الأستاذ كاشف جمال: باحث، مدرسة دراسات اللغة والأدب والثقافة في جامعة جواهرلال نهرو- نيودلهي- الهند
الهند بلاد متعددة الثقافات والحضارات والديانات واللغات منذ عهد سحيق إلى يومنا هذا. كم من الديانات عاشت وكم من الحضارت تنفست وكم من اللغات نالت حظا وافرا من أرض الهند حتى تتزايد هذه السلسلة الذهبية يوما بعد يوم بفضل التسامح والتعايش السلمي والتفاهم الثقافي السليم بين الطبقات المختلفة من الهنود. لاينكر من له أدنى إلمام بأن الهند هي أرض لأربع ديانات كبرى من الهندوسية والسيخية والبوذية والجاينية. هذه الديانات الأربع كلها تعيش جنبا بجنب من أول يومها إلى يومنا هذا بسهولة ويسرة. بعد اكتشاف العلوم الحديثة والتكنولوجيا الجديدة أصبحت الحياة مريحة فضلا عن المواجهات الثقافية واللغوية. وخاصة بعد بروز العولمة في المشهد الحضاري والثقافي، ازدادت الأهمية للتعدية اللغوية لبناء مجتمع سالم وآمن يتكون جزءا صغيرا من العالم الأكبر الذي هو أصبح الآن قرية صغيرة بفضل الانفجارات التكنولوجيا المعلوماتية ووسائل الإعلام.
أما بصفتي باحثا في كلية دراسات اللغة والأدب والثقافة في جامعة جواهرلال نهرو، أنا لا أستطيع أن أنكر أهمية اللغات والثقافات، في حين اللغات هي رمزة للثقافات، وبدون إلمام باللغات لا يمكن الحصول على الثقافات المتنوعة. اللغات هي أقوى من المذاهب والديانات، لأن الديانات لا تنحصر في منطقة ولا تشمل على هوية خاصة ونمط واحد وسلوك عادي بل تتعدى إلى مناهج مختلفة. يمكن لنا أن نأخذ مثالا من باكستان التي بناها مؤسسوها على فكرة الإسلام، ولكن ماذا حدث فيما بعد لا يخفى على أحد منا. برزت بلدة جديدة باسم بنجلاديش على خريطة العالم على بناء اللغة. أما كليتي هي كلية تشمل معظم اللغات الأجنبية مثل اللغة الفرنسية، اللغة الإسبانية، اللغة الفارسية، اللغة اليابانية، اللغة التركية، اللغة الصينية، اللغة العربية وغيرها من اللغات. كثيرمن الطلبة من مختلف أنحاء الهند يتجهون إلى هذه الجامعة لتعلم هذه اللغات الأجنبية، ولكن بعد مجئ إلى هذه الجامعة هم يعيشون مع الآخرين بطريقة كأنهم ينتمون إلى أسرة واحدة. هذا التلاقح والإنسجام والتعايش السلمي لا يمكن الإ بعد فهم الثقافات واللغات الأخرى. أما لغتي الأم هي لغة مزيج من اللغة البهوجبورية واللغة الأردية تسمى باللغة المئووالية. أنا أتحدث مع الطلاب المنتمين إلى مديريتي باللغة المئووالية وأناقش في الصف باللغة العربية وأتكلم مع الطلاب الذين ينتمون إلى مراكز أخرى باللغة الإنجليزية كما أمازح مع العمال والبستانين في اللغة الهندية.أنا لا أخفيكم سرا بأن التعددية اللغوية هذه قد أفادتني كثيرا في مسير حياتي. أنا الآن أكثر مثقفا بعد ما درست وتعلمت هذه اللغات الجميلة المتنوعة. حين أتحدث العربية أنا أشعرأنني عربي أعيش في صحراء العرب وحين أثرثر باللغة الإنجليزية أحس أنني طالب من أي جامعة أمريكية بينما أقرأ اللغة الهندية أعتبر نفسي الهندي الخالص الذي يعيش ويموت فقط لبلاده، واللغة الأردية دائما تذكرني روايات بوليسية لإبن صفي الكاتب الأردوي البوليسي الشهير في شبه القارة الهندية. أنا أشعربهذه الأحاسيس المختلفة بفضل تعدد اللغات فقط. من اللافت هنا بأن فكرة التعددية اللغوية هي ترتبط ارتباطا وثيقا بالمواطنة العالمية حيث يضع شخص هنا هويته مع المجتمع الدولي فوق هويته كمواطن من أي دولة خاصة أو مكان معين مثل اللغة التي لا يحدها حد ولا يقيدها أي قيد.بل اختلاف الألسن واللغات هي آية من آيات الله. والآيات هي عالمية مثل المواطنة العالمية.
مفهوم المواطنة العالمية
“المواطنة العالمية” هو شعور بالانتماء إلى مجتمع أوسع يتخطى الحدود الوطنية، شعور يُبرز القاسم المشترك بين البشر ويتغذى من أوجه الترابط بين المستويين المحلي والعالمي والمستويين الوطني والدولي.
ومصطلح “المواطنة العالمية” ليس مصطلحا جديدا. وقد اكتسب زخما كبيرا في إطار قضايا التنمية منذ اتخاذ الأمين العام للأمم المتحدة المبادرة العالمية بشأن “التعليم أولاً” في عام 2012 التي اعتبرت “تعزيز المواطنة العالمية” أحد مجالات العمل الثلاثة ذات الأولوية التي ستركز عليها إلى جانب الانتفاع بالتعليم وتحقيق جودته.
وبالنسبة لليونسكو، فإن المواطنين العالميين هم الأشخاص الذين يسعون في طريقة تفكيرهم وسلوكهم إلى بناء عالم يتسم بالمزيد من العدل والسلام ومقومات البقاء.
ولا يفوتني هنا أن أقدر جهود منظمة اليونسكو في سبيل التفاهم الثقافي والمواطنة العالمية من خلال استخدام تعدد اللغات المتواجدة في كافة أنحاء العالم.
قد حددت مواصفات المواطنة العالمية على النحوالتالي:
• الاعتراف بوجود ثقافات مختلفة.
• احترام حق الغير وحريته.
• الاعتراف بوجود ديانات مختلفة.
• فهم وتفعيل أيديولوجيات سياسية مختلفة.
• فهم اقتصايات العالم.
• الاهتمام بالشؤون الدولية.
• المشاركة في تشجيع السلام الدولي.
• المشاركة في إدارة الصراعات بطريقة اللاعنف.
التنوع الثقافي في الهند
الهند بلاد العجائب والأعاجيب ومن أعاجيبها وجود مختلف الثقافات التقليدية العريقة الفريدة من نوعها. توجد 29 ولايات في الهند، وكل ولاية لها ثقافة خاصة وممتازة. الموسيقى الكلاسيكي وملاحم “ماهابهاراتا” و”رامايانا” وأنواع مختلفة من الملبوسات التقليدية كالساري وسلوار قميص والأفلام في مختلف اللغات الكائنة في الهند مثل الماليالية والبهوجبورية والغجراتية والبنجابية والكانادية والآسامية وغيرها والرقصات المتنوعة هذه كلها تثري الثقافات الهندية. ومن الملاحظ أن الحكومة الهندية قد أسست مجلسا وطنيا للعلاقات الثقافية باسم “المجلس الهندي للعلاقات الثقافية” في دلهي، عاصمة الهند. وهذا المجلس يصدر مجلة فصلية ثقافية باسم “ثقافة الهند” في اللغة العربية والفرنسية والروسية والإسبانية وغيرها.وبالاضافة الى هذا كله هناك مراكز كثيرة للأنشطة الثقافية في مختلف أنحاء الهند.ومن حيث اللغة أن الهند تفتخر بأنها تزخر بعدد كبير من الألسن واللغات يتجاوز 400 لغة منطوقة، من بينها 24 لغة لا يقل عدد المتحدثين بها بكل منها عن مليون نسمة.
الهند في مسار تحقيق المواطنة العالمية والتفاهم الثقافي بالتعددية اللغوية
الهند هي بلاد الثقافات والحضارات واللغات المتنوعة، بعد مجئ العولمة التي أتت به من تحولات سياسية واقتصادية وثقافية وعلمية قد ازداد خطرهيمنة اللغة الإنجليزية على اللغات الأخرى الكائنة في الهند أيضا ما يمكن أن يؤدي إلى إخفاء اللغات الأخرى.ولكن الجانب الإيجابي لهذه العولمة إنها جاءت بمصطلح “المواطنة العالمية”)Global Citizenship)المصطلح الذي نال رواجا كبيرا في كافة أنحاء العالم. الهند بالنسبة للدول الأخرى نالت أكثر حظا من هذه الظاهرة بفضل التعددية اللغوية، لأن تعدد اللغات هي وسيلة أساسية من وسائل التواصل ووعاء معرفي يحوي التجارب والأفكار. ولذلك يليق بنا أن نفتخر بأن الهند هي دولة وحيدة في العالم يسكن في فضاءها عدد كبيرمن الثقافات واللغات والديانات والحضارات بسلامة بفضل السياسة الحكيمة لقادة بلادنا. الهند هي بلاد نهرو وغاندي وبوذا أعطوا فكرة الانسجام الطائفي والعرقي والديني وأعطوا لكل منطقة وولاية حق لغتها وثقافتها. الهند هي أول دولة قدمت فكرة “المواطنة العالمية” إلى العالم عن طريق التفاهم الثقافي بين الولايات المختلفة من كاشمير أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب كانياكوماري. ولولا هذا النهوض المبارك ولولا هذا الإيمان بالسلام والتسامح الإنساني واحترام كل ثقافات الآخرين وتقديرها والتعايش مع كل الناس، لما استطاع وطننا أن يصل إلى كل هذا الفضاء المضاء، بمشاريع واسعة الأفق رفيعة التحديق والتألق.
ليتنا نحسن استخدام اللغات لنمد جسور التواصل بين الأمم، لنسعى نحو مزيد من الإطلاع النابع من اتقان لغة أو أكثر لتضئ دروب المعرفة على أمل أن يعم السلام في العالم حين يتوفر مزيد من الفهم لحقيقة الآخر المجهول، فما أروعها سطوة اللغات حين يتم توظيفها لدعم التواصل بين الشعوب.
الاتصال أوالتواصل يسد فجوة توجد بين الشعوب والملل والطبقات والثقافات، وبالتالي هذا الاتصال لا يمكن إلا بتعلم اللغات المتعددة حسب ما تقتضية الظروف، لدخول في مرحلة جديدة وهي مرحلة “المواطنة العالمية”. ياحبذا لو تنسى كل الملل والأقوام أولوياتها على بناء اللغة والثقافة والمنطقة لنهتف شعار الأمم المتحدة بصوت جهوري ونصرخ ” اللغات المتعددة و عالم واحد”. وفي الحقيقة إذا ندقق النظر في لغات العالم نجد أنها مجموعة من الأزهار تتعلق بشجر واحد. وهذا الشجر هو شجر يمكن ما يسمى شجرالعالم أو شجر العولمة أو شجر الإنسانية. حينما نعيش تحت ظلال هذا الشجر نكون من أسرة واحدة ونكون مواطنا عالميا نتحدث بلغات مختلفة وننتمي إلى ثقافات متنوعة ولكننا نبقى نعيش معا باحترام وتقدير للآخرين.
أنا شخصيا أتحدث في أربع لغات العربية والإنجليزية والأردية والهندية وأفتخر بالتحدث في هذه اللغات المتنوعة، لأن كل لغة تمهد سبيلى إلى ثقافة أخرى. ومن خلال التعرف على الثقافات المتنوعة أنا أعيش حياة تحمل تجارب شعوب اللغة وتعبر عن إحساس رائع فريد.
وفي الختام يحلو لي أن أقول إن اللغات لها دور مرموق في بناء المجمتع والتفاهم مع الآخرين من مختلف الثقافات والديانات والاعتقادات.وبدون فهم الثقافات المتنوعة وتعلم اللغات العديدة لا يمكن لنا أن نحقق أحلام المواطنة العالمية.
المراجع والمصادر
1. صحيفة الرأي، تاريخ النشر: 2014-02-21.
2. متلازمة اللغة والثقافة في دراسة اللغات (رسالة إلى إخواني المبتعثين،د. بدر بن عبدالله العكاش، جريدة الرياض، 25مارس 2012م.
3. مفهوم المواطنة وعلاقته بالانتماء، د. عثمان بن صالح العامر.
4. منظمة الأمم المتحدة للتربية ووالعلم والثقافة ، التعليم من أجل المواطنة العالمية.
اترك رد