د. معراج الندوي: رئيس التحرير لمجلة التلميذ الصادرة من كشمير الهند
ولد الدكتور زكي عبد السلام مبارك في قرية سنتريس بمحافظة المنوفية في عام 1892 مــــ . هو أديب وشاعر وصحفي وأكاديمي عربي مصري ، حصل على ثلاث درجات دكتوراه متتالية فلقبه البعضُ إثر ذلك بالدكاترة زكي مبارك .درّس في الجامعة المصرية لعدة سنوات وعمل مفتشا عاما للغة العربية.
بدأ زكی مبارك حیاته العلمیۃ بالدراسۃ فی الأزهر،ثم التحق بالجامعۃ المصریۃ بصفۃ غیـر رسمیۃ فی نوفمبر سنۃ 1913م، وبدأ عندئذ یدرس الفرنسیۃ، ثم التحق رسمیاً بالجامعۃ فی نوفمبر سنۃ 1916م، ونال منها إجازۃ اللیسانس فی العلوم الفلسفیۃ والأدبیۃ سنۃ 1921م ثم شهادۃ العالمیۃ ولقب دكتور فی الآداب سنۃ 1924م وكان موضوع رسالته ”الأخلاق عند الغزالی“ ویكون هو بذلك خامس من نال الدكتوراه من الجامعۃ المصریۃ فی حین أن طه حسین كان أولهم. وعلیه فهذان النوعان من الدراسۃ فی الأزهر وفی الجامعۃ، هما مصدر ما شارك به زكی مبارك من إنتاج فی نشأۃ النقد الأدبی الحدیث خلال هذه الفترۃ.
كان نقده للشعر و النثـر متأثرا بالنقد العربي القديم مع مزجه بمذاهب النقد الأدبي الحديث و كان نقده تطبيقيًا في الشعر و النثـر . وقد تأثر زكی مبارك فی مطلع حیاته الأدبیۃ بأسلوب بدیع الزمان الهمدانی والخوارزمی وابن العمید وغیـرهم وكان یحفظ الكثیـر مما فی الأمالی والعقد الفرید، فأعجب بكتاب الصنعۃ وتأثربهم، ولكن تعمقه فیما بعد فی الأدبین العربی والفرنسی، جعله یقبل بنوع خاص علی ما كتبه االنقاد الفرنسیون، فترك مذهبه القدیم إلی مذهب جدید یعنی بدراسۃ أسرار البلاغۃ، مع دراسۃ نفوس الكتاب وألوان حیاتهم.[1]؎ وأضحی من المدرسۃ التی تحكم العقل، وتفرض علی الباحث أن ینقد أولاً المصادر التی یعتمد علیها..۲[2]؎
وسنعرض الآن بإجمال فیما یلی لإنتاجه الأدبی الذی یعنینا، لأنتبین من خلاله مذهبه فی النقد واتجاهاته فیه.
وأول ما نعرض له هو مقالاته التی كان ینشرها فی جریدۃ الأفكار عام 1914م وكانت هذه المقالات عبارۃ عن صور وجدانیۃ وأدبیۃ واجتماعیۃ،ظل ینشرها تباعاً حتـي أخرجها فی كتابه ”البدائع“ فی جزء واحد، ثم واصل البحث والنشر حتی عام 1935م حین اجتمع له ما أمكنه أن یخرج به الكتاب فی جزأین، فی طبعته الثانیۃ التی أصدرها فی نفس ذلك العام.[3] ؎
ولقد أوضح فی هذا الكتاب أن الدراسۃ الحدیثۃ للأدب تقتضی درس الحیاۃ الإجتماعیۃ قبل نقد آثار العقول، وأن یدرس سقط القول كما یدرس جیده، وأن یتتبع الناقد حیاۃ من ینقده من الأدباء لیری كیف كانت ألوان نفسه فی أشكال حیاته.
وهو فی أغراض الشعر یذم المدح والتكسب بالشعر، ولكنه مع ذلك یری أن المدیح هو دیوان العرب لأن فیه صورۃ حیاتهم وأخلاقهم من مادحین و ممدوحین كما أنه ینبغی علی الشعراء شعر الریاء والمناسبات وما تقتضیه الحزبیۃ السیاسیۃ ونحو ذلك من الشعر الذی تسیره الأغراض.[4] ؎
ویحاول زكی مبارك أن یدعم مذهبه بما ورد من عبارات صریحۃ عند القدماء كأبی الفرج الأصبهانی والأنویری والجاحظ، ویری أن الدین والأخلاق تأثیراً فی إخماد الآداب والفنون، فهو یأسی لتحطیم العرب للأنصاب والتماثیل، ویری أن الآداب العربیۃ لا تتقدم إلا إذا نظر الأدباء للمرأۃ فی حریۃ وصراحۃ، وتأثروا بجبروتها فی میدان الحیاۃ لأن الأدب روح هذه الحیاۃ.[5] ؎
وأما فی نقد الشعر فزكی مبارك یرید الوضوح فی الحكم علی الشعراء و ینبغی الغموض علی أربابه، یدعو الناقد لیدرس الشاعر دراسۃ كاملۃ، مبنیۃ علی الاستقراء لیتمكن من الحكم الصحیح، المعتمد علی الطبع والتفكیر، وهو فی ذلك لم یفته أن الحكم سیكون مختلفاً مادامت الأذواق مختلفۃ، ثم هو ینبه الناقد إلی أن عواطف الأمرء كثیـرۃ، و لذلك فإن أغراضه تتنوع، بل إن العاطفۃ الواحدۃ تكون ألواناً مختلفۃ، لهذا كله یختلف الشعراء والكتاب فی عواطفهم، كما یختلفون فی التعبیر عنها.
ثم أصدر زكی مبارك كتابه الشهیر ”الموازنۃ بین الشعراء“ عام 1925م و قد بین فی هذا الكتاب الطرق التی یجب أن تكون علیها الموازنۃ، كما بین ما یجب أن یتوافر من صفات للناقد فی موازنته، ثم عرض أمثلۃ تطبیقیۃ نافعۃ مما عارض به بعض الشعراء بعضا، وذلك مثل موازنته بین البحتری وشوقی، وبین صبری ومطران، وبین البارودی وأبی نواس، وبین شوقی وابن زیدون.[6] ؎ وكان بعد توضیحه لمواطن الجودۃ والرداءۃ عند من یوازن بینهم، كان یتـرك الحكم النهائی للقارئ، وكان لا یری عیباً فی هذه مثل المعارضات التی وازن بینها والموازنۃ عنده ضرب من ضروب النقد والوصف، وبها یتمكن الناقد من تمییـز جید الأدب من ردیئه، ولذلك فهی تطلب قوۃ فی الأدب وبصراً بمناحی العرب والتعبیر.[7] ؎
و قد تطرق زكي مبارك إلى الموازنة بين عملين أدبين أو بين كاتبين أو شاعرين من خلال أعمالهما الأبية، مبينا آراءه فيها و ليست الموازنة عنده إلا ضربا من ضروب النقد الأدبي يتميز بها الرديء من الجيد و تظهر بها وجوه القوة و الضعف في أساليب البيان فهي تتطلب قوة في الأدب العربي و عنده الموازنة نوع من القضاء ، فكما يجب على الحكم أن ينزه نفسه عن جميع الأغراض حين يتقدم للحكم بين الناس،كذلك يجب على الناقد أن يبري نفسه من جميع الأغراض حين يتقدم للموازنة بين الشعراء،و كانت موازنته بين شاعرين جمع بينهما عصر واحد، أو اشتراكا في الابانة عن غرض واحد بقافية و روي واحد. و عن نفسية الناقد قال:
” فإذا أردت أن توازن بين شاعرين فامتحن نفسك قبل ذلك ، فان رأيت في نفسك الميل لتفضيل أحدهما على الآخر لسبب لا تسيطر عليه الحاسة الفنية،فاعلم أنك في ترجيحك متـهم ظنين، و إن رأيت نصرة الأدب والحق تغلب على جميع ما لك من النوازع، و آنست في نفسك القدرة على مقاومة ما يعترضك من التقاليد، فتقدم إلى الموازنة”.[8]
يتميـز زكي مبارك في نقده النفسي بأنه كان ينظر الى القصيدة ككائن حي و يتعايش معها و مع شاعرها ، و يتعايش مع البيئة التي قيلت فيها القصيدة و نوعية تلك البيئة و نفسية الشاعر الذي أنشد القصيدة. واستخدم زكي مبارك المنهج النفسي على معارضة البارودي دون المناهج الأخرى و ذلك بسبب الاشتراك النفسي في هذه المعارضة الشعرية لأنها لم تدرس فنيا أو تاريخيا و إنما دُرست نفسيا لأن جوها العام و هو ذكر التحسر على أيام الشباب يحكي عن علة نفسية في قلب الشاعر مما استنبطها زكي مبارك و جعلها في مسار نقده النفسي دون المناهج الأخرى.
و كان زكي مبارك بحاسته النقدية السليمة يبغض عبارة فلان أشعر الناس التي تسربت من العصور الماضية الى العهد الحديث ، فقد عاب على مصطفى صادق الرافعي و محمد بن عبد الوهاب السباعي و مصطفى لطفي المنفلوطي لأحكامهم النقدية القصيرة التي تمثل فلان أشعر التاس ومن هذه الأحكام يذكر قول المنفلوطي في الشيخ عبد العزبز جاويش:”لو لا مقامه في اللواء،و مذهبه في الهجاء، لكان هو و فريد وجدي سواء”.[9] فالناقد الأدبي يجب أن تكون لديه ملكة أدبية يتذوق بها الأدب ، فيتأثر بما يقرأ من شعر و نثر،و هذا ما تطرق إليه زكي مبارك باسم الحاسة الفنية أو الذوق السليم ،ويجب على الناقد أن يصبح و له في النقد حاسة فنية تنأى به عن كل ما يفسد حكمه من الأهواء و الأغراض و الحاسة الفنية سميت بملكة الأدب أو الطبيعة للناقد الحاذق. ومن الأمور الهامة التي تطرق إليها في نقده للأعمال الأدبية الشعرية،هي دقته في الصور الشعرية و تحليله و تفسيره الدقيق لها،فالصورة الشعرية عنده هي أثر الشاعر المُفْلق الذي يصف المرئيات وصفا يجعل قارئ شعره ما يدري أ يقرأ قصيدة مسطورة أم يشاهد منظرا من مناظر الوجود،والذي يصف الوجدانيات وصفا يخيل للقارئ أنه يناجي نفسه،و يحاور ضميره، لا أنه يقرأ قطعة مختارة لشاعر مجيد ، والصورة الشعرية لا تكتمل إلا حين يحيط الوصف بجميع أنحاء الموصوف و فضلها هو تمكين المعنى في نفس القارئ والسامع.
أما كتابه ”مدامع العشاق“ الذی أصدره سنۃ 1925م فكان یناقش فیه معانی شعراء الغزل فی الأدب القدیم والحدیث، و یستعرض صورهم الشعریۃ، وافتنانهم فیها. یستحسن بعضها ویستقبح البعض الآخر، ویقدم بعضها علی بعض، مبیناً مواطن الجودۃ والرداء ۃ، مواضع الأخذ والابتكار، وكان یفعل ذلك كله بذوق سلیم، وحسن مرهف، معتمداً فیه علی أصوله النقدیۃ السابقۃ. هذا،ولقد كان نقده فی هذا الكتاب نقداً موضوعیاً وذاتیاً معاً.
وخلاصۃ الأصول النقدیۃ عند زكی مبارك وهی أن ینبغی لدراسۃ الأدیب أن تدرس الحیاۃ الاجتماعيۃ التی تحیط به كما تدرس حیاته الخاصۃ بالاستعانۃ بعلم الأنفس، وینبغی أن تكون تلك الدراسۃ مبنیۃ علی الاستقراء، وعلی الفهم الصحیح للأدب ونقد مصادره ومعتمدۃ علی التفكیر وعلی الحاسۃ الفنیۃ التی باختلافها یختلف النقاد فی أحكامهم.
الهوامش:
البدائع ، لـ زكي مبارك جــ 1 صــ 127 [1]
أيضا جـ 2 ، مقدمة الطبعة الثّانية صـ 95[3]
المصدر السابق جـ 1 صـ 99 ، جـ 2 صـ 195[4]
حديث الأربعاء ، لـ طه حسين جـ 1 صـ 299[5]
الموازنة بين الشعراء لـ زكي مبارك ، صـ 122 ، 277 ، 305 [6]
الموازنة بين الشعراء أبحاث في أصول النقد و أسرار البيان ، لـ زكي مبارك صـ 39[8]
البدائع لـ زكي مبارك ،صـ 67 مطبع الصباح القاهرة مصر1923م[9]
المراجع و المصادر
- ابن قتيبة ، الشعر والشعراء ، دار صادر،د.ط ، 1902م
- ابن منظور ، لسان العرب مصر ، القاهرة ، دار المعارف (د.ت)
- الأميـن ،عزالدين ، نشأة النقد الأدبي الحديث في مصر،دار المعارف،القاهرة مصر 1970م
- بثينة ،جميل ديوان،شرح عبد المجيد،مكتبة الهلال،لبنان 2001م
- حسين ، طه ، حديث الأربعاء 1980م
- زكي ،أحمد كمال ، النقد الأدبي الحديث أصوله و اتجاهاته،دار النهضة العربية، لبنان ،بيروت،1981م
- ضيف،شوقي ، في النقد الأدبي ،دار المعارف،القاهرة ،مصر1975م
- قطب،سيد ،النقد الأدبي أصوله و مناهجه، دار الشرق ، القاهرة مصر،1990م
- مبارك ،زكي البدائع ، مطبع الصباح ،القاهرة ـ مصر 1923م
- مبارك ، زكي ،الموازنة بين الشعراء أبحاث في أصول النقد و أسرار البيان
- مندور ، محمد ، النقد الأدبي ، دار النهضة القاهرة مصر 1949م
- هدارة، محمد مصطفى ، بحوث في الأدب العربي الحديث ،دار النهضة العربية،بيروت لبنان،1994م.
- يوسف، خالد ، في النقد الأدبي و تاريخه عند العرب 1987م.
اترك رد