لندة واضح: علوم فلسفة، جامعة الحاج لخضر باتنة 1 (الجزائر)
بعد نقاش طويل سألني : هل أنت تتبعين الدين أم العقل . .؟!
فقلت له : وهل يتعارضان ؟! فأجابني بثقة تامة : بالتأكيد لا يتعارض الدين مع العقل.!
فقلت له : إذن لا يضيرني أيهما اتبعت , فإذا اتبعت العقل – حتماً – سيقودني إلى الدين الصحيح وعندما أتبع الدين الصحيح فحتماً لن يتعارض مع عقلي . .!
فأجابني بالإجابة التقليدية : لو كان الدين يؤخذ بالعقل لكان المسح على باطن الخف أولى من ظاهر! , هنا لا أتحدث عن موضوع فقهي ولست بصدد مناقشة نص ديني أو حتى دراسته وتحليله لكنني أعني تحديداً ما يعانيه الدين كإيديولوجية في ظل الصدمات مع الواقع الحالي وتطور العقل البشري خاصة لدى الغرب.
إستتار البدائل الآيديولوجية والسياسية الشاغلة في المجتمعات، أو فقدان قوتها الإستراتيجية بسبب الأزمات ا لعالمية، وظهور تأثيرات الحداثة المعرفية والسياسية، برزت ظاهرة الأصولية الدينية داخل المجال التداولي الإسلامي، وتمثل أحد احتقانات المسار الكوني للحداثة، ونتيجة للتغيرات الجذرية في شبكات البنى والقواعد المعرفية والأنظمة القيمية وأنساق الهوية والذهنيات التقليدية، وهنا تكمن الأزمة الدورية للأنظمة المعرفية الدينية الإسلامية وآليات اشتغالها، وهي حصيلة مرتبطة بعجز كامل في الأدوات والمفاهيم والمقولات عن استيعاب الوقائع والمعطيات التاريخية، ويمكن إرجاعها إلى ثلاثة مآزق:
– مأزق تكويني؛ يتصل بالعناصر المكونة للمعرفة الدينية وبطبيعة هذه المعرفة، يظهر عادة من خلال تنافر الموضوعات أو الآليات (مدى إجرائية الاجماع والقياس في المعرفه الدينية والاختلاف حول ذلك لاسيما في تنافر المواضيع المعقولة مع تلك التي ينبغي التسليم بها.
– مأزق بنيوي علائقيّ؛ وهو مأزق منطقيّ، يبدو من عدم قدرتها على الاستجابة لمجالها الذاتي تأسيساً أو إصلاحاً أو تغيراً من تبادلها مع مجال آخر وفي علاقتها بغير مجالها بما يحدث تركيباً مصطنعاً أو عجزا عن الإدماج، إذا حصل اقتراض.
– مأزق فاعلية؛ وهو مأزق عملي اجتماعي، يتصل بفعل المعرفة في المجتمع، أي اختلال قاعدة العرض والطلب اذ يطرح الواقع (قضايا ومشاكل) ما يتجاوز الأحكام والتشريع وتصبح الأزمة متعلقة بممكنات الاحتواء والاستجابة للمطلب الاجتماعي المتغير.
المعرفة الدينية كما يحدّدها أركون، قدّمت للإنسان ليس فقط التفسيرات والايضاحات، وإنما الأجوبة العملية القابلة للتطبيق والاستخدام بما يتعلق بالوجود والآخرين والمحيط الفيزيائي، بل حتى الكون فهي توصف.
أوّلاً: المعرفة الدينية بذاتها شكل آيديولوجي.
ثانياً: المعرفة الدينية لها أهمية في مجتمع خاصّ وعند نقطة تاريخية خاصة.
وهنا تشتق الأنظمة المعرفية الدينية (المعارف الحافّة بالدين) زخمها من الأجوبة التي تعطيها عن الأسئلة الوجودية وتعليلها للأصول التاريخية والنظام الطبيعي، فضلا عن السلطة التي تمتلكها نتيجة نقص التعليلات، سواء كانت تاريخية أو طبيعية أو تكنولوجية.
اذ تقوم الأنظمة المعرفية الدينية على تقنيات غير معقدة، وتؤسّس دلالاتها على زخرفة تنكرية بسبب تداخلها في متون متعددة من اللاهوت حتى السياسة والعلوم الطبيعية وأنظمة الخطابات (الخطابات السياسية، الخطابات الآيديولوجية التبشيرية، الخطابات الفلكلورية) يقوم بانتاجها منظّرون علماء، صنّاع، فهي أنساق وعناصر اجتماعية تعمل في مجال التأكيدات الآيديولوجية، وداخل نظام المفاهيم الاسطورية الما قبل علمية، بانتمائها المرجعي إلى الحادث الديني، تمرّ عمليات إنتاج المعرفة الدينية عبر شبكات وآليات الأبنية المعرفية الدنيوية سواء تعلق الأمر بمفهوم الفقه السياسي أو الاندماج بالحداثة.
– إنّها نسق من مركبات الثقافة والتأطيرات الاجتماعية- الاقتصادية تقوم بعملية امتصاص الشاغل الثقافي، وتعيد انتاجه عبر شبكة من التمثيلات فهي نتاج تاريخية أثريات النظام المعرفي.
– إنتاج أرحام مادية- تاريخية تختزل تقنيات الوعي الاجتماعي إلى وعي ديني، عبر تفكيك البنيات الأساسية للوعي.
– تتميّز الأنظمة المعرفية الدينية بخطاب لغويّ- منظومة لغوية خاصة يمكن تحويلها واستبدالها وقراءتها كـ خطابات أيديولوجية للكشف عن وظيفتها-.
– الأنظمة المعرفية الدينية (تصوّرات أو تمثيلات) تخفي وقائع اقتصادية – اجتماعية يحاول صانعوها إضفاء تأطيرات مطلقة عليها بوصفها خارج التاريخ.
ومن غير العلمي أن يجري البحث بشأن المعرفة الدينية بوصفها معرفة قائمة بذاتها و تتحرك على وفق قوانين فوق تاريخية أو وثائق ميتافيزيقية مفصولة عن تاريخيتها و مرجعياتها، لكونها ترتبط بنظام دلالي خارج عن الوعي الفردي (لهذا فهي تمثيلات لتلك العلاقات التي تربط الأفراد بظروفهم في الحياة (التوسير) اذ أنها أنظمة تنازعية، تناظر الصراعات الاجتماعية ولا تنشأ بصورة تلقائية، أو من دون ممهدات سياسية في جوهرها، مندمجة بالأنساق الاجتماعية والفلسفية والاقتصادية لمجتمع خاص، فهذه المعرفة الدينية سواء كانت نتاج المعرفة الدينية السنية ,أو المجال الشيعي الإمامي … ، هي شبكة من التعبيرات متمو ضعة في حقل التاريخ ومرتبطة بـ حقل التفكير، وهي نتاجات بشرية تلعب دوراً وظائفياً في تغيب التراتب الهرمي للمجتمعات، وتقوم بتوصيف الكائنات الاجتماعية من أجل العمل الاجتماعي وأفعال التغير، وآليات البقاء والدفاع والإخصاب الجنسي، والسياسات الغذائية، والعلاقات مع الآخر الغرب، والمنتوجات الأدبية والآيديولوجية والثقافية، وتعليب اللحوم والأجبان، والأسلحة، وفق ثنائية (المقدس/ المدنس) وتخضع للتمايزات في الهوية الدينية داخل الرحم المادي بسبب وظائفها المتعددة، للمحافظة على التوازنات وسلوك الأفراد وقداسة العناصر الثقافية، عبر شبكة معقدة.
أزمة الأنظمة المعرفية الدينية الإسلامية تطرح هنا بالاتساق مع أزمات التمدن والتطور والنهضة داخل المجال المجتمعي للعالمين العربي والإسلامي، بالرغم من هلامية هذا المفهوم فهذه المجتمعات تمثل كتلة هامدة خارج التاريخ الحداثي للعالم، ويعود ذلك لاشتراطات البنيات المؤسساتية.
– غياب فاعل الحداثة التاريخي (البرجوازية الحديثة) .
– عدم توفر أرضية الحداثة (الملكية الخاصة) والتي لم تدخل إلى الإسلام إلا بعد دخول العالم العربي الإسلامي مرحلة الكولونيالية.
– التثبيت العصابي بشأن الماضي والتعلق بالحضارات العتيقة ولاسيما عندما يكون المقدس هو العمود الفقري، حين يردع الورثة عن إنجاز عمليات التلاقح مع الحضارات الأخرى التي تنظر بمنظار (المركزية الاثنية) وقد تم اختيارها وفق العناية الآلهية، لذا فإن أي اقتباس (معرفي) من المجتمعات الأخرى (الكافرة) يوصف بأنه خيانة وانتهاك للمحرمات المقدسة.
* هيمنة التدين الشعبوي والذي يصنع دين الكراهية، وهو يمثل الكتلة الاسمنتية للأديان اللاعقلانية.
* الأصولية التي تقيم مناحات يومية على الهوية الدينية والسياسية.
تميز عصر الحداثة بتغلب العقل على الايمان، والفلسفة على اللاهوت. والعالم المتعلمن شيئاً فشيئاً على رموز المؤسسة الدينية . وهكذا أصبح الدين مستترا أوبالكاد يختفي من الحياة العامة واصبح مسألة شخصية ليس الا. ونظراً لأن المؤسسات الدينية كانت قد وقفت موقفاً رجعياً من افكار الحداثة والتقدم فانها حاولت تجديد نفسها حول العقلية الصاعدة بقوة لا تقاوم.
في هذا الموقف نتذكر ما حصل في أوربا عندما انصدمت الكنيسة بعصر التنوير. وقد إعترف هانز كونغ، وهو عالم دين كبير ليس فقط على مستوى المانيا وانما على مستوى أوروبا كلها، بان رد فعل عصر التنوير على التعصب المسيحي كان ضرورياً، بل ومشروعا. فقد دفع بالمفكرين المسيحيين (أو علماء اللاهوت) الى تجديد دينهم وتراثهم وتشكيل لاهوت جديد (أو ليبرالي) يتناسب مع عصر العلم والتقدم. ولولاه لظلوا سجناء اللاهوت القديم أو القروسطي ـ التقليدي. ولكن مشكلة الحداثة هي انها في رد فعلها هذا ضد الاصولية المسيحية والتزمت الديني كادت ان تقضي حتى على الدين نفسه! وهنا يكمن النقص الكبير للحداثة على الرغم من كل ايجابياتها التي لا تنكر. واخذت المجتمعات الاوروبية المتقدمة تشعر اكثر فاكثر بالحاجة الى تغيير هذا الموقف او تعديله.
ومن هنا فالتجربة الاوروبية تعد نموذجــا صاعدا لابد منه في المجتمعات الاسلامية والعربية ، ليس دعوة لتعلمن بل قياسا لتحرر المؤسسة الدينية الاسلامية من التزمت التراثي التقليدي الذي قيدت نفسها بها ،وترمي بقيودها للعوام الذين يريدون الحياة بسلام ،ولما لا الدفع بهم الى الابداع والحداثة الاسلامية ، وإستذكار الاندلس في زمانها…
اترك رد