د. محمد مبارك البنداري
بادئ ذي بدء نقرر أن الحوثيين ومن على شاكلتهم ممن تعرضوا للحرم عبر التاريخ مخلصون تمامًا لمعتقداتهم الخاطئة ، فلا يوجد أكثر إخلاصًا منهم للمعتقد الباطل من أن يضحي الفرد بحياته من أجله ، ولا فرق من حيث الفعل النفسيّ والإدراكيّ عندهم بين إرهابي يعتدي على الحرم ، أو يطلق صاروخا على الكعبة ، وبين المجاهد الذي ضحّى بنفسه من أجل وطنه وتخليصه من براثن الاحتلال في العصر الحديث .
إذن كيف يفكر المعدون على الكعبة ؟ وما هي دوافعهم ؟ وحججهم وتبريراتهم ؟ وأيّ منطق يستخدمون ؟، كل هذه الأسئلة جعلت المسلمين يحتارون في الإجابة عليها ، والأكثر غرابة أن الواحد منهم يعتدي على الكعبة وهو منتشٍ من الفرح ، وفي حلم بعيد المنال أن يهدم الكعبة – سامحه الله – .
وأقرر أيضًا أنني لا أحمل بذرة طائفية ، أو تعصب أعمى لمذهب أو طائفة ،وادعو للتسامح الذي هو فضيلة إنسانية واجتماعية وأخلاقية .
إن الكعبة شاهدت العنف على مر التاريخ بدءًا من أبرهة الحبشي إلى صاروخ أبرهة الحوثي ، وقبل أن نذكر هذه الأحداث بإيجاز شديد ، نذكر أن السياسيين قرروا أن إيران تقف وراء هذا العمل ، ولا غرو فقد رَصد التاريخ أحداثًا متتالية نبعت من إيران ، وأرهقت العالم الإسلامي منذ دخول الإسلام حتى العصر الحاضر ، وامتد شظاها إلى الكعبة المشرفة ، بيد أن بعض الأحداث كمقتل عمر – رضي الله عنه – عُد حدثا فرديا ، رغم ما يخفي خلفه من عداء معروف من قبل الفرس ؛ ولكن الإسلام قال : ” إن هذه أمتكم أمة واحدة ” ( الأنبياء / 92 ) ، ولم يتصور المسلمون أن جماعة إسلامية تقوم بهذه الصور الإرهابية .
بيد أن الحقيقة التي أكّدها إطلاق الحوثي للصاروخ تجاه الكعبة هي الإحساس بأن العدوان الذي ينبعث من إيران ليس عَملا فرديًّا وليست الأحداث منفصلة ، بل هي حلقات في سلسلة متصلة بدأت مع مطلع الإسلام ، ولا تزال إحدى حلقاتها تعيش في العصر الحاضر .
إننا نثبت هنا عدوان إيران على العرب وعلى الإسلام والمسلمين ومقدساتهم على مر التاريخ ، وبالطبع الزعامات الإيرانية هي المسئولة عن هذا العدوان ، وليس الشعب الإيراني ، وأن مؤامرات إيرانية كبرى دارت وأمدت بالسلاح والمال والخبرات ميليشيات عربية في العراق واليمن ولبنان … ، وأن هذه المؤامرة تمتد خيوطها الآن لتحقيق مزيد من التدمير في دول عربية وإسلامية .
فلينتبه كل عربي وكل مسلم لمؤامرات الشعوبية ” الفارسية ” والصهيونية ، والاستعمار الجديد .
إن هذه الميليشيات الموالية لإيران تصر على سفك الدماء ، والاستهانة بالحرم الذي لا يجوز صيد حيوانه ولا قطع شجره ، وكذلك اتجهت إلى الاستهانة بالأشهر الحرم ( شهر الله المحرم )…
يقول المؤرّخ المصري المعروف د . أحمد شلبي في كتيبه القيم ” حركات فارسيّة مدمرة ضد الإسلام والمسلمين عبر العصور ” – ط . مكتبة النهضة المصرية 1988م – : … وإيران هي مركز كل الفتن عبر التاريخ الطويل ، وقد سجل المؤرّخون هذه الأحداث ولكنهم أثبتوها أحداثا فردية ، وغَفلوا عن ربطها بعضها ببعض ليظهروها حلقاتٍ في سلسلةٍ متصلة تستمد إيحاءاتها وقوّتها من إيران ، وترمي لضرب الإسلام والمسلمين ، بدءًا من فكرة الشعوبية ، ومرورًا بما يسمى الموالي ، فادّعاء التشيع – في العهد الصفوي – ، فموقف أبي سلمة الخلّال ، فأبي مسلم الخراساني ، فسنباذ ، فالراوندية ، فالباطنية ، فالقرامطة ، فالزنادقة ، فالخرميّة ، فآل سهل ، فالزنج ، فالبويهيين ، فالبابية والبهائية ، التي لا تزال موجودة حتى الآن ، ثم عصر الخميني الذي يعشق الدم والموت والدمار ، فالعدوان على الحرم وعلى الحجيج عام 1407هــ .. كل هذا يثبت أنها أسماء مختلفة لمسمى واحد ، وأنها حركات مختلفة لهدف واحد هو ضرب الإسلام والمسلمين ، وأنها من مصدر واحد لهدف واحد ” .
ومن باب الإنصاف علينا أن نتذكر العمالقة الذين نبغوا في ميدان الفكر من بلاد فارس ، التي كانت في يوم من الأيام فسيحة ممتدة ، وقد خدم هؤلاء جوانب الدراسات العربية والإسلامية ، ونبذوا الشعوبية ، وكانوا فعلا نجوما زاهرة ، وكان أثرهم الفكري عميقا في العالم الإسلامي كله .
من منا ينسى : طاووس وقتادة وابن سيرين والطبري فارس وأحمد بن حنبل والبخاري ومسلم وسيبويه والكسائي وابن فارس والغزالي والأصفهاني وابن مسكويه … وغيرهم ممن لهم جذور فارسية ” إيرانية ” .
وعود على بدء نسجل أن الكعبة شاهدت هذا العنف مرتين قبل الإسلام ، ومرة في عهد الدولة الأموية ، ومرة في عهد الدولة العباسية ، ومرتين في العصر الحديث ، وكان أول اعتداء قبل الإسلام من ” تبّع ” ملك حمير سنة 300م ، وهو أول من كسا الكعبة ، وثاني اعتداء وهو مشهور اعتداء أبرهة في عام الفيل سنة 571م وقد أهلك الله ومن معه في المغمّس .
وفي عهد الدولة الأموية هاجم الحجاج بن يوسف الثقفي ت 95هـــ عبدالله بن الزبير الذي احتمى هو وأتباعه بالكعبة بل تعلق بأستارها ، وضرب الحجاج الكعبة بالمنجنيق لأول مرة .
وفي عهد الدولة العباسية هاجم القرامطة الكعبة – نسبة لحمدان بن الأشعث ويلقب بقرمط لقصر قامته والدولة القرمطية انشقت عن الدولة الفاطمية – ، وقتلوا زهاء ثلاثين ألفًا من الحجيج وأهل مكة وسلبوا منهم كل شيء سنة 317هــ، وأخذوا الحجر الأسود معهم إلى بلادهم ، وبقي عندهم اثنين وعشرين عامًا ولم يعيدوه إلا بأمر من الخلفاء الفاطميين .
وفي العصر الحديث شهدت الكعبة أحداثا مؤلمة حينما احتمى جهيمان العتيبي وأنصاره في الحرم وهتفوا هتافات عدوانية في العشرين من نوفمبر 1979م ، وطال اعتصامه ومن معه من المتطرفين وهم أكثر من 400 متطرف ، وحاصروا الحرم من كل الجوانب لمدة أسبوعين تقريبًا بعد انتهاء الحج مباشرة ، وكان الجهيمان قد تمكّن من تهريب مئات القطع من السلاح إلى داخل المسجد الحرام ، واحتجاز مئات المصلين وجعلهم رهائن ، ثم تمكنت السيادة السعودية من القبض عليهم وإنزال ما يستحقون من عقوبات عليهم .
ولا تغيب إيران عن هذا المشهد – أيضًا – فقد صرح الخميني بأن الولايات المتحدة الأمريكية وبالتنسيق مع السعودية تقف وراء القضاء على حركة الجهيمان ( ينظر : عبد الستار الراوي – رسالة الدم فيلق القدس 2014م ).
ثم شهدت الكعبة أعمالا إرهابية ارتبطت كلها بإيران ارتباطًا مباشرًا ، وكانت في بدايتها تمثل مظاهر الثورة الإيرانية ، وكان واضحا أنها مجالات للاحتكاك والصدام بالقوى السعودية على مرأى ومسمع من العالم :-
ففي سنة 1981م نظم الحجاج الإيرانيون مظاهرة في المسجد النبوي ، وفي نفس الوقت نظمت مجموعة أخرى مظاهرة في مكة ، واضطرت السعودية لإبعاد مسئول الحج الإيراني حجة الإسلام موسوي ومعه 140 .
– في سنة 1985 نظم الحجاج الإيرانييون مظاهرة قرءوا خلالها رسالة من الإمام الخميني إلى الحجاج المسلمين .
وفي عام 1986م عمدت إيران إلى إرسال مواد متفجرة إلى مكة المكرمة تحديدا ( نحو خمسمائة كيلو جرام من هذه المواد ) بإخفائها في حقائب الحجاج من دون علمهم – في كل حقيبة نصف كيلو جرام ، وذلك لتفجير دور الحجاج في مكة .
يقول أحمد الخميني بأنه لم أكن أعلم بالمخطط الشرير ، لكن إرادة الله تعالى لم تشأ ذلك ، فتم اكتشاف المتفجرات في مطار جدة وأحبط المخطط .
وفي عام 1987 في يوم الجمعة اعتصم بعد الصلاة حشد من الإيرانيين ، وقامت مظاهرات صاخبة بعد العصر لإحداث القلاقل ، وساروا في مظاهرات وهم يرفعون صورة الخميني ، وعرقلت مسيرتهم المرور واحتجزوا الناس في الطرقات ، وهاجموا الشرطة ، وحطموا السيارات وعربات الأمن ، والمتاجر ، ودمروا بعض المنشئات … ووسط هذا الاحتكاك والزحف من أناس يحملون الخناجر والسكاكين بلغ عدد القتلى 402 ، وأكثرهم من الإيرانيين الذين دفعهم آيات الله للاشتراك في المظاهرة .
يقول د . أحمد شلبي : ” إن أرواح هؤلاء الأبرياء ستمسك بتلابيب الإمام يوم القيامة لتسأله عن هذا الهرج الذي انطلق بإذنه وإرادته وتدبيره فهو لم يكن المرة الأولى ولا الثانية ، ولكنه كان حلقة من سلسلة متصلة الحلقات ” .
وأخيرا وليس آخرا إطلاق صاروخ باليستي من الحوثي 28/ 10 / 2016م الذي يتبع إيران تجاه الكعبة المشرفة ، واعترضته الدفاعات الجوية للسعودية على بعد 65كيلو تقريبا من مكة .
وفي الختام أؤكّد أن كل ما ورد من حقائق تاريخية في المقال منقولة عن مؤرّخين ثقة ، وأنني لا أحمل حقدا أو غلا لطائفة بعينها ، أو تعصب أعمى لجماعة ما ، أو مذهب معين ، وإنما مسلم يريد التسامح ويكره البغضاء والاعتداء على المقدسات والأوطان .
نسأل الله العلي القدير أن يحفظ البلد الأمين ، وأن يهدي جميع المسلمين .
اترك رد