محمد صلاح بوشتلة: باحث في مختبر الفلسفة والتراث في مجتمع المعرفة – كلية الآداب مراكش
حينما تُطالع كتاب “الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام” للعباس بن براهيم قاضي مراكش الذي خصّصه لتراجم من سَكَن مراكش ودُفن بها من النابهين والنجباء، قد يثير انتباهك حضور ترجمة موسعة لأبي حامد الغزالي الذي لم يسبق له أن زار مراكش ولا طاف بأغمات، غير أنه لنباهة من القاضي العباس ترجم لأبي حامد هذا، لتأثير الرجل الكبير في ساحة الفكر لا بهذه المدينة، بل في الغرب الإسلامي كله، وفي إطار رصد معالم هذا التأثير كان بحث الطالب الليبي سالم علي أبو خريص المعنون بـ “موقف الغزالي من الفلسفة وتأثيراته في الغرب الإسلامي.” تحت إشراف الدكتورة ثريا بركان، والذي التأم لأجل مناقشته كل من: د. عز العرب لحكيم بناني ود. محمد أيت حمو، ود. جمال راشق، ونال به الطالب الباحث ميزة مشرف جدا. في ذات المدينة التي التأم فيها غزاليون كبار وشهدت نكبتهم على يد السلطة المرابطية والفقهاء أعداء أبي حامد ، والتي ستصير فيما بعد المركز الجهوي لعلوم الروح وتفاصيل الاتصال بما هو سماوي، مراكش التي انتزعت فيها روح أحد أعداء الغزالي التاريخيين أبي الوليد ابن رشد وأقبر فيها جسده، وذلك برحاب كلية الآداب والعلوم الإنسانية القاضي عياض، يوم السبت 10 ديسمبر 2016.
جدوى البحث عن الغزالي وتتبع أثره ونصوصه في الغرب الإسلامي هو في الأصل تتبع لتقليد أكاديمي دأبت وسارت عليه وحدة البحث والتكوين في الغرب الإسلامي حيث يتم التركيز على البحث في الأصول الأولى للفلسفة والعلم في الغرب الإسلامي، وتتبع أشكال انتقال الفكر من وإلى الغرب الإسلامي، وكذا دراسة مكانة الغرب الإسلامي في انتقال الفكر الفلسفي والعلمي، كل ذلك ضمن إبيستيمية الحقول المعرفية الغرب الإسلامي وذلك بالوقوف على أشكال تداخل الأفكار عبر صيرورتها التاريخية وتوضيح معالم وحدود التقاطعات بين مختلف المجالات المعرفية في الفلسفة والعلم، والغزالي هو من الشخصيات الفكرية التي بدونها لا يمكن استيعاب اعتلاجات الفكر والفلسفة في هذه المنطقة، فالرجل أثّر في أهل التصوف والفقه والفلسفة على حد سواء، وكل وجد فيه اللحظة التي تعجبه وثقته فيه، فهو عند قوم “الكافر الزنديق” ولدى قوم “المارق الملحد” و”الجاهل الشرير” وعند أقوام “حجة الملة وناصرها” ولدى أقوام “سرّ الله في خلقه.”، ولقد حاول الطالب الليبي سالم علي أبو خريص أن يلملم التقييمات الانتقادية التي حظي بها قطب الوجود كما يسميه تاج الدين بن السبكي في بلاد الغرب الإسلامي لدى الفلاسفة والفقهاء ويظهر حذاقتها، ويستجلي تأثيراتها الممكنة حتى عند المتصوفة بمعالجته لنموذجين كبيرين من نماذج الفكر والتصوف وهما أبو إسحاق الشاطبي وعبد الرحمن بن خلدون، والتراث العبري والمسيحي الوسيطي.
إن الموقف من أبي حامد كان دوما النّقطة المتفجرة في أي علاقة بين السّلطة والمتَصوّفة أو حتى الفَلسَفة والتّصوف في الغرب الإسلامي، فالغَزّالي بين المتصوفة عموماً هو صاحب الخدمة الأهم في تاريخ التّصوف بإعطائه الصّوفية مكانتهم داخل الإسلام السّني ، حتى أنه شُهِد له عند متصوفة المغرب بالغوثية العظمى ، ومسارعة الكل إلى إعلان إنتمائهم المعنوي له، ولو دونما تحقق لأي لقاء ، بل هناك من متصوفة المغرب من ذهب إلى أن مدفن أبي حامد كان هو المغرب لا بلاد طوس ، لتؤكد هذه العلاقة بين أبي حامد والتّصوف المغْرِبي كرامات صوفية صاغها أصحاب المناقب مؤكدة هذه العلاقة بين أبي حامد من قبيل حكايتهم عن تغسيل مولاي عبد الله أمغار للغزالي عند موته، وصلاة شيخ أبي يَعْزى وهو أبو شعيب السّارية عليه. لذا ظل الموقف من الغَزّالي دوما بالنّسبة للتيار الصّوفي في المغْرِب الإسلامي منذ نشأته هو المعيار الوحيد لقبول أو رفض التّصوف، وذلك منذ المرابطين مع ابن حمدين والمازري إلى زمن المرينيين عند محاولة مجموعة من المريديين حرق قبر أبي بكر بن العربي، رغم ما أورده ابن طملوس من امتحان ابن العَربِي مع من امتحن في محنة كتاب إحياء علوم الدّين.
محاكمة فقهاء الغرب الإسلامي لكتاب الإحياء ومعه لأبي حامد بلغت درجة من حدة العداء والمناوأة اتسمت بطابع قمعي شرس من أجل ملاحقة هذا النّص ومتابعته سياسيا وفقهيا، إذ يقول المراكشي: “ولما دخلت كتب أبي حامد الغَزّالي-رحمه الله- أمر أمير المؤمنين بإحراقها، تقدم بالوعيد الشّديد من سفك الدم واستئصال المال من وجد عنده شيء منها، وأشد الأمر في ذلك.” حيث يقول تاشفين بن علي في رسالته عن ذلك، ” ومتى عثرتم على كتاب بدعة او صاحب بدعة، وخاصة-وفقكم الله-كتب أبي حامد الغَزّالي: فليتبع أثرها، وليقطع بالحرق المتتابع خبرها، ويبحث عليها، وتغلظ الأيمان على من يتهم بكتمانها” ، وذلك نتيجة لما أبداه الفقهاء من خصومة للإحياء حتى وصل بهم الأمر إلى أن :” قالوا “إذا كان في الدنيا كفر وزندقة، فهذا الذي في كتب الغَزّالي هو الكفر والزندقة” ، إن التّجييش النّقدي الذي ووجه وجوبه به أبو حَامِد وكتابه الإحياء، زمن المرابطين في صراع بين الفقيه الرّاغب في محاكمة الكتاب وكاتبه. ومن خلالهما الإذلال والتضييق على المتَصوّف الذي يرغب في الاحتكام إليهما، لم يولد ـ أي هذا التّجييش ـ إلا مشاعر كراهية دفينة وعميقة جدا من جهة المتَصوّف لن تكون عنده بالمشاعر المؤقتة والعابرة، فالفقيه المحتفل بكراهيته تجاه أبي حامد وكتابه، ومعهما تجاه المشتغلين بالكتاب من المتعاطفين مع صاحبه من المتَصوّفة الذين كانوا بحسب صاحب مفاخر البربر “لا يحصون كثرة” . كل هذا سيولد تجاه الفقيه نظرة حقد، ستغذي خطاب الكراهية والتّوتر، ومن ثمَّة الاستعداد الدّائم للانتقام ولو بعد حين وبجسارة أكبر من جسارة الفقيه، ستتجاوز الأحياء إلى الأموات، ضمن إستراتيجية تبادل الأضرار وبطريقة هوجاء جدا وهمجية وبالغة الانتشاء تقودها الاستثارة العاطفية والطّبيعة الانفعالية والمتأرجحة بين معاقبة الفقيه حيا وميتا تجاه موقفه من أبي حامد الغزالي، وبخاصة الفقيه الفروعي دون أخذ ما يلزم من الحيطة المرتابة في حق من أرتيب في حقيقة علاقتهم بالتّصوف وبأبي حامد كأبي بكر بن العَربِي الفقيه الذي ستستمر الرّغبَة في الانتقام منه حيا ثم بعد ذلك ميتا، بسبب التّشغيل السيئ للافتراضات والحكم عليه بالافتراض السّلبي والأسوأ، وهو أنه كان ضمن دائرة من يجب أن تحوم عليهم دائرة السّوء من الفقهاء المناهضين لأبي حامد ولتصوفه دون أن يشفع له كونه أحد المتحققين من تلمذتهم على حجة الإسلام وأحد من أدخل كتب الأخير للأندلس.
الكراهية المتجذرة عند الفقيه على الصُّوفي جعلته يمعن في تجريح المتصوف، وفي تطويقه والتشهير به أمام الملأ، وتعدى ذلك على ممارسة الإكراه الفيزيائي الجسدي عليه والإكراه النّفسي وتشوية طريقه وتبخيس صورة أبي حامد الغَزّالي وتشويه أتباعه معه، في هذا الصدد يقول ابن حمدين عن صوفية زمانه من أنصار أبي حامد بالغرب الإسلامي: “سر العِلْم كشف لصوفية أشقياء، فحلوا النّظام وبطل لديهم الحلال والحرام” ، ويصف أبا حامد إلى جانب هذا بإمام البدعة . حتى أن الإمام الذهبي يصف هذه الكراهية المتجاسرة والرهيبة التي يمثل ابن حمدين نموذجا بشعا لها بقوله:” ثم إن القاضي أقذع وسب وكفر وأسرف، فنعوذ بالله من الهوى” ، فالفقيه لم يتمالك نفسه إلا وهو يحتفل علنا ودون تحفظ بإحراق كتب الصوفية كنوع من الإذلال للآخر وتمجيدا للنفس أمام جموح النّاس، ففي قرطبة أمر بإحراق الإحياء” في رحبة مسجدها على الباب الغربي على هيئته بجلوده بعد إشباعه زيتا وحضر لذلك جماعة من أعيان النّاس” ، وفي مراكش أيضا وبذات الطريقة في صحن جامع السلطان أمر بحرقه من لدن الفقهاء .
اترك رد