عبد المولى محمد خميستي: أدب شعبي مقارن – جامعة سيدي بلعباس
تحتل مسألة المصطلح والتعريف مكانا هاما لدراسة أي ظاهرة من الظواهر التي يصطدم بها الباحث أثناء مسيرته البحثية، و من ثم كان لزاما الوقوف عند هذه الخطوة لإجلاء حيثيات مفهوم الظاهرة، و توضيح ملامحها العامة و أطرها المنهجية، و بذلك فإن التعريف المسبق أمر ضروري لغاية توضيح و تحديد مجال البحث؛ و لكننا في الوقت نفسه، لا نستطيع التوصل إلى مثل هذا التعريف قبل أن نشبع ظاهرتنا بحثا و تحليلا.
و من أهم ظواهر الثقافة الإنسانية نجد الفكر الأسطوري مهيمنا على النتاج الثقافي للشعوب و الذي يؤول كل الظواهر التي يعجز عن تفسيرها تأويلا غيبيا ماورائيا، و من هنا نشأ الفكر الأسطوري، باعتبار أن: “الأسطورة هي حكاية تقليدية تلعب فيها الكائنات الماورائية أدوارها الرئيسية”. 1
و لعل ما يثير الانتباه في هذا التعريف بين الخرافة باعتبارها حكاية تقليدية – والأسطورة، فالخرافة كما يعرفها “سانت بوف” (St Beuve) هي: “جنس طبيعي، بل شكل للإبداع ملازم لروح الإنسان، من أجل ذلك توجد في كل مكان و في البلدان”.2
أما الأسطورة كما يعرفها “سميث” (Smith): “مزيج من كل شيء في كل شيء، فهي حكاية خالصة و هي حكاية مستوحاة من حوادث التاريخ، و هي قصة سردية و هي تاريخ آلهة، و هي تاريخ أبطال، و هي تاريخ أجداد، و هي سيرة حيوانات”.3
أما عن العبارة الثانية (كائنات ماورائية) فإنها تجعلنا أمام مشاهد غيبية يصعب على العقل تصورها أو حتى تصديقها، لذا ارتبطت الأسطورة كمصطلح بكل ما هو غير حقيقي أو غير ممكن التحقق، و قد وردت في القرآن الكريم استعمالات للمصطلح بهذا المفهوم4، أي مما ليس له أصل من الأحاديث. قال تعالى: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَـذَا إِنْ هَـذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ﴾5، و قال عز شأنه: ﴿ َقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً﴾.6
و الأسطورة تمثل إنتاجا معينا لخيال شعب من الشعوب في شكل حكايات و روايات يتناقلونها جيلا بعد جيل، و كان الإغريق يسمون هذه الروايات والحكايات “ميثوس” (Mythos) و معناها ألفاظ و كلمات، و تعني كلمة أسطورة “الكلمة”.7
و بالرغم من أن مصطلح “ميثولوجيا” لا يعني -أصلا- من ناحية الاشتقاق- أكثر من قص الحكايات، إلا أنها تستعمل الآن لتدل على الدراسة المنظمة للروايات التقليدية لأي شعب من الشعوب قصد معرفة الطريقة التي تمت بها حتى أصبحت رواية تروى و إلى أي مدى كان الاعتقاد بها، و كذلك بغية حل المشاكل المتعلقة بها مثل علاقتها بالدين و أصولها… و تكمن وظيفة الأسطورة في تحديد الممارسات لكل أنواع الطقوس التي يمارسها الفرد من تغذية و عمل و تربية، و هذا بتقليدنا الآلهة أو مثل أعلى آخر في المجتمع.8
و لعل ما يثير الانتباه في مجال الميثولوجيا هو أن “مفاهيم الأسطورة وتفسيراتها كثيرة، تدور أساسا على الأمور المبالغ فيها و التي قد تصل إلى حد المعجزات، و هي تمثل محاولة تفسير يقوم به الإنسان لأسرار لا يفهمها، مضفيا عليه قيمة دينية واضحة، فأساطير البشر تجسد القوى غير المفهومة في شكل آلهة و كائنات خارقة مصبوغة بصبغة قدسية محضة”.9
و عند محاولة العلماء تفسير نشأة الأساطير، بدايتها و أسبابها، نجدهم لا يتفقون على أسباب محددة، فجورج جيمس فريزر (George James Frazer) مؤسس المدرسة الأنثروبولوجية الإنكليزية سنة 1890، و الذي أثرت دراساته في العديد من المدارس الأنثروبوجية، و من خلال دراسته للأساطير البابلية، نجده يربط الأسطورة بفكرة خلق الكون، و هذا ما يذهب إليه في رؤيته لأسطورة الصراع الذي كان قائما بين مردوخ و تياما و الذي يعكس -حسب قوله- التحول الفصلي لضفة الفرات، حيث يقول: “إن صراع مردوخ و تياما ما هو في الأصل إلا تأويلا أسطوريا لفصل الربيع البابلي و يأخذ قيمته الكوسموغونية إلا بعد وقت طويل، و يصبح هذا الصراع عبارة عن حكاية الخلق”.
و فكرة انبثاق الكون عن صراع الخير و الشر، لم تكن موقوفة على الفكر البابلي وحسب، بل إن الزرادشتية -في الفكر الفارسي القديم- تجعل فكرة الصراع عمادا لعقيدتها، صراع بين الروحين؛ روح الخير و روح الشر، والنور و الظلمة أصلان متضادان و هما مبدأ وجود العالم، وحصلت التراكيب من امتزاجهما، كما أن الصور حصلت من التراكيب المختلفة.10
و لقد انبثق عن امتزاج النور مع الظلمة: الخير و الشر، و الصلاح والفساد و الطهارة والخبث، و لولا هذا الامتزاج لما وجد العالم… و لسوف يستمر الصراع بينهما حتى يغلب النور الظلمة، و يغلب الخير الشر، ثم يتخلص الخير إلى عالمه، و ينحط الشر إلى عالمه و ذلك هو سبب الخلاص.11
فالأسطورة دوما مرتبطة ببداية الإنسانية و في هذا الصدد يرى فريزر أنها -أي بداية الإنسانية- تمثل الممارسات السحرية للبشر الذين كانوا يؤدون طقوسهم الدينية كسعي فكري لتفسير ظواهر طبيعية12.
و لكن “هيربت ريد” يؤكد أن فريزر و تلاميذه مخطئون في زعمهم أن أساطير الأولين كانت محاولة لتفسير الكون، و يؤيده في هذا ليفي برول الذي يرى أن الأساطير و الطقوس الجنائزية وعمليات السحر لم تنشأ -فيما يبدو- عن حاجة الرجل البدائي إلى تفسير الظواهر الطبيعية تفسيرا قائما على العقل، و لكن نشأت استجابة لعواطف جمعية قاهرة.13
بينما يرى آخرون أن الأسطورة هي الفترة الدينية للجيولوجية و علم الحيوان نشأت على أطلال كانت يوما قصورا أو مدنا كانت عامرة في حين يرى جين هاريسون (Gane Harrison) أن الأسطورة: هي التفكير الحالم لشعب من الشعوب تماما مثلما يعتبر الحلم أسطورة الفرد.14
أما في الفكر الإغريقي و حسب ما توصلت إليه أبحاث جورج بارتان (George Bertin)15 فالأسطورة قبل العهد الملحمي، ملحمة هوميروس (Epopie d’Hommer) كانت تطغى على التداول و التفكير، فقد مثلت الخطاب و الإشاعة و الخبر المتداول و الحوار، و كان يطغى على تداولها الطابع الشفوي و هو ما يمثل تفسيرا غير رسمي لها.
أما فيما بعد اتخذت الأسطورة منحى آخر؛ و هو منحى التدوين، وأصبحت تعتبر سردا لحكايات غير تاريخية و تقحم في طياتها خرافات وحكايات خيالية، و من ثم أصبح معناها مقترنا برواية حكايات خرافية ذات أبعاد أخلاقية. كما عرفت في هذه الحقبة النمط التدويني، و اعتبرت كأداة تستخدم لأجل قيمة أخلاقية-اجتماعية، و هذا ما يظهر جليا في كتابات “إيزوب” ومسرحياته. كما عدت الظاهرة الأسطورية، في هذا العهد، مؤسس للثقافة الجمعية للشعوب.
ثم أخذت هذه الحكايات المدونة -الأساطير- تشخص حكايات الآلهة والأشخاص، وهذا ما ذهب إليه جيلبار دي رون (Gilbert Durand) في أعماله التي تخصصت في دراسة الأسطورة انطلاقا من رمزية الخطاب الحكائي واهتم بميدان التحليل الأسطوري (Mythanalyse)16 ، و مما ذهب إليه أن الأسطورة “مجموعة التمثلات التي تشكل روابط العالم والإنسانية مع كائنات ماورائية”.17
وانطلاقا من هذا فالأسطورة تساهم في تحديد مكانة الإنسان في الكون، وإضفاء الصبغة المثالية لكينونة -على حد تعبير ماكس ويبر-18 و هذا ما يعني مشروعية التقاليد والعادات كعنصر يؤدي دوره في تمييز الإنسان بين الكائنات.
وهي بهذا تمثل حقائق مسلما بها، و معترفا بمشروعيتها بالنسبة لمبتكريها حتى و لو لم تعبر عن هذه الحقائق لمن هم خارج إطار الابتكار.
أما كلود ليفي ستروس (Claude Levi Strauss) فإنه يذهب إلى أن الأسطورة عبارة عن حكاية زمن مضى حيث لم يكن هناك بعد تمييز بين الإنسان و باقي المخلوقات.19
فالأسطورة إذن تمثل الحدث المؤسس للطابع الإنساني، شارحة علة اختلاف الأشياء، ومفسرة حيثيات وجودها على شكل معين دون الصيرورة إلى غير ما هي عليه.
و في هذا الصدد أبرز بول فارديير20 عنصر الزمن في وصفة للظاهرة الأسطورية معرجا على الممارسة المتعلقة بالتنجيم، و الذي طالما اعتبر في الحضارات السالفة معيارا يقرب فهم العلائق الموجودة بين الحدث و الزمن الذي يقع فيه، و التفسيرات المتعلقة به. و غير بعيد عن رؤية فارديير، ذهب “هيجل” إلى أن عصرا ساد فيه السحر قد سبق عصر الدين في تاريخ الحضارة الإنسانية.21
و ذهب مالينوفسكي إلى أن الأساطير هي عبارة عن حكايات تروى لتفسير الظواهر والعادات و من ثم نقسمها إلى ثلاث مجموعات:22
– الأساطير المتعلقة بمنشأ الإنسان و النمط المجتمعاتي العام، و بالأخص التقسيمات الطوطمية للمجموعات البشرية.
– ثم الأساطير التي تهتم بالموروثات الثقافية و الإنجازات البطولية، أو ما يمثل التأسيس العاداتي، و منشأ المؤسسات الاجتماعية، و مكتسبات ثقافية أخرى.
– و نمط ثالث و هو مجموعة الأساطير التي تتعلق ببعض أشكال السحر التي تتجسد في الممارسات الثقافية.
أما “ليمنغ David Adams Leeming” فيرتب الأساطير إلى:23
أساطير كونية؛ تتجسد في حكايات الخلق و الطوفان و الماورائيات والكوارث الكونية.
أساطير الآلهة؛ و تتجسد هذه الأخيرة في وصف الآلهة المتعددة للشعوب و الحياة التي تمر بها هذه الآلهة، و أنصاف الآلهة و الأشخاص المقدسين.
الأساطير البطولية؛ و تحكي جلها عن ولادة و تاريخ الأبطال و رحلاتهم أو أسفارهم إلى ما وراء الطبيعة و تصف إنجازاتهم المكللة بالنجاح بعد صراع مرير ضد قوى الشر.
الأساطير التي تتعلق بالأماكن و الأشياء المقدسة.
و هذا النوع الأخير من الأساطير أو الحكايات متعدد الجوانب كثير التداول، و قد أوضح “مالينوفسكي” هذا النوع و عزاه إلى الطابوهات الجنسية لشعوب المحيط الهادي.24
و البحث في أصل الأسطورة يجعلنا أمام أربع نظريات25 حاول أصحابها تبرير نشوء الأسطورة بناء على عوامل ساعدت على ظهور هذا النمط الفكري؛ و أول النظريات التي حاولت تفسير نشوء الأسطورة نجد نظرية دينية التي ترى أن حكايات الأساطير مأخوذة من الكتاب المقدس مع اعتراف بأنها غيرت أو حرفت، فهرقل (Hercule) ما هو إلا اسما آخر لشمشون، وماردريو كاليون بن بروميشوم الذي أنقذه زيوس (Zeus) و زوجته من الغرق.
ثم النظرية التاريخية التي تذهب إلى أن أعلام الأساطير عاشوا فعلا وحققوا سلسلة من أعمال العظمة و مع مرور الزمن أضاف إليهم خيال الشعراء ما وضعهم في إطار الغرائب الذين يتحركون في جو أسطوري خيالي.
و هناك نظرية ثالثة في هذا الشأن، و هي ما يعرف بالنظرية الرمزية والتي تقوم على أن كل الأساطير -بأنواعها المختلفة- ليست سوى مجازات فهمت على غير وجهها الصحيح أو فهمت على ظاهرها دون الغوص في أغوارها العميقة، و من ذلك ما يقال أن ساتورن (Saturne) كان يلتهم أولاده وما هذا إلا تعبير عن الزمن الذي يأتي على كل ما يعيش في فضائه و داخل حيزه.
أما رابع النظريات و هي النظرية الطبيعية و التي بمقتضاها يتم تخيل عناصر الكون من ماء وهواء و نار في هيئة أشخاص أو كائنات حية، أو أنها تخفي وراءها مخلوقات خاصة. و على هذا النحو وجد لكل ظاهرة طبيعية ابتداء من الشمس و القمر و البحر و حتى أصغر مجرى مائي، كائن روحي يتمثل فيه و يبتنى عليه أسطورة أو مجموعة أساطير.
و الأسطورة ارتبطت بالإنشاد و الشفاهية، مما أكسبها خصائص مميزة عن غيرها، و قد ارتبطت بالعقيدة و الطقوس الكهنية، فالإنسان الأول رأى في العقيدة أول عقيدة حية يستطيع بها أن يدفع أذى الطبيعة الحية و الصامتة، و أن يعيش معها في انسجام، و حينما أدرك بتجربته أن لمظاهر الطبيعة قوى كامنة فيها، و التي تعرف بالمانا (Mana)26 ، هذه القوة التي لها القدرة على إلحاق الضرر بالإنسان.
قائمة المصادر والمراجع
1. فراس السواح، “الأسطورة و المعنى، دراسات في الميثولوجيا و الديانات المشرقية”، دار علاء الدين، دمشق، ط2، 2001، ص: 08.
2. أخذا عن: د. عبد المالك مرتاض، “الميثولوجيا عند العرب، دراسة لمجموعة من الأساطير و المعتقدات العربية القديمة”، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1989، ص: 11.
3. المرجع نفسه، ص: 145.
4. -وردت كلمة أسطورة في القرآن الكريم في عدة مواضع منها: سورة الأنعام/25، النحل/24، المؤمنون/83 و89 ، النمل/68، الأحقاف/17، القلم/15، المطففين/13.
5. سورة الأنفال / الآية 31.
6. سورة الفرقان / الآية 05.
7. و إلى هذا ذهب هايديغر (Heidigger) حينما قال: “الأسطورة هي الكلمة” (Le mythe est la parole).
8. Eliad, Meria, « Le sacré et le profane », Ed : Gallimard, collection folio-Essai (1987).
9. محمود زمزم، “تأملات في الأدب و الفلسفة و الحياة”، دار الكتاب الحديث، الكويت، ط1، 1996، ص: 23.
– كوسموغونية (Cosmogonique): ما كان مرتبطا ببداية خلق الكون.
10. د. عبد الله محمد الغريب، “و جاء دور المجوس”، دار نشر المؤلف، ط4، 1405/1985، ص: 22.
11. الشهر ستاني، “الملل و النحل”، ج1، دار المعرفة، د.ت، ص: 236.
12. Frazer G. J. op. cit.
13. ينظر:
Levy- Bruhl Lucien « L’expérience mystique et les symboles chez primitifs » Librairie Felix Alcan, 1938. Collection des travaux de l’année sociologique”.
14. المرجع نفسه، ص 112.
15. Bertin, George : « Actualité du Mythe », Esprit critique, Vol 03. n°8 (2001)
- Voire pour plus de détail :
– Durand Gilbert :- « champs de L’imaginaire, Ellug 1996.
– Durand Gilbert :- « L’ame tigrée, les pluriels de psyché » De noël, 1980.
a. -« la foi du cordonnier » De noël, 1984.
b. -« les structures anthropologiques de l’imaginaire » Paris, De noël, 1985, 10ème édition.
c. -« bureau arts et archetypes », paris, PUF, 1989.
d. -« l’imagination symbolique », Paris, PUF, 1968.
17. Durand Gilbert : Beaux Arts et Arthétypes, Paris PUF. P 11-12.
18. Voir : Bertin George, op.cit.
19. Levi-Strauss Claude : « De prés et de loin », Entretien avec Didier Eribon Odilo Jackob, 1993, p 113.
20. – استقينا تعريف فاردير للأسطورة من أعمال بارتان Bertin المشار إليها آنفا.
21. ينظر أخذا عن: فراس السواح، “الأسطورة و المعنى”، ص: 134.
22. Malinovsky Bronislar Maniar, « La sexualité et la répression dans les sociétés primitives » Payot, Paris, 1932.
23. Leeming David Adams (A): « Myth, Abiography of belief » Oxford university press, 2003.
24. Malinovsky Bronislar Maniar, « La sexualité et la répression dans les sociétés primitives » Payot, Paris, 1932.
25. توماس بوليفينشي، “ميثولوجيا اليونان و روما”.
- Otto Rudolph : « Le sacré », Payot, collection petite bibliothèque, 1995.
اترك رد