تحول التنمية الاقتصادية من المفاهيم المادية إلى الأبعاد الإنسانية
بقلم: د. محمد شريف بشير
أستاذ الاقتصاد بكلية الاقتصاد والعلوم الادارية
جـامعة السلطان الشريف الإسلامية بروناي
سيطر التعريف المادي للتنمية الاقتصادية على المهتمين بقضايا التنمية من الاقتصاديين وصانعي القرار السياسي ومخططي السياسات العامة، طيلة العقود الماضية من القرن الماضي، حيث يُعَرِّفُون التنمية الاقتصادية بقدرة الاقتصاد القومي على توليد واستدامة الزيادة السنوية في الناتج القومي الإجمالي (GNP) بنسبة تصل إلى 7% أو أكثر، ويعتمد على مؤشر نمو نصيب الفرد من الدخل أو الناتج المحلي الإجمالي (GDP) لمعرفة تلك الزيادة، إضافة إلى اشتمال تعريف التنمية الاقتصادية على قدرة الدولة على توسيع إنتاجها بمعدلات أسرع من معدل النمو السكاني كمؤشر على التنمية، ويؤكد أن تكون عملية التنمية متضمنة للتغيير المخطط لبنية الإنتاج والعمالة، بحيث تنخفض معه مساهمة القطاعات التقليدية كالزراعة والتعدين، وفي المقابل تزداد مساهمة القطاعات الحديثة كالصناعة والخدمات، وبناءاً على هذا المفهوم تُركِّز التنمية الاقتصادية على عملية تسريع التصنيع، وأحيانًا تستخدم مؤشرات غير اقتصادية بدرجة ثانوية؛ لتوصيف منافع عملية التنمية الاقتصادية كمعدل تعليم الكبار، وتحسين خدمات الصحة والإسكان.
وخلال عقود الخمسينيات والستينيات والسبعينيات انغمست معظم البلدان النامية في تطبيق هذا المفهوم، واستطاعت بعضاً منها أن تحقق هدف النمو الاقتصادي الكمي، ولكن ظلت هناك فروقًا كبيرة بين السكان في مستويات المعيشة من ناحية توفر الحاجات الضرورية ودرجة الرفاهية، وعكست الأرقام في العديد من البلدان النامية خاصة في أفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا الوسطى تدهورًا كبيراً في مستويات الصحة العامة والتعليم العام، وإصحاح البيئة، ممَّا أثر سلبًا على مستويات إنتاجية القوى العاملة، إضافة إلى النقص المتزايد في مستوى الإشباع من السلع والخدمات الضرورية.
هذا القصور في المفهوم التنموي وتطبيقاته المبتسرة ونتائجه السلبية والمخزية، دفع كثير من الاقتصاديين إلى انتقاد مدخل التنمية التقليدي، والمفهوم المادي للعملية التنموية، وعدم كفاية المقارنات الإجمالية لنصيب الفرد من الدخل القومي أو الناتج المحلي لتحديد حالة التنمية الاقتصادية من عدمها.
إعادة تعريف التنمية الاقتصادية:
وخلال منتصف السبعينيات تمت إعادة تعريف التنمية الاقتصادية على أساس الجهود المبذولة؛ لتخفيف الفقر وتحقيق العدالة وتوفير فرص العمل في سياق اقتصاد نامٍ، وصار تعبير “إعادة التوزيع من النمو” شعارًا عامًّا ومألوفًا، ولقد حاول البروفسور دودلي سيزر أن يصيغ سؤالاً مهمًّا حول معنى التنمية بقوله: “السؤال الذي يجب توجيهه عن تنمية أي بلد هو ماذا حدث بالنسبة إلى الفقر والبطالة وعدم عدالة الدخول؟! إذا كانت الأمور الثلاثة قد انخفضت من مستويات عالية يصبح من دون شك أن عملية التنمية محل اهتمام، أما إذا ازداد أكثر من واحد من الأمور المشار إليها سوءاً فمن المستغرب أن نسمي ذلك تنمية حتى وإن كان نصيب الفرد من الناتج الإجمالي يساوي الضعفين. وفي هذا السياق يضيف البروفسور إدغار أوبينس: “إن التنمية تمت معالجتها من قبل الاقتصاديين على أساس مجرد تمرين في الاقتصاد التطبيقي بدون أن تتعلق عملية التنمية بالأفكار السياسية، أو تكوين الحكومات، أو دور الأفراد في المجتمع، إننا في حاجة لدمج السياسة مع النظرية الاقتصادية، ليس فقط لاعتبار أنها أسلوب للمجتمعات المعاصرة، بل أيضًا لتكون أكثر إنتاجية مع أن تنمية البشر أهم من تنمية الأشياء”.
تحسين نوعية الحياة أساس التنمية:
ونجد مؤسسة دولية كالبنك الدولي والذي كان يساند النمو الاقتصادي الكمِّي منذ الثمانينيات كهدف رئيس للتنمية الاقتصادية يُعْلِن في تقريره عن التنمية لعام 1991م: “إن التحدي أمام التنمية هو تحسين نوعية الحياة، خاصة في عالم الدول الفقيرة، إن أفضل نوعية للحياة هي التي تتطلب دخولاً عالية، ولكنها في نفس الوقت تتضمن أكثر من ذلك، تتضمن تعليمًا جيدًا، ومستويات عالية من التغذية والصحة العامة، ومعدلات فقر أقل، وبيئة نظيفة، وعدالة في الفرص، وحرية أكثر للأفراد، وحياة “ثقافية غنية”.
مقاييس الأمم المتحدة ومنظمة العمل:
وضع البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة (UNDP) مقياساً للتنمية البشرية من خلال فريق عمل من الخبراء والمختصين كُوِّنَ لهذا الغرض وأصدر تقريرًا بهذا الخصوص في 1990م، وهو مقياس كمي لأوضاع التنمية البشرية، حيث يُرتب البلدان على أساس ما حققته من نجاح في تلبية الحاجات الإنسانية، وتحسين مستوى معيشتهم، ويتضمن المقياس معايير اقتصادية مثل: التخصيص الأمثل للموارد الاقتصادية، الاختيارات الاقتصادية، الحرية، واخرى غير اقتصادية مثل: الأوضاع الصحية والتعليمية.
أما منظمة العمل الدولية (ILO) فقد حاولت أن تترجم مفهوم تلبية الحاجات الأساسية إلى برنامج عمل ناجح في الكثير من الدول النامية غطَّى جوانب مهمة من عملية التنمية الاقتصادية شملت الرعاية الصحية، والتعليم الأساسي، ودعم المشروعات الصغيرة، ومشروعات البنية التحتية.
أبعاد التنمية وقيمها الثلاث:
يرى الاقتصادي الشهير”مايكل تودارو” مؤلف كتاب “التنمية الاقتصادية في العالم الثالث” أن التنمية الاقتصادية يجب أن تكون عملية متعددة الجوانب، متضمنة للتغيرات الرئيسية في البنية الاجتماعية، والمواقف الشعبية والمؤسسات القومية، كما تستهدف تعجيل النمو الاقتصادي، وتقليل عدم التساوي في الدخول، وتخفيف حدة الفقر. والتنمية في جوهرها يجب أن تمثل كل السلسلة المتكاملة للتغيير، بجانب التوفيق بين الحاجات الأساسية، ورغبات الأفراد والمجموعات الاجتماعية من خلال نظام اجتماعي متكامل، والتقدم نحو وضع أفضل للحياة ماديًّا ومعنويًّا.
إن الاتجاه الجديد في تعريف عملية التنمية الاقتصادية، يرتكز على ثلاث قيم جوهرية تشكل الأساس المتين لعملية الارتقاء المستديم للمجتمع البشري في سعيه نحو حياة أفضل وأكثر إنسانية، وفي نفس الوقت تمثل هذه القيم الجوهرية الثلاث الأهداف العامة للتنمية على مستوى الأفراد والمجتمعات.
ويمكن تحديدها في التالي:
توفير قوت المعيشة: وتعني القدرة على تلبية الحاجات الضرورية بما يشمل الطعام والمأوى والصحة والأمن، وهي في مجملها الاحتياجات الأساسية لاستمرارية الحياة لجميع البشر، وبذلك تعتبر سياسات تخفيف الفقر وإتاحة فرص العمل وزيادة الدخول شروطاً ضرورية، ولكنها ليست كافية لإحداث التنمية ما لم تتجه عملية التنمية في أساسها لتوفير الحاجات الضرورية.
تـقـديــر الذات: وتعني أن يكون الشخص إنسانًا مكرمًّا، فواحدة من مقومات الحياة الكريمة الشعور بالقيمة وتقدير النفس الإنسانية، وجميع الأفراد والمجتمعات تحاول أن يكون لها شكلاً أساسيًّا في تقدير الذات يطلق عليه أحياناً الهوية، أو الأصالة أو السيادة، وطبيعة هذا التقدير تختلف من مجتمع لآخر ومن أمة لأخرى، ولكنها في العموم قيمة لا بد منها.
التحرر من العبودية: ويقصد بذلك أن يكون الشخص قادرًا على الاختيار بحرية تامة، مما يعني التحرر من ربقة الجهل والفقر والعادات والمعتقدات الخرافية، والحرية متضمنة أيضًا لهدف توسيع مدى الاختيارات الاقتصادية، بالنسبة للأفراد والمجتمعات وتقليل المعوقات الخارجية لمواصلة تحقيق الأهداف الاجتماعية من خلال التنمية.
ومما لا شك فيه أن هناك علاقة ارتباط وثيقة بين الحرية والنمو الاقتصادي، فالسعادة الحقيقية ليست بالثروة، ولكن بزيادة مدى الاختيارات الإنسانية والبدائل المتاحة. والحرية تشمل أيضًا الحريات الأساسية “السياسية والاقتصادية”، وسيادة حكم القانون والفرص المتساوية، والمشاركة الإيجابية في بناء المجتمع.
أصالة المدخل الإسلامي للتنمية:
وخلاصة القول في محاولة التنمية الاقتصادية لتلمس طريقها نحو الرشد أنها تتجه نحو المفهوم الإسلامي للتنمية الاقتصادية، وهو مفهوم يإنساني يُعلي من شأن النفس الإنسانية، ويضعها موضع التكريم اللائق بها، وهو ما يُمَكِّنها من أداء دورها الاستخلافي في تعمير الكون، وتحقيق العبودية الخالصة لخالق هذا الكون وحده، وكفى بالآية الكريمة من سورة الإسراء في بيان هذا التكريم، فهي أوضح بيان وأكده: “وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيْلاً” الآية 70.
لقد استطاع المفكر الإسلامي البروفسور خورشيد أحمد أن يقدم المفهوم الإسلامي للتنمية الاقتصادية في سياق نظري متكامل، يعكس عظمة الإسلام واستيعابه لمشكلات الإنسان، وتقديمه الحلول المناسبة لها من واقع التفهم والإدراك الواعيين لطبيعة البشر، وما جلبوا عليه من الطبائع وما خضعوا له من نواميس الفطرة وسنن الكون الإلهية. ويقول الأستاذ خورشيد: “إن الإسلام يهتم بعمق بمشكلة التنمية الاقتصادية، ولكن يعالجها في إطار التنمية البشرية؛ لأن الهدف الأساسي للإسلام هو هداية الإنسان نحو الطريق المستقيم”.
عناصر المفهوم الإسلامي للتنمية:
ويمكن تلخيص عناصر المفهوم الإسلامي للتنمية في النقاط التالية:
المفهوم الإسلامي للتنمية له خصائص الشمولية والتوازن، بحيث يشمل الجوانب المادية والروحية معًا، ويلبي حاجة الفرد والجماعة في تناسق تام وتناغم.
الجهد التنموي يهتم بالإنسان، وهذا يعني أن تتوجه التنمية للإنسان، ولترقية حياته المادية والاجتماعية والثقافية والبيئة المحيطة به.
عملية التنمية في المفهوم الإسلامي هي نشاط متعدد الأبعاد ولا يقتصر على جانب دون الآخر، ويسعى الإسلام إلى إحداث التوازن في الحياة بين الجوانب والقوى المتعددة.
يحاول الإسلام إعادة التوازن بين المتغيرات الكمية والنوعية، وهذا ما تسعى إليه التنمية الاقتصادية في إطارها التطبيقي.
الاستخدام الأمثل للموارد، وتحقيق التوزيع العادل للثروة، وإقامة العلاقات الإنسانية على أساس العدل والحق.
وهكذا تصبح التنمية الاقتصادية في المفهوم الإسلامي تنمية الأفراد والمجتمعات ماديًّا وروحيًّا وأخلاقيًّا، مما يقود إلى تعظيم الرفاهية الاقتصادية والاجتماعية.
ومما تقدم يمكن أن نحدد الأهداف الأساسية للتنمية الاقتصادية بناءً على المفهوم الإسلامي، بما يصلح أساسًا علميًّا للتنمية في جميع دول العالم المتقدم منها والمتأخر، والصناعي والنامي معاً، وهي كالآتي:
زيادة إنتاج السلع النافعة وتوسيع توزيعها، بما يكفل تلبية الحاجات الأساسية لجميع الناس ويقيم حياتهم على التكريم اللائق بهم.
توسيع مدى الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية، وكفالة حريات الناس الأساسية والقيم المعنوية العالية، والدينية النبيلة مما يساهم في تقدير الذات.
تحسين نوعية الحياة من خلال التعليم الجيد، والعناية الصحية، والتوزيع العادل للثروة والدخول، وإقامة نظام للأمن الاجتماعي، والاهتمام بالتربية والثقافة، وإقامة علاقات إنسانية على أساس العدل والسِّلْم والمساواة، ورعاية الحقوق الأساسية، وإتاحة الفرصة للمشاركة والتداول السلمي للسلطة، والتحرر من العبودية للغير أو الاعتماد عليهم، إضافة إلى التحرر من أسر الجهل والفقر والمرض.
اترك رد