؤلاء الذين طردوا عن الحوض عرضت عليه عليه السلام في جملة أعمال أمته، ولكن ساعة الذود عن الحوض يتعيّن أن تكون ساعة ذهول لكثرة الأهوال” (ص : 447)، ولم يعلق الكتاني على كلام البشري بشيء، ولو سمع هذا الكلام شقيقه سيدي محمد بن عبد الكبير لما سكت، خصوصا ما اشتهر عنه من تعلق بالجناب النبوي الشريف، والثابت المقرر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه الوحيد الذي لا يتعرض لأي ذهول أو اضطراب أثناء الموقف العظيم، بخلاف سائر الأنبياء، حين يتخلفون عن الشفاعة بدعوى أن الله سبحانه وتعالى غضب غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، “أما نبينا صلى الله عليه وسلم، فيكون في ذلك الموقف قوي القلب، رابط الجأش، لا يلحقه فزع، ولا يغشاه هول، تطلب منه الشفاعة، فيقول : أنا لها أنا لها، ولا يعتذر كما اعتذر غيره، ويستشهد به الرسل على تصديقهم في إبلاغ قومهم، فيصدقهم ويؤيدهم، ويراجع ربه في أمته مرة بعد مرة”[21].
ثالثا : استنبط محمد بن عبد القادر العدلوني الدمنتي من قوله تعالى : “يستفتونك، قل الله يفتيكم …” أنه يجوز إطلاق اسم “المفتي” على الله عز وجل (ص : 471)، أثبت الكتاني هذا الاستنباط العجيب الغريب ولم يعقب بشيء، ولم يلتفت إليه الباحثان، مع أن هذا مخالف لما عليه جمهور العلماء ومحققيهم أن أسماء الله تعالى توقيفية، نص على ذلك ابن حزم في الفصل 2/108، وابن العربي في المتوسط 240، وعبد الجليل القصري في شعب الإيمان 278 وغيرهم. ولو جوّزنا إطلاق “المفتي” على الله، لجوزنا إطلاق “البَنَّاء” و”المستهزئ” وغيرهما، استنباطا من قوله تعالى : “والسماء بنيناها …”، وقوله : “الله يستهزئ بهم”، وهذا غير مقبول.
رابعا : يغالي الشيخ عبد الحي الكتاني في تحلية العلماء والأدباء بأوصاف ونعوت لا تتطابق مع مكانتهم العلمية، مثل وصفه للإمام الشوكاني بـ”حافظ اليمن”، و”خاتمة الحفاظ” (ص : 105 – 251)، والواقع الذي لا يرتفع، أن الإمام الشوكاني رضي الله عنه – وإن كان تاجا فوق رؤوسنا- ليس من الحفاظ، بله أن يكون خاتمتهم، وجُل ما في “نيل الأوطار” من مناقشات حديثية مقتبس من”فتح الباري” و”التلخيص الحبير”، وأوهامه التي وقع فيها أثناء تأليفه في الأحاديث الموضوعة لا تتناسب مع موقع “خاتمة الحفاظ” ومكانته، قال محدث المغرب والشام سيدي محمد بن جعفر الكتاني رضي الله عنه عن “الفوائد المجموعة، في الأحاديث الموضوعة” : “أدرج فيه كثيرا من الأحاديث التي لم تبلغ درجة الوضع، بل وأحاديث صحاحا وحسانا، تقليدا للمشددين المتساهلين في الموضوعات، نبه على ذلك عبد الحي اللكنوي في ظفر الأماني”[22]. نعم، يعد الإمام الشوكاني فقيه مجتهد، وأصولي بارع متمكن.
ونظير هذا التساهل وهذه المبالغة في تحلية الأعلام، ما ذكره عبد الحي الكتاني (ص : 408) من تحلية بعض العلماء للشيخ عبد الله بن سالم وتلميذه الأمير الصنعاني بلقب “أمير المومنين في الحديث”، وكذا إطلاق اللقب ذاته على أبي العلاء العراقي الفاسي من قبل تلميذه الحضيكي، وغيرهم، وهذه لعمري من المبالغات التي يجب صون الكتب العلمية عنها، لأن درجة “أمير المومنين في الحديث” درجة عزيزة جدا، لم يصلها في الأمة إلا نفر قليل من الأعلام، وكم وددت أن يعلق الكتاني على مثل هذه المبالغات، فإذا بي أجده منغمسا فيها، فرحا بوصفه بها من قبل المعجبين، فقال (ص : 409) : “ومن منن الله عليّ التي لا تجحد، أن وُجد إطلاق ذلك على الفقير [= يقصد نفسه] من كثيرين من أهل المشرق والمغرب، حتى بمكة والمدينة والجزائر والمغرب الأقصى وغيرها”، وبعض ما أوردته من ملاحظات في هذا المقال كافية لنقض هذه الدعوى.
وفي الختام، لا يسعني إلا أن أثني على عمل الباحثين الشابين، حيث جدا واجتهدا في إخراج المخطوط إلى عالم المطبوعات، مع ما يكتنف ذلك من صعوبات وعقبات، لا يتجاوزها المرء إلا بسلاح الصبر والجلد، ولا يعرف قدرها إلا من ذاق طعم التحقيق، حيث يواصل الليل بالنهار، ويعتكف في الخزائن والمكتبات، وقد لا يظفر بمعلومة يسوّد بها نصف صفحة، فلله درهما، وأنبه هنا أني لم أقصد التعالم عليهما، أو التنقيص من عملهما، حاشا وأنى لي، وإنما وددت نشر هذه الملاحظات حتى تكون ملكا مشاعا لجميع الباحثين، للإفادة منها إن ضمت بين ثناياها فائدة تذكر، ولتقويمها وتصحيح ما بها من خلل وزلل حتى أستفيد قبل أن أفيد. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الهوامش:
[1] إتحاف المطالع ضمن موسوعة أعلام المغرب : 3307.
[2] مقدمة الشيخ عبد الله بن الصديق لرسالة ابن الصلاح في وصل البلاغات الأربع. ط : 1979
[3] صورة الإجازة في “السيرة الببليوغرافية للمولى عبد الحفيظ بن الحسن العلوي” للدكتور عبد المجيد خيالي ص : 450.
[4] السيرة الببليوغرافية للمولى عبد الحفيظ بن الحسن العلوي للدكتور عبد المجيد خيالي، ص : 43.
[5] روى الحادثة الأستاذ المختار السوسي عن الباشا إدريس منو. حول مائدة الغذاء، ص : 67.
[6] رسالة في تأبين دوكاستري، لعبد الحي الكتاني. مخطوط بالخزانة الحسنية تحت رقم : 12780.
[7] رجال عرفتهم، لأبي بكر القادري : 4/116.
[8] بعد الاستقلال، طلب الملك محمد الخامس من الفقيه ابن أبي بكر التطواني أن يذهب إلى فاس للإشراف على حيازة خزانة الكتاني، فعظم الأمر على التطواني، لأنه من أخص تلاميذه الذي كان يلازمه ملازمة الظل للشخص، واعتذر للملك، ذاكرا له أنه قضى مع الكتاني عشر سنوات في منزله ومكتبته، فأعفاه الملك من هذه المهمة. رجال عرفتهم لأبي بكر القادري : 4/116.
[9] لا أقصد المشرفين الإداريَين.
[10] إتحاف المطالع لابن سودة، ضمن موسوعة أعلام المغرب، ص : 3371.
[11] رجال عرفتهم، لأبي بكر القادري : 4/115.
[12] قال الكتاني : “أخذت لي صورة فوتوغرافية مع علامة مصر الشيخ بخيت المطيعي …” ص : 246. ولم يقل : مع تلميذنا.
[13] بعد هروب أحمد الهيبة، ووصول المحتل الفرنسي إلى مراكش، خطب الدكالي بين يدي قائد الحملة الفرنسية مقدما له طاعة المدينة، وطلب منه إعلان الأمن العام، بعد أن أثنى على دولة فرنسا بأنها دولة فخيمة معروفة باحترام الإنسانية وبالرأفة والعدل. مشيخة الإلغيين للمختار السوسي : 26. وينظر “تاريخ ثورة أحمد الهيبة” لعباس بن إبراهيم التعارجي.
[14] آثار ابن باديس : 4/37.
[15] حاشية رياض النزهة المطبوع ضمن مجموع النسب. ص : 213، ووصف الدكالي بالعالم المتطرف
[16] طبقات الشافعية للسبكي : 6/223.
[17] سلافة العصر : 116.
[18] العتب الجميل على أهل الجرح والتعديل : 41.
[19] نموذج من الأعمال الخيرية في إدارة الطباعة المنيرية لمحمد منير أغا الدمشقي. ص : 394. مكتبة الإمام الشافعي. الرياض. والشيخ ضيفي مترجم في الأعلام للزركلي : 5/168. وهدية العارفين : 1/823.
[20] ندوة الإمام مالك : 2/360.
[21]أفضل مقول للشيخ عبد الله بن الصديق : 42.
[22] الرسالة المستطرفة للكتاني : 152.
اترك رد