قراءة في كتاب جون فونتان “حول السلفيين في تونس”: متى تغني الكتابة حول الإرهاب عن الإرهاب؟

سمير ساسي: باحث جامعي – تونس

ما الذي يغريك بقراءة كتاب جديد عن السلفية والإرهاب وأنت تشهد تصاعدا لهذه الحركات وهذه الأعمال مع ازدياد النشر والكتابة عنها ؟ قد تسأل نفسك إن كان الكاتبون أدعياء خبرة لم يهتدوا إلى القراءة الصحيحة المساعدة على فهم الظاهرة وإيجاد حلّ لها أم أنهم خبراء بقيعة لم يجدوا من يقرأ لهم من أصحاب القرار فصار ما كتبوا سرابا ؟
هل يكفي عنوان الكتاب أو فهرسته أو اسم الكاتب حتى تقدم على مغامرة قد تخرج منها بكمّ من المعلومات يبعث الوسوسة في نفسك ذات ضلال ابداعي بأن الإرهاب ما نما إلا بهذه الحروف التي تخبط خبط عشواء
المغامرة في عالم الابداع ضرورية و أحسب أن اسم الكاتب يأتي في المرتبة للأولى لدوافع القراءة فبحسب معرفتك بالكاتب تبني أفق انتظاراتك وغالبا ما تكون آفاقا ذات سقف عال والقراءة تصدق ذلك أو تكذبه …
كذلك كان شأني و أنا أقف أمام كتاب جون فونتان عن السلفيين في تونس الصادر حديثا ..فنفسي تقول لي إنه جون فونتان الباحث الذي خبر دروب البحث و أسس لها ولا شك أنك مستفيدا علما جديدا لم تقف عليه و أنت تتابع ما كتب وما قيل عن هذا التيار .
لم أتردد في الإقدام على المغامرة ممنيا نفسي بوجبة دسمة من باحث معروف يختلف مع الظاهرة المدروسة اختلافا جذريا ومن المفروض أنه يقف منها موقفه من ظواهر أخرى على مسافة واحدة لا يهمه إلا ما يوصله البحث إليه
لكن لم نسمي القراءة مغامرة ؟
الأصل أنها ليست كذلك ولكنها صارت بفعل ما ران على عالم الكتاب من تطفل لكثيرين لا يحسنون حتى القراءة ليكتبوا ، يخطون ما يملى عليهم لغايات لا علاقة لها بمقاصد الكتابة والتفكير يشترون بحرفهم ثمنا قليلا، فإن رأيت خائضا في أمر لم يخض فيه من قبل ساورك الشك أن تكون كعطشان يلاحق سرابا وتحملك نفسك على التردد لكن الاسم له سلطانه الخاص، لذلك قرأت و تمعنت واستخلصت :

عن دار آرابسك للنشر صدر كتاب جديد للأب جون فونتان تحت عنوان Du côté des salafistes en Tunisie ،” ،الكتاب في طبعة أنيقة يحمل صورة على الغلاف لطفل غير ملتحي يرتدي قميصا و”عراقية”(لباس يوضع على الرأس يعرف في تونس بهذا الاسم مع فتح العين وتثليث القاف ) ويحمل راية مكتوب عليها لا إله إلا الله محمد رسول الله الراية ليست سوداء كما عرفت رايات السلفيين وإنما بيضاء مكتوبة بالأسود
العنوان كتب بلونين جاءت كلمة السلفيين بالأسود وباقي العنوان باللون البني واسم المؤلف باللون الأبيض،ولهذه التفاصيل دلالة سنقف عليها بعد قليل
في الغلاف الخارجي أيضا وعلى الصفحة الأخيرة كتبت مقدمة الكتاب التي نجدها في الصفحة السابعة من الكتاب ،في المقدمة يقر الكاتب بأن كتابه ليس بحثا معقما عن السلفيين في تونس لأن من شأن مثل هذا البحث أن يلزم صاحبه بالرجوع إلى النصوص الأصول و برامج التعليم والشعائر التعبدية ووضع المرأة اللباس الفن العنف الخ من المسائل الضرورية لفهم السلفية وهو ما لا يقدر عليه الكاتب حسب قوله “فليس لي الكفاءة المطلوبة لإجراء مثل هذا التحليل” كما قال ولكن في المقابل “أستطيع أن أكون شاهدا يحمل نظرة إيجابية حول ما وقع في بلد احتضنتني لأكثر من ستين سنة ولهذا فقد قمت بتسجيل المظاهرات الأولى للسلفية حسب تسلس زمني وتتبعت ما لم تتعرض له وسائل الاعلام أحيانا وفي مرحلة ثانية جمعت هذه التحركات حسب محاور..”
إذن نحن إزاء خيار منهجي واضح لدى صاحبه ،فالكتاب ليس بحثا معمقا وإنما هو شهادة من رجل يريد أن يعترف بالجميل لدولة احتضنته لستين سنة ولعل ذلك ما يجعلنا نفهم لماذا عنون كتابه بهذا العنوان كأنه يقول لنا هذه لمساعدتكم على فهم السلفيين فهل فعلا يمكن أن نصنف هذه الشهادة ضمن الأدوات المساعدة لفهم الظاهرة ؟
قبل الدخول في تفاصيل الشهادة نسجل اعتراضا منهجيا على مثل هذا القول مفاده أن الكاتب أقر بنفسه أن فهم الظاهرة يحتاج إلى العودة إلى النصوص الدينية والتشريعية و موضوع المرأة والفن والعنف وغيرها من القضايا المهمة التي تساعدنا على دراسة الظاهرة ،غير أنه لم يفعل بداعي عدم الكفاءة فما غايته إذن من الشهادة ان لم تكن المساعدة على فهم الظاهرة في بلد كثر فيه أدعياء الخبرة في الظاهرة التي ما تزال تتحدى تشخيصهم وحلولهم ؟
يفترض البحث العلمي لكل ظاهرة بصرف النظر عن طبيعتها العودة لنصوصها التأسيسية أولا ثم الاستعانة بما يمكن الاستعانة به من أدوات تحليل وبحوث وغيرها ،فهل يحق لنا أن ننزع صفة العلمية عن الكتاب بما أنه أقر بعدم العودة إلى النصوص الأصول ؟
بقي لنا أن نبحث هنا هل كانت هذه الشهادة محايدة مثلما يفترض في باحث في مستوى جون فونتان بتاريخيه الأكاديمي المعروف أم انحازت إلى جهة دون أخرى؟
هذه بعض الأسئلة الافتتاحية سنحاول الإجابة عنها في ثنايا هذه القراءة مع غيرها مما يفرضه محتوى النص المقروء.
ظاهر الاعتراف الذي قال به فونتان من كونه شاهدا يحمل نظرة إيجابية على بلد احتضنه منذ ستين سنة يجعلنا من باب الحذر العلمي نضع استفهاما حول مدى موضوعية هذه الشهادة فالاعتراف بالانحياز ضمني وصريح مع اقرارنا بأن الباحث مهما كان ليس مجرد آلة كاتبة معزولة من المشاعر والمواقف ولا بعيدا عن التأثير والتأثر بالشروط الموضوعية والتاريخية
هذا الإقرار لا يمنع الكاتب المنصف من التحكم في عواطفه الخاصة من أجل مصلحة البحث العلمي أولا وثانيا من أجل مصلحة الجهة التي يرد لها الجميل مثلما هو الشأن بالنسبة لفونتان لأن تونس وهي المقصودة هنا تحتاج من أصدقائها ومن أبنائها النصح الدقيق لفهم ما تعيشه من أحداث و ما تعرفه من ظواهر لتحسن التعامل معها وتتجنب مخاطرها فهل كانت شهادة فونتان في هذا الاتجاه
قبل البحث في التفاصيل دعونا نقرأ دلالات الصورة في غلاف الكتاب الذي أشرنا إليها في مقدمة هذا المقال ،ولنبدأ باللون الأسود الذي كتب به اسم السلفيين في العنوان بين كلمتين كتبتا بلون بني ،وهذا الاختيار اللوني في تقديرنا ينم عن موقف مسبق مضمر غير معلن بصرف النظر عن موقفنا نحن من الظاهرة فقد نكون من المساندين لصاحب الكتاب لكن البحث العلمي الرصين يستوجب منا أن لا نبعث برسائل تحمل موقفا مسبقا من الظاهرة المدروسة تجعلنا نصنف كقارئين صاحب الكتاب تصنيفا يحول بيننا وبين الاستفادة مما قد يتضمنه الكتاب من إفادات فالقتامة التي يوحي بها لون السواد خص بها الكاتب السلفيين مفترضا أنهم لن يكونوا إلا كذلك ومن ثم يمكن أن نقول إن الكاتب جعل أمامنا عقبة تحول دون الفهم لوجود حاجز نفسي يتركه الانطباع المنبعث من الاختيار اللوني لم يخفف من حدّته اللون البني الذي كتبت به بقية ألفاظ العنوان، فالقتامة فقط نقصت درجتها في حين أن اللون الأبيض الذي اختير لكتابة اسم المؤلف توحي في بعض دلالتها بأن الحقيقة هناك مع هذا الاسم الذي هو الكاتب فاذا أضفنا انتماء الكاتب إلى مدرسة الآباء البيض في تونس صار لنا سندا في ما ذهبنا إليه في قراءة الاختيار اللوني لاسم الكاتب
أما صورة الغلاف فتحمل صورة طفل يرتدي قميصا و”عراقية ” ويحمل راية لا إله إلا الله بلون أبيض وخط أسود خلافا لما عرف عن راية السلفيين السوداء و للمظهر العام للسلفيين في تونس وفي العالم والسؤال هنا لماذا لم يختر الأب فونتان صورة ملتحي من كبار السن يرتدي قميصا أسود ويحمل راية العقاب المعروفة ذات اللون الأسود؟
في تقديرنا أيضا وهذا ما سندلّل عليه في ما بعد من خلال الكتاب رسائل هذا الاختيار هي كالتالي : الطفل إشارة إلى الخطر الذي يتهدد مستقبل تونس وشبابها وتنبيه إلى ذلك ولون الراية الأبيض إنما أراد به الكاتب فتح الدلالة على مفهوم السلفيين لتشمل كل التيارات الإسلامية في تونس مثلما ذهب إلى ذلك في ثنايا الكتاب كما سنرى،لذلك لم يكن اختياره عشوائيا للصورة وتجنب الراية المعروفة ذات اللون الأسود حتى لا يحصر مفهوم السلفية عند جماعة معيّنة معروفة باسمها وعنوانها
فهل كانت هذه الخيارات متناسقة مع مضامين الكتاب أم أننا بالغنا في قراءة دلالتها وتعسفنا على الكاتب والكتاب ؟
نشير في البداية إلى أن الكتاب تضمن ما يمكن أن نعتبره مقدمة نظرية امتدت من الصفحة الثامنة إلى الصفحة السابعة والعشرين أي عشرين صفحة من جملة مائتين وأربعة وأربعين صفحة هي محتوى الكتاب إضافة إلى عشر صفحات للمصادر والمراجع ليكون اجمالي صفحات الكتاب مائتان وستة وخمسون صفحة
ولا تحتل المقدمة النظرية أو هكذا سميناها تجاوزا من حيث الحجم إلا نسبة ضئيلة من الكتاب الذي كان على امتداد أكثر من مائتين وعشرين صفحة سردا حسب التسلسل الكرنولوجي لتحركات ومظاهرات ومواقف مختلفة شهدتها تونس من 26 جوان 2011 إلى 25 جوان 2013
ولا يمكننا أن نمر مرور العابرين على اختيار الفترة الزمنية لأحداث الكتاب ،فالكاتب نفسه انتبه إلى هذا الأمر وافترض أن هناك من قد يطرح السؤال لماذا هذا الاختيار؟ويجيب الكاتب عن السؤال المفترض بالقول في الصفحة 25 بأنه نُصح بأن يواصل بحثه الى حدود الانتخابات المقبلة { ويبدو أنه يقصد الانتخابات التي تمت في 2014 بالنظر إلى اختيار التاريخ المدروس ولأن ذلك مكتوب قبل صدرو الكتاب ولا شيء يمنع من احتمال قصد انتخابات 2019 لكنه في تقديرنا احتمال بعيد}
رفض الكاتب هذه النصيحة أو هذا الطلب خشية أن يكون الكتاب ذا حجم كبير وفي الوقت نفسه هو يعتقد كما يقول أن الدروس المستفادة أو التي يمكن أن نستفيدها واضحة لذلك قرر الاحتفاظ بالفترة التاريخية المختارة التي تبدأ من حدث الاعتداء على سينما افريكار الاحد 26 جوان 2011 بمناسبة عرض فيلم يحمل عنوانا عُدّ تطاولا على الذات الالهية حسب المعتدين ( لا ربي لا سيدي لنادية الفاني )وتنتهي الثلاثاء 25 جوان 2013
الفترة الزمنية المختارة من الكاتب تمتد قبل انتخابات ألفين وأحد عشر بثلاثة أشهر ونيف وتنتهي قبل خروج الترويكا عمليا من الحكم بستة أشهر تقريبا أي أنها فترة حكم الترويكا بقيادة النهضة في المحصلة ، وهي الفترة التي شهدت أوج الحراك السياسي والاجتماعي في تونس وهيمن عليه حضور التيار السلفي وشهد عمليات الاغتيال السياسي لشكري بلعيد ومحمد براهمي ، وللاختيار مقصده وليس اعتباطا.
ضمن ما اعتبرناه مقدمة نظرية يبدأ الكاتب باستعراض مقتضب لنشأة التيار الإسلامي الأسباب الداخلية والخارجية في الصفحة الثامنة وفقرة من الصفحة التاسعة ،غير أن التفاصيل الواردة في فقرة الأسباب الداخلية مرت مباشرة إلى الحديث عن الأصولية الإسلامية التي تستمد أصولها حسب الكاتب من الفقيه المحافظ كما يصفه أحمد ابن حنبل وابن تيمية،وهي أي هذه الأصولية تتفرع عن الوهابية نسبة إلى محمد بن عبدالوهاب وقد اكتفى الكاتب هنا بالحديث عن دور محمد بن عبدالوهاب في دعم آل سعود لتأسيس المملكة العربية السعودية مشيرا إلى محاربته للبدع وفرضه لنمط معين من السلوك مثل الحضور الاجباري لصلاة الجماعة وإطلاق اللحى والتعليم في المسجد،ويعرّج الكاتب في فقرة الأسباب الخارجية على الدور السلبي الذي كان للزيتونة ولجامع الأزهر في الدفاع عن الإسلام وموقف الحكومات الرسمية العربية التي ترفض الانتخابات وتتبع الاقتصاد الرأسمالي الذي زاد الهوة بين الفقراء والاغنياء وهو ما ساعد حسب رأيه على نشر مقولة الانهيار الأخلاقي للمجتمع مشيرا إلى أن الإسلاميين في تونس مثلا كانوا يؤكدون على الدور التخريبي للسياحة على المستوى الأخلاقي ثم يسرد جملة أسباب أخرى تتعلق بالهزائم العربية تجاه إسرائيل فشل النخبة الحداثية في إيجاد توليفة بين الإسلام والحداثة ….
بعد ذلك عاد جون فونتان إلى تاريخ الإسلام ليتحدث عن الخوارج كحركة معارضة ثم الشيعة ثم انتقل فجأة إلى أول حركة إسلامية الجماعة الإسلامية للمودودي ثم الاخوان المسلمين في مصر ،وهنا يتبنى الكاتب بصفة اطلاقية الرواية الرسمية التي تقول إن الاخوان في مصر قتلوا الوزير الأول وقتها و تآمروا في 54 ضد عبدالناصر وكانوا مدعومين من السعودية المرتبطة بأمريكا ليدفعنا إلى الاستخلاص دون أن يقول ذلك بأن الحركات الإسلامية حركات أمريكية من غير أن يغوص في تفاصيل هذا الموضوع المشكل تاريخيا وواقعيا .
أما بالنسبة إلى تونس فبعد استعراض منجزات دولة الاستقلال خاصة مجلة الأحوال الشخصية ومشكل الصوم واغلاق جامع الزيتونة يقول الكاتب إن ذلك أدى إلى نشأة جمعية المحافظة على القرآن الكريم في 1968 وهي جمعية حسب رأيه ممولة من الدولة لمساعدة الشباب لكن صار لها أنشطة مسرحية وموسيقية ورياضية مع تدريبات على فنون القتال وكانت تستقبل في كل سنة مناضلين من باكستان يتبنون الفكر الأصولي للمودودي منقولة إلى العربية ويوزع في تونس وقد تسللوا إلى مفاصل الدولة من جمارك /ديوانة وجيش وأقسام العربية والفلسفة في الجامعة ثم أصدروا مجلة المعرفة والمجتمع وقد ساعدها تعريب الفلسفة الذي اتخذته الحكومة لمحاصرة اليسار كما يقول ساعدها على الانتشار
واضح أن هذا السرد يفتقد إلى الدقة العلمية ويخلط بين نشأة الجماعة الإسلامية وجمعيات المحافظة على القرآن الكريم ويطلق أحكاما جاهزة لم يدلل عليها بتسرب هؤلاء إلى الجيش والديوان وأقسام العربية والفلسفة في الجامعة والحال أن الجماعة كانت أولا حديثة النشأة وحجم أنصارها لا يسمح بهذا الامتداد ثم إن الواقع أثبت خلّو هذه المؤسسات من تأثر هذه الجماعة وقد أقر الكاتب نفسه بهذه الحقيقة في تناقض تام مع ماذهب إليه حين أقر بأن الحركة الإسلامية لم تنتج مفكرين معروفين على المستوى الدولي ولا في مجال البحث العلمي والتكنولوجي ولم تنتج حلولا لمشكلة السلطة فكيف إذن تجلى هذا التسلل إلى الجامعة ومؤسسات الدولة؟
وبتتبع تفاصيل النشأة التي يستعرضها الكتاب انطلاقا من المؤتمر التأسيسي للجماعة الإسلامية في منوبة 1979 كما يقول نفهم تلك الدلالات التي أشرنا إليها في قراءة صورة غلاف الكتاب فالكاتب لا يفرق بين الجماعة الإسلامية التي صارت الاتجاه الإسلامي ثم النهضة لاحقا وبين سلفيين ولا حتى بينهم وبين حزب التحرير فهو يجمعهم في سلة واحدة مع توزيع لهم على أجنحة السلفية وقبل الغوص في هذه التفاصيل نشير إلى غياب الدقة التاريخية في معلومات فونتان فهو يتحدث عن الاتجاه الإسلامي الذي قاد تحركات الخبز في 1984وحرك المتظاهرين ونحسب أن هذا الشرف لا يدعيه قادة الاتجاه الإسلامي أنفسهم
ويستعرض الكاتب مسار التطورات السياسية من 85 الى 91 ويتبنى الرواية الرسمية للسلطة في الاحداث التي شهدتها تونس في تلك الفترة دون تنسيب أو حتى ايراد لموقف الحركة الإسلامية من ذلك مثل أحداث باب سويقة وهجوم الجماعة المسلحة الجزائرية على حرس الحدود في 94 وتفجير كنيس اليهود في جربة بلا دواعي علمية للربط بين الأحداث إلا الإيحاء بأن الحركة الإسلامية لا تتجزأ وهو ما يشير إليه تضمينه لحصول راشد الغنوشي على اللجوء السياسي في بريطانيا في خضم هذه الاحداث
نرى هذا الخلط المتعمد من الكاتب حين يعمد إلى اتخاذ موقف من الإسلاميين في ما يتعلق بموقفهم من المرأة إذ يقول بأن موقفهم في الخطاب المعلن تغير لكنهم يروجون لمناضليهم خطابا مغايرا دون أن يذكر طبيعة هذا الخطاب ولا كيف وصل إلى هذه النتيجة ولا على ماذا اعتمد في استنتاجاته
بالنسبة لفونتان الذي قال في البداية إنه لم يرجع إلى نصوص التأسيس يقول إن راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة يرفض السياحة ويطلب تطبيق الشريعة ويحارب الربا ولا يقبل بالديمقراطية ولا بحق الاختلاف ويؤمن بطرد اليهود والأوروبيين والشيوعيين من البلاد
من أين لجون فونتان هذه الحقائق التي يوردها بشكل جازم ؟لم يحلنا الكاتب إلى بيانات الاتجاه الإسلامي ولا إلى كتب راشد الغنوشي وإنما قالها ومضى وهو الأوروبي المقيم في تونس منذ ستين سنة، والباحث الرصين لا يحاكم ظاهرة من خلال ما يقال بل بالاعتماد على نصوص مؤسسيها فإذا ما اكتفينا بالبيان التأسيسي الأول لحركة الاتجاه الإسلامي في 1981 رأينا أن الأمر مختلف تماما عما أورده الكاتب فضلا عن كتابات الغنوشي إلا أن يتمسك الكاتب بما ذهب إليه في البداية من أن الإسلاميين يقولون خلاف ما يضمرون فهنا نكون خرجنا من دائرة البحث العلمي إلى الأيديولوجيا وهذا ليس من طبيعة اهتماماتنا .
المعلومات الأخرى التي تحتاج إلى تدقيق وتمحيص ما أورده الكاتب من أن تنظيم النهضة كان يعلن رفضه للعنف ويمارسه على شاكلة الاخوان المسلمين في مصر مستدلا بوجود جهاز سري عنيف للحركة يرؤسه حمادي الجبالي .
وهذه المعلومات عينة دالة على خروج الكتاب من العلم إلى الايدولوجيا فحتى إن سلمنا بحقيقة الجهاز السري فمن المعلوم أن حمادي الجبالي حتى في تحقيقات الداخلية والقضاء لم يحاكم بهذه التهمة .
بعد هذا الاستعراض يصدر الكاتب جملة من الأحكام حول الظاهرة الإسلامية فهي حسب قوله ظاهرة حديثة مرتبطة بالوضع السياسي حيث ترفض السلطة كل معارضة ، وهي ظاهرة تمارس العنف باسم الإسلام في استعادة لمفهوم الجهاد وهي لا تبحث عن نفسه من خلال الرجوع إلى الماضي وإنما في البحث عن نموذج /مثال جديد وطريقة وجود تؤسلمها وتعطيها صبغتها الدينية فهي شكل حديث غير متسامح مرتبط بالأزمة السياسية للحياة اليومية .
وفي صيغة جازمة يقرّ الكاتب بالطبيعة العنيفة للحركات الإسلامية ويفصل أهداف العنف على المستوى السياسي مستخلصا بأن استمرارية الدولة هي ما تستهدفه هذه الحركات من خلال رفض الانتخابات دونما تمييز بين الحركات التي تؤمن بالانتخابات وتشارك فيها وغيرها وفي الثقافة هي ترفض كل من لا يؤمن بتطبيق الشريعة ووجود الأقليات العرقية والدينية ،أما جديد العنف الإسلامي كما يقول الكاتب في صفحة 16 فهو استناده إلى ثنائية الحلال والحرام وهي تستعمل العنف الجسدي وتتدخل في الحياة الخاصة ،
وفي الاستخلاصات العامة يقول جون فونتان إن الظاهرة الإسلامية تطرح أسئلة معرفية حول الحداثة والأصالة والخصوصية والكونية والماضي والحاضر معتبرا أن صعود “الظاهرة الإسلامية ” أبرز مظاهر أزمة الهوية و أن الفشل ليس للدولة الحديثة وإنما للذين لم يستطيعوا أن يسيروها .
في الصفحة 19 ينطلق الكاتب في الحديث عن السلفية في العالم العربي بالعودة إلى رشيد رضا وحركات الإصلاح ثم يتحدث في الصفحة 20 عن السلفية في تونس ودون مقدمات ينطلق من مواقف لراشد الغنوشي رئيس حركة النهضة مسلما بأنه سلفي ولا ندري هنا هل يصنفه ضمن التيار السلفي الفكري عموما مثلما صنف رشيد رضا أم سلفي حركي ؟ ثم استعرض مواقف نورالدين الخادمي وزير الشؤون الدينية في حكومة الترويكا وإمام جامع الفتح في العاصمة تونس آنذاك والتي أجملها بأنها مقاربة ترفض التعامل الأمني مع السلفيين متسائلا هل يمكن أن نتحدث عن أجنحة داخل التيار السلفي في تونس ليجيبنا إجابة تزيد من السؤال حول مقاييس هذا التصنيف التي اعتمدها دون أن يوضحها فيعتبر أن حزب التحرير يمثل الجناح السياسي للسلفية و هناك تيار علمي مدعوم من النهضة ممثلا في الدعوة والتبليغ أو جمعيات خيرية وثقافية ثم التيار الجهادي العنيف.
ويستدل الباحث في استنتاجاته بما ذهب إليه علية العلاني الباحث في الجماعات الإسلامية الذي لا يرى أن في تونس بيئة مشجعة على الإرهاب ولكنها يمكن أن تكون منطقة عبور و أن المرجعية السلفية موجودة في السعودية ومصر ؟وهو استدلال لنا عليه مؤاخذات عديدة ليس أقلها المواقف المتحولة لعلية العلاني في دراسته لهذه الظاهرة ثم غياب علاقة واضحة بين النهضة مثلا والسعودية والفكر الوهابي عموما
و بعد أن يستدل بإحصائية قدمها التوهامي العبدولي كاتب الدولة للشؤون الخارجية آنذاك عن عدد السلفيين العلميين والجهاديين،يعود الكاتب إلى الحديث عن المقاربة الممكنة لمواجهة السلفية من الحديث عن الحل التنمية الاقتصادية مبينا أن تونس رفضت كل أشكال التطرف الفاطمي والخارجي وأن طبيعتها الجغرافية والسكانية لا تسمح بنجاح هذه الظاهرة.
هل كان هذا رأي الكاتب أم رأي راشد الغنوشي الذي ساقه الكاتب ؟ نطرح هذا السؤال لأن الكاتب في الصفحة 23 مر إلى حديث الغنوشي مباشرة بعد ايراد هذه المقاربة دون إشارة إلى فصل ما بينهما خاصة أن الحديث عن الغنوشي تضمن موقفه بضرورة أن تخضع كل مجالات الحياة إلى مرجعية دينية بما يجعلنا كأننا إزاء تحليل لتناقض مواقف الغنوشي وليس أمام مقاربة الكاتب الذي اعتبر أن هذا الرأي يرجع إلى حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين
ويصدر الكاتب مواقف دون أدلة مرة أخرى عن غض الطرف الأمريكي والأوروبي عن هذه الجماعة وعن خلط الغنوشي للذين والسياسة وعن تقسيم المجتمع وأن تهديد الظاهرة الإسلامية للمجتمع يبقى قائما ما لم يتبن هؤلاء مفهوم المواطنة مشيرا إلى أن النهضة لم تحسم موقفها من السلفيين في مؤتمرها التاسع بما أن بقية الأحزاب السياسية رفضت التعامل معها فإنها اختارت الحفاظ على قاعدتها الانتخابية في أوساط السلفيين ،متجاهلا موقف هؤلاء الذين لا يؤمنون بالانتخابات من الناحية المبدئية مثلما أشار هو في بداية كتابه.
بقية الكتاب جاء توزيعا للأحداث حسب تسلسل زمني للفترة التي اختارها الكاتب ويمكن أن نورد عليها الملاحظة التالية :
إنه تبنى رواية للأحداث نقلتها وسائل إعلام لم تتوان في إعلان موقفها المنحاز ضد التيار الإسلامي عموما والسلفيين خصوصا بصرف النظر عن صحة هذه الرواية من عدمها ولسنا ضد اختيار الكاتب لمصادره لكن كان أولى بالباحث الذي يريد أن يساعد على فهم الظاهرة أن يورد الروايات المختلفة ويترك للباحثين تمحيصها بما أنه أقر بعجزه عن فعل ذلك في مقدمة كتابه خاصة أن الأحداث نفسها وردت بصيغ مختلفة على صفحات مواقع أو وسائل إعلام أخرى .
يورد الكاتب الأحداث دون تمييز بين تلك التي شارك فيها أو دعا إليها سلفيون وتلك التي نظمتها أو أعلنت عنها النهضة أو رابطة حماية الثورة أو حزب التحرير ،ولئن كان هذا متسقا مع منهج الكاتب الذي لا يفرق بين هذه الحركات ويصنفها كلها تيارات سلفية فإنه يثير السؤال عن مدى علمية مثل هذا الموقف .
يعتمد جون فونتان على معلومات غالطة لا يكلف نفسه عناء التثبت فيها مثلما ورد في صفحتي 173- 174 عن مشاركة “أبو عياض” زعيم أنصار الشريعة في تجمع بالقصبة في 27فيفري 2011 تحدث فيه عن أن التيارات العلمانية كنداء تونس مرتبطة بالأجندة الأمريكية والحال أن نداء تونس لم يتشكل بعد والسبسي المؤسس المستقبلي لهذا الحزب كان وقتها وزيرا أول
في خاتمة كتابه يؤكد الباحث ما قاله في المقدمة بأن عمله ليس تحقيقا ولا تحليلا ولا حكما وإنما هو سرد زمني للأحداث وحصر للوثائق التي وفرتها وسائل الاعلام ، ثم يستنتج أن الحداثة تمر عبر العقلانية العلمية وهذه تقوم على الأرقام والإحصاءات ثم يبدأ في سرد بعض الأرقام حول المساجد الخارجة عن السيطرة و الزوايا الصوفية والتوزيع الجغرافي لوجود السلفيين
وينتهي فونتان بعد قراءته لخط تصاعد تحركات السلفيين وروابط حماية الثورة إلى أن هاتين التشكيلتين تتبادلان الأدوار بينهما لحساب جهة واحدة بناء على أنه إذا انخفضت تحركات السلفيين تصاعدت تحركات روابط الثورة، وأن هذه الجهة هي حتما راشد الغنوشي رئيس الحركة النهضة مثلما يشير إليه خطاب الكاتب الذي يردف سؤاله الختامي عن مستقبل هذه التحركات بالحديث عن مقولات التدارك الاجتماعي والتدافع الاجتماعي كمقولات محببة إلى الغنوشي.
ثم نقف على سؤال لفونتان يدّعم ما ذهبنا إليه من قراءة بأنه مقتنع تمام الاقتناع بأن النهضة حركة سلفية إن لم تكن هي قائدة هذا التيار والسؤال يقول ” هل سيسبب السلفيون بتصرفاتهم انقسام النهضة”
يكتفي الكاتب حال ايراده لأحداث نظمها أو شارك فيها سلفيون جهاديون بنقل الحدث دون تعليق في حين يتبع الأحداث أو المواقف التي يوردها عن النهضة أو البشير بن حسن (أحد شيوخ السلفية العلمية )المختلفة عن منهجه في الاستدلال بتعليق منه أو استدراك من القائل نفسه فقد ذكر مثلا في الصفحة75 موقف بن حسن المندد بحرق الزوايا والمتاحف ثم أضاف موقف بن حسن ضد فرنسا التي قال عنها إن رفضها لهذه العمليات ليس حبا في الإسلام ولكن حفاظا على مصالحها الاقتصادية.
يعتمد الكاتب أحداثا ثبتت في ما بعد أنها مجرد اشاعات لم يثبتها القضاء ولا تحقيقات الشرطة ولا الجهات المسؤولة وإذا كان لمعترض أن يقول إن الكاتب غير مسؤول علميا عما يكون بعد كتابه فإن هذا في نظرنا غير وجيه لأن الباحث الرصين لا يعجل في تبني المواقف من النظرة الأولى من ذلك مثلا حديثه عن روضات قرآنية تفرض على الأطفال النقاب ولا تستعمل إلا اللوحة والطباشير وأن هناك أستاذ تعليم ثانوي اكتفى بترهيب تلاميذه من خلال تدريسهم فقط عن عذاب القبر
جهود جون فونتان في تجميع الأحداث الميدانية التي شهدتها تونس في فترة حكم الترويكا كانت موفقة في التجميع والتبويب ،لكن هل يكفي ذلك لاستخلاص نتائج ذات بال لفهم ظاهرة من أعقد الظواهر في الاجتماع السياسي المعاصر هي ظاهرة الإرهاب و التطرف ؟ وهل يمكن التسليم بأن ما قد تبعث به هذه الأحداث وفقا لترتيبها في الكتاب من دلالات وفهوم من شأنه أن يوضح لنا معالم مقاربة متكاملة الأسس لفهم الظاهرة ؟
وفقا لقراءتنا التي قد يختلف معها كثيرون لا يمكن التسليم بأن الكاتب وفّق في تقديم إجابات مقنعة لهذه الأسئلة وغيرها مما لم ننتبه إليه .


نشر منذ

في

من طرف

الكلمات المفاتيح:

الآراء

اترك رد